المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

هو الضرورة الناشئة عن العلة التامة لو كانت هذه العلة هي نفس الاختيار الذي يترتّب عليه الفعل ابتداء.

وبيان ذلك : انّ الفعل الواقع خارجا عن المكلّف قد يحتاج وقوعه الى إيقاع أفعال جوارحية تكون هي المقدمات التوليدية للفعل ، وهذا هو مورد القاعدة في كلمات الاصوليين.

وقد لا يكون الفعل الصادر عن المكلف مفتقرا الى أكثر من إرادة ايقاعه ، بمعنى انّ ضرورة وقوعه لا يتوقف على مقدمات خارجية ، فبمجرّد ان تنعقد الإرادة لإيجاده فإنّ الفاعل يقوم بالفعل ابتداء.

ومثال الاول : القتل ، فإنّ القتل لا يتم إلاّ بواسطة مقدمات توليدية مثل الإلقاء من شاهق ، فإنّ الإلقاء من الشاهق ليس هو القتل نفسه بل هو مقدمة توليدية له.

ومثال الثاني : الكذب ، فإنّ هذا الفعل لا يفتقر وجوده الى أكثر من إرادته واختياره.

وواضح انّ كلا الصورتين يكون الامتناع في موردهما هو الامتناع بالغير ، غايته انّ الصورة الاولى تتوقف ضرورة الفعل في موردها على مقدمات خارجية اختيارية ، وأمّا الصورة الثانية فصدور الفعل في موردها لا يتوقف على أكثر من الإرادة والاختيار ، إلاّ انّ الضرورة في كلا الصورتين لم تكن ناشئة عن مقام الذات لمتعلقها وانّما هي ناشئة عن علة خارجة عن مقتضى ذاتها.

وحيث انّ نظر الأشعري كان منصبا على الأفعال الصادرة ابتداء عن المكلّف لا الأفعال الناشئة عن مقدمات خارجية ، إذ لا معنى للبحث عنها بعد ان كانت هذه المقدمات أفعالا صادرة عن المكلّف ابتداء ، فحيث انّ هذه الأفعال الصادرة عن المكلّف ضرورية بنظره فالافعال المترتبة عليها تكون ضروريتها أوضح.

٣٢١

فنظر الأشعري مقتصر على الافعال من سنخ الصورة الثانية ، نعم نفس الافعال التوليدية مشمولة لإشكاله إلاّ انّها حينئذ تكون من سنخ الصورة الثانية أيضا ، فإلقاء الغير من شاهق فعل صادر ابتداء عن المكلّف.

واذا كان كذلك فالمراد من الامتناع في القاعدة لا يكون بمعنى الامتناع الوقوعي بالمعنى الذي استظهرناه من عبائر السيد الخوئي رحمه‌الله والذي هو عبارة عن ضرورة الوقوع الناشئة عن المقدمات الاختيارية التوليدية.

وأما نظر الاصولي فهو منصب على الأفعال من سنخ الصورة الاولى والتي هي الأفعال الضرورية الوقوع بسبب وقوع مقدماتها الاختيارية التوليدية ، إذ لا اشكال في مسئولية المكلّف عن الفعل الصادر ابتداء عنه بمحض اختياره.

هذا حاصل ما نفهمه من عبائر السيد الخوئي رحمه‌الله المقتضبة في المقام والتي وردت في المحاضرات.

وأما ما نسب اليه في الدراسات من انّ الامتناع في القاعدة ـ في البحث الاصولي ـ هو الامتناع الحقيقي فلم نجد له توجيها مناسبا ، إذ لا إشكال في عدم إرادته من الامتناع الحقيقي الامتناع بالذات ولا الامتناع بالقياس ولا الامتناع بالغير ، لانّه جعله مقابلا للامتناع الحقيقي وان عبّر عنه في الدراسات بالامتناع العرضي إلاّ انّ مقصوده منه هو الامتناع بالغير ، كما هو واضح.

نعم قد يكون مراده من الامتناع الحقيقي هو نفسه الامتناع الحقيقي ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ وذلك لأنّ الفعل الناشئ عن مقدماته التوليدية لا يكون المكلّف معه قادرا على التراجع وهذا ما ناسب التعبير عنه بالامتناع الحقيقي ، بخلاف الامتناع في مورد الصورة الثانية فإنّ حصول الإرادة والاختيار لا يعجّز المكلّف عن

٣٢٢

التراجع ، فهذا النحو من الامتناع من الامتناع بالغير إلاّ انّ خصوصيته هي عدم القدرة على التراجع بعد حصول المقدمات التوليدية ، بخلاف الامتناع بالغير في مورد الصورة الثانية ، فإنّ المكلّف حتى لو أراد الفعل واختاره فإنّ له ان لا يفعل فلا يتحقق الامتناع معه إلاّ حين ايجاد الفعل. وهذا التوجيه هو المتناسب مع مبناه في العلل الإرادية ، وذلك في مقابل دعوى استحالة تخلّف المعلول عن علّته التامة حتى في موارد العلل الإرادية.

