المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

وجود وجوبين متعلّقين بمتعلّق وموضوع واحد ، وأما البناء على التأكيد فهو يعني البناء على انّ الأمر الثاني يقتضي اشتداد مرتبة الوجوب.

ومع اتضاح مورد البحث نقول : انّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ادعى وقوع التنافي بين ما هو مقتضى ظهور الصيغة وبين ما هو مقتضى اطلاق المادة ، فمقتضى ظهور الصيغة هو التأسيس ، أي انّ صيغة الأمر ظاهرة في تعلّق إرادة المولى اللزومية بايجاد متعلق الأمر ، ولا يختلف الحال في هذا الظهور بين أمر وأمر ، فكما انّ الاول ظاهر في ذلك فكذلك الثاني المتعقب للاول ، وهذا ما يستوجب ايجاد فردين من الطبيعة المأمور بها ، إذ انّ ظهور صيغة الأمر في التأسيس يكشف عن أن المولى قد تعلّقت إرادته بايجاد الطبيعة مرتين ، لأنّ هذا هو مقتضى التكرار بعد استظهار التأسيس من صيغة الأمر.

إلا انّ هذا الاستظهار يتنافى مع اطلاق المادة والتي هي الطبيعة الواقعة متعلقا للصيغة ، مثل الصلاة في قوله « صلّ » ، فإنّ مقتضى اطلاق المادة في الأمر الثاني وعدم التقييد بمثل « مرة اخرى » معناه اتحاد متعلّقي الأمرين وانّ إرادة المولى قد تعلّقت بايجاد الطبيعة في ضمن واحد من أفرادها.

إلاّ انّه مع هذا التنافي ـ بين ما هو مقتضى الظهور في الصيغة وما هو مقتضى اطلاق المادة ـ يكون المستظهر من هذا الفرض هو التأكيد فهو المنسبق من صيغة الأمر الثاني. وذلك لوجود خصوصية اقتضت ذلك وهي كون الصيغة الثانية مسبوقة بمثلها مع عدم اختصاص أحدهما بشرط أو سبب.

هذا هو حاصل ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله في المقام ، وعلّق السيد الصدر رحمه‌الله على ذلك بما حاصله : ان صيغة الأمر ليس لها دلالة على أكثر من الوجوب ، وانّ التأسيس والتأكيد

٣٤١

خارج عن مفاد الصيغة ، ولهذا لا بدّ من التماس قرينة على إرادة أحدهما ، فقد تختلف النتيجة باختلاف الحالات.

* * *

١٤٠ ـ الأمر بعد الحظر

والمراد من هذا البحث هو انّه لو ورد أمر بشيء بعد النهي عنه أو ورد أمر بشيء بعد ان كان المتوهم حرمته.

ومثال الاول : قوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (٢٨) فإنّه أمر بالصيد بعد النهي عنه في قوله تعالى : ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (٢٩).

ومثال الثاني : رواية يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يريد ان يتزوج المرأة ، وأحبّ أن ينظر اليها ، قال عليه‌السلام : « تحتجز ثم لتقعد وليدخل فلينظر » (٣٠) ، فإنّ الأمر بالنظر الواقع في جواب الامام عليه‌السلام ورد بعد توهم السائل الحظر.

وبعد اتّضاح المراد من عنوان البحث نقول : انّه وقع الخلاف فيما هو المستظهر من الأمر بعد الحظر أو بعد توهم الحظر ، فقد نسب الى العامة القول بدلالة الأمر على الوجوب حتى بعد الحظر أو توهمه ، وأما المشهور بين علمائنا فهو القول بدلالة الامر في الفرض على الإباحة ، وذهب البعض الى انّ دلالة الامر بعد الحظر تكون تابعة لما قبل الحظر ، فإن كان متعلّق الأمر قبل الحظر واجبا فهو بعد ارتفاع الحظر كذلك ، وان كان مستحبا أو مباحا فهو كذلك بعد ارتفاع الحظر ، إلاّ انّ ذلك مختص بما لو كان المنشأ من الأمر بعد الحظر هو انتهاء الملاك الذي من أجله وقع الحظر.

وفي مقابل هذه الأقوال ذهب السيد الخوئي رحمه‌الله الى اجمال المراد من الأمر بعد الحظر أو توهمه. ومن هنا نحتاج لتعيين المراد الى قرينة خاصة وعندئذ يكون الظهور مع ما يناسب

٣٤٢

القرينة ، أما مع عدم القرينة فالمراد من الأمر مجمل ، وذلك لأنّ مجيئه بعد الحظر أو توهمه صالح للقرينية على صرف الظهور عن الوجوب. ومن الواضح انّ احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية موجب لإجمال المراد من الكلام ، فكما لا يمكن استظهار المدلول الوضعي للكلام كذلك لا يمكن استظهار معنى آخر ، لأنّ الذي يوجب انعقاد الظهور في المعنى الآخر هو القرينة أما مع عدم القرينة واحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فإن الكلام عندئذ يصبح مجملا ، بمعنى انّ العرف لا يستقرّ معه على معنى معين.

