المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

بنجاسة أحد الإنائين ثم علم بنجاسة أحدهما المعين ، وهو الاول مثلا ، ولم تكن هناك خصوصية للمعلوم بالإجمال تقتضي احتمال ان يكون المعلوم تفصيلا غير متطابق مع المعلوم بالإجمال ، فلو كانت النجاسة المعلومة بالإجمال ليست ذات علامة ثم علمنا بعد ذلك بنجاسة إناء معين منهما فإنّ العلم الإجمالي هنا ينحل بالعلم التفصيلي بالفرد ، وذلك لعدم وجود خصوصية في المعلوم بالإجمال تستوجب الحيلولة دون العلم بانطباق المعلوم بالاجمال على ما هو المعلوم بالتفصيل.

هذا وقد وقع الخلاف في هذا الفرض بين المحقق النائيني رحمه‌الله والمحقق العراقي رحمه‌الله فذهب الاول الى الانحلال والثاني الى عدمه. وعلى أيّ حال لو كنا نبني على الانحلال فهو من قبيل الانحلال الحقيقي ، وذلك لزوال العلم الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي بالفرد.

التطبيق الثالث : ما لو علم المكلّف باشتغال ذمته باحدى صلاتين اما الظهر أو المغرب ، ثم بعد ذلك علم بعدم وجوب كلا الصلاتين وان علمه الإجمالي السابق لم يكن سوى وهم.

وهنا لا ريب في سقوط العلم الإجمالي ، وذلك لزوال ركنه الركين وهو العلم بالجامع حيث انقلب العلم بالجامع إلى علم بعدم مطابقته للواقع.

التطبيق الرابع : ما لو علم المكلف باشتغال ذمته باحدى صلاتين ثم تبدّل اليقين الى الشك ، بمعنى انّه شك في واقعية المعلوم بالإجمال ، وهذا هو المعبّر عنه بالشك الساري ، حيث يتعلّق الشك بعين ما تعلّق به اليقين. ولا ريب في انحلال العلم الإجمالي بذلك حقيقة ، إذ لا علم اجمالي ـ بحسب الفرض ـ بعد سراية الشك الى عين ما تعلّق به اليقين ، وهذا ما يقتضي أن يكون كل طرف مشكوكا بالشك البدوي.

وبهذه التطبيقات يمكن ان نستنتج

٣٦١

الضابطة للانحلال الحقيقي ، وهي انّ كل حالة نحرز معها زوال العلم بالجامع أو نحرز سرايته من الجامع الى أحد الأطراف فإنّ العلم الإجمالي ينتفي بذلك حقيقة وواقعا. فالتطبيق الاول والثاني أحرزنا فيهما سريان العلم من الجامع الى أحد أطرافه ، وفي التطبيق الثالث والرابع أحرزنا فيهما زوال العلم بالجامع.

وهنا أمر لا بدّ من التنبيه عليه : وهو انّه يشترط في الانحلال الحقيقي اتّحاد المعلوم بالتفصيل ـ في التطبيقات الثلاثة ـ مع المعلوم بالإجمال زمانا ، واتحاد متعلّق الشك ومتعلّق العلم الإجمالي زمانا في التطبيق الرابع.

وهذا واضح بأدنى تأمل ، إذ انّ سراية العلم بالجامع الى الطرف المعين في التطبيق الاول والثاني لا تتحقق لو كان المعلوم بالتفصيل متأخرا عن المعلوم بالإجمال ، إذ لا يمكن في هذه الحالة ان يكون المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالإجمال.

مثلا : لو كنا نعلم بنجاسة أحد الإنائين وانها وقعت في الساعة الاولى ثم علمنا بأنّ نجاسة وقعت في الإناء الاول ولكن في الساعة الثانية ، أي انّ وقوع النجاسة تمّ في الساعة الثانية.

فهنا لا ينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ، وذلك لأنّ المعلوم في العلم الإجمالي غير المعلوم تفصيلا ، فليس المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالإجمال.

وأما عدم الانحلال في التطبيق الثالث ـ لو كان زمان المعلومين مختلفا ـ فلأنّ أحدهما غير الآخر. مثلا : لو علم المكلّف باشتغال ذمته باحدى صلاتين من يوم السبت ثم علم بعدم وجوب كلا الصلاتين من يوم الأحد.

فالمعلوم إجمالا هو وجوب أحد صلاتي يوم السبت ، وأما المعلوم تفصيلا فهو عدم وجوب كلا صلاتي يوم الأحد ، وحينئذ كيف يمكن انحلال

٣٦٢

الاول بالثاني والحال انّ متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر.

وأما عدم الانحلال في التطبيق الرابع ـ لو كان متعلّق اليقين متفاوتا زمانا مع متعلّق الشك ـ فكذلك لتباين المتعلقين. مثلا لو كان المكلّف يعلم بوجوب احدى الصلاتين من يوم السبت ثم شك في وجوب احدى صلاتي يوم الأحد ، فعدم الانحلال هنا باعتبار انّ متعلّق العلم الإجمالي هو احدى صلاتي يوم السبت ومتعلّق الشك هو احدى صلاتي يوم الأحد ، بل لا يمكن فرض ان يكون هذا الشك من نحو الشك الساري ، والذي هو مفترض التطبيق الرابع.