وكيف كان فالامتناع المراد في القاعدة هو الامتناع بالغير إلا انّ نظر الاصولي مقتصر على الامتناع الناشئ عن المقدمات الخارجية الاختيارية ، إذ لا إشكال في مسئولية المكلّف عن الأفعال الاختيارية الصادرة عنه ابتداء ، نعم الأفعال التي لا تكون اختيارية لو قطع النظر عن مقدماتها ، بمعنى انّها لو كانت اختيارية لكانت اختياريتها بسبب اختيارية مقدماتها ، هذه الأفعال يمكن ان يقع التشكيك حتى من غير الأشعري في اختياريتها.

فالسقوط من الشاهق ضروري الوقوع وعدمه خارج عن اختيار المكلّف بعد الإسقاط ، وحينئذ يمكن ان يقال بأن السقوط ليس اختياريا وان كان الاسقاط اختياريا ، وهنا يتصدى المؤمن بالقاعدة للقول : بأنّ السقوط وان كان ضروريا إلاّ انّ الضرورة الناشئة عن مقدمات اختيارية لا تنفي مسئولية المكلّف عن ذلك الفعل الذي نشأت ضرورته عن اختياره.

وباتّضاح المراد من القاعدة نقول انّ الاقوال فيها ثلاثة :

القول الاول : انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وخطابا.

القول الثاني : انّ الامتناع بالاختيار

٣٢٣

ينافي الاختيار عقابا وخطابا.

القول الثالث : انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولكن ينافيه خطابا.

والمراد من عدم منافاة الامتناع للخطاب هو انّ الضرورة الناشئة عن مقدمات اختيارية لا تمنع من نهي أو أمر المكلّف عن الفعل الضروري أي غير المقدور ، وذلك لأنّ الضرورة نشأت عن الاختيار.

وأما المراد من منافاة الامتناع للخطاب فهو انّ الضرورة وعدم القدرة على الترك او الفعل تمنع من نهي المكلّف أو أمره وان كانت هذه الضرورة وعدم القدرة قد نشأت عن مقدمات اختيارية ، وذلك للغوية نهيه أو أمره بعد ان كان عاجزا عن الامتثال. فلا معنى لنهيه عن فعل لا يتمكن من تركه وان كان عدم تمكنه من الترك ناشئا عن اختياره.

فمنافاة الامتناع للخطاب انّما هو بسبب عبثية الخطاب ، وهذا ما يتنزّه عنه المولى جلّ وعلا.

والقول الاول منسوب الى أبي هاشم المعتزلي وما اليه المحقق القمي رحمه‌الله ، وأورد عليه السيد الخوئي رحمه‌الله : بأنّ الخطاب بالأمر أو النهي انّما يكون بغرض احداث الداعي في نفس المكلّف ، فمع افتراض عجز المكلّف عن الانبعاث عن الخطاب لا يكون ثمة معنى لإحداث الباعث في نفسه ، إذ لن ينحدث الداعي في النفس للانبعاث بعد افتراض عدم قدرة المكلّف على الامتثال ، فيكون الخطاب بالأمر أو النهي عبثيّا. وهذا لا يختلف الحال فيه بين العجز عن قاسر خارجي أو استناد العجز الى سوء الاختيار ، فإنّ عبثية الخطاب في كلا الفرضين منحفظة.

ثم أورد على هذا القول ايرادا نقضيا ، حاصله : انّه لو كان الخطاب

٣٢٤

في صورة العجز المستند الى الاختيار ممكنا لصحّ تكليف المكلّف بالمحال إذا كان ذلك التكليف منوطا بفعل اختياري كأن يقول : اذا أفطرت في نهار شهر رمضان وجب عليك الجمع بين النقيضين أو الضدين ، وواضح استحالة هذا الخطاب.

وأما القول الثاني فقد أورد عليه السيد الخوئي رحمه‌الله بأن العجز عن التكليف لمّا كان مستندا الى الاختيار فهذا معناه اختيارية الفعل ، إذ انّ الفعل الاختياري هو ما كان للمكلّف فعله وتركه ولو بواسطة فعل أو ترك مقدماته الاختيارية ، فكونه ضروري الوقوع لا ينافي اختياريته بعد ان كان المكلّف قادرا على الامتثال بواسطة مقدماته الاختيارية ، وهذا ما يصحح مسئولية المكلّف عن الفعل الضروري المستند للاختيار.

فالكون في الارض المغصوبة وان كان ضروري الوقوع إلاّ انّه لما كان ناشئا عن الدخول الاختياري فإنّ ذلك يقتضي ـ كما هو مقتضى الحكم العقلي القطعي ـ صحه إدانة المكلّف على الكون في الارض المغصوبة ، إذ لا يفرّق العقل بين الفعل الذي تكون اختياريته ابتدائية وبين الفعل الذي تكون اختياريته ناشئة عن اختيارية مقدماته.

وبهذا تتضح تمامية القول الثالث والذي هو مبنى المشهور من انّ الضرورة المستندة للاختيار لا تنفي اختيارية الفعل الممتنع ، ومن هنا يكون المكلّف مسئولا عن ذلك الفعل أو الترك ولا تقبح معاقبته ، نعم لا تصح مخاطبة المكلف بالترك أو الفعل ، وذلك لعبثية الخطاب بعد افتراض العجز عن الامتثال.

* * *

١٣١ ـ الامتناع بالذات

وهو الاستحالة الناشئة عن مقام الذات. أو قل : هو ضرورة انتفاء

٣٢٥

المحمول عن الموضوع وتكون هذه الضرورة ناشئة عن مقام الذات للموضوع.