* * *

١٤١ ـ الأمر بين الأمرين

اختلف المتكلّمون في واقع الأفعال الصادرة عن الإنسان ، فذهب الأشاعرة منهم الى انّ الواقع هو صدورها عن الله جلّ وعلا استقلالا وانّ الإنسان مجبر عليها ، فلا فرق بين حركة الدم الجارية في عروقه وبين حركة يده الواقعة على انسان آخر والموجبة لقتله. فتمام ما يصدر عن الإنسان هو فعل الله تعالى دون ان تكون للإنسان أيّ مشيئة في ذلك.

وبهذه النظرية سلبت عن الله جلّ وعلا صفة العدالة ، فهو يعذب ويعاقب الإنسان على فعل لم يصدر عنه.

وفي مقابل هذه النظرية ذهبت المعتزلة الى انّ الأفعال الصادرة عن الإنسان واقعة تحت تأثيره بنحو الاستقلال دون ان يكون للمشيئة الإلهية أيّ تأثير في صدورها عنه ، فليس ثمة من دور لله جلّ وعلا سوى افاضة الوجود على الإنسان ، فمتى ما افيض الوجود عليه استغنى عن الله جلّ وعلا.

وبتعبير آخر يتناسب مع التفويض الفلسفي : انّ الله جلّ وعلا خلق العقل الأول وفوّض اليه الأمر ، فكلّ ما هو علة في عالم الإمكان فهو مستقل في

٣٤٣

تأثيره عن المفيض الاول ، فالنار مستقلة في تأثيرها للإحراق كما انّ النور مستقل في تأثيره للإنارة ، وهكذا الإنسان فإنّه مستقل في تأثيره للأفعال الصادرة عنه.

ومن هنا قالوا : لو افترض انعدام الله ـ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ لما أدى ذلك الى اختلال عالم الوجود ، إذ انّ الله جلّ وعلا لم يكن سوى علة الايجاد والمفيض للعلة الاولى ، وأما البقاء والتأثير في عالم الممكنات فهو مستقل عنه.

ومن هنا عبّر عن هذا الفرقة بالمفوضة ، فهي وان أرادت بهذا المذهب التفصّي عن محذور سلب العدل عن الله سبحانه وتعالى إلاّ انها وقعت في محذور آخر لا يقلّ شأنا عن المحذور الاول حيث سلبت عن الله جلّ وعلا سلطنته المطلقة عن مملكته.

وفي مقابل هاتين النظريتين ذهب الامامية ـ رفع الله شأنهم ـ الى نظرية الأمر بين الأمرين ، وهي مستفادة من أئمتهم المعصومين عليهم‌السلام ، وهي برزخ بين النظريتين ، ومعها يتحفّظ على الإيمان بعدالة الله جلّ وعلا وعلى سلطنته المطلقة.

وحاصل هذه النظرية على ما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله ان صدور الفعل عن العباد منوط بأمرين :

الأمر الاول : ان يكون العبد واجدا للحياة والعلم والقدرة والإرادة وما الى ذلك ، وكلّ ذلك مفاض من قبل الله جلّ وعلا ، وهذه الإفاضة لا تختص بالإحداث والايجاد فحسب ، بل هي فيض بعد فيض ، فالفقر الذاتي للإنسان ـ ولسائر الممكنات ـ يستوجب احتياجه الى مفيض الوجود جلّ وعلا حدوثا واستمرارا.

وبتعبير آخر : انّ وجود الإنسان بالنسبة لوجود الله جلّ وعلا وجود ربطي تعلّقي ، أي انّ وجوده عين الربط وعين التعلّق لا أنهما شيئان متغايران

٣٤٤

بينهما نسبة ربطية بل انّ الوجود الممكن هو عين الربط وصرف التعلّق والتدلّي واذا صحّ التعبير فوجوده امتداد للوجود الواجب « جلّ ثناؤه » ، ومن هنا لا تتعقل الاستقلالية في وجوده بعد ان كان الربط والتعلّق هو واقعه وذاته.

وهذا هو معنى الفقر الذاتي للممكنات ، فإفاضة الوجود عليها لا يسلب عنها صفة الفقر بعد ان كان الفقر هو ذاتها ، ومن هنا لو انقطع عنها الفيض لانقطعت عنها كلّ الكمالات مثل الحياة والقدرة أو قل « لم تكن شيئا مذكورا ».

الأمر الثاني : الذي يناط به صدور الفعل عن العبد هو إعماله لقدرته المفاضة عليه من قبل الله جلّ وعلا ، وهو المعبّر عنه بالاختيار.

وهذه الأهلية والتي هي اعمال القدرة لم تكن لو لا انّ الله تعالى أعطاها للإنسان. ومن هنا صح اسناد الأفعال الصادرة عن الإنسان الى الله تعالى باعتباره المفيض للحياة والعلم والقدرة والأهلية لإعمال القدرة ، كما يصح اسنادها للإنسان لانها صدرت عن إرادته واختياره.

وهذا هو الأمر بين الأمرين فلا هو استقلال محض عن مفيض الوجود جلّ وعلا ولا أن أفعال العباد صادرة عن الله ابتداء دون أن يكون لإرادتهم واختيارهم أيّ دخل في صدورها كما ذهبت لذلك الأشاعرة.