ثم لا يخفى انّ المقصود من اشتراط الاتحاد الزماني هو الاتحاد من ناحية المعلوم لا من العلم ، فلا ضير في تأخر العلم التفصيلي عن العلم الاجمالي إذا كان متعلّق العلمين متّحدا زمانا.

* * *

١٥٦ ـ الانحلال الحكمي

والمراد منه انتفاء المنجزيّة والتأثير عن العلم الإجمالي دون ان يزول العلم الإجمالي حقيقة ، وهذا انّما يتفق في حالات قيام الأمارة أو الاصل العملي على ثبوت التكليف لبعض أطراف العلم الإجمالي ، فيكون اجراء الأصل المؤمّن في الأطراف الاخرى بلا معارض ، فتنتفي حينئذ منجزية العلم الاجمالي عن هذه الاطراف.

ومنشأ ذلك هو دعوى انّ العلم الإجمالي مقتض للتنجيز وليس علة تامة لتنجيز أطرافه ، بمعنى انّ ثبوت المنجزية انّما هو باعتبار امتناع إجراء الاصول المؤمّنة في كل الأطراف لاستلزامه الترخيص في المعصية ، وامتناع اجرائها في بعض الاطراف دون بعض لاستلزامه الترجيح بلا مرجّح ، فيتعين سقوط الاصول المؤمّنة عن تمام الأطراف ، وبهذا

٣٦٣

تتنجز أطراف العلم الإجمالي ، فلو اختلّت هذه المقدمة بحيث كانت بعض الأطراف متنجزة بمنجّز آخر من أمارة أو أصل مثبت للتكليف فإنّ الأطراف الاخرى يصبح جريان الاصل المؤمّن فيها ممكنا لانتفاء محذور التعارض الذي يترتب عليه سقوط الاصول المؤمّنة ، إذ لمّا كانت بعض الأطراف موردا لتنجيز الأمارة أو الأصل المثبت للتكليف فإنّ الأطراف الاخرى تكون مجرى للاصول المؤمّنة بلا معارض ، وهذا هو معنى سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بسبب الانحلال الحكمي.

وهنا شروط ثلاثة لا بدّ من تواجدها في موارد الانحلال الحكمي :

الشرط الاول : ان يكون مقدار ما كشفت عنه الأمارة أو نجزته الاصول المثبتة للتكليف مساويا لمقدار ما هو المعلوم بالإجمال ، وحينئذ تجري الاصول المؤمّنة عن بقية الاطراف بلا معارض.

مثلا : لو علمنا بتنجّس خمسة من الاواني العشرة ثم كشفت الأمارة عن انّ الخمسة المتنجسة هي الخمسة الواقعة في الطرف الشمالي ، فإنّ العلم الإجمالي عندئذ ينحل بالانحلال الحكمي ، وذلك لأن المقدار الذي كشفت عنه الأمارة مساويا للمقدار المعلوم بالإجمال ، وهكذا لو كانت الخمسة الشمالية مجرى لاستصحاب النجاسة ، ففي كلا الحالتين يسقط العلم الاجمالي عن المنجزية بمعنى انّ الأطراف الباقية تكون مجرى للاصول المؤمّنة دون معارض. وهذا هو الانحلال الحكمي.

أما لو كان المنكشف بواسطة الأمارة هو نجاسة أربعة من الاواني العشرة وهي الاربعة الشمالية فإنّ العلم الاجمالي حينئذ لا ينحل ، نعم تخرج الأطراف المنكشف نجاستها بالامارة عن أطراف العلم الإجمالي وتصبح

٣٦٤

أطرافه ستة ، ومنشأ ذلك هو عدم امكان إجراء الاصول المؤمنة في الستة ، إذ انّ اجراء الاصل المؤمّن في كل طرف معارض باجرائه في الأطراف الاخرى.

الشرط الثاني : ان لا يكون السبب للتنجيز الذي تكشف عنه الأمارة أو يثبته الاصل مختلفا عن سبب التنجيز في المعلوم بالإجمال ، فلا بدّ وان يكون المنكشف بواسطة الأمارة مطابقا لما هو المعلوم بالإجمال وكذلك لا بدّ وان تكون جهة التنجيز في الاصل متطابقة مع جهة التنجيز في العلم الإجمالي.

مثلا : لو علم اجمالا بحرمة أكل أحد الطعامين بسبب كونه من الأعيان النجسة ثم قامت الأمارة على انّ الذي هو من الأعيان النجسة هو الطعام الاول فإنّ العلم الإجمالي حينئذ يسقط عن المنجزية ، أما لو كان المنكشف بالأمارة هو مغصوبية الطعام الاول أو كان الاستصحاب مقتضيا لذلك فإن العلم الاجمالي لا ينحل ، وذلك لأن المنجّز بالعلم الإجمالي غير المنجّز بالأمارة أو الاستصحاب.

الشرط الثالث : ان لا يكون انعقاد العلم الإجمالي متقدما على قيام الامارة أو الاصل المنجّز ، فلو افترضنا انّ العلم الإجمالي قد انعقد ثم قامت الامارة على انّ المعلوم بالإجمال هو الطرف الاول مثلا فإنّ العلم الإجمالي لا ينحل بذلك ، بمعنى انّ العلم الإجمالي يظلّ منجزا للأطراف التي لم تقع موردا للأمارة ، وذلك بسبب ان منجزية الأمارة انما هو عند قيامها ، وهذا معناه انّ الاصول المؤمنة في مورد الأمارة جارية قبل قيام الامارة وعندئذ تسقط لتعارضها مع الاصول المؤمنة الجارية في غير مورد الامارة ، وبذلك يتنجّز العلم الإجمالي ويكون قيام الامارة بعد ذلك غير نافع في سقوط المنجزية عن العلم الاجمالي بالنسبة للأطراف غير الواقعة موردا للامارة.

٣٦٥

مثلا : لو علمنا بحرمة أحد الطعامين ثم قامت البينة على حرمة الطعام الاول ، فإنّ العلم الإجمالي لا ينحل ، إذ انّ منجزية الامارة انّما تبدأ من حين قيامها ، وعندئذ يكون قيام الامارة غير نافع في سقوط المنجزية عن الطرف الآخر الذي لم يقع موردا للأمارة ، وذلك لأنّه لو لاحظنا مورد الامارة قبل قيامها ولاحظنا الطرف الآخر لوجدنا انّ في البين علم اجمالي اما بحرمة الطعام الاول الى حين قيام الامارة ويكون المنجّز بعد قيامها هو الامارة أو بحرمة الطعام الثاني الى ما بعد قيام الأمارة.

* * *

١٥٧ ـ انحلال العلم الإجمالي

المراد من انحلال العلم الإجمالي هو سقوطه عن منجّزية تمام أطرافه بقطع النظر عمّا هو المنشأ لسقوطه عن المنجّزية ، فقد يكون السقوط ناشئا عن زوال العلم بالجامع ، امّا لانقلابه الى شك وامّا لانقلابه الى علم بالنقيض ، كما لو كان يعلم بنجاسة أحد الإنائين ثم انكشف له عدم مطابقة معلومه للواقع وانّ الواقع هو طهارة كلا الإنائين وانّ العلم الإجمالي بالنجاسة لم يكن سوى وهم.

وقد يكون زوال العلم بالجامع من جهة سريان المعلوم بالاجمال من الجامع الى أحد أطرافه المعين ، كما انّ سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز لاطرافه قد ينشأ عن قيام الأمارة بتعيين ما هو منطبق الجامع ، وقد ينشأ السقوط عن عدم جريان الاصول المؤمّنة في بعض الاطراف ، فتجري الاصول المؤمّنة في الطرف الآخر بلا معارض ، وقد ينشأ عن مناشئ اخرى.

والمتحصل انّه في كل حالة يسقط فيها العلم الاجمالي عن المنجزية لتمام أطرافه يعبّر عن هذه الحالة بانحلال العلم الاجمالي.

٣٦٦

١٥٨ ـ انحلال العلم الإجمالي الكبير بالصغير

والمقصود من الانحلال في هذا الفرض هو سريان العلم بالجامع الى جامع آخر واقع في ضمن دائرة أضيق من دائرة العلم الأول.

ومعنى الانحلال انّ العلم الإجمالي الكبير لا ينجّز تمام أطرافه ، وتنجّز الأطراف الواقعة في ضمن دائرة العلم الاجمالي الصغير انّما هو بسبب العلم الاجمالي الصغير ، وأما العلم الإجمالي الكبير فقد سقط عن المنجّزيّة لتمام أطرافه.

وهذا النحو من الانحلال يمكن تصويره بنحو الانحلال الحقيقي كما يمكن تصويره بنحو الانحلال الحكمي.

ومثال الصورة الاولى ما لو علم المكلّف انّ خمسا من شياه في قطيع ـ يساوي عشرين شاة ـ قد تغذت على لبن خنزيرة ، فجامع العلم الإجمالي في المثال هو خمس شياه من عشرين ، فلو تحوّل العلم بعد ذلك الى علم بتغذّي خمس شياه من عشر من القطيع هي العشر البيض منها فإنّ العلم الإجمالي ينحلّ حينئذ الى علم اجمالي آخر بحرمة خمس شياه من العشر البيض وشك بدوي في العشرة الباقية.

ومنشأ الانحلال هو سراية الجامع من العلم الإجمالي الاول الى جامع آخر واقع في دائرة أضيق من دائرة العلم الاجمالي الاول الكبير.

ومثال الصورة الثانية هو عينه مثال الصورة الاولى إلاّ انّ الانحلال لم ينشأ عن العلم بسريان الجامع من العلم الاول الكبير الى العلم الاجمالي الصغير وانّما نشأ عن قيام الأمارة أو أصل منجّز بالتفصيل الذي ذكرناه في الانحلال الحكمي.

وبهذا يتضح ان انحلال العلم

٣٦٧

الإجمالي الكبير بالصغير منوط بتوفره على شرطين :

الاول : ان تكون أطراف العلم الإجمالي الصغير بعض أطراف العلم الإجمالي الكبير ، فلو كانت أطراف العلم الاجمالي الثاني مباينة لأطراف العلم الإجمالي الكبير فإنّه لا يكون من انحلال العلم الاجمالي الكبير بالصغير ، فلو علمنا انّ خمسا من عشرين شاة قد تغذت على لبن خنزيرة ثم علمنا انّ خمسا من عشرة قد تغذت على لبن خنزيرة ولم تكن هذه العشرة بعض أطراف العلم الاول ، فإنّ العلم الاجمالي الاول لا ينحل بالثاني بل هما علمان اجماليان متباينان ، وهكذا لو كانت بعض أطراف العلم الإجمالي الثاني من غير أطراف العلم الإجمالي الاول ، كما لو كانت خمس شياه من العلم الاجمالي الثاني من غير أطراف العلم الإجمالي الاول على تفصيل في هذا الفرض.