فالامتناع بالذات يقابل الوجوب بالذات والذي يكون فيه ثبوت المحمول للموضوع ضروريا على ان تكون الضرورة ناشئة عن مقام الذات للموضوع.

ومثال الممتنع بالذات شريك الباري حيث ان انتفاء الوجود عن شريك الباري ضروري وانّ هذه الضرورة نشأت عن ان ذات شريك الباري تقتضي ذلك.

وبهذا يتضح انّ المقصود من امتناع اجتماع الأمر والنهي هو الامتناع بالذات ، إذ انّ المدعى هو انّ ذات الأمر والنهي يقتضيان امتناع الاجتماع.

* * *

١٣٢ ـ الامتناع بالغير

وهو ضرورة انتفاء المحمول عن الموضوع إلاّ انّ هذه الضرورة لا تنشأ عن مقام الذات للموضوع بل تنشأ عن سبب خارج عن الذات مستوجب لانتفاء المحمول عن الذات.

ومثاله الإنسان ـ والذي يكون وجوده ممكنا بالإمكان الذاتي ـ إذ قد يعرضه الامتناع بالغير فيكون ممتنع الوجود بالغير ، وذلك حينما لا تكون هناك علة تامة مقتضية لضرورة وجوده ، فعدم العلة هي الواسطة في امتناع وضرورة عدمه ، فلم يكن الامتناع ناشئا عن مقام الذات للإنسان بل انّه نشأ عن سبب خارج عن ذاته.

* * *

١٣٣ ـ الامتناع بالقياس

المراد من الامتناع بالقياس هو امتناع عدم شيء عند افتراض وجود ملازمه بقطع النظر عن ان علاقته بملازمه علاقة العلة والمعلول أو علاقة

٣٢٦

المعلول بعلته أو كونهما معلولين لعلة ثالثة.

وبتعبير آخر : ان كلّ شيء واجب الوجود بالقياس الى وجود شيء آخر فإنّ عدمه ممتنع بالقياس عند وجود الآخر ، حتى ولو لم يكن الوجود الآخر علة لوجود لازمه. فعند ما نفترض انّ وجود زيد ملازم لوجود عمرو فهذا معناه ان افتراض وجود عمرو يقتضي امتناع عدم وجود زيد.

فالعلّة ـ مثلا ـ لمّا كانت واجبة الوجود بالقياس الى وجود المعلول ـ بمعنى انّ افتراض وجود المعلول يقتضي ضرورة وجود العلة ـ فهذا معناه انّ افتراض وجود المعلول يقتضي امتناع عدم وجود العلة ، وهكذا لو كان بين شيئين تلازم في الوجود ـ رغم انّ أحدهما ليس علة للآخر بل هما معلولان لعلة ثالثة ـ فإنّ كل واحد منهما واجب الوجود بالقياس الى الآخر ، وحينئذ يكون افتراض وجود أحدهما مقتضيا لامتناع عدم وجود الآخر بالقياس.

* * *

١٣٤ ـ الأمر

وقع الخلاف بين الأعلام فيما هو المعنى الموضوع له لفظ الأمر ، إلاّ انّ الظاهر عدم الخلاف في انّ مادة الأمر مفيدة لمعنى الطلب في الجملة ، نعم الخلاف فيما هو منشأ هذه الاستفادة ، فقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله الى انّ مادة الأمر موضوعة لإفادة معنى الواقعة التي لها خطر وأهمية ، وتمام المعاني المذكورة لمادة الأمر ترجع روحا الى هذا المعنى بما فيها الطلب ، فإنّه من الامور التي لها خطر ، وعليه يكون منشأ استفادة الطلب من مادة الأمر ـ بناء على هذه الدعوى ـ هو انّه من مصاديق المعنى الموضوع له لفظ الأمر.

وفي مقابل هذه الدعوى ذهب جمع

٣٢٧

من الأعلام الى انّ الطلب من المعاني التي وضع لفظ الأمر للدلالة عليه ، فتكون مادة الأمر ـ بناء على هذه الدعوى ـ من المشتركات اللفظية. والخلاف بين هؤلاء الأعلام فيما هي المعاني الاخرى التي وضعت مادة الأمر للدلالة عليها. فمنهم من زعم انّ مادة الأمر موضوعة ـ بالإضافة للطلب ـ للشيء والحادثة والغرض والشيء العجيب والفعل.

وذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى انّ مادة الأمر موضوعة للطلب وللشيء فحسب ، وانّ سائر المعاني المذكورة ترجع لمعنى الشيء وانه وقع خلط بين المفهوم والمصداق ، وانّ لفظ الأمر لم يستعمل في هذه المعاني ، نعم هو مستعمل في مصاديقها ، وهو خارج عن محل البحث ، إذ انّ البحث انما هو عن المفهوم الذي وضعت مادة الأمر بإزائه وللدلالة عليه.