ويمكن تقريب نظرية الأمر بين الأمرين بهذا المثال الذي ذكره السيد الخوئي رحمه‌الله : وهو انّه لو كان هناك مولى له عبد مشلول الحركة تماما ، واتّفق ان كان للسيد وسيلة يتمكن بها من دبّ الحركة الإرادية في جسد عبده ، وكانت هذه الوسيلة خاضعة لإرادة السيد ، بمعنى انّه متى ما أراد ان يبعث الحركة الإرادية في جسد عبده فعل ومتى ما أراد اعادته الى حالة الشلل

٣٤٥

تمكن من ذلك ، كما لو كانت الوسيلة من قبيل التيار الكهربائي ويكون التحكّم في بعثه وقطعه بيد السيد.

فعندئذ لو وضع الجهاز الكهربائي وضغط على زرّه الذي بيده فإنّ العبد حينئذ يصبح قادرا على الحركة الإرادية ، بمعنى انّ التيار الكهربائي يؤهله للحركة لا انه يلجئه على الحركة فإنه يمكن للعبد ان لا يتحرك وان كانت له أهلية التحرك الإرادي.

فلو قام العبد بعد بعث التيار في جسده بقتل شخص أو مساعدة يتيم وكان ذلك بمرأى من السيد المتحكم في التيار الكهربائي فإنّ الفعل الذي صدر عن العبد يمكن نسبته الى العبد باعتبار انّه صدر عن إرادته واختياره وكان له ان لا يفعل ذلك ، إذ انّ الحركة المنبعثة له بواسطة التيار كانت من سنخ الحركات الإرادية. كما يمكن نسبته الى السيد لأنّه الباعث للحركة وكان ملتفتا الى ما يصدر عن العبد من أفعال وكان بإمكانه ان يقطع عنه الحركة بواسطة قطع التيار إلاّ انّه لم يفعل ذلك ، لانه شاء ان يكون العبد مختارا فيما يصدر عنه من أفعال.

وبهذا المثال اتّضح المراد من الأمر بين الأمرين ، فلا العبد مستقل في فعله ولا هو مجبر عليه ، وهذا هو المطابق للبراهين العقلية القطعية وكذلك النصوص الشرعية.

* * *

١٤٢ ـ الأمر هل يدلّ على الفور أو التراخي

ويقع البحث تحت هذا العنوان عما هو مدلول الأمر ، وهل هو الفورية المقتضية للزوم المبادرة لامتثال الأمر ، أو هو التراخي وعدم لزوم المبادرة للامتثال فيكون المكلّف في سعة من جهة اختيار زمن الامتثال ، فله ان يمتثل الأمر في الزمن الاول المتعقب للأمر وله ان يؤخره للزمن الثاني

٣٤٦

والثالث وهكذا.

ذهب المحققون الى عدم دلالة الأمر على الفور وعدم دلالتها على التراخي. وانّ هيئة الامر لا تدل على أكثر من البحث أو النسبة الطلبية أو اعتبار الوجوب على عهدة المكلّف. وان المادة المتهيئة بهيئة الأمر لا تدل على أكثر من الطبيعة المهملة ، نعم قد تستفاد الفورية أو التراخي من قرائن خارجية ، فإن كانت وإلاّ فالمرجع هو الأصل اللفظي كالإطلاق أو الاصل العملي.

* * *

١٤٣ ـ الأمر هل يدلّ على المرّة أو التكرار

ويقع البحث تحت هذا العنوان عمّا هو مدلول الأمر وهل هو طلب إيجاد متعلّق الأمر مرّة أو طلب ايجاد بنحو التكرار.

وهنا معنيان للمرّة والتكرار :

المعنى الاول : انّ المراد من المرّة هو الفرد من الطبيعة المأمور بها ، والمراد من التكرار هو الافراد.

فلو كان الأمر يدلّ على المرّة فهذا معناه انّ المطلوب هو الاتيان بالطبيعة المأمور بها في ضمن فرد واحد من أفرادها ، ولو كان الأمر يدلّ على التكرار فمعنى ذلك انّ المطلوب هو الاتيان بالطبيعة في ضمن أفراد من غير فرق بين أن يكون ذلك بنحو طولي أو عرضي.

المعنى الثاني : انّ المراد من المرّة هو الدفعة ، أي انّ المطلوب هو الانبعاث عن الأمر انبعاثا واحدا سواء كان بواسطة الإتيان بطبيعة المأمور به في ضمن فرد واحد أو في ضمن أفراد متعددة بمعنى انّ المكلف لو جاء بطبيعة المأمور به في ضمن فردين أو أكثر فإنّ ذلك يكون امتثالا واحدا لو كان الإتيان بهما عرضي عينا كما لو كان قد جاء بطبيعة المأمور به في ضمن

٣٤٧

فرد واحد.

والمراد من التكرار هو الدفعات ، أي انّ المطلوب هو الانبعاث بعد الانبعاث بقطع النظر عن انّ الانبعاث الاول كان بواسطة الإتيان بطبيعة المأمور به في ضمن فرد أو في ضمن أفراد وهكذا الانبعاث الثاني والثالث.

فلو أمر المولى بالتصدّق على فقير فإنّ المطلوب ـ بناء على الدفعات ـ هو التصدّق بعد التصدق من غير فرق بين المجيء بطبيعة التصدّق ـ في الامتثال الاول ـ في ضمن فرد أو أفراد وهكذا الامتثال الثاني والثالث.