الثاني : ان يكون مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الثاني مساويا للمقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير كما هو في المثال.

أما لو كان مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الثاني أقل من مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الاول الكبير فإنّ العلم الإجمالي الكبير لا ينحل. فلو علمنا انّ أربعا من الشياه الخمس واقعة في ضمن العشر البيض فإنّ العلم الإجمالي الكبير يظلّ منجّزا لتمام أطرافه بسبب العلم الاجمالي بوجود شاة واحدة من بين العشرين قد تغذت على لبن خنزيرة ، وهذا ما يبرّر عدم الانحلال.

* * *

١٥٩ ـ الانسداد

دليل الانسداد أحد الأدلة التي يستدلّ بها على حجية الظن المطلق.

والمراد من الانسداد هو انسداد

٣٦٨

باب العلم والعلمي بالاحكام الشرعية ، بمعنى عدم وجود طرق تورث العلم بالأحكام الشرعية ، وعدم وجود طرق ظنية خاصة قام الدليل القطعي على حجيتها.

ودليل الانسداد مكوّن من أربع أو خمس مقدمات ـ على الخلاف ـ وتسميته بذلك ناشئ عن انّ احدى مقدماته هي دعوى انسداد باب العلم والعلمي. والمراد من العلم هو العلم الوجداني بالأحكام الإلهية الشرعية ، وأما المراد من العلمي فهو العلم التعبدي الناشئ عن الأدلة الظنية الخاصة والتي قام الدليل القطعي على حجيتها بالخصوص دون سائر الظنون.

ولو تمت مقدمات الانسداد لكانت النتيجة المتحصلة عنها هي حجية الظن المطلق ، بمعنى منجزيّة ومعذريّة مطلق الظن وبقطع النظر عن منشئه ، فحينما يحصل الظنّ بوجوب شيء يكون المكلّف مسئولا عن ذلك الوجوب حتى وان كان منشأ الظن به خبر الواحد الضعيف أو النص الشرعي المجمل أو غير ذلك ، وحينما يحصل الظن بحليّة شيء فإنّ المكلّف يكون في سعة من جهته بقطع النظر عن منشأ الظن بالحلّية.

وحتى يتجلّى المراد من دليل الانسداد أكثر ، وما هو وجه الاستدلال به على حجية مطلق الظن لا بدّ من استعراض مقدمات هذا الدليل بما يتناسب مع الغرض ، فنقول : انّ الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ذكر انّ لهذا الدليل أربع مقدمات اذا تمّت فإنّها تنتج حجية الظن :

المقدمة الاولى : هي العلم اجمالا بثبوت تكاليف بالغة مرتبة الفعليّة ، وهذا معناه مسئولية المكلف عن التصدّي لامتثالها ولا يجوز له اهمالها وتجاوزها.

وهذه المقدمة مكوّنة من دعويين : الاولى : هي العلم الإجمالي بوجود

٣٦٩

تكاليف شرعية ، والثانية : هي انّ هذه التكاليف المعلوم ثبوتها اجمالا بالغة مرتبة الفعليّة والتنجّز.

والشيخ الآخوند صاحب الكفاية رحمه‌الله فصل بين الدعويين ، وجعل الدعوى الاولى هي المقدمة الاولى ، وجعل الدعوى الثانية المقدمة الثالثة ، ولذلك فإنّ مقدمات دليل الانسداد خمس بنظر صاحب الكفاية رحمه‌الله.

المقدمة الثانية : هي عدم وجود طرق تورث العلم بالأحكام الشرعية ، وعدم وجود طرق ظنيّة خاصة قام الدليل القطعي على حجيتها واعتبارها ، وهذا هو معنى انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية.

ومدرك هذه المقدمة هو انّ الأحكام الواصلة لنا بواسطة العلم الوجداني قليلة جدّا ، حيث انّ نسبتها الى الكم الهائل من الأحكام الشرعية المتصلة بحياة الإنسان الخاصّة والعامّة ضئيلة جدّا لا تكاد تذكر. والوسيلة الوحيدة ـ دون مجازفة ـ التي يمكن الاتّكال عليها في مقام التعرّف على الأحكام الشرعية هي الروايات المودعة في الكتب المعتمدة عند الطائفة ، وهي وان كانت مستوعبة تقريبا لتمام الأحكام المتصلة بحياة الإنسان الخاصّة والعامّة إلاّ انّ المشكلة في طريقيّتها لإثبات الاحكام الشرعية ، بمعنى انّ طريقيّتها وحجيتها منوط بتمامية دعويين :

الاولى : حجيّة أخبار الثقات ، ثم إثبات وثاقة الواقعين في طرق هذه الروايات.

الثانية : حجيّة ظواهر هذه الروايات ، أي حجية ما يفهمه العرف من متون هذه الأخبار.

ومع سقوط كلا الدعويين او احداهما تكون النتيجة هي انسداد باب العلمي. فلو لم نتمكن من اثبات

٣٧٠

حجيّة خبر الثقة أو لم نتمكن من اثبات وثاقة الواقعين في طرق هذه الروايات فإنّه حينئذ لا تكون ثمة قيمة علمية لهذه الروايات ، ولو أمكن إثبات حجيّة خبر الثقة وإثبات وثاقة الواقعين في طرق هذه الروايات إلاّ انّه لم نتمكن من إثبات حجيّة ما يظهر من متون هذه الروايات أو كان الدليل مقتضيا لعدم حجيّة الظواهر لغير المشافهين أو المقصودين بالافهام فإنّ النتيجة هي انسداد باب العلمي أيضا ، إذ انّ ما ينفهم من الروايات لا مبرّر لاعتماده بعد ان كانت حجيّة ودليليّة هذا الفهم ساقطة عن الاعتبار.

وأما القرآن الكريم فهو وان كان لا يواجه المشكلة الاولى ، حيث انّ صدوره قطعي إلاّ انّ المشكلة الثانية وهي عدم حجية الظواهر تشمل ظواهر الكتاب المجيد ـ لو تمّت ـ وهي كافية في انسداد باب العلمي بالاحكام المودعة في القرآن المجيد.

المقدمة الثالثة : انّ العمل بالاحتياط ـ وذلك بواسطة الإتيان بكلّ ما يحتمل وجوبه وترك كل ما يحتمل حرمته ـ غير لازم أو غير جائز ، أمّا انّه غير لازم فهو ما لو كان الاحتياط متعذّرا ، وحينئذ يكون التكليف به تكليفا بغير المقدور ، أو كان الالتزام به موجبا للوقوع في العسر والحرج المنفيين شرعا. وأما انّه غير جائز فهو ما لو كان الالتزام به موجبا لاختلال النظام.

والعمل بالاصول العمليّة في كل مسألة ينافي العلم الإجمالي ، كما انّ العمل بمثل القرعة مما لم يقم الدليل على اعتباره خصوصا في الشبهات الحكمية ، بل الضرورة الفقهية قاضية بعدم صحة الاعتماد على مثل هذه الوسائل لإثبات الأحكام الشرعية ، فلم يبق إلاّ تقليد الانفتاحي والذي تمّت عنده حجية الروايات سندا ودلالة ، وهذا ما لا يمكن المصير اليه ،

٣٧١

وذلك لأنّ الذي يبني على انسداد باب العلم والعلمي يرى انّ الانفتاحي مخطئ في مذهبه وعليه يكون الرجوع اليه معناه رجوع العالم للجاهل وهو غير جائز كما هو واضح.

المقدمة الرابعة : هي انّ عدم العمل بمطلق الظن يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا ، وذلك لأنّ المكلّف لمّا كان يعلم بثبوت تكاليف بالغة مرتبة الفعليّة وكان الاحتياط متعذّرا أو موجبا لاختلال النظام أو الوقوع في العسر والحرج ، وكان الرجوع الى الاصول العمليّة ينافي العلم الإجمالي ، والرجوع الى مثل القرعة أو الانفتاحي غير جائز ، فالعمل حينئذ بغير الظن لا يكون إلاّ عملا بالشك أو الوهم ، ومن الواضح انّ الأخذ بمقتضاهما وترك ما يؤدي اليه الظن من ترجيح المرجوع على الراجح.

وقد يقال انّه لما ذا لا يكون العمل على وفق الظنون الخاصة التي يرى الانفتاحي حجيتها ، وحينئذ لا يكون العمل بها من ترجيح المرجوح ، لانّها إذا لم تكن أرجح من سائر الظنون فهي في عرضها.

والجواب عن ذلك هو انّ العمل بالظنون الخاصة وان لم يكن من ترجيح المرجوح إلاّ انّه من الترجيح بلا مرجح ، وذلك لعدم قيام الدليل الخاص على حجيّة الظنون الخاصة كما هو مقتضى الفرض.

هذا تمام الكلام في مقدمات دليل الانسداد. وتلاحظون انّ هذا الدليل لا يكون منتجا لحجيّة مطلق الظن ما لم تكن جميع مقدماته تامّة ، إذ يكفي في سقوطه سقوط احدى مقدماته ، فحينما نتمكن من إثبات حجية أخبار الثقات وإثبات وثاقة الواقعين في طرق الروايات أو إثبات حجيتها بطريق آخر ، هذا بالاضافة الى التمكن من إثبات حجية الظواهر وانّها غير

٣٧٢

مختصة بالمشافهين فحينئذ يكون باب العلمي منفتحا وبه ينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، فلا يكون الالتزام بأطرافه متعذرا أو موجبا للعسر والحرج أو اختلال النظام.

وكيف كان لو تمّت مقدمات الانسداد فإنها تنتج حجية مطلق الظن إلا ان الكلام في انّ ذلك هل هو من باب الكشف أو الحكومة أي هل انّ الحجية الثابتة لمطلق الظن ـ لو تمّت مقدمات الانسداد ـ حجية شرعية أو حجية عقلية.

والمراد من الكشف هو انّ مقدمات الانسداد تكون كاشفة ـ لو تمّت ـ عن جعل الشارع الحجية لمطلق الظن فالكاشف هي مقدمات الانسداد والمنكشف هو الجعل الشرعي للحجيّة.

وأما المراد من الحكومة فهو انّ العقل ـ عند ما تكون مقدمات الانسداد تامّة ـ يدرك بأنّ المكلف يكون مسئولا عن الامتثال الموجب للظن بفراغ الذمة عن التكليف ولا يكون معذورا حين الاكتفاء بالامتثال الموجب للشك أو احتمال الخروج عن عهدة التكليف ، بمعنى انّه لا يصح منه التنزّل من الامتثال الظني الى الامتثال الشكي أو الاحتمالي. وهذا هو معنى التبعض في الاحتياط ، إذ انّ العقل يدرك انّ المكلّف لمّا لم يكن قادرا على الاحتياط التام لكونه متعذّرا أو موجبا للعسر والحرج او اختلال النظام فإنّه يتنزل منه الى التبعيض في الاحتياط. وهذا التبعيض له مراتب ، فمنه ما يكون موجبا للظن بفراغ الذمّة ، ومنه ما يكون موجبا لاحتمال فراغ الذمّة ، ولا تصل النوبة للمراتب النازلة عند ما تكون المرتبة العليا مقدورة وغير موجبة لمحذور العسر والحرج أو اختلال النظام ، نعم لو أوجبت ذلك فإنّ العقل يدرك ان التنزّل انّما يكون للمرتبة التي تليها وهكذا.

٣٧٣

وتلاحظون انّ هذا يعني استقلال العقل في إدراك لزوم العمل بما هو مقتضى الظن وعندئذ يكون المكلّف معذورا في مخالفة الواقع الناتج عن التبعيض في الاحتياط وعدم الالتزام بتمام الاطراف المحتملة أي عدم العمل بالامتثال الإجمالي القطعي. وهذا هو المراد من الحكومة بحسب مبنى السيد الخوئي رحمه‌الله ، وأما بحسب مبنى صاحب الكفاية رحمه‌الله فهو انّ المراد من الحكومة هو حكم العقل بحجية الظن المطلق لو تمّت مقدمات الانسداد. والفرق بين المبنيين أوضحناه تحت عنوان « الحكومة الانسدادية ».

وعلى أيّ حال فالوجه في تبني حجية الظن المطلق من باب الكشف هو دعوى انّ الشارع لا يرضى بالاحتياط إذا كان مستوجبا للامتثال الإجمالي في أكثر الأحكام ، إذ انّ ذلك ينافي قصد الوجه المعتبر في العبادات ، وباعتبار انّ الطرق الاخرى كالرجوع الى فتوى الانفتاحي أو الاعتماد على مثل القرعة أو الاصول العملية الجارية في كل مورد ، باعتبار انّ كل هذه الطرق ساقطة ـ كما هو مقتضى الفرض ـ فإنّ ذلك يكشف عن انّ الشارع قد جعل الحجية لمطلق الظن ، إذ هو المتعين بعد سقوط كل الطرق الاخرى.

وبتعبير آخر : انّه بعد افتراض تمامية مقدمات الانسداد يدور الأمر بين التبعيض في الاحتياط والذي هو الامتثال الاجمالي الظني وبين جعل الشارع الحجية لمطلق الظن والاول ساقط بسبب العلم بعدم رضا الشارع به ، وذلك لقيام الإجماع فالمتعيّن هو الثاني.

وأما الوجه في تبنّي حجية مطلق الظن من باب الحكومة فهو لأنّ الاحتياط التام لمّا كان محرما باعتباره موجبا لاختلال النظام أو انّه غير واجب لاستلزامه العسر والحرج فإنّ العقل يدرك لزوم التنزّل من مرتبة الاحتياط التام الى مرتبة التبعيض في

٣٧٤

الاحتياط ، ولا يصار الى المرتبة الدنيا اذا كانت المرتبة العليا من التبعيض مقدورة وغير موجبة لاختلال النظام أو العسر والحرج.

واذا كانت هذه المرتبة من الاحتياط غير محرمة لسقوط دعوى الاجماع بتحريمها يكون المتعيّن حينئذ هو الحكومة ، إذ لا مجال لانكشاف جعل الشارع الحجية للظن بعد امكان ان يتكل الشارع على ما يدركه العقل من لزوم الامتثال الإجمالي الظني أو التبعيض في الاحتياط ، وبه تتعيّن الحكومة دون الكشف ، إذ مبنى الكشف معتمد على تمامية الإجماع على حرمة التبعيض في الاحتياط ومع سقوط دعوى الإجماع لا مجال للكشف.

* * *

١٦٠ ـ الانسداد الصغير

الانسداد الصغير يعني عدم وجود طريق قطعي أو علمي على حجّيّة شيء دخيل في عمليّة الاستنباط للحكم الشرعي مع افتراض انفتاح طريق القطع والظنّ المعتبر بمستوى يمكن معه الوصول إلى معظم الأحكام الشرعيّة.

فالانسداد الصغير يقع في مقابل الانسداد الكبير والذي يفترض فيه عدم وجود أي طريق قطعي أو علمي للوصول للأحكام الشرعيّة.

والانسداد بكلا قسميه يتمسّك به لإثبات حجّيّة الظنّ ، غايته أنّ الانسداد الكبير ينتج بحسب الدعوى حجّيّة مطلق الطرق الموجبة للظنّ بالحكم الشرعي ، وأمّا الانسداد الصغير فهو يثبت حجّيّة الظنّ لخصوص الطريق الذي لم يتيسّر إثبات حجّيّته بواسطة الطرق القطعيّة أو الظنّيّة المعتبرة.

فمثلا قول الرجالي عند ما لا نجد طريقا خاصّا لإثبات حجّيّته فهذا معناه انسداد باب العلم بقول الرجالي ، ومعه ينغلق عنّا طريق مهمّ

٣٧٥

للوصول لبعض الأحكام الشرعيّة ، وذلك لأنّ قول الرجالي في التعديل والجرح لو كان معتبرا لكان طريقا لتصحيح الكثير من الروايات المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّة.

من هنا قد يقال بصحّة التمسّك بالظنّ الحاصل من قول الرجالي ، وذلك بدليل الانسداد الصغير والذي يتقوّم بثلاث مقوّمات أساسيّة :

الأولى : عدم وجود طريق قطعي أو ظنّي معتبر لإثبات حجّيّة قول الرجالي مثلا.

الثانية : العلم الإجمالي بمطابقة قول الرجالي في بعض ما أفاده للواقع ، وهذا معناه العلم الإجمالي بصحّة بعض الروايات المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّة.

الثالثة : إنّ الاحتياط بالعمل بجميع الروايات المتوقّف تصحيحها وتضعيفها على قول الرجالي غير ممكن لاستلزامه مجموعة من المحاذير ، منها عدم إمكان الاحتياط في نفسه لتباين مضامين بعض الروايات ومنها أنّه قد ينشأ عن ذلك العسر والحرج كما لو كان مفاد بعض الروايات التكفير ببقرة ، ومفاد الأخرى التكفير ببدنة ومفاد الثالثة التكفير بشاة فإنّ الاحتياط يقتضي التكفير بكلّ ذلك.

وإذا تمّت هذه المقدّمات تكون النتيجة هي حجّيّة الظنّ الحاصل من قول الرجالي.

ولأنّ الغرض لا يتّسع لمناقشة هذه المقدّمات نكتفي بهذا القدر ممّا ذكرناه.

* * *

١٦١ ـ الإنشاء والإخبار

المراد من الإنشاء ـ كما هو مذهب المشهور ـ هو ايجاد المعنى واحداثه بواسطة اللفظ. والمقصود من الإيجاد هو التسبيب لخلق معنى في عالمه المناسب له على ان يكون قصد الإيجاد باللفظ دخيلا في ذلك.

٣٧٦

فحينما يقول المتكلم : « بعت » بقصد الإنشاء فإنّه يسبّب في انخلاق معنى في عالم الاعتبار العقلائي وهو اعتبار العقلاء للتمليك ، فالعقلاء حينما كانوا قد تبانوا على انّ التلفّظ بلفظ « بعت » ـ بقصد ايجاد معناه ـ يوجب اعتبار وجود التمليك فهذا معناه انّ التلفظ بذلك بقصد ايجاد المعنى يوجب انخلاق فرد حقيقي في عالم الاعتبار العقلائي. هذا ما سلكه المشهور في تفسير الإنشاء وهو يتناسب مع ما سلكه صاحب الكفاية رحمه‌الله على اختلاف بينهما ، وسيأتي مزيد توضيح تحت عنوان « الجمل الإنشائية ».

وأما المراد من الإخبار فهو الكشف باللفظ عن ثبوت المؤدى في ظرفه ووعائه الخارجي أو الذهني ، على ان يكون قصد الكشف والحكاية عن ذلك دخيلا في صدق الإخبار ، ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « الجمل الخبرية ».

١٦٢ ـ الانصراف

هو انسباق بعض أفراد الطبيعة الى الذهن عند اطلاق لفظ الطبيعة ، أو قل هو انسباق معنى معيّن من اللفظ للذهن رغم انّ المدلول الوضعي للفظ يتسع لأكثر مما هو المنسبق منه. وهو على قسمين :

القسم الاول : الانصراف المستقر ، وهو الذي يوجب انسلاب الظهور عن الإطلاق واستقراره مع الأفراد أو الحصص المنصرف اليها أو يوجب اجمال المراد من اللفظ ، وهل المراد هو المدلول الوضعي على سعته أو خصوص الأفراد والحصص المنصرف اليها مما هو مشمول للمدلول الوضعي للفظ ، فيكون القدر المتيقن من المراد هو المعنى المنصرف اليه.

القسم الثاني : هو الانصراف البدوي والذي يزول بالتأمّل ولا يؤثر على الظهور في الإطلاق.

٣٧٧

ولا إشكال كبرويا في لزوم الاعتناء بما يقتضيه القسم الاول من الانصراف ، كما لا إشكال في عدم تأثير الانصراف البدوي على الظهور في الإطلاق ، نعم وقع النزاع بين الأعلام في تحديد موارد الانصرافين ، فالنزاع إذن بين الأعلام صغروي.

ثم انّ تحديد موارد كل من الانصرافين يتم عادة بواسطة البحث عن مناشئ الانصراف ، وذلك لأنّ الانصراف وجداني لا يقع محلا للنزاع ، فتحديد مناشئ الانصراف هو الوسيلة التي يتوسل بها لغرض التعرّف على انّ الانصراف الوجداني هل هو من قبيل الانصراف الاول أو هو من قبيل الانصراف الثاني.

ولا بأس باستعراض بعض المناشئ المذكورة عند الأعلام لملاحظة ما تقتضيه من نحوي الانصراف.

المنشأ الاول : هو غلبة وجود بعض أفراد الطبيعة خارجا ، وهذه الغلبة لها مراتب ، فقد يكون ما يقابل الأفراد الغالبة موجودا ومألوفا أيضا ، وقد يكون ما يقابلها نادرا ، وقد يكون معدوما.

وواضح انّ المرتبة الاولى لا يكون الانصراف معها موجبا لاستقرار الظهور مع المنصرف اليه بل يبقى الظهور في الإطلاق على حاله ، وذلك لأنّ هذه المرتبة من الغلبة لم توجب نشوء علاقة بين اللفظ وبين الأفراد الغالبة ، بل يبقى اللفظ الدال على الطبيعة بمعناها السعي محتفظا بصلاحيته للدلالة عليها ، والعلاقة التي نشأت بواسطة الغلبة في الوجود انّما هو بين واقع الطبيعة وبين الأفراد الغالبة ، بمعنى انّ هذه الغلبة أوجبت انسا ذهنيا بين الأفراد الغالبة الوجود وبين واقع الطبيعة ، وهذا الانس الذهني ليس من الوثاقة والاستحكام بحيث يوجب التصرّف في دلالة لفظ

٣٧٨

الطبيعة وتضييق دائرة مدلوله.

ومن هنا فالانصراف الناشئ عن هذه المرتبة من الغلبة ليس إلاّ انصرافا بدويا يزول بمجرّد الالتفات الى انّ دلالة اللفظ على الطبيعة بمعناها السعي لم تتأثر بهذا الانس الذهني.

وأما المرتبة الثالثة بل وكذلك الثانية فلا يبعد ان يكون الانصراف الناشئ عنها موجبا لعدم انعقاد الظهور في الاطلاق ، فهو وان وقع التشكيك في ايجاب هذا الإصراف لاستقرار الظهور في المنصرف اليه إلاّ انّ صلاحيته للمنع عن الظهور في الإطلاق يصعب التشكيك فيها ، وذلك لوثاقة واستحكام العلاقة بين الافراد الغالبة وبين واقع الطبيعة بحيث أوجبت هذه الوثاقة انحداث خلل في العلاقة بين لفظ الطبيعة وبين مدلوله السعي ، ولذلك لو أراد المتكلّم الإطلاق من لفظ الطبيعة فإنه يحتاج الى نصب قرينة غير قرينة الحكمة للدلالة على إرادة الاطلاق وإلاّ لكان مجازفا بغرضه.

المنشأ الثاني : كثرة استعمال اللفظ الدال على الطبيعة في بعض أفرادها مع نصب قرينة على ذلك. وهذه الكثرة لها مراتب أيضا ، فقد تكون كثرة الاستعمال موجبة لانتقال اللفظ من معناه والذي هو الطبيعة بسعتها الى حصص خاصة منها ، فيكون المعنى الاول مهجورا وتكون كثرة الاستعمال موجبة للوضع التعيّني في الثاني.

وهنا لا إشكال في انّ الانصراف الناشئ عن هذه المرتبة من الكثرة موجبا لانعقاد الظهور في المعنى المنصرف اليه دون المعنى الاول ، وذلك لأنّ هذه المرتبة من الكثرة أوجبت استئناسا ذهنيا شديدا بين اللفظ والمعنى الثاني بحيث نشأ عن هذا الاستئناس تبدّل دلالة اللفظ.

ولا يخفى عليك انّ هذه العلاقة المستوثقة لم تنتج عن العلاقة بين

٣٧٩

الصورة الذهنية للطبيعة والأفراد الخارجية باعتبار غلبة وجودها ، وذلك لإمكان ان لا تكون الأفراد التي استعمل اللفظ فيها بالخصوص هي الأفراد الغالبة الوجود ، إذ يمكن ان تكون مساوية من حيث الوجود للأفراد الاخرى للطبيعة.

فالعلاقة إذن نشأت عن الاستئناس الواقع بين نفس اللفظ والافراد التي غلب استعماله فيها. ومن هنا يصح للمتكلم ان يتكل على هذا الانصراف لو كان مريدا للافراد الخاصة ولا يصح منه التعويل على السعة اللفظية لو كان مريدا للإطلاق.

والمرتبة الثانية لكثرة الاستعمال هي الموجبة لنشوء وضع ثان للفظ فيكون اللفظ بذلك من المشتركات اللفظية ، وحينئذ لا يمكن استظهار أحد المعنيين من اللفظ ما لم ينصب المتكلم قرينة على إرادة أحدهما.

فالانصراف الناشئ عن هذه المرتبة من الكثرة في الاستعمال منع عن انعقاد الظهور في الإطلاق وان كان لم يوجب انعقاد الظهور في المعنى الثاني المنصرف اليه ، والسرّ في صلاحية هذا الانصراف للمنع عن الظهور في الاطلاق هو ما ذكرناه من ان الكثرة في الاستعمال أوجبت نشوء استئناس ذهني بين نفس اللفظ والمعنى الثاني ، وهذا ما أوجب التعتيم على المدلول ، وبه يفقد اللفظ صلاحيته للدلالة على المعنى الاول.

وبتعبير آخر : انّ استظهار الإطلاق من اللفظ منوط بمقدمات الحكمة والتي منها صلاحية اللفظ لعروض الاطلاق عليه ، ونحن في المقام لا نحرز هذه الصلاحية بعد ان كان المعنى الثاني ـ والذي لا يصلح لأن يعرض عليه الإطلاق ـ مأنوسا من اللفظ بنحو تكون دلالة اللفظ عليه وضعيّة تعيّنية ، فهو والمعنى الاول يشتركان في وضع اللفظ للدلالة عليهما ، غايته انّ

٣٨٠