ثم انّ هناك أقوالا اخرى أعرضنا عن ذكرها لعدم ترتّب ثمرة تذكر من بيانها ، والمهم في المقام هو التعرّض لمسألتين :

المسألة الاولى : هي انّه هل يعتبر في صدق الأمر صدوره من العالي للداني وانّ الآمر في مقام الاستعلاء ، أو لا يعتبران معا ، أو يعتبر الأول دون الثاني أو الثاني دون الاول؟ أقوال :

ذهب جمع من الأعلام كصاحب الكفاية والسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهم‌الله الى اعتبار العلو في صدق الأمر وانّ صدور الأمر من المستعلي إذا لم يكن عاليا لا يكون أمرا ، كما انّ صدور الأمر من العالي على غير وجه الاستعلاء يعدّ بنظر العرف أمرا ، واستدلّ السيد الخوئي رحمه‌الله على ذلك بالوجدان وانّ صدوره من العالي هو المصحح لانتزاع عنوان البعث والتحريك والتكليف وانّه يصحّ سلب الأمر عن الطلب اذا صدر من الداني المستعلي ، بأن يقال : انّ طلب المستعلي

٣٢٨

الداني ليس أمرا.

وذهب السيد الإمام رحمه‌الله الى اعتبار الاستعلاء بالإضافة الى العلو ، فإنّ مثل قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ) (٢٣) وكذلك قوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) (٢٤) لا يعدّ أمرا لأنّه لم يصدر على وجه الاستعلاء.

المسألة الثانية : في دلالة الأمر على الوجوب فنقول : انّه قد وقع الاتفاق على انّ الأمر ظاهر في الوجوب ، وانّ ذلك هو مقتضى المتفاهم العرفي من الأمر عند اطلاقه وعدم وجود ما يوجب صرفه عن ذلك.

نعم وقع الخلاف بين الأعلام فيما هو منشأ هذا الظهور ، فالمشهور زعموا انّ منشأ الظهور هو الوضع ، وانّ مادة الأمر كذلك صيغته وضعتا للدلالة على الطلب الوجوبي.

واستدلوا لذلك : باستعمالات أهل اللسان والمحاورة لمادة الأمر وهيئته كقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) إذ لا معنى للتحذير عن مخالفة الأمر لو لم يكن مفيدا للطلب الوجوبي ، ولكان عليه عندئذ ان يقيّد الأمر المحذّر عن مخالفته بالامر الوجوبي.

وفي مقابل دعوى المشهور ذهب المحقق النائيني والسيد الخوئي رحمهما الله الى انّ المنشأ لظهور الأمر في الوجوب هو حكم العقل بتقريب حاصله : انّ العقل يدرك عند صدور الطلب من المولى لزوم الطاعة وانّه ليس للمكلّف التخلّف عنه ، إذ انّ ذلك هو ما تقتضيه عبوديته للمولى جلّ وعلا ، نعم لو رخّص المولى في ترك متعلّق الطلب فإنّ للمكلّف عندئذ تجاوزه وعدم الجري على وفقه ، أما مع عدم الترخيص فالعقل يدرك مسئولية المكلّف عن امتثال أمر المولى أداء لحقّ المولوية.

فالأمر في حدّ نفسه ليست له دلالة

٣٢٩

على أكثر من الطلب واستفادة الوجوب من اوامر المولى انّما هي من مدركات العقل العملي.

* * *

١٣٥ ـ الأمر الإرشادي

هو ما يكون مدلوله حكما عقليا أو حكما شرعيا وضعيا ، فيكون دور الأمر حينئذ دور المنبّه والمرشد الى الحكم العقلي أو الحكم الشرعي الوضعي.

وبيان ذلك : إنّ الظهور الاولي للأمر ـ سواء المدلول عليه بالمادة أو بالصيغة أو بشيء آخر ـ يقتضي الطلب المولوي لمتعلقه إلاّ انّ هذا الظهور لا يكون مستقرا إلاّ مع فقدان القرائن الموجبة لصرف الظهور الى معنى آخر أما لو كان ثمة قرينة منافية لذلك فإنّ الظهور يكون مع ما يناسبها.

واذا كان كذلك فالأمر الصادر بداعي التنبيه والإرشاد الى شيء لا يكون مفيدا للطلب المولوي ، وهذا يعني انسلاخه عن ظهوره الاولي الى الظهور في الإرشاد. ومن هنا لا يكون الأمر الإرشادي موجبا للبعث نحو متعلّقه ، وانما يكون له دور الكشف عن انّ متعلّقه حكم وضعي مثلا.

ولمزيد من التوضيح نقول : انّ الاوامر الإرشادية يمكن تصنيفها الى قسمين :

القسم الاول : ان يكون متعلّق الأمر فيها مدركا من المدركات العقلية والتي لها تقرّر في نفس الأمر والواقع بقطع النظر عن صدور الأمر عن الشارع أو عدم صدوره ، وهنا تكون فائدة الأمر متمحضة في الإرشاد والتنبيه على الحكم العقلي ، فلا يكون متعلّقه مطلوبا مولويا ، وانّما تكون مطلوبيته ـ لو كانت ـ ناشئة عن إدراك العقل لذلك.

ومثاله قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ ) (٢٥) إذ انّ متعلّق الأمر الوارد في

٣٣٠

الآية الشريفة هو إطاعة الله جلّ وعلا ، ومطلوبية الطاعة لله سبحانه لا يمكن ان تكون حكما شرعيا لاستلزام ذلك لمحذور عقلي وهو الدور أو التسلسل ، إذ لو كان الموجب للزوم امتثال الأمر باطاعة الله جلّ وعلا هو الأمر بالطاعة في الآية الشريفة لكان ذلك مقتضيا للبحث عما هو الموجب لإطاعة الأمر بالطاعة فإن كان هو نفس قوله « أطيعوا الله » لزم الدور وان كان هو أمر إلهي آخر رجع السؤال وهو ما الذي يلزم باطاعة الله تعالى في أمره بلزوم طاعة قوله « أطيعوا الله » وهكذا يتسلسل.

أما لو كان الموجب لإطاعة الله عزّ وجل هو ما يدركه العقل من لزوم طاعة أوامر المولى أداء لحق المولوية فإنّه حينئذ ينقطع التسلسل ولا يلزم الدور ، وبهذا يتعين انّ الأمر في قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ ) (٢٦) أمر إرشادي لما يحكم به العقل من لزوم طاعة الله جلّ وعلا.

وبهذه القرينة العقلية ـ القاضية باستحالة ان يكون الأمر في الآية الشريفة مولويا ـ ينصرف الأمر عن ظهوره الاولي في الطلب الشرعي الى الظهور في الإرشادية.

والمتحصّل انّ الأمر الإرشادي في هذا القسم هو ما يلزم من افتراض مولويته محذور عقلي.

وهنا بيان آخر للأمر الإرشادي أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله وحاصله : ان الأمر الإرشادي هو ما كان متعلّقه مدركا عقليا واقعا في سلسلة معلولات الحكم الشرعي.

وبيان ذلك :

انّ بعض الأحكام العقلية تقع في طول الحكم الشرعي فما لم يكن حكم شرعي فإنّ العقل لا يستقل بإدراكها ، وهذا هو معنى وقوع الحكم العقلي في سلسلة معلولات الحكم الشرعي ، بمعنى انّ وجود الحكم الشرعي واحد

٣٣١

من المقدمات التي نشأ عنها الحكم العقلي ، فيكون الحكم العقلي معلولا للحكم الشرعي بهذا المعنى.

ومثال ذلك : حكم العقل بلزوم طاعة المولى جلّ وعلا وحكمه بحسن الاحتياط ، فإنّ حكم العقل بلزوم طاعة المولى مترتّب على وجود أوامر شرعية للمولى جلّ وعلا ، فما لم تكن أوامر للمولى جلّ وعلا لا معنى لحكم العقل بلزوم طاعة المولى ، وهكذا الكلام في حكم العقل بحسن الاحتياط ، فإنّ الاحتياط معناه التحفّظ على الاوامر الواقعية ، فما لم تكن أوامر لا معنى لحكم العقل بحسن الاحتياط أي بحسن التحفظ على الاوامر الواقعية ، إذ لا أوامر حتى يدرك العقل حسن التحفظ عليها.

ومن هنا فكلّ حكم عقلي يقع في رتبة متأخرة عن وجود الحكم الشرعي فهو من الاحكام العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، وحينئذ لو وقعت متعلّقا للامر الصادر عن الشارع فهذا الأمر لا بدّ وان يكون إرشاديا.

فلو أمر المولى بالطاعة فهذا الأمر لا يكون إلاّ إرشاديا حتى لا يلزم التسلسل ، إذ ما هو الملزم لطاعة المولى في أمره بالطاعة فإن كان هو أمره باطاعة الأمر بالامر بالطاعة ينسحب السؤال الى هذا الأمر وهكذا يتسلسل ، فيتعين كون الملزم لطاعة المولى هو ما يدركه العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا في أوامره.

ومن هنا أعطى المحقق النائيني رحمه‌الله ضابطة كلية يتميز بواسطتها الأمر الإرشادي عن الأمر المولوي وهي : انّ الحكم العقلي الواقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي يكون الأمر به من قبل الشارع إرشاديا.

إلاّ انّ هذا البيان لم يقبله بعض الأعلام كالسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله وأورد عليه السيد

٣٣٢

الخوئي رحمه‌الله بما حاصله : انّه لا ملازمة بين وقوع الحكم العقلي في سلسلة معلولات الحكم الشرعي وبين تعيّن الأمر به في الإرشادية ، إذ من الممكن ان يكون متعلّق الامر الصادر عن الشارع حكما عقليا واقعا في سلسلة معلولات الحكم الشرعي ويكون الأمر به مولويا بداعي البعث والتحريك كما هو الحال في حكم العقل بحسن الاحتياط فرغم انّه واقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي إلاّ انّه مع ذلك يمكن ان يكون الأمر به مولويا ، وذلك لأنّ مقدار ما يدركه العقل هو حسن الاحتياط وهذا لا يمنع عن ان يأمر الشارع بالاحتياط بنحو الوجوب الشرعي أو الاستحباب تحفّظا على أغراضه التي قد تفوت لو لا أمر الشارع مولويا بالاحتياط فالصحيح انّ ضابطة الأمر الإرشادي هو ما يلزم من افتراض مولويته محذور عقلي كما هو كذلك في الأمر بالطاعة.

القسم الثاني : ان يكون مدلول الأمر حكما من الأحكام الوضعية الشرعية. وهنا أيضا لا يكون الأمر مولويا ، إذ انّ قوام الأمر المولوي هو صدوره عن المولى بداعي البعث والتحريك نحو ايجاد متعلقه ، والأمر الكاشف عن الحكم الوضعي لا يكون كذلك ، إذ انّ الحكم الوضعي مجعول شرعي يعبّر عن اعتبار الشارع شيئا بقطع النظر عن اختيار المكلف ، وذلك مثل الطهارة والنجاسة والصحة والفساد وهكذا.

فلو كان مدلول الأمر حكما وضعيا فحينئذ يكون الأمر إرشاديا ، لانّ متعلّقه لا يكون مطلوبا من المكلف ايجاده ، وهذه هي القرينة على إرشادية الأمر والموجبة لصرفه عن الظهور في المولوية ، فكلّما كان مدلول الأمر مجعولا من المجعولات الشرعية الغير المقتضية لبعث المكلّف فهذا معناه انّ الأمر في موردها إرشادي.

٣٣٣

مثلا : لو قال المولى : « طهر ثوبك من الدم بالماء » فإنّ الأمر بالتطهير ليس مولويا للقطع بعدم وجوب تطهير الثوب ، وهذه القرينة هي التي أوجبت انصراف ظهور الأمر الى الإرشادية وانّ الشارع يعتبر الماء من المطهرات.

ثم انّ هنا قسما آخر من الأوامر يعبّر عنها في بعض الأحيان بالأوامر الإرشادية. وهي الاوامر التي تصدر من الشارع لغرض التنبيه على فائدة طبيّة مثلا ، كما في قول الامام ابي عبد الله عليه‌السلام لموسى بن بكير « كله كبابا » يعني اللحم وكما في قوله عليه‌السلام « كل الرمان بشحمه فإنّه يدبغ المعدة ».

* * *

١٣٦ ـ أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

وهنا احتمالان للمراد من هذه الفرضيّة :

الاحتمال الاول : انّ المراد من انتفاء شرط الأمر هو انتفاء علله أو بعضها. وعلل الأمر هي المعبّر عنها بمبادئ الحكم ، وهي تصوّر الفعل والذي يقع متعلقا للأمر وتصوّر فائدته والمصلحة المترتبة عليه ثم التصديق بها ثم تولّد الشوق والإرادة المتناسبة مع حجم المصلحة والملاك.

فلو كان المراد من انتفاء شرط الأمر هو انتفاء بعض علله لكان حاصل المراد من عنوان البحث هو انّه هل يمكن صدور الأمر من المولى مع علمه بعدم تمامية علله الموجبة لوجوده.

والظاهر انّ المقصود من الإمكان ـ بناء على هذا الاحتمال ـ هو الإمكان الوقوعي ، بمعنى انّه هل يلزم من وقوع الأمر مع العلم بعدم توفره على علة وجوده محال أو لا ، وأما احتمال ان يكون المراد من الإمكان هو الإمكان الذاتي فبعيد جدا ـ كما أفاد صاحب

٣٣٤

الكفاية رحمه‌الله ـ وذلك لوضوح الإمكان الذاتي ، إذ انّ وجود الامر ممكن ذاتا وان لم تكن علة وجوده متحققة ، وذلك مثل الإنسان فإنّه ممكن الوجود ذاتا حتى مع عدم وجود علته التامة ، ومن هنا يتعين المراد من الإمكان وانّه الإمكان الوقوعي.

وكيف كان فاحتمال ان يكون هذا الفرض هو المراد من البحث بعيد جدا كما أفاد ذلك جمع من الأعلام كالسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله ، نعم احتمله صاحب الكفاية رحمه‌الله وذهب الى استحالة أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه لو كان هذا الفرض هو محل النزاع.

وأما منشأ استبعاد ان يكون هذا الفرض هو محل النزاع فهو وضوح استحالة وجود الأمر مع انتفاء علته ، إذ ان وجود الشيء فرع تمامية علته ، فإذا لم يكن هناك تصوّر للأمر ولفائدته كيف يوجد والحال انّه متقوم بذلك.

وبتعبير آخر : إنّ الأمر فعل اختياري للآمر ، وكل فعل اختياري فهو متقوّم بمبادئه والتي هي تصور الفعل وفائدته ثم التصديق بها ثم تولّد الشوق والإرادة المناسبة لحجم الفائدة. ومن المستحيل صدور الأمر بالفعل دون ان يمر عبر هذه السلسلة الذهنية.

الاحتمال الثاني : ان يكون المراد من انتفاء شرط الأمر هو انتفاء بعض مراتبه المقتضية لفعليته لو اتفق تحققها ، فيكون المراد من العنوان ـ بناء على هذا الاحتمال ـ هو انه هل يمكن أمر الآمر بأمر مع علمه بعدم بلوغ الأمر مرتبة الفعلية بسبب فقدانه لما يوجبها.

وهذا الاحتمال ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله وتبنى امكان أمر الآمر مع علمه بعدم بلوغ الأمر مرتبة الفعلية الموجبة لتنجّز الأمر على المكلّف ، بدعوى انّه قد يصدر الأمر من بغير

٣٣٥

داعي البعث والتحريك بل بداعي الامتحان مثلا أو بداعي الكشف عن انّ متعلّق الأمر محبوب في نفسه وواجد لملاك جعله ، وهذا ما تشهد به الأعراف العقلائية.

وقد قبل السيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله ان يكون هذا الاحتمال هو محل النزاع إلاّ انّ التوجيه الذي ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله لإثبات دعوى الإمكان غير مقبول بنظر السيد الخوئي رحمه‌الله ، وذلك لأنّه خروج عن محل البحث ، إذ انّ محل البحث انما هو الأوامر الحقيقية والتي لا تكون إلاّ بداعي البعث ، ومن الواضح انّ الانبعاث إذا لم يكن ممكنا لعدم بلوغ الأمر مرتبة الفعلية فإنّ داعي البعث يكون مستحيلا ، لافتراض علم الآمر بعدم بلوغ الأمر مرتبة الفعلية وذلك لانتفاء شرط الفعلية.

ومن هنا انتهج السيد الخوئي رحمه‌الله وكذلك السيد الصدر رحمه‌الله مع فارق بينهما طريقة اخرى لعلاج المسألة.

فقد أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله ما حاصله : انّه قد يقال بأنّ أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الفعلية مستحيل بالاستحالة الوقوعية ، وذلك لأنّه لغو محض يتنزّه عنه الحكيم جلّ وعلا ، إذ كيف ينشأ أمرا وبداعي البعث والحال انّه يدرك عدم بلوغ الفعل مرتبة الفعلية لانتفاء شرط الفعلية أبدا. إلاّ انّ هذه الدعوى ليست تامة على اطلاقها ، وانّما الصحيح هو التفصيل بين فرضيتين :

الفرضية الاولى : ان يكون عدم تحقق الفعلية للأمر مستندا لنفس الجعل ، بمعنى افتراض ان يعلم المولى بأنّه اذا جعل الحكم فإنّه لن يتحقق موضوعه خارجا وان منشأ عدم التحقق هو نفس الجعل.

مثلا : لو قال المولى : « تجب الكفارة عند الافطار في نهار شهر رمضان » وهو يعلم انّه اذا جعل الحكم

٣٣٦

بوجوب الكفارة بشرط الإفطار فإنّه لن يتحقق الافطار خارجا ـ والذي هو شرط الفعلية ـ بسبب انّ ذلك يوجب الكفارة.

فصار منشأ عدم تحقق فعلية الوجوب للكفارة هو نفس جعل الوجوب للكفارة ، وهذا هو معنى عدم تحقق الفعلية للجعل بسبب نفس الجعل. وهنا لا ريب في امكان مثل هذا الجعل وان علم بعدم تحقق موضوعه ، إذ انّ الغرض من الجعل هو سد باب الوجود للإفطار ـ في المثال ـ وهو غرض عقلائي تشهد له الأعراف السائدة في المجتمعات.

الفرضية الثانية : ان يكون عدم تحقق الفعلية ناشئا من مناشئ اخرى لا تتصل بالجعل كعدم قدرة المكلّف على الامتثال أبدا أو عدم تحقق الموضوع المترتب عليه الحكم أبدا.

وهنا يستحيل صدور الأمر لكونه لغوا محضا يتنزّه عنه الحكيم جلّ وعلا. ومثاله : ان يقول المولى :

للمكلّف « اذا طرت فسبح الله جلّ وعلا » رغم علمه بعدم قدرة المكلّف على الطيران.

* * *

١٣٧ ـ الأمر المولوي

وهو الأمر الصادر عن الشارع بداعي البعث والتحريك ، وبذلك تخرج الأوامر الامتحانية ، إذ انّها لا تكون بداعي البعث والتحريك ، كما انّ الأوامر الإرشادية لا تكون أوامر مولوية حتى وان كان متعلّقها مطلوبا للمولى ، إذ انّ المناط في مولويّة الأمر هو ان يكون صدوره عن المولى بداعي البعث والتحريك لا ان يكون متعلّقه مطلوبا للمولى فحسب حتى وان كان صدوره بداعي البعث مبتليا بمحذور عقلي ، كما هو الحال في الطاعة في قوله تعالى ( أَطِيعُوا اللهَ ) فإنّ متعلّق هذا الأمر وان كان مطلوبا

٣٣٧

للمولى جلّ وعلا إلاّ ان هذا الأمر مع ذلك لم يصدر بداعي البعث والتحريك وانّما صدر بداعي الإرشاد والتنبيه الى ما يدركه العقل من لزوم طاعة المولى ، وذلك لأنّ صدوره بداعي البعث التأسيسي مبتل بمحذور عقلي هو الدور أو التسلسل ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « الأمر الإرشادي ».

* * *

١٣٨ ـ الأمر بالأمر

ومورد البحث هو ما لو أمر المولى مكلّفا بأن يأمر مكلفا آخر بشيء ، فهل يلزم المكلّف الآخر امتثال متعلّق الأمر الثاني بحيث يصبح مسئولا عنه وان لم يأمره المكلّف الاول به.

وبتعبير آخر انّ الأمر بالامر بشيء هل يدل على ان متعلّق الامر الثاني مطلوب من المكلّف الثاني وان المولى قد تعلّقت إرادته بايجاد المكلّف الثاني لمتعلّق الأمر الثاني عينا كما لو كان قد وجّه اليه الأمر مباشرة أو ليس له دلالة على ذلك.

مثلا : قوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) (٢٧) فإنّ المولى في الآية الشريفة قد أمر المكلّف بأن يأمر أهله « المكلف الثاني » بالصلاة « متعلّق الأمر الثاني » ، فهل انّ الأمر بالأمر يدل على مطلوبية المأمور به الثاني من المكلّف الثاني أو ليس له دلالة على ذلك أو انّ الصحيح هو التفصيل؟

وفي المقام احتمالات ثلاثة :

الاحتمال الاول : انّ المأمور به الثاني ليس مطلوبا مطلقا ، فلا يلزم المكلّف الثاني الجري على وفقه.

ومنشأ هذا الاحتمال هو استظهار اختصاص تعلّق إرادة المولى بمتعلّق الأمر الاول ، بمعنى انّ مصب غرض المولى هو ان يمتثل المكلّف الاول الأمر بالأمر ولا غرض له في ان يجري المكلّف الثاني على وفق المأمور به الثاني. وهذا ما قد يتفق في الأوامر

٣٣٨

التمرينية والتي يكون غرض المولى فيها تعليم ابنه مثلا طريقة الأمر والنهي.

الاحتمال الثاني : انّ المأمور به الثاني مطلوب للمولى مطلقا حتى وان لم يمتثل المكلف الاول الأمر بالأمر.

ومنشأ هذا الاحتمال هو استظهار طريقية الأمر الأول للأمر الثاني وانّه ليس للأمر الاول والمكلّف الاول سوى دور الوساطة ، ومن هنا يكون المكلّف الثاني مسئولا عن متعلّق الأمر الثاني حتى لو لم يمتثل المكلف الاول الأمر بالامر إلاّ انّه اتفق ان اطلع المكلف الثاني على تعلّق إرادة المولى بايجاد المأمور به الثاني من طريق آخر ، أي اطلع على الأمر بالأمر من غير طريق المأمور بالأمر.

الاحتمال الثالث : ان تكون مطلوبية المأمور به الثاني معلّقة على امتثال المكلّف الاول للأمر بالأمر ، أما مع عدم امتثال المكلّف الاول الأمر بالأمر فإنّ المكلّف الثاني لا يكون مسئولا عن امتثال المأمور به الثاني ، فيكون لامتثال المكلّف الاول موضوعية بمعنى انّ التكليف بالمكلّف به الثاني قد اخذ في موضوعه امتثال المكلّف الاول الأمر بالأمر.

ومن الثمرات المهمة المترتبة على هذا البحث هو مسألة مشروعية عبادات الصبي ، حيث وردت مجموعة من الروايات تأمر الأب بأمر الصبي بالصلاة والصوم وكذلك الحج.

منها : معتبرة الحلبي « .. فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ». فلو كان المتعين هو الاحتمال الاول فحينئذ لا تكون هذه الروايات صالحة للدلالة على مشروعية عبادات الصبي ، وذلك لافتراض عدم دلالة الأمر بالأمر على مطلوبية متعلّق الأمر الثاني فلا تكون ثمة دلالة للرواية على مطلوبية الصلاة « العبادة » من الصبي ، ومع عدم كونها مطلوبة لا تكون مشروعة من الصبي ،

٣٣٩

إذ انّ مشروعية العبادة فرع مطلوبيتها.

أما لو كان المتعين هو الاحتمال الثاني فإنّ مثل هذه الروايات صالحة للدلالة على مشروعية عبادات الصبي ، بعد افتراض تعيّن الاحتمال الثاني وان متعلق الأمر الثاني مطلوب من المأمور الثاني.

وكذلك لو كان المتعين هو الاحتمال الثالث ، إذ يكون متعلّق الامر الثاني « الصلاة » مطلوبا من الصبي غايته انّ ذلك منوط بامتثال الأب للأمر بالأمر بالصلاة.

* * *

١٣٩ ـ الأمر بعد الأمر

مورد البحث تحت هذا العنوان هو ما لو ورد أمر بشيء ثم ورد بعد ذلك أمر بنفس ذلك الشيء ، فهل انّ تعقّب الامر للأمر يقتضي حمل الأمر الثاني على التأكيد أو انّ الأمر الثاني يبقى على ظهوره في التأسيس كما لو لم يكن مسبوقا بأمر.

ومحل البحث بالإضافة الى وحدة متعلقي الأمرين هو ما لو لم يكن أحدهما مشروطا بشرط دون الآخر ، بأن كان كلا الأمرين مطلقين ، كما لو قال المولى « أقم الصلاة » ثم قال « أقم الصلاة » ، وكذلك يدخل في محل البحث حالة اتحاد الأمرين في الشروط ، بأن يفترض انّ الشروط المعتبرة في الأمر الاول هي عينها المعتبرة في الأمر الثاني.

أما لو كان أحد الأمرين مشروطا بشرط وكان الآخر مطلقا من جهته ، أو كان أحدهما مشروطا بشرط وكان الآخر مشروطا بغيره فإنّ ذلك خارج عن محل البحث.

ثم لا يخفى عليك انّ مورد البحث يشمل حالتي وقوع الأمرين بنحو التعاقب في كلام متصل ووقوعهما في كلامين منفصلين. وكيف كان فالبناء على التأسيس يقتضي البناء على

٣٤٠