وبهذا اتضحت الثمرة المترتبة على الاختلاف في معنى المرّة والتكرار ، إذ انّ المرة بناء على انّها بمعنى الدفعة تتحقق بالفرد وبالافراد ، وأما بناء على المعنى الاول فهي لا تكون إلاّ بفرد واحد والإتيان بأكثر من فرد يكون من التكرار ـ بناء وعلى المعنى الاول للتكرار ـ على انّ هذه الافراد الإضافية لا تكون من الامتثال لو كان المستظهر من الأمر هو الدلالة على المرة بالمعنى الأول.

والتكرار ـ بناء على الدفعات ـ لا يتحقق الاّ بنحو طولي حتى وان تضمنت كل دفعة مجموعة من الأفراد وأما بناء على انّه بمعنى الأفراد فهو كما يتحقق بنحو طولي كذلك يتحقق بالإتيان بالطبيعة في ضمن أفراد عرضية.

وكيف كان فقد ذهب المحققون الى عدم دلالة الأمر لا على المرّة ولا على التكرار ، نعم قد تستفاد مطلوبية المرّة أو التكرار من قرائن خارجة عن حاق الأمر.

* * *

١٤٤ ـ الإمكان

وهو ما يقابل الضرورة ، فحينما يقال هذا الشيء ممكن أي انّه غير ممتنع. والإمكان هو أحد المواد الثلاث التي لا تخلو نسبة وقضية عن

٣٤٨

التكيّف باحدها ، فكلّ قضية لا يخلو ثبوت محمولها لموضوعها عن ان يكون ممكنا أو واجبا أو ممتنعا. والوجوب والامتناع هما المعبّر عنهما بالضرورة. ومن هنا قالوا انّ الإمكان يقابل الضرورة ، فالشيء ما لم يكن ممكنا فهو امّا واجب او ممتنع.

* * *

١٤٥ ـ الإمكان الاحتمالي

وهو ان يحتمل العقل ثبوت شيء لشيء او انتفاؤه عنه دون ان يكون برهان عقلي نشأ عنه هذا الاحتمال ، وهذا بخلاف الإمكان الخاص مثلا أو الإمكان الوقوعي وهكذا سائر الإمكانات فإنها جميعا مفتقرة الى البرهان العقلي المقتضي لنفي الضرورة المناسب لكلّ واحد منها.

فالإمكان الاحتمالي هو المراد من الإمكان الذي ذكره الشيخ ابن سينا في عبارته المعروفة « كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قاطع البرهان » أي كل حكم على شيء بالنفي أو الإثبات يحتمله عقلك فهو ممكن بالإمكان الاحتمالي إلا ان يقوم برهان على الإمكان أو الامتناع أو الوجوب ، ومع عدم قيام البرهان لا سبيل للحكم بالامتناع أو الوجوب.

* * *

١٤٦ ـ إمكان التعبّد بالظن

ومبرّر البحث عن امكان التعبّد بالظن هو انّ كشفه عن الواقع ليس تاما ومن هنا لا تكون الحجيّة له ذاتية ، كما انّ احتمال منافاة متعلّقه للواقع تستلزم قابليته للمنع عن ترتيب الأثر عليه شرعا.

واذا كان كذلك فثبوت الحجية له مفتقر للجعل الشرعي ، وثبوت الجعل له منوط بامكان جعل الحجية له ، إذ مع عدم امكان ثبوت الحجية له لا

٣٤٩

معنى للبحث الاثباتي ، وهذا ما يبرّر البحث عن امكان التعبّد بالظن بعد عدم اقتضائه للحجية عقلا ، نعم بناء على الحكومة حين انسداد باب العلم والعلمي يكون العقل حاكما بثبوت الحجية للظن فلا معنى للبحث عن امكانه ثبوتا ، إلاّ انّ هذا انّما يتم بناء على تفسير صاحب الكفاية رحمه‌الله للحكومة على ما سيأتي ايضاحه في محلّه ان شاء الله تعالى.

وكيف كان فقد وقع الخلاف فيما هو المراد من امكان التعبّد بالظن ، فهل المراد منه الإمكان الذاتي أو الإمكان الاحتمالي أو الإمكان الوقوعي.

وقد ذهب السيد الإمام رحمه‌الله الى انّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان الاحتمالي ، إذ هو الذي لا يحتاج الى برهان عقلي ، ويكفي في ثبوته عدم قيام الدليل على امتناعه ، وهذا يتّضح من خلال ملاحظة مسار البحث الذي جرى عليه الأعلام حيث انّهم يستدلّون على امكان التعبّد بالظن بعدم وجود ما يوجب المنع عن التعبّد به ، والحال ان الإمكان الذاتي وكذلك الوقوعي لا يثبتان بنفي امتناعهما بل انّهما يحتاجان الى برهان عقلي يدلّ على ثبوتهما ، نعم استدلّ الشيخ الأنصاري رحمه‌الله على امكان التعبّد بالظن ببناء العقلاء على الحكم بالإمكان ما لم تثبت الاستحالة ، وهذا استدلال على الإمكان لا على نفي امتناعه ليكون من الإمكان الاحتمالي.

إلاّ انّ السيد الإمام رحمه‌الله أجاب عن ذلك بأنّ الإمكان الذاتي وكذلك الوقوعي لا يثبتان ببناء العقلاء وانّما يثبتان بالبرهان العقلي ، ومن هنا ذهب رحمه‌الله الى انّ الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان الاحتمالي وأفاد انّ ذلك هو الذي نحتاجه في المقام ، إذ يكفي للحكم بامكان التعبّد بالظن عدم وجود دليل عقلي أو شرعي صالح لنفي

٣٥٠

الإمكان.

وفي مقابل ما ذهب اليه السيد الإمام رحمه‌الله ذهب جمع من الأعلام كالسيد الخوئي رحمه‌الله الى انّ المراد من الإمكان في المقام هو الإمكان الوقوعي ، وذلك لأن التعبّد بالظن ممكن ذاتا بلا ريب لعدم اقتضائه في حدّ نفسه ضرورة التعبّد به كما انه أي الظن لا يقتضي امتناع التعبّد به ، وامّا الإمكان الاحتمالي فهو واضح ، وهذا يبعّد وقوعه محلا للنزاع بعد كونه مدركا بالوجدان.

ومن هنا يتعيّن كون المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان الوقوعي ، حيث يقع البحث عن انّ التعبّد بالظن هل يلزم من فرض وقوعه محذور عقلي كاجتماع الضدين أو المثلين بعد الفراغ عن امكانه ذاتا ، فإذا قادنا البحث الى استلزام التعبّد بالظن لاجتماع الضدين أو المثلين فإنّ ذلك يقتضي استحالة التعبّد بالظن بنحو الاستحالة الوقوعيّة.

* * *

١٤٧ ـ الإمكان الخاص

عرّف الإمكان الخاص بأنّه « سلب الضرورة عن الطرفين » فالسلب هو النفي ، والضرورة هما الوجوب والامتناع ، والطرفان هما النفي والإثبات.

وبه يتّضح انّ الإمكان الخاص يعني انتفاء الوجوب وانتفاء الامتناع عن القضية في طرفي الثبوت والانتفاء أي في جهتي الثبوت والانتفاء. فالقضية التي يكون ثبوت وانتفاء محمولها عن موضوعها غير واجب وغير ممتنع فهي ممكنة بالإمكان الخاص بمعنى انّ الثبوت ممكن بالإمكان الخاص وكذلك الانتفاء.

أما لو كان جانب الإثبات واجبا كقولنا « الله موجود » أو كان جانب الإثبات ممتنعا كما لو قيل « شريك

٣٥١

الباري موجود » فإنّه لا يصدق سلب الوجوب في الأول ولا سلب الامتناع في الفرض الثاني ، ومن هنا لا تكون هاتان القضيتان ممكنتان بالإمكان الخاص.

ومثال الإمكان الخاص قولنا « الإنسان موجود » فإن جانب إثبات الوجوب منتف ، أي انّ ثبوت الوجود للإنسان غير واجب ، وجانب اثبات الامتناع منتف ، أي انّ نفي الوجود عن الإنسان غير ممتنع.

وكذلك لو قلنا « الإنسان غير موجود » فإنّ نفي الوجود عن الإنسان غير واجب كما انّ نفي الوجود عن الإنسان غير ممتنع.

والمتحصل ان ثبوت شيء لشيء إذا لم يكن ضروري الوجود ولا ضروري العدم فهو ممكن بالامكان الخاص المعبّر عنه بالامكان الحقيقي وهو عينه الإمكان الذاتي.

* * *

١٤٨ ـ الإمكان الذاتي

وهو انتفاء ضرورة الوجود العدم عن الذات من حيث هي ، أي انّ الذات التي يكون شأنها عدم الاقتضاء للوجود والعدم هي ذات ممكنة الوجود بالإمكان الذاتي ، وذلك في مقابل الوجوب الذاتي ، والذي يعني ضرورة المحمول للموضوع وتكون تلك الضرورة ناشئة عن مقام الذات للموضوع ، وفي مقابله الامتناع الذاتي والذي ينشأ عن مقام الذات للموضوع.

* * *

١٤٩ ـ الإمكان الشرعي

وهو الذي لا يلزم من افتراض وقوعه محذور شرعي ، فوجوب طاعة الأبوين ـ في غير معصية الله جلّ وعلا ـ لمّا لم يكن مستلزما لمحذور شرعي فهو ممكن بالإمكان الشرعي ،

٣٥٢

وهذا بخلاف استحباب النافلة المفوتة للفريضة فإنّه لمّا كان مستلزما لمحذور شرعي فإنّه لا يكون ممكنا شرعا.

* * *

١٥٠ ـ الإمكان الوقوعي

وهو الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال أي انّ وجوده لو اتفق لا يكون مستلزما لأحد المحاذير العقلية كاجتماع الضدين أو النقيضين ، ومثاله : امكان التعبّد بالظن ، فقد ذهب جمع من الأعلام الى انّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في هذا البحث هو الإمكان الوقوعي. فالقائلون بإمكان التعبّد بالظن يقصدون عدم استلزام أي محذور عقلي من وقوع التعبّد بالظن ، وذلك في مقابل من ذهب استحالة التعبّد بالظن بدعوى استلزام فرض وقوعه لمحاذير عقلية كاجتماع الضدين أو المثلين ، وهذا هو الامتناع الوقوعي.

فالإمكان الوقوعي هو ما يكون ممكنا في حدّ نفسه ولا يلزم من فرض وقوعه أيّ محذور عقلي ، وهو في مقابل الامتناع الوقوعي حيث يكون ممكنا ذاتا إلاّ ان وقوعه مستلزما لمحذور عقلي. كصدور الظلم من الله جلّ وعلا فإنّه وان كان ممكنا ذاتا إلاّ انّه ممتنع وقوعا.

* * *

١٥١ ـ الإمكان بالقياس

إذا لوحظ شيء بالاضافة الى شيء آخر فلم يكن هذا الشيء الآخر موجبا لوجوده ولا موجبا لعدمه فهذا الشيء ممكن بالقياس الى ذلك الشيء الآخر.

فالإمكان بالقياس معناه عدم صلاحية شيء معين لأن يكون سببا في امتناع شيء أو وجوبه عند ملاحظته بالإضافة اليه.

مثلا : إذا لاحظنا النهي عن الضد

٣٥٣

الخاص بالإضافة الى وجوب الصلاة فإننا نجد انّ إيجاب الصلاة لا يكون سببا في امتناع النهي عن الضد الخاص كما انّه ليس سببا في ايجاب النهي عن الضد الخاص ، فالنهي عن الضد الخاص بالاضافة الى وجوب الصلاة ممكن بالقياس.

ومثال آخر أكثر وضوحا : إذا لاحظنا وجوب الصوم بالإضافة الى وجوب الصلاة نجد انّ وجوب الصلاة ليس سببا لضرورة إيجاب الصوم كما انّه ليس سببا لامتناعه ، فوجوب الصوم بالقياس الى إيجاب الصلاة ممكن بالقياس.

وقد ذهب السيد الخوئي رحمه‌الله الى انّ المراد من قاعدة الإمكان في الحيض هو الإمكان بالقياس ، أي انّ كلّ دم اذا لوحظ بالإضافة الى الشروط المستفادة من الروايات فلم تكن تلك الشروط موجبة لانتفاء حيضية ذلك الدم كما انها لا تكون موجبة لتعيّن حيضيته فهو حيض بالامكان القياسي.

* * *

١٥٢ ـ الانتزاع

الانتزاع هو وصف للعمليّة الذهنيّة المنتجة لاستنباط عنوان من ملاحظة الوجود الخارجي أو الاعتباري ، وبذلك لا يكون للأمر الانتزاعي أو قل المنتزع ما بإزاء في عالم الوجود الخارجي ولا في عالم الاعتبار.

فالأمر الانتزاعي ليس له تقرّر ووجود في العالمين إلاّ بالإضافة إلى منشأ انتزاعه ، فمنشأ الانتزاع هو الذي يكون له تقرّر ووجود ، فهو إمّا أن يكون من الموجودات المتأصّلة الخارجيّة وإمّا أن يكون وجودا اعتباريّا ، وأمّا الأمر الانتزاعي فليس كذلك ، ولهذا ليس من شيء في عالم الوجود العيني أو الاعتباري يقال له بأنّه أمر انتزاعي.

٣٥٤

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الأمر الانتزاعي هو كلّ عنوان تمّ تحصيله واستنباطه من ملاحظة العقل للوجودات العينيّة أو الاعتباريّة ، مثلا : حينما يلاحظ العقل الترتّب بين وجود النار والاحتراق بحيث يكون وجود الآخر مترتّبا على وجود الأوّل فإنّ العقل ينتزع من ذلك عنواني العليّة والمعلوليّة ، وهما ـ كما تلاحظون ـ ليس لهما ما بإزاء ما في الخارج يمكن أن يشار إليه ، والموجود خارجا ليس سوى النار والاحتراق. فالموجود هو منشأ الانتزاع وهما النار والاحتراق ، وأمّا الأمر الانتزاعي فهو عنوان استنبطه الذهن من ملاحظة الوجود العيني في المثال.

وهكذا الحال بالنسبة لعنوان الفوقيّة والتحتيّة والقبليّة والبعديّة فإنّها جميعا عناوين انتزاعيّة استنبطها الذهن من ملاحظة نحو العلاقة بين شيئين.

هذا فيما يتّصل بالانتزاع عن الوجودات العينيّة ، وأمّا الانتزاع عن الأمور الاعتباريّة ـ والتي هي نحو من الوجود أيضا إلاّ أنّ وعاءها هو عالم الاعتبار ـ فيمكن التمثيل لذلك بما لو اعتبر المولى الزوجيّة مترتّبة عن العقد ، فإنّ العقل ينتزع من ملاحظة ذلك عنوان السببيّة أي أنّ العقد سبب لاعتبار الزوجيّة.

وهكذا لو قال المولى ( إذا استطعت وجب عليك الحجّ ) فإنّ العقل ينتزع عن ذلك عنوان الشرطيّة أي أنّ الاستطاعة شرط في اعتبار الحجّ واجبا. وكذلك لو قال المولى ( لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه ) فإنّ العقل ينتزع عنوان المانعيّة أي مانعيّة اشتمال المكلّف على جلد ممّا لا يؤكل لحمه لصحّة الصلاة.

فالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة ليس لها وجود وتقرّر في عالم الاعتبار والموجود إنّما هو منشأ انتزاعها ،

٣٥٥

فالموجود في عالم الاعتبار ـ مثلا ـ هو الزوجيّة المترتّبة عن العقد ، وأمّا السببيّة فهي منتزعة عن ذلك وهكذا.

* * *

١٥٣ ـ انجبار ضعف الخبر بعمل المشهور

المراد من الانجبار هو التوسّل بعمل المشهور بالخبر لغرض الاستعاضة به عن الضعف السندي للخبر ، فيكون عمل المشهور موجبا لاعتبار الخبر وحجيته بعد ان كان من المفترض سقوطه عن الاعتبار بسبب ضعفه السندي.

والمراد من عمل المشهور هو استناد المشهور للخبر في مقام العمل والفتيا ، فالشهرة الموجبة لانجبار الضعف السندي للخبر هي الشهرة العملية. وفي مقابل المشهور يكون هناك جمع من الفقهاء لم يحرز استنادهم لهذا الخبر في مقام العمل أو احرز استنادهم الى خبر آخر مناف لهذا لخبر أو مطابق لمؤداه أو كانوا مستندين الى أصل عملي أو عقلائي أو كانوا يفتون بما ينافي الخبر الضعيف دون التصريح بمنشإ فتواهم أو لم تكن لهم فتوى منافية لمضمون الخبر الضعيف ولا مطابقة ، كل ذلك ينقّح موضوع القاعدة والذي هو انجبار ضعف الخبر بعمل المشهور ، إذ لو تسالم جميع الفقهاء على العمل بالخبر الضعيف فإنّ ذلك لا يكون من صغريات هذه القاعدة ، وهكذا لو كان غير العاملين من القلة بحيث لا يؤثر على صدق التسالم.

ثم انّ الشهرة المبحوث عن جابريتها لضعف الخبر هي الشهرة الواقعة بين القدماء ، كالصدوقين والشيخ المفيد والسيد المرتضى وسلاّر والحلبي وابن البرّاج وشيخ الطائفة الطوسي رحمهم‌الله وكل من هو في طبقتهم ممن هم قريبون من عصر الأئمة عليهم‌السلام.

٣٥٦

وباتضاح ما ذكرناه نقول : انّه قد ذهب مشهور المتأخرين الى تمامية هذه القاعدة ، واستدلّوا لذلك بوجوه عمدتها : انّ موضوع الحجية لخبر الواحد هو الخبر الموثوق بقطع عن منشأ الوثوق ، فقد يكون منشؤه وثاقة الراوي ، وقد يكون منشؤه استناد مشهور الفقهاء من قدماء الطائفة اليه ، فوثاقة الراوي ليس هو المناط الوحيد في تنقيح موضوع الحجية لخبر الواحد.

وفي مقابل دعوى المشهور ذهب السيد الخوئي رحمه‌الله الى عدم تمامية هذه القاعدة ، وذلك جريا على مبناه فيما هو موضوع الحجية لخبر الواحد وان موضوع الحجية هو خبر الثقة إلاّ ان يحصل الاطمئنان بصدوره بسبب قيام قرينة داخلية أو خارجية على ذلك.

ثم انّ السيد الخوئي رحمه‌الله أورد على المشهور اشكالا صغرويا حاصله : انّ تمامية دعوى الانجبار منوط بإحراز استناد مشهور القدماء للخبر الضعيف في مقام العمل ودون ذلك خرط القتاد ، وذلك لأنه ليس للمشهور كتب استدلالية يمكن التعرّف بواسطتها على ما هو مستندهم في هذه الفتوى أو تلك وهل انّ مستند هذه الفتوى المطابقة لمؤدى الخبر الضعيف هو نفس الخبر أو انّ المستند لذلك هو دليل آخر ، وبهذا لو سلمنا بتمامية كبرى الانجبار فإنّه لا ثمرة مترتبة عليها بعد ان لم يكن احراز الصغرى وهو الاستناد ميسورا.

* * *

١٥٤ ـ الانحلال التعبّدي

والمراد من الانحلال التعبّدي هو زوال العلم الإجمالي بواسطة الأمارة أو الأصل التنزيلي ، بمعنى انّه لو كان القائم بدل الأمارة أو الأصل التنزيلي هو العلم الوجداني لكان العلم الإجمالي منحلاّ حقيقة إلاّ انّه لمّا كان

٣٥٧

القائم هو الامارة والتي هي علم تعبّدا فإنّ العلم الإجمالي ينحلّ تعبّدا للتعبّد بعلمية الأمارة أو الأصل التنزيلي ـ بناء على انّ المجعول فيه هو العلمية والطريقية ـ فالعلم الإجمالي وان كان لا يزول وجدانا بقيام الامارة إلاّ انّ التعبّد بعلميتها اقتضى تنزيل العلم الإجمالي منزلة المنحل.

فلو كنّا نعلم بنجاسة أحد الإنائين ثم قامت البينة على انّ النجاسة قد وقعت في الإناء الاول فإنّ ذلك لا يقتضي زوال العلم الإجمالي حقيقة إلاّ انّه لمّا كانت الأمارة منزلة منزلة العلم تعبّدا فإنّ هذا يقتضي التعبّد بزوال العلم الإجمالي.

هذا حاصل ما يستفاد من كلمات السيد الخوئي رحمه‌الله إلاّ انّ السيد الصدر رحمه‌الله لم يقبل بدعوى وجود انحلال تعبّدي ، وذلك لأنّ دليل الأمارة لو كان قد نزّل الأمارة منزلة العلم فإنّ هذا التنزيل لا يطال الانحلال ، وذلك لكونه أثرا تكوينيا للعلم ، وليس للشارع بما هو شارع التصرّف في الآثار التكوينية من حيث توسيع دائرتها أو تضييقها ، وأما لو كان دليل الأمارة مقتضيا لاعتبار الأمارة علما بنحو المجاز السكّاكي العقلي فإنّ الآثار المترتبة حينئذ انّما هي الآثار الاعتبارية لا الآثار الحقيقية التكوينية والتي منها الانحلال.

قد يقال : انّ المقصود من التعبّد بالانحلال هو انّ دليل الأمارة لمّا كان قد نزّل الامارة منزلة العلم أو اعتبرها علما فإنّ ذلك يقتضي التعبّد بآثارها ، فالانحلال الثابت بواسطة الأمارة انحلال تعبّدي لا انّه انحلال حقيقي تكويني تم بواسطة التعبّد بعلمية الأمارة ، فلا يقال حينئذ انّه أثر تكويني للعلم وليس للشارع التصرّف في الآثار التكوينية بل هو تعبّد بعلميّة الأمارة ، وهذا بنفسه يقتضي التعبّد بآثارها.

٣٥٨

إلاّ انّ الصحيح عدم صلاحية هذه المحاولة لحلّ الإشكال ، وذلك لأنّ التعبّد بعلمية الأمارة انّما هو تعبّد بالعلة ، ونحتاج الى تعبّد آخر للمعلول ، إذ لا ملازمة بين التعبّدين ، ثم انّه لا معنى للتعبّد بالانحلال لأنّه لا ينتج التأمين عن الطرف الآخر ـ لو بقي الشك في مورده ـ بل لا بدّ من التأمين عنه بإجراء الأصل المؤمن وأما التعبّد بالانحلال وحده فغير كاف في التأمين عن الطرف الآخر ، واذا سلّم بلزوم إجراء الأصل المؤمن عن الطرف الذي لم يكن موردا للأمارة فإنّ التعبّد بالانحلال لا تبقى له فائدة ، إذ انّ التعبّد بالأمارة يقتضي رفع التعارض بين الاصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي ، حيث انّ مورد الأمارة لا يكون مجرى للأصل المؤمن ، فيجري الأصل المؤمن في الطرف الآخر بدون معارض حتى لو لم يكن هناك تعبّد بالانحلال.

مثلا : لو علم اجمالا بنجاسة أحد الإنائين ثم قامت البيّنة على انّ النجاسة وقعت في الإناء الاول ، فحينئذ لا يجري الأصل المؤمن في مورد الأمارة وهو الطرف الاول ، وأما الطرف الثاني فيجري فيه الاصل المؤمن بلا معارض ، وعندئذ لا تكون ثمة فائدة من التعبّد بالانحلال ، لأنّ الطرف الآخر مجرى للأصل المؤمن على كلا تقدري القول بالتعبّد بالانحلال أو القول بعدم التعبّد بالانحلال.

نعم تكون للتعبّد بالانحلال فائدة لو بنينا على جواز ارتكاب الطرف الآخر دون إجراء الاصل المؤمن ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به ، وذلك لأنّ الشك البدوي ما دام منحفظا في الطرف الآخر فإنّه لا يسع المكلّف ارتكابه دون مؤمن شرعي أو عقلي ، وذلك للاتفاق على انّ الشك إذا لم يكن مؤمنا عنه شرعا أو عقلا ـ ولو بقاعدة

٣٥٩

قبح العقاب بلا بيان ـ فإنّه يصبح منجزا عقلا. هذا حاصل ما أفاده السيد الصدر رحمه‌الله.

* * *

١٥٥ ـ الانحلال الحقيقي

المراد من الانحلال الحقيقي هو زوال العلم الإجمالي وجدانا بحيث لو راجع المكلّف نفسه لوجد انّ العلم الإجمالي قد زال.

ولكي يتّضح المراد من ذلك نذكر بعض التطبيقات التي ينحلّ معها العلم الإجمالي حقيقة ووجدانا ، ثم نستخلص من ذلك الضابطة للانحلال الحقيقي.

التطبيق الاول : لو علم المكلّف بنجاسة أحد إناءين ثم علم بأن منطبق المعلوم بالإجمال هو الإناء الاول ، فهنا لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي وسراية العلم من الجامع الى الفرد المعلوم انّه هو منطبق الجامع حقيقة وواقعا. وسراية العلم من الجامع الى طرفه المعيّن هو المنشأ لانحلال العلم الإجمالي حقيقة ، إذ انّ بقاء العلم الإجمالي منوط بعدم السراية والفرض هو تحققها.

وهنا لا بدّ من التنبيه على انّ منشأ الجزم عادة بكون منطبق الجامع هو هذا الفرد المعيّن هو العلم باشتمال الطرف الواقعي المعلوم بالإجمال على علامة خاصة. فهذا هو ما أوجب حصول الجزم بانطباق المعلوم بالاجمال على الفرد المعين باعتبار انّ ذلك الفرد مشتمل على نفس العلامة المعلوم اشتمال الطرف الواقعي عليها.

ففي مثالنا لو كانت النجاسة المعلومة بالإجمال مسببة عن العلم بخمرية واحد من الإنائين غير المعين ، فحينئذ لو علم انّ الإناء المشتمل على الخمر هو الأول فإنّ العلم بالجامع يسري للفرد المعلوم خمريته.

التطبيق الثاني : لو علم المكلّف

٣٦٠