المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الاعتبار أيضا لزم التسلسل ، فلا بدّ وأن يكون الاعتبار وجودا حقيقيا من الوجودات الذهنية.

ويمكن تنظير ذلك بالتصوّر فإنّه غير المتصوّر ، فالمتصوّر مثلا هو مفهوم الإنسان وأما التصوّر فهو موجود واقعي حقيقي علاقته مع مفهوم الإنسان علاقة المظروف بظرفه ووعاء وجوده « التصور » هو الذهن ، وهكذا الكلام في الاعتبار فإنّه موجود حقيقي واقعي وعاء وجوده النفس وأما الوجودات الاعتبارية مثل الحرمة والوجوب فهي مظروفة للاعتبار والاعتبار هو وعاؤها وموطنها كما أفاد ذلك السيد الخوئي رحمه‌الله.

والمتحصّل انّ الاعتبار فعل نفساني يعني افتراض شيء لشيء أو افتراض انّ شيئا شيء ، والاول من قبيل جعل الحرمة على موضوع والثاني من قبيل تنزيل الشك منزلة اليقين ، والجامع بينهما هو عنوان الحكم ، فالاعتبار هو الحكم على الشيء وليس المقصود من الحكم هو الإنشاء اللفظي ، إذ ان ذلك هو المبرز للحكم والاعتبار ، وأما الاعتبار والحكم فهو فعل النفس الناشئ عن الإرادة والكراهة.

ولأنّ الاعتبار يعني الحكم والتقنيين فهذا يقتضي لزوم تصوّر الموضوع وتصوّر الحكم وتصوّر النسبة بينهما وتصوّر الفائدة المترتبة على النسبة ثم الإذعان والتصديق بتلك الفائدة وحينئذ ينشأ الحكم والاعتبار.

وليس من اعتبار إلاّ ويمرّ بهذه المراحل الذهنية وان كان اعتباطيا ، ومن هنا لا يلزم ان يكون الاعتبار ناشئا عن ملاكات واقعية أو لا أقل وهمية ـ كما يتفق للمقنن غير المعصوم ـ فالاعتبار ليس أكثر من افتراض يتفق صدوره من كل عاقل ملتفت أيّا كان غرضه ، ولهذا قيل انّ الاعتبار

٣٠١

سهل المئونة.

ثم انّ الاعتبار ليس ملزما ومقتضيا لأن ترتّب آثاره إلاّ ان يكون صادرا عمّن له حقّ الاعتبار سواء كان هذا الحق مدركا بواسطة العقل العملي القطعي والذي هو إدراك العقل لاستحقاق المولى جلّ وعلا للطاعة وترتيب الآثار على معتبراته أو كان هذا الحق ناشئا عن الآراء المحمودة والمتبنيات العقلائية ، وهذا النحو من الاعتبارات هو المعبّر عنه بالاعتبارات العقلائية.

* * *

١٢١ ـ اعتبارات الماهيّة

والمقصود من اعتبارات الماهيّة هو أنحاء لحاظها أو قل الكيفيات التي تلحظ بها الماهية. واختلاف اللحاظ في الماهية يؤول الى تباين الملحوظ دقة ، فالماهية الملحوظة بشرط شيء متباينة مع نفس الماهية الملحوظة بشرط لا ، وحتى الماهيّة اللابشرط المقسمي مباينة لأقسامها ، أي بنحو التباين المفهومي ، إذ انّ مفهوم الماهية اللابشرط المقسمي مباين للماهيّة اللابشرط أو البشرطشيء.

والغرض من عقد هذا البحث هو التعرّف على ما هو الموضوع له اسم الجنس ، بمعنى البحث عن أيّ اللحاظات التي لوحظت معها الماهية حين وضع اسم الجنس لها.

وكيف كان فالماهية قد تلاحظ بما هي هي أي بقطع النظر عن تمام الخصوصيات التي قد تعرضها ، فلا يلحظ معها سوى ذاتها وذاتيتها والذي هو واقعها في نفس الأمر كجنسها وفصلها.

والماهية بهذا اللحاظ يعبّر عنها بالماهية المهملة ، فهي مهملة من تمام الجهات والحيثيّات التي قد تطرأ عليها حتى خصوصية اهمالها لا يكون ملحوظا معها. وحتى خصوصية ان

٣٠٢

اللحاظ في موردها مقتصر على الذات والذاتيات ليس ملحوظا ، ومن هنا لا يحمل عليها شيء سوى ذاتها وذاتياتها ، فيصح ان يقال : الإنسان من حيث هو حيوان ناطق أو ناطق. وهذه هي المعبّر عنها بالكلّي الطبيعي ـ كما أفاد السيد الخوئي رحمه‌الله على خلاف بين الاعلام فصلناه تحت عنوان « الكلّي الطبيعي ».

وقد تلاحظ الماهية بالإضافة الى خصوصية خارجة عن مقام ذاتها وذاتياتها ، وهذا اللحاظ له أقسام :

القسم الاول : ان يكون الملحوظ معها هو عنوان مقسميتها ، أي عنوان انّها مقسم للأقسام الآتية دون لحاظ خصوصية اخرى ، والماهية بهذا اللحاظ يعبّر عنها بالماهية اللابشرط المقسمي ، وهي معقول ثانوي وعاؤه الذهن فحسب.

ومنشأ كونها من المعقولات الثانوية هو انها تنتزع عن المفهوم المنتزع من الخارج ابتداء. فالذهن ينتزع عن الخارج عنوان الرجل المتّصف بالفقر ـ مثلا ـ وعنوان الرجل المتّصف بعدم الفقر ، ثم يكون بامكان الذهن انتزاع مفهوم آخر من هذا المفهوم المنتزع عن الخارج ، هذا المفهوم يعبّر عنه بالمعقول الثانوي ، فالذهن ينتزع عن عنوان الرجل الفقير مفهوم الرجل المتحيّث بقيد الفقير ، وينتزع عن عنوان الرجل غير الفقير مفهوم الرجل المتحيّث بقيد عدم الفقير ، كما يمكنه ان ينتزع عن مفهوم الرجل مفهوم الرجل المجرّد عن التقيّد بالفقر والتقيّد بعدم الفقر ، كما له ان ينتزع مفهوم الرجل الجامع لتمام هذه الأقسام أي الرجل الفقير والرجل غير الفقير والرجل ، وهذه الماهية الملحوظة بما هي جامع هي المعبّر عنها بالماهية اللابشرط المقسمي. ولاستيضاح المراد من المعقول الثانوي راجعه تحت عنوانه.

٣٠٣

القسم الثاني : ان يكون الملحوظ مع الماهية هو صفة التجرّد عن تمام الخصوصيات والحيثيات الخارجة عن ذاتها وذاتياتها ، بمعنى انّها تلحظ مجرّدة عن تمام القيود الوجودية والعدمية ، وهذه هي المعبّر عنها بالماهية المجرّدة والماهية بشرط لا.

والماهية بهذا اللحاظ تكون من قبيل الجنس والفصل والنوع ، وذلك لانّها مفاهيم ليس لها ما بإزاء في الخارج وانّما وعاؤها الذهن فحسب ، ولا يمكن حمل الوجودات الخارجية عليها ، نعم يصح حمل المعقولات الثانوية عليها ، فيقال : الإنسان نوع ، والحيوان جنس ، والناطق فصل.

القسم الثالث : ان يكون الملحوظ مع الماهيّة صفة خارجية ، أي صفة يكون لها تقرّر في عالم الخارج ، وهذا يعني انّ الماهية تلحظ بمالها من وجود خارجي في اطار أفرادها ، وعندها يتحيّث وجودها بالقيد الخارجي المتحيثة به في عالم اللحاظ ، فلا تصدق على غير الوجود المتقيّد بذلك القيد الخارجي. والماهية الملحوظة بهذا النحو من اللحاظ يعبّر عنها بالماهية المخلوطة والماهية بشرط شيء ، وهي على قسمين :

الاول : الماهية الملحوظ معها قيد وجودي مثل ماهية الرجل الملحوظ معه قيد الفقر.

الثاني : الماهية الملحوظ معها قيد عدمي مثل ماهيّة الرجل الملحوظ معه قيد عدم الفقر.

وكلا القسمين يعبّر عنهما بالماهية بشرط شيء ، أي بشرط تحيّثها بالقيد ، ولا يختلف الحال بين كون القيد وجوديا أو عدميا بعد ان كان المراد من البشرطشيء هو شرط الاتّصاف ، وهو صادق في حالات الاتصاف بالقيد الوجودي والاتّصاف بالقيد العدمي. إلاّ انّ الاصوليين ـ كما ذكر السيد الخوئي رحمه‌الله يطلقون على

٣٠٤

الماهية الملحوظ معها القيد العدمي الماهية بشرط لا ، وعلّق على ذلك بأنه اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.

القسم الرابع : ان يكون الملحوظ مع الماهيّة هو خصوصيّة الإطلاق والإرسال ، بمعنى انّها تلحظ مع عدم التقيّد بأيّ قيد وجودي أو عدمي ، فيكون عدم لحاظ القيد مأخوذا في اللحاظ مع الماهيّة.

وبتعبير آخر : تكون الماهيّة ملحوظة مع عدم التقيّد بالقيد وعدم التقيّد بعدم القيد ، كأن نلاحظ ماهيّة الرجل مع عدم التقيّد بشيء مثل عدم التقيّد بالفقر وعدم التقيّد بعدم الفقر. ويعبّر عن هذه الماهيّة بالماهيّة اللابشرط القسمي بحسب ما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله.

هذا تمام الكلام في اعتبارات الماهيّة وسيأتي توضيح أكثر تحت كل عنوان من أنحاء الماهية ، وتحت عنوان الكلّي الطبيعي. إلاّ انّه لا بدّ من الإشارة هنا الى انّ اسم الجنس موضوع لأيّ نحو من أنحاء الماهية.

وقد وقع الخلاف بين الأعلام ، فبعضهم ذهب الى انّه موضوع للماهية المطلقة المعبّر عنها بالماهية اللابشرط القسمي ، ومشهور المحققين ذهبوا الى انّه موضوع للماهية المهملة المعبّر عنها بالماهية اللابشرط القسمي ، ويترتب على هذا الخلاف ، انّه بناء على المبنى الاول يكون الإطلاق في اسماء الأجناس مستفادا بواسطة الوضع ، وعلى المبنى الثاني يكون الإطلاق مستفادا بواسطة قرينة خارجة عما وضع له اسم الجنس ، وهذه القرينة هي المعبّر عنها بقرينة الحكمة.

ومنشأ الحاجة لإثبات الاطلاق الى قرينة خارجة عما وضع له اسم الجنس ـ بناء على المبنى الثاني ـ هو انّ اسم الجنس عند ما يكون موضوعا للماهية المهملة فهذا معناه انه وضع للطبيعة بما هي هي الغير الملحوظ معها

٣٠٥

أي حيثيّة أو خصوصية من الخصوصيات الخارجة عن ذاتها وذاتياتها ، حتى لحاظ اختصاص النظر بالماهيّة لم يكن ملحوظا معها حين وضع اسم الجنس بإزائها ، وهذا معناه انّ الإطلاق لم يكن ملحوظا معها حين الوضع ، ولهذا عند ما يكون المتكلم مريدا للإطلاق من اسم الجنس يلزمه نصب قرينة ولو من قبيل قرينة الحكمة ، كما هو الحال لو كان مريدا للتقييد ، فإنّه لمّا كان اسم الجنس موضوعا للماهيّة المهملة وللطبيعة بما هي يكون التقييد خارجا عمّا وضع له اسم الجنس ، وهذا ما يبرّر الحاجة الى قرينة خارجية.

وقد استدل لصالح المبنى الثاني : بأن اسم الجنس لو كان موضوعا للماهية المطلقة لكان استعماله في المقيّد يستبطن عناية زائدة وهي غير محسوسة بالوجدان ، إذ لا يرى العرف انّ استعمال اسم الجنس في الماهية المقيدة استعمالا مجازيا بل هو استعمال حقيقي بنحو تعدّد الدال والمدلول كما هو الحال في استعمال اسم الجنس في الماهيّة المطلقة ، ففي كلا الحالتين تكون الماهيّة مستعملة في الطبيعة المهملة ويكون التقييد والإطلاق مستفادين من قرائن اخرى خارجة عما وضع له اسم الجنس.

وهذا ما يعبّر عن انّ اسم الجنس موضوع للجامع بين جميع الأقسام المذكورة في انحاء لحاظ الماهيّة ، وحينئذ صح استعمال اسم الجنس في الماهيّة على اختلاف أنحائها ، غايته تكون اللحاظات المضافة الى الماهيّة مستفادة بواسطة قرائن اخرى.

* * *

١٢٢ ـ الاعتبار في الاوضاع اللغوية

والبحث هنا عن نظرية الاعتبار في الوضع ، وهي محاولة لتفسير العلاقة الواقعية المدركة بالوجدان بين اللفظ

٣٠٦

والمعنى ، حيث نجد انّ اللفظ سبب لانخطار المعنى في الذهن ، ومن غير المعقول ان يكون هذا الانخطار قد نشأ جزافا ، فلا بدّ من منشأ سبّب انخلاق هذه العلاقة السببية الواقعية. ومن هنا تصدّت مجموعة من النظريات للكشف عمّا هو السر لهذه العلاقة. ومن هذه النظريات هي نظرية الاعتبار.

واجمال المراد منها هو انّ الواضع يعتبر اللفظ دالا على المعنى ، وهذا الاعتبار يحدث استيثاقا بين اللفظ والمعنى ينشأ عنه انخطار المعنى عند اطلاق اللفظ ، فالسرّ الذى نشأت عنه العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع.

وهذا المقدار لا موقع للخلاف فيه بين أصحاب مسلك الاعتبار وانّما اختلفوا في كيفية الاعتبار الذي نشأت عنه العلاقة ، وهل هو اعتبار اللفظ علامة على المعنى أو هو اعتبار اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى أو انّ الكيفية الاعتبارية هي انّ الواضع جعل اللفظ أداة لتفهيم المعنى. وتشترك هذه الكيفيات الثلاث في انّ المنشأ لحدوث العلاقة هي اعتبار الواضع وانّه لا وجود لها وراء اعتبار الواضع.

وكيف كان فهنا ثلاث نظريات متفرعة عن نظرية الاعتبار :

النظرية الاولى : هي انّ الواضع اعتبر الوضع علامة على المعنى ، فاللفظ ـ بحسب اعتبار الواضع ـ بمثابة العلامة الموضوعة على الطريق للتعبير عن انّه مغلق أو سالك ، غايته انّ الوضع في الثاني حقيقي خارجي والوضع اللغوي اعتباري وإلاّ فكلاهما مشتركان من جهة انّ العلامة وضعت للكشف عن ذي العلامة. ولمزيد من التوضيح راجع مسلك العلامية.

النظرية الثانية : هي انّ الواضع يعتبر اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ،

٣٠٧

فالملقى للمخاطب هو المعنى تنزيلا واعتبارا ، ولهذا يكون لحاظ اللفظ من قبل المتكلم لحاظا آليا ويكون الملحوظ بنحو الاستقلال هو المعنى ، فهو الموجود بالاستعمال واللفظ يكون فانيا فيه فناء العنوان في المعنون.

ويمكن تنظير الوجود التنزيلي للمعنى باللفظ ببعض المعتبرات الشرعية التي نزّل فيها وجود شيء منزلة وجود شيء آخر ، كتنزيل وجود الفقاع منزلة وجود الخمر ، فالخمر وان لم يكن له وجود خارجي عند وجود الفقاع إلاّ انّه موجود تنزيلا وفي عالم الاعتبار ، وكذلك الحال في وجود المعنى باللفظ ، فهو وان لم يكن له وجود في وعاء الخارج عند ما يطلق اللفظ إلاّ انّ له وجود حقيقي في وعاء الاعتبار.

النظرية الثالثة : هي انّ الواضع يعتبر اللفظ أداة لتفهيم المعنى ، وبهذا تصبح علاقة اللفظ بالمعنى علاقة الوسيلة بذي الوسيلة ، فكلّما أراد المتكلّم اخطار المعنى في ذهن المخاطب توسّل باللفظ لتحقيق هذا الغرض ، فكما يتوسل بالمفتاح لفتح القفل كذلك يتوسل باللفظ لإخطار المعنى ، غايته انّ اللفظ وسيلة وأداء اعتبارية بمعنى انّها نشأت عن اعتبار الواضع اللفظ أداة ، وهذا بخلاف المفتاح فانّ صلاحيته لان يتوسل به لفتح القفل ليس منوطا بالاعتبار بل هي ناشئة عن علاقة تكوينية بينه وبين القفل هذه العلاقة هي علاقة الوسيلة بذي الوسيلة.

* * *

١٢٣ ـ إعراض المشهور

والبحث في المقام عن سقوط الحجية عن الخبر المعتبر سندا اذا أعرض عنه المشهور.

وشهرة الإعراض التي وقع البحث عن صلاحيتها لسلب الحجية عن

٣٠٨

الخبر المعتبر سندا هي الشهرة الواقعة بين قدماء الفقهاء القريبين من عصر النص كالصدوقين والشيخ المفيد والسيد المرتضى والحلبي وسلاّر وابن البراج والشيخ الطوسي رحمهم‌الله.

ثم انّ صدق الإعراض منوط باحراز أمرين :

الأمر الاول : هو إحراز اطّلاعهم على الخبر ، وهذا يعني انّه لو وقع الشك في اطلاعهم عليه ـ بحيث احتملنا انّ منشأ عدم العمل بالخبر هو عدم رؤيتهم له ـ فإنّ صدق الإعراض في مثل هذا الفرض غير متحقق ، فيكون هذا الفرض خارجا عن محلّ النزاع.

والوسيلة التي يمكن التعرّف بها على رؤيتهم للخبر هي نقلهم له باسانيده المعتبرة أو وجدانه في المجاميع الروائية المشهورة ، إذ في هذه الحالة يستبعد عدم اطلاعهم عليه رغم حرصهم على التحرّي عن الأخبار المنقولة عن أهل البيت عليهم‌السلام خصوصا المتصل منها بالأحكام.

الأمر الثاني : هو إحراز انّ الإعراض لم ينشأ عن إجمال الخبر أو عدم ظهوره في المعنى الذي يراد الاستدلال به عليه ، أو لم ينشأ عن انّ الخبر بنظرهم كان قد صدر تقية أو انّه معارض بما هو اقوى منه سندا أو دلالة.

ومع احراز الإعراض واحراز انّه لم ينشأ عن أحد المناشئ المذكورة يقع البحث حينئذ عن انّ هذا الإعراض هل هو موجب لانسلاب الحجية عن الخبر رغم سلامة طريقه من الضعف أو انّ هذا الإعراض لا يؤثر في صحة الاعتماد عليه؟.

ذهب المشهور من المتأخرين الى انّ الإعراض سالب للحجية عن الخبر ، وذلك لأنّ مناط ثبوت الحجية للخبر هو الوثوق بصدوره ، وكيف يحصل الوثوق بخبر أعرض عنه

٣٠٩

المشهور من قدماء الاصحاب القريبين من عصر النص والذين هم أعرف العلماء بالحديث وبرجال الحديث ، وهل اخذ الحديث إلاّ منهم ، فهم بحكم قربهم من عصر النص أعرف من غيرهم بما ابتلي به الحديث من الوضع والتدليس.

إلاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله خالف المشهور وذهب الى انّ الإعراض غير قادح في حجية الخبر المعتبر سندا ، وذلك لأنّ أدلة الحجية لخبر الثقة غير قاصرة عن الشمول لهذا الفرض ، وانّ اعراض بعض العلماء وان كانوا الأكثر عن خبر مع عمل آخرين به لا يقدح في صحة الاعتماد عليه بعد تمامية الاطلاق لادلة الحجية ، نعم لو تسالم العلماء على الاعراض فإنّ ذلك يوجب الاطمئنان بوجود خلل في الخبر ، وحينئذ لا يصح التعويل على مثله ، إلاّ ان ذلك خارج عن محل البحث.

* * *

١٢٤ ـ إعراض المشهور عن الظهور

والبحث هنا عن انّ إعراض المشهور عما هو المستظهر من الرواية هل يوجب سقوط الظهور عن الحجية أو لا.

ذهب مشهور المتأخرين الى عدم سقوط الحجية عن الظهور بالاعراض ، وذلك لإطلاق أدلة الحجية الثابتة للظهور ، بمعنى انّ حجية الظهور ليست منوطة بعدم الظن بخلافه ، فلو اقتضت الضوابط اللغوية المقررة عن أهل اللسان ظهورا معينا وكان هذا الظهور متناسبا مع المتفاهم العرفي مع ملاحظة تمام ما يكتنف الرواية من قرائن فإنّ هذا الظهور يكون حجة حتى ولو لم يحصل الظن الشخصي به أو كان الظن الشخصي منافيا لما هو مقتضى ذلك الظهور.

نعم اعراض المشهور يكون بمثابة

٣١٠

القرينة العكسية المزاحمة للقرائن الاخرى الموجبة لظهور معين ، فلو كنا نبحث عما تقتضيه الرواية من ظهور فإنّ إعراض المشهور عن ظهور معين يكون قرينة عكسية في مقابل القرائن الاخرى الموجبة لذلك الظهور المعرض عنه ، وحينئذ نوازن بين تلك القرائن لغرض التعرّف عما هو الحقيق منها بالاتباع.

* * *

١٢٥ ـ الاقتضاء

يستعمل لفظ الاقتضاء في كلمات الاصولين في معنيين :

المعنى الاول : هو الكشف والدلالة.

المعنى الثاني : هو العلّية والمؤثرية.

والتعرف على أيّ المعنيين هو المراد في مورد من الموارد يتم بواسطة ملاحظة المسند اليه الاقتضاء ، فإن اسند الاقتضاء الى لفظ لغرض التعرّف على مدلوله فالاقتضاء حينئذ يكون بمعنى الكشف والدلالة ، وان اسند الى فعل من الافعال أو الى أمر من الامور الواقعية فالاقتضاء حينئذ يكون بمعنى العلّية والمؤثرية.

مثلا : حينما يقال : الامر هل يقتضي المرة أو التكرار ، أو يقال الأمر بعد الأمر هل يقتضي التأسيس أو التأكيد ، والأمر عقيب الحظر أو توهمه هل يقتضي الإباحة أو الوجوب ، فهنا يكون الاقتضاء بمعنى الدