المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

المتلقي ان يحرز ذلك من خارج القضية ، ثم حينما يتنقح عنده الموضوع مفهوما ومصداقا يرتب عليه ذلك الحكم. ومن هنا لا يصح ترتيب الحكم على فرد لا يحرز مصداقيته لموضوع الحكم. وهذا الفرد الغير المحرز مصداقيته للموضوع هو المعبّر عنه بالشبهة المصداقية.

المقدمة الثانية : انّ المتعبد به شرعا بواسطة الاستصحاب هو بقاء المتيقن أو اليقين في ظرف الشك ، وهذا معناه انّ المتيقن بنفسه هو المجعول في ظرف الشك ، فلو كان المتيقن حكما شرعيا فإنّ المجعول في ظرف الشك هو عين الحكم الثابت في ظرف اليقين وليس المجعول في ظرف الشك حكما جديدا مماثلا للحكم المتيقن ، وهذا ما يبرّر اعتبار عدم انفصال زمان الشك عن زمان اليقين ، إذ مع انفصالهما بيقين آخر يكون التعبد بالحكم الثابت في زمان اليقين الاول تعبدا بحكم جديد ، وذلك للقطع بارتفاع الحكم الثابت في زمان اليقين الاول ، وهذا ينافي ما ذكرناه من انّ المتعبد به في الاستصحاب هو بقاء الحكم السابق.

مثلا : لو كان المكلّف يعلم بوجوب صلاة الجمعة ثم علم بارتفاع الوجوب ثم شك في وجوب الجمعة ، فإنّ التعبّد حينئذ بوجوب الجمعة لا يكون تعبدا استصحابيا ، وذلك لأنّ ايجاب صلاة الجمعة لا يكون بقاء للحكم الثابت في زمان اليقين الاول وانما هو حكم جديد.

وبتعبير آخر : انّ الشك في وجوب الجمعة بعد العلم بارتفاعه ليس شكا في بقاء الوجوب وانما هو شك في حدوث وجوب جديد ، إذ انّ اليقين الاول بوجوب الجمعة منتقض يقينا لعلمنا بارتفاع الوجوب كما هو الفرض.

فالمبرر لشرطية اتصال زمان الشك بزمان اليقين هو انّ صدق البقاء لا يكون إلاّ بذلك ، كما انّ صدق نقض

٢١

اليقين بالشك لا يكون إلاّ باتصال زمان الشك بزمان اليقين وعدم انفصالهما بيقين آخر.

المقدمة الثالثة : إنّ روايات الاستصحاب نهت عن نقض اليقين بالشك وأفادت بأنّ اليقين لا ينقض إلاّ بيقين مثله ، ومعنى ذلك انّه لا ترفع اليد عن يقين بمجرّد الشك في زوال متعلقه ، نعم تيقن المكلّف بزوال متعلّق اليقين يصحح الانتقاض وحينئذ لا سبيل لترتيب الاثر على بقائه ، ولازم ذلك ـ كما اتضح مما ذكرناه في المقدمة الثانية ـ انّ اليقين المنهي عن نقضه بالشك هو اليقين الذي لم ينتقض بيقين آخر وإلا فلا معنى للنهي عن نقضه بالشك ، إذ انّ الشك بعد اليقين المناقض لا يكون شكا في اليقين الاول وانما هو شك في الحدوث فلا يكون اهماله نقضا لليقين الاول بالشك ، فيكون هذا الفرض خارجا موضوعا عن قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ، فالذي هو مورد الرواية هو الشك في بقاء متعلّق اليقين ، وهذا لا يكون إلاّ في حالة يحرز معها عدم انتقاض اليقين بيقين آخر حتى يصدق حين إهمال اليقين السابق انه نقض اليقين بالشك.

ومع اتضاح هذه المقدمات الثلاث نقول :

انّ اليقين المنهي عن نقضه بالشك هو اليقين المتصل زمانه بالشك لا اليقين الذي انتقض بيقين آخر ثم وقع الشك في وجود متعلّقه بعد ذلك ، وهنا تتحرر عندنا قضية حاصلها « انّ نقض اليقين المتصل زمانه بالشك منهي عنه » ، وهذه القضية لا تتكفل بتنقيح مصاديق موضوعها وانّ ذلك انّما هو شأن المتلقي للقضية ، فمتى ما أحرز الاتصال كان مسئولا عن عدم نقض اليقين بالشك ، ومتى ما شك في الاتصال فمعناه ان مورد الشك شبهة مصداقية ، وقد قلنا انّ ترتّب حكم أي

٢٢

قضية على فرد منوط باحراز مصداقيته لموضوع الحكم في القضية ، وهذا هو المعبّر عنه بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. والمقام من هذا القبيل ، وذلك لان الشك في اليقين السابق مردد بين الشك في البقاء ـ لو كان الحادث الآخر وقع أولا ـ وليس شكا في البقاء لو كان الحادث الذي يراد استصحاب عدمه حدث أولا ، وعندئذ لا يكون الاتصال بين زمان الشك وزمان اليقين محرزا ، وعليه لا يمكن التمسّك بحديث « لا تنقض اليقين بالشك » لإثبات جريان الاستصحاب في هذا المورد ، إذ لا يحرز مصداقية هذا المورد لنقض اليقين بالشك فلا يحرز مشموليته لموضوع الاستصحاب.

وحتى يتضح المطلب أكثر نذكر هذا المثال :

لو كان موضوع الاثر الشرعي ـ وهو انفصال العلقة الزوجية ـ هو عدم التحيض في زمان ايقاع الطلاق ، فلو كنا نعلم بعدم تحيض المرأة وعدم ايقاع الطلاق في الساعة الاولى من النهار ثم علمنا بوقوع أحدهما غير المعين في الساعة الثانية وعلمنا بوقوع الآخر غير المعين في الساعة الثالثة ، وفي الساعة الثالثة وقع الشك في تحيض المرأة في زمان إيقاع الطلاق ، فلو استصحبنا عدم التحيّض الى زمان ايقاع الطلاق فإنّ هذا الاستصحاب مبتل باحتمال عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وذلك لأنّ التحيض لو وقع في الساعة الثانية فهذا معناه انّ الشك في الساعة الثالثة في عدم التحيض ليس متصلا بزمان اليقين بعدم التحيّض الثابت في الساعة الاولى ، وذلك للفصل بينهما باليقين بوقوع التحيض ، فاليقين بعدم التحيض الثابت في الساعة الاولى قد انتقض باليقين بوقوع التحيض في الساعة الثانية فيكون الشك بعدم

٢٣

التحيض في الساعة الثالثة شكا في اليقين الاول بعد انتقاضه ، فلا يكون اهماله نقضا لليقين بالشك ، إذ انّ اليقين بعدم التحيض قد انتقض باليقين بالتحيّض.

وان كان الواقع في الساعة الثانية هو الطلاق فإنّ الشك في وقوع التحيض وعدمه في الساعة الثالثة متصل باليقين بعدم التحيض ، لان عدم التحيض لم ينتقض في الساعة الثانية ، إذ انّ الواقع في الساعة الثانية هو الطلاق وهو لا ينقض اليقين بعدم التحيّض.

ولما كان المكلّف مترددا من جهة ما هو الواقع في الساعة الثانية فهذا معناه انّه متردد في اتصال زمان الشك بزمان اليقين أو عدم الاتصال ، فيكون المورد شبهة مصداقية ، أي نشك في مصداقية هذا المورد للنهي عن نقض اليقين بالشك أو قل نشك في مصداقيته لموضوع الاستصحاب.

ونقرّب المطلب بتقريب آخر :

إنّ هنا ثلاثة أزمنة ، فالساعة الاولى هي زمان العلم بعدم حدوث التحيّض وبعدم ايقاع الطلاق ، والساعة الثانية هي زمان العلم الإجمالي بحدوث أحد الحادثين إما التحيّض وإما إيقاع الطلاق ، والساعة الثالثة هي زمان العلم الاجمالي بحدوث الحادث الآخر إما التحيّض وإما إيقاع الطلاق ، فتكون الساعة الثالثة هي زمان الشك في تقدم أحد الحادثين على الآخر. وترتب الاثر متوقف على بقاء عدم التحيض الى زمان ايقاع الطلاق ، وهذا يستوجب ان يكون الواقع في الساعة الثانية هو ايقاع الطلاق حتى يكون ايقاعه في زمان عدم التحيض ، إلا ان ذلك لا يمكن إثباته بواسطة الاستصحاب ، وذلك لاننا في الساعة الثالثة نعلم بوقوع كلا الحادثين « التحيض وايقاع الطلاق » إلا انّ الشك من جهة

٢٤

تقدم أحدهما على الآخر.

فلو كان متعلّق العلم الإجمالي في الساعة الثانية هو وقوع التحيض فهذا معناه انّ الشك في عدم التحيض في الساعة الثالثة شك بعد انتقاض اليقين بعدم التحيّض باليقين الاجمالي بوقوع التحيض ، فيكون الشك في عدم التحيّض ، منفصلا عن اليقين بعدم التحيض ، والفاصل هو اليقين بالتحيض ، وعندها لا يجري الاستصحاب لانفصال زمان الشك عن زمان اليقين.

وان كان متعلّق العلم الإجمالي في الساعة الثانية هو ايقاع الطلاق فهذا معناه انّ الشك في عدم التحيض في الساعة الثالثة متصل باليقين بعدم التحيض الثابت في الساعة الاولى إذ لم يفصل بينهما بفاصل في الساعة الثانية حيث ان المفترض ان الواقع في الساعة الثانية هو ايقاع الطلاق وهو لا ينقض اليقين بعدم التحيض كما هو واضح.

ومن هنا يمكن استصحاب عدم التحيّض الى زمان ايقاع الطلاق ، إلاّ انه لمّا لم يكن هناك سبيل لإحراز ما هو الواقع في الساعة الثانية فإنه لا محالة يقع التردد في انّ هذا المورد هل هو من موارد اتصال زمان الشك بزمان اليقين أو انه من موارد الانفصال.

ولذلك لا يمكن إجراء استصحاب عدم التحيض الى زمان ايقاع الطلاق للشك في مشمولية المورد للنهي

عن نقض اليقين بالشك ، فيكون التمسّك بهذا الاطلاق لاثبات مصداقية هذا الفرض له من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ، هذا ما نفهمه من عبارة صاحب الكفاية رحمه‌الله.

* * *

٤ ـ الأثر الشرعي

المراد من الأثر الشرعي في استعمالات الاصوليين هو الحكم الشرعي الاعم من التكليفي والوضعي

٢٥

والظاهري والواقعي ، فحينما يقال مثلا انّ من شرائط ثبوت الحجية لخبر الثقة ان يكون مؤداه أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي فإن المقصود من الاثر الشرعي هو الحكم الشرعي.

ومنشأ التعبير عن الحكم الشرعي بالأثر الشرعي هو انّ الحكم الشرعي إنّما يؤثر ويتلقى عن الشارع ، كما انّه لا ينتظر من الشارع بما هو شارع ان تكون آثاره غير الاحكام الشرعية ، ومن هنا تكون الآثار الشرعية مساوقة للاحكام الشرعية ، وهذا هو المصحح لإطلاق عنوان الأثر الشرعي على الحكم الشرعي.

وبما ذكرناه يتضح المراد من دعوى من ذهب الى انّ ثبوت الحجية لخبر الثقة منوط بكون مؤداه أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي ورتب على ذلك نفي الحجية عن أخبار الآحاد المتصلة بالقضايا التاريخية أو التكوينية ، كما انّه أحد منشأي الإشكال على حجية الخبر بالواسطة ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان الخبر بالواسطة.

كما انّه يتضح مما ذكرناه المراد من دعوى جمع من الاعلام بأن جريان الاستصحاب منوط بكون المستصحب أثرا شرعيا بنفسه أو انه ذو أثر شرعي ، حيث انّ المقصود من ذلك هو اشتراط ان يكون مجرى الاستصحاب حكما شرعيا أو يكون موضوعا لحكم شرعي.

فمثلا : عند ما يكون المتيقن سابقا والمشكوك لاحقا حكما شرعيا كالوجوب والطهارة أو موضوعا لحكم شرعي كالحدث او البلوغ فإنّ ذلك يصحح جريان الاستصحاب ، وعند ما يكون المستصحب شيئا آخر فإنّ الاستصحاب لا يجري ، نعم لا يبعد ان يكون مرادهم شاملا لحالات الشك في عدم الحكم الشرعي لو كانت له حالة سابقة متيقنة.

* * *

٢٦

٥ ـ اجتماع الأمر والنهي

وقع النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد من حيث الجواز والامتناع ، فقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله انّ المشهور ذهبوا الى امتناع الاجتماع مطلقا وذهب آخرون الى جواز الاجتماع مطلقا ، وفصّل البعض بين ما يقتضيه العقل وما يقتضيه المتفاهم العرفي ، فما يقتضيه العقل هو إمكان الاجتماع وأما ما يقتضيه الفهم العرفي فهو الامتناع.

إلاّ انّه نسب الى المحقق البروجردي إنكار صحة نسبة القول بالامتناع الى المشهور ، وبرّر ذلك بأنّ الذي أوهم بناء المشهور على الامتناع هو اشتهار الفتوى بينهم بفساد الصلاة في الأرض المغصوبة ، والحال انّ ذلك لا يلازم القول بالامتناع ، إذ لعلّ المدرك الذي اعتمدوه هو عدم صلوح الحرام لأن يتقرب به للمولى ، وهذا القول يمكن ان يتبناه القائلون بالجواز.

وكيف كان فتحرير محل النزاع يقتضي بيان امور :

الأمر الأول :

انّه لا نزاع في استحالة تعلّق الأمر والنهي بعنوان واحد كتعلّق الأمر والنهي بالصلاة مثلا ، وذلك لما ثبت في محلّه من تضاد الاحكام فيما بينها ، فتعلّق الأمر بشيء معناه انّ متعلق الامر محبوب للمولى كما انّ تعلّق النهي بشيء معناه مبغوضية متعلّق النهي للمولى ، فإذا كان متعلّق الامر ومتعلّق النهي شيئا واحدا فهذا يعني انّ هذا المتعلّق محبوب ومبغوض في آن واحد ، واستحالة ذلك من الوضوح بحيث تستوجب صرف النزاع عن هذا الفرض ـ وان أوهمت عبائر البعض انّ ذلك هو محل النزاع ـ وعليه فمورد النزاع في هذه المسألة فرض آخر ، وهو ما لو تعلّق الأمر بعنوان

٢٧

وتعلق النهي بعنوان آخر واتفق ان تصادق العنوانان على مورد واحد ، كما لو كان متعلّق الأمر هو الصلاة ومتعلّق النهي هو الغصب واتفق ان تطابق عنوانا الصلاة والغصب على مورد واحد بأن وقعت الصلاة في الأرض المغصوبة.

وهنا يقع البحث عن انّ مورد التصادق هل هو واحد حقيقة أو هو متعدّد وان التركيب بينهما انضمامي ، فلو كنا نبني على انّ مورد التصادق متّحد حقيقة وان تعدد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون وانّ النهي يسري من متعلّقه ـ وهو طبيعة المنهي عنه ـ الى منطبق متعلّق الأمر لو كنا نبني على ذلك لكان ذلك يستلزم البناء على الامتناع وأما لو كنّا نبني على انّ تعدد العنوان يوجب تعدّد المعنون وان النهي لا يسري من متعلّقه الى منطبق متعلّق الأمر وكذلك العكس فلا بدّ من الالتزام بجواز الاجتماع.

وبهذا اتضح انّ محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي صغروي ، وذلك لانّ الكبرى وهي استحالة ان يكون شيء واحد متعلقا للأمر والنهي مسلّمة حتى عند القائلين بالجواز. فالبحث اذن انّما هو عن انّ مورد التصادق هل هو واحد حقيقة فيكون من صغريات الكبرى المسلّمة أو انّ الواقع هو انّ ما تعلّق به النهي غير ما تعلّق به الأمر وان متعلّق النهي لا يسري لمنطبق المأمور به فلا تكون المسألة من صغريات الكبرى المسلمة ولا يكون ثمة مانع من اجتماع الامر والنهي على مورد التصادق بعد ان لم يكن مورد التصادق واحدا حقيقة وذلك لأنّ تعدد العنوان يوجب تعدّد المعنون.

الأمر الثاني :

انّ المراد من الواحد المأخوذ في عنوان المسألة هو الواحد المقابل

٢٨

للمتعدّد لا الواحد المقابل للكلّي.

وبيان ذلك : انّه قد يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي بمعنى انّ متعلّقيهما شيئان متغايران ، وقد يكون متعلّق الأمر متّحدا مع متعلّق النهي والثاني هو مورد البحث والاول هو ما أردنا الاحتراز عنه بواسطة التعبير بالواحد.

ومن هنا قلنا ان المراد من الواحد في المقام هو المقابل للمتعدّد والذي يكون معه متعلّق الأمر مباينا لمتعلّق النهي وان كان عنوان المأمور به وعنوان المنهي عنه متحدين مفهوما إلاّ انّ الأمر تعلّق بحصة منه والنهي تعلّق بحصة اخرى كما في الأمر بالسجود لله جلّ وعلا والنهي عن السجود للصنم ، فإنّ متعلّق أحدهما لا يتحد مع متعلّق الآخر دائما ، فلا يمكن ان يتفق تصادق عنواني السجود لله جلّ وعلا والسجود للصنم على مورد واحد ، فدائما يكون مصداق أحدهما مباينا لمصداق الآخر ، وهذا بخلاف عنوان الصلاة وعنوان الغصب فإنّه قد يتفق اتحادهما على مورد واحد ، ففي الوقت الذي تكون الافعال الخاصة مصداقا لعنوان الصلاة تكون مصداقا لعنوان الغصب ، وذلك فيما لو أوقع المكلّف الصلاة في الأرض المغصوبة ، فإنّ الحركات المخصوصة التي يوقعها المكلّف في الارض المغصوبة تكون متعلقا للأمر وفي الوقت نفسه تكون متعلقا للنهي ، فليس ثمة شيئان متغايران أحدهما متعلق للأمر والآخر متعلّق للنهي ، وهذا هو المقصود من الواحد المأخوذ في عنوان المسألة ، لا انّ المقصود من الواحد هو المقابل للكلّي حتى يكون المراد منه الواحد الشخصي الذي لا يقبل الصدق على غيره بل الواحد في المقام قد يكون كليا وعليه يكون المراد من الواحد الأعم من الواحد الشخصي أو الواحد النوعي أو الجنسي. فالمقصود هو كل

٢٩

ما كان موردا لتصادق متعلّقي الأمر والنهي ، فالصلاة في المغصوب والتي هي مورد لاجتماع الأمر والنهي ليس واحدا شخصيا ، وذلك لقابلية صدق هذا العنوان على أفراد كثيرة.

الأمر الثالث :

في بيان الفرق بين مسألة اجتماع الأمر والنهي وبين مسألة النهي في العبادات هل يقتضي الفساد.

فنقول : انّ الفرق بينهما ـ كما أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله ـ انّما هو من جهة البحث ، وذلك لأنّ البحث في المسألة الاولى صغروي ـ كما اتضح مما تقدم ـ حيث قلنا انّ محل البحث فيها هو انّ النهي هل يسري من متعلّقه الى منطبق متعلّق الأمر أو لا ، فلو قلنا بالسريان فالنتيجة هي الامتناع ولو قلنا بعدمه فالنتيجة هي الجواز.

وأما البحث عن مسألة النهي في العبادات فهو بحث كبروي ، وذلك لأنّ جهة البحث عنها هي انّه هل يلزم من النهي عن العبادة فسادها أو لا يلزم ، وهذا يعني اننا قد فرغنا عن تعلّق النهي بالعبادة أي عن سريان النهي الى منطبق متعلّق الامر وهي العبادة ، ونبحث عندئذ عن انّ هذا السريان هل يوجب فساد العبادة أو لا. وهو بحث كبروي.

الأمر الرابع :

انّه بناء على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي ، إذ انّ مقتضى دليل الأمر هو وجوب مورد التصادق ومقتضى دليل النهي هو حرمة مورد التصادق ، وعندئذ يقع التكاذب بين مدلولي الدليلين فلا بدّ من الرجوع الى أحكام باب التعارض لترجيح أحد الدليلين على الآخر أو الحكم بتساقطهما ولو في مورد التصادق أو التخيير بينهما على اختلاف المباني.

٣٠

وببيان أوضح : إنّ البناء على الامتناع ناشئ عن دعوى اتّحاد مورد التصادق حقيقة وأنّ منطبق متعلّق الأمر هو عينه منطبق متعلّق النهي وانّه ليس ثمة شيئان أحدهما منطبق لعنوان المأمور به والآخر منطبق لعنوان المنهي عنه ، فليس في البين سوى شيء واحد ، واذا كان كذلك فهذا الشيء الواحد حقيقة مأمور به لأنّه مصداق لطبيعة المأمور به ومنهي عنه لانّه مصداق لطبيعة المنهي عنه وهو من اجتماع الحكمين المتضادين على موضوع واحد ، وهو مستحيل ، وعندئذ يحصل الجزم بعدم مطابقة أحد الحكمين للواقع وهذا ما يعني انّ واحدا من الدليلين كاذب ، ولمّا لم نكن نعلم أيّ الدليلين هو الكاذب وأيّهما المطابق للواقع فلا محاله يكون المرجع هو أحكام باب التعارض.

وأما بناء على القول بالجواز فالمرجع هو أحكام باب التزاحم ، وذلك لانّ البناء على الجواز ناشئ عن دعوى عدم اتحاد مورد التصادق حقيقة وانّ الواقع ونفس الأمر هو انّ منطبق المأمور به مغاير لمنطبق المنهي عنه فلا يسري النهي من متعلّقه الى منطبق المأمور به ، إذ انّ أحدهما غير الآخر وان الاتحاد بينهما من قبيل التركيب الانضمامي ، وعندئذ لا مانع من أن يكون مورد الاجتماع مأمورا به ومنهيا عنه ، لأنّ الواقع انّ المأمور به غير المنهي عنه فلا يكون من اجتماع الضدين ، واذا كان كذلك فالمكلّف مسئول عن كلا الحكمين ، غايته انّ المكلّف لمّا كان عاجزا عن امتثالهما معا ، إذ انّ امتثال الأمر يؤدي في الفرض المذكور الى عجزه عن امتثال النهي وهكذا العكس ، فعندئذ يقع التزاحم في مقام الامتثال ، فلا بدّ من الرجوع لمرجحات باب التزاحم.

* * *

٣١

٦ ـ الاجتهاد

و « هو استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي » ، وهذا التعريف نسبه صاحب الكفاية رحمه‌الله الى العلامة والحاجبي.

وعلّق السيد الخوئي رحمه‌الله على هذا التعريف بقوله انّه غلط ، وعلّل ذلك بعدم جواز العمل بالظن إلا ان يقوم دليل خاص على اعتباره ، وهذا الذي قام الدليل على اعتباره يكون حجة مطلقا أي سواء أوجب الظن الشخصي بمؤداه أو لم يوجب الظن ، بل انّه يكون حجة حتى في موارد عدم ايجابه الظن النوعي كما هو الحال في الاصول العملية غير المحرزة.

ثم أفاد أن هذا التعريف يناسب اصول العامة ، وذلك لاعتمادهم على الظنون الناشئة عن القياس والاستحسان والاستقراء.

أقول : الظاهر عدم مناسبة هذا التعريف حتى لاصول العامة لو كان المراد من الظن المأخوذ في التعريف مطلق الظن ، وذلك لانّهم انما يعتمدون على الظنون الناشئة عن الاستحسان والقياس والاستقراء باعتبار انها ظنون معتبرة قام الدليل الخاص على حجيتها عندهم ، ولذلك فهم لا يعتمدون على الظنون الناشئة عن وسائل غير معتبرة عندهم.

فالاختلاف بين العامة والإمامية فيما هي الظنون المعتبرة من الظنون غير المعتبرة ، نعم ما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله إنما يناسب بعض العامة ، وهم القائلون بحجية مطلق الظن.

ثم انّ هذا التعريف كان مدخلا لطعن الإخباريين « رضوان الله عليهم » ، إذ انّ ظاهره حجية مطلق الظن ، ولذلك عدل السيد الخوئي رحمه‌الله عن قيد الظن بقيد الحجة ، وقال انّ المناسب هو تعريف الاجتهاد : « باستفراغ الوسع في تحصيل الحجّة

٣٢

على الاحكام الشرعية أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول اليها » أي عدم الوصول الى الدليل الاجتهادي المعتبر ، وبالقيد الثاني ينتفي الإشكال الأوّل على التعريف المذكور ، وبالقيد الأوّل لا يبقي مجال لطعن الأخباري على الاصولي ، إذ انّ الأخباري والاصولي متفقان على ان الظن إذا قام الدليل على حجيته فإنّ الصلاحية لإثبات الحكم الشرعي.

إلا انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله لم يتوسل بالوسيلة التي توسل بها السيد الخوئي رحمه‌الله للتفصّي عن إشكال الأخباري بل انّه وجّه التعريف بما يرتفع معه اشكال الأخباري ، وقال ما حاصله انّ التعريف ليس تعريفا بالحد ولا بالرسم وانّما هو شرح للاسم كما هو المتعارف عند اللغويين فلا وجه للنقض عليه بأنه غير جامع ولا مانع من دخول الاغيار بعد ان كان الغرض منه شرح الاسم ، نعم الأنسب هو استبدال الظن بالحجة إلاّ انّ ذلك غير لازم بعد القطع بإرادتها كما يتضح ذلك بأدنى تأمل في مباني الاصوليين من الامامية.

ثم انّ البحث عما هو المراد من تحصيل الحجة الوارد في التعريف ، وهل المراد منه التحصيل الفعلي الملازم لوجود ملكة التحصيل أو المراد منه كفاية وجود ملكة التحصيل ولو لم يكن تحصيل الحجة فعليا.

هذا وقد أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله انّه لمّا لم يكن الاجتهاد بعنوانه موضوعا للاحكام المبحوث عنها في بحث الاجتهاد فلا معنى لإتعاب النفس في البحث عما هو المراد من تحصيل الحجة.

وبيان ذلك :

انّ الاحكام المترتبة على الاجتهاد ثلاثة : الاول : هو جواز عمل المجتهد بما يؤدي اليه اجتهاده.

الثاني : جواز تقليد المكلف الجاهل

٣٣

للمجتهد.

الثالث : نفوذ حكم المجتهد على المكلّف في القضايا الشخصية وغيرها.

وتمام هذه الاحكام لا تتوقف على تحديد المراد من تحصيل الحجة بل لا بد من ملاحظة أدلة هذه الاحكام للتعرّف على حدود موضوعها من حيث السعة والضيق.

ثم انه استظهر بعد استعراض أدلة الاحكام الثلاثة انّ المراد من تحصيل الحجة هو التحصيل الفعلي وعدم كفاية التوفّر على ملكة التحصيل ، وبهذا يكون المناسب لتعريف الاجتهاد كما أفاد هو « العلم بالاحكام الشرعية الواقعية أو الظاهرية أو بالوظيفة الفعلية عند عدم احراز الحكم الشرعي من الادلة التفصيلية ».

نعم بناء على ما ذكره الشيخ الانصاري رحمه‌الله من أنّ الذي له ملكة تحصيل الحجة لا يجوز له الرجوع الى الغير بل يلزمه التحصيل الفعلي للحجة ، واستدل لذلك بالإجماع وانصراف أدلة جواز رجوع الجاهل للعالم الى الفاقد لملكة تحصيل الحجة أي ملكة استنباط الحكم الشرعي ، بناء على ذلك يكون المتعين في تعريف الاجتهاد و « هو ملكة تحصيل الحجّة على الوظيفة الفعلية من الاحكام الواقعية والظاهرية » ، وبهذا يكون مفهوم الاجتهاد واسعا يشمل الواجد لملكة تحصيل الحجة وإن لم يبادر في تحصيلها أي انه جاهل فعلا وان كان مجتهدا ملكة.

وأورد السيد الخوئي على هذا التعريف بأنه غير مناسب للحكمين الآخرين ، وذلك لانّ جواز تقليد الجاهل للمجتهد ، وكذلك نفوذ حكم المجتهد انما هو مختص بالمجتهد بالفعل كما هو ثابت. ثم أفاد بأنه لو تم الإجماع والانصراف فإن ذلك يقتضي تخصيص أدلة جواز تقليد الجاهل

٣٤

للعالم بمن ليس له ملكة الاجتهاد ، وهذا لا يعني ان من له ملكة الاجتهاد مجتهد.

أقول : الظاهر انّ النقض الذي أورده السيد الخوئي رحمه‌الله على التعريف المناسب لدعوى الشيخ الانصاري رحمه‌الله غير ناقض ، وذلك لإمكان التفصّي عنه بالالتزام بأن المجتهد هو المتوفر على ملكة الاجتهاد وحسب ، غايته انّ موضوع الحكمين الآخرين ليس هو المجتهد فحسب وانما هو المجتهد باضافة قيد زائد وهو فعلية تحصيل الحجة ، وذلك للدليل الخاص ، فكما ان الدليل الخاص دلّ على شرطية العدالة في نفوذ حكم الحاكم وجواز الرجوع اليه فكذلك شرط الفعلية ، وكما ان العدالة ليست شرطا في صدق الاجتهاد وانما هي شرط في نفوذ الحكم وجواز التقليد فكذلك فعلية التحصيل.

* * *

٧ ـ الاجتهاد والرأي

كان مفهوم الاجتهاد مرادفا لمصطلح الرأي في عصر الأئمّة عليهم‌السلام فكان كلاهما يعبّران عن معنى واحد ، وهو التفكير الشخصي وحدس الحكم الشرعي اعتمادا على ما ينخطر في الذهن نتيجة قرائن خاصّة أو عقلائيّة ، ولذلك لا يكون النظر في النصوص الشرعيّة ـ لاستنباط الحكم الشرعي ـ من الاجتهاد بناء على هذا المعنى.

هذا وقد كان علماء العامّة يعتمدون ذلك على أساس أنّه واحد من مصادر التشريع ، فهو مقابل الكتاب والسنّة ، غايته أنّهم لا يلجئون إليه إلاّ حين فقدان النصّ الشرعي ، فحجيّة الاجتهاد والرأي واقعة ـ بنظرهم ـ في طول الحجّيّة الثابتة للكتاب والسنّة الشريفة.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ القياس ليس

٣٥

داخلا ضمن مفهوم الاجتهاد والرأي ، وذلك لأنّ القياس يقتضي ملاحظة الأحكام الشرعيّة للوقوف على موضوعاتها أو تنقيح عللها أو تخريجها أو تحقيقها ، وذلك لغرض تعدية الأحكام الثابتة بالنصوص إلى الموضوعات الواقعة موردا للبحث عن حكمها الشرعي ، وأمّا الاجتهاد والرأي فهو يتحرّك ضمن دائرة المرئيّات الذاتيّة وحساب المصالح والمفاسد المدركة عند الفقيه بقطع النظر عن آليّة الوصول لهذه المدركات ، فسواء كانت عقلائيّة أو شخصيّة فالأمر سيّان ما دام الغرض هو حدس الحكم الشرعي.

لذلك لا يرى المجتهد عندهم غضاضة في أن يبرّر فتواه بالاجتهاد والرأي دون الحاجة إلى بيان منشأ الوصول إلى هذا الرأي ، وعندها ينقطع السؤال عند السائل لأنّه يرى في ذلك مبرّرا تامّا.

وذلك يعبّر عن أنّ الرأي والاجتهاد يعني التفكير لحدس الحكم الشرعي أيّا كانت آليّة هذا التفكير.

وقد بقي هذا المعنى لمفهومي الرأي والاجتهاد رائجا إلى مرحلة متأخّرة من الزمن فكلّما ذكر أحد الاصطلاحين انسبق إلى الذهن الثاني.

وبذلك يتّضح منشأ ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام من ذمّ كثير للاجتهاد ، فقد كان المقصود منه الاجتهاد المساوق لمعنى الرأي فهو الذي كان متداولا في عصر النصّ عند أبناء العامّة ، وكان ذلك مسلك الكثير منهم في الوصول إلى الحكم الشرعي.

وهذا ما يبرّر استيحاش علمائنا الأجلاّء ـ قبل عصر المحقّق الحلّي رحمه‌الله ـ من استعمال لفظ الاجتهاد للتعبير عن عمليّة الاستنباط للحكم الشرعي من الكتاب والسنّة إلاّ أنّ هذا الاستيحاش بدأ في الذوبان بمرور

٣٦

الزمن وأصبح مصطلح الاجتهاد يعبّر عن معنى مختلف اختلافا جوهريّا عن معنى الرأي.

فقد بقي مصطلح الرأي محتفظا بمعناه الذي كان رائجا في عصر النصّ وأمّا لفظ الاجتهاد فقد أصبح معناه ـ خصوصا عند الإماميّة ـ استنباط الحكم الشرعي من أدلّته المعتبرة شرعا.

فالاجتهاد بتعبير آخر ـ في المصطلح الحديث ـ يعني استفراغ الوسع والنظر في الكتاب والسنّة لغرض التعرّف على الحكم الشرعي.

* * *

٨ ـ الإجزاء

ويقع البحث تحت هذا العنوان عن مسائل ثلاث :

الأولى : عن إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره ، أي إجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي عن الامر الواقعي ، واجزاء المأمور به بالامر الظاهري عن الامر الظاهري ، واجزاء المأمور به بالامر الاضطراري عن الامر الاضطراري.

الثانية : عن إجزاء المأمور به بالامر الاضطراري عن الامر الواقعي.

الثالثة : عن إجزاء المأمور به بالامر الظاهري عن الامر الواقعي ، وحتى تتضح معالم البحث لا بد من بيان امور :

الأمر الأول : انّ المراد من عنوان الإجزاء هو معناه اللغوي ، وهو الكفاية والإغناء فحينما يقال أجزأ فعل عن آخر فهو يعني انّه أغنى عنه ، غايته انّ ما يجزي عنه الفعل يختلف تبعا للدليل ، فقد يجزي الفعل عن الإعادة والقضاء كمن صلّى جهرا في موضع الإخفات ، فإنّ صلاته تجزي عن الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وقد يجزي الفعل عن القضاء

٣٧

دون الإعادة ، كمن صلّى في السفر تماما ناسيا ، فإن صلاته تجزي عن القضاء لو تذكر خارج الوقت دون الإعادة لو تذكر في الوقت ، وقد يطلق الإجزاء ويراد منه كفاية المأتي عن غير المأتي به ، كإجزاء ذبح الهدي عن العقيقة واجزاء الاطعام عن العتق في بعض الموارد.

والمتحصل ان المراد من الإجزاء في استعمالات الفقهاء هو عينه المراد منه عند اللغويين.

الأمر الثاني : انّ بحث الإجزاء من المسائل العقلية وليس من مباحث الالفاظ ، وذلك يتضح بملاحظة الجهة المتصدية للإجابة عن ثبوت الإجزاء أو عدم ثبوته ، فإن كانت الجهة المتصدية لذلك هي الدلالة اللفظية فالمسألة من مباحث الالفاظ ، وان كانت الجهة المتصدية لذلك هي مدركات العقل فالبحث يكون معها عقليا ، وواضح بهذه الضابطة ان مبحث الإجزاء من المباحث العقلية ، إذ انّ الذي يحدّد إجزاء الاتيان بالمأمور به عن أمره أو عدم إجزائه انّما هو العقل ، وأما صيغة الأمر مثلا أو مادته فليست لها دلالة على أكثر من بعث المكلف نحو المأمور به ، أما انّه لو انبعث عن الامر وجاء بالمأمور به على وجهه فهل ذلك يقتضي الإجزاء وسقوط الأمر أو فاعليته فهذا ما لا يمكن استفادته بواسطة نفس الامر نعم هو مستفاد بواسطة العقل ، وذلك بأحد بيانين ، كما أفاد السيد الشهيد الصدر رحمه‌الله.

البيان الأول : ان العقل يستقلّ بإدراك الكفاية عند ما يأتي المكلف بالمأمور به ، وذلك لأنّ الاتيان بالمأمور به محقق لغرض المولى ، وهذا موجب لخروج المكلف عن عهدة التكليف المدركة بواسطة حكم العقل بحق الطاعة للمولى جلّ وعلا ، فحق الطاعة للمولى ينتفي بتحقق غرضه

٣٨

بواسطة الإتيان بالمأمور به.

البيان الثاني : انّ الإتيان بالمأمور به بعد امتثاله من تحصيل الحاصل ، وهذا ما يعبّر عن كفاية الإتيان به في المرة الاولى وبتعبير آخر : انّ الامر حينما يتعلّق بالجامع يكون الاتيان بأحد أفراده محقق للجامع ، فلا معنى للإتيان بفرد آخر ، لأنّه إذا كان الغرض هو تحقق الجامع فقد تحقق بفرده الاول لان الطبيعة تنوجد بأول وجودات أفرادها ، فيكون الاتيان بفرد آخر من تحصيل الحاصل ، وإن كان الغرض هو تحقيق فرد آخر لجامع آخر أو لنفس الجامع فهذا ما لا موجب له إلا ان يكون ثمة أمر جديد وهو خلف الفرض.

وبهذا يتنقح انّ مبحث الإجزاء من المباحث العقلية.

الأمر الثالث : بعد اتضاح ان جهة البحث في مسألة الإجزاء هي ثبوت الملازمة العقلية بين الاتيان بالمأمور به وبين الإجزاء عن الامر أو عدم ثبوت الملازمة ، بعد اتضاح ذلك يتضح استقلالية هذه المسألة عن مسألة دلالة الامر على المرة والتكرار ومسألة تبعية القضاء للأداء ، إذ انّ جهة البحث في مسألة المرة والتكرار هو ما تقتضيه دلالة الامر ، وانّ الامر هل وضع للدلالة على البعث نحو الطبيعة المقيدة بالمرة أو وضع للدلالة على الطبيعة المقيدة بالتكرار ، أو انّه لم يوضع إلاّ للدلالة على البعث نحو الطبيعة دون ان يكون قيد المرة والتكرار دخيلا فيما هو الموضوع له لفظ الامر.

وواضح أجنبية هذا البحث عن مسألة الإجزاء ، إذ اننا نبحث في المقام عن الملازمة العقلية بين الاتيان بالمأمور به وبين الإجزاء بعد الفراغ عن حدود ما تدل عليه صيغة الامر ، واتحاد نتيجة القول بالإجزاء مع القول بدلالة الامر على المرة ، واتحاد القول

٣٩

بعدم الاجزاء مع القول بدلالة الامر على التكرار لا يوجب اتحاد البحثين بعد تباينهما من حيث الجهة المبحوث عنها في المسألتين ، اذ هي الضابطة في تباين المسائل واتحادها ، وليس للنتيجة دخل في تصنيف المسائل كما هو واضح.

وأما مبحث تبعية القضاء للأداء فجهته انّ صيغة الأمر هل تدل باطلاقها على تعدد المطلوب والذي يقتضي القضاء ـ أو وحدته والذي يستوجب عدم وجوب القضاء بعد انتهاء الوقت وعدم الإتيان بالمأمور به.

واتحاد القول بالإجزاء مع القول بعدم التبعية واتحاد القول بعدم الإجزاء مع القول بالتبعية لا يصيّر البحثان بحثا واحدا ، على انّ موضوع كل واحد من البحثين مباين لموضوع البحث الآخر. فموضوع بحث تبعية القضاء للأداء هو عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت ، وموضوع بحث الإجزاء هو الإتيان بالمأمور به ، فالبحثان متباينان جهة وموضوعا.

هذا حاصل ما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله.

الأمر الرابع : جرت عادة الاصوليين على عنونة هذا البحث بقولهم « ان الاتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أولا؟ ».

ومن هنا لا بدّ من ايضاح معنى قولهم « على وجهه » وكذلك ايضاح معنى « الاقتضاء ».

أما قولهم « على وجهه » فقد ذكر له ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الاول : وهو الذي ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله وتبنّاه ، وحاصله انّ المراد من الإتيان بالمأمور به على وجهه هو الإتيان به موافقا لمقتضيات الشرع والعقل.

فالموافقة لمقتضيات الشرع معناه الاتيان بالمأمور به واجدا لتمام الأجزاء والشرائط المستفادة بواسطة الشارع.

٤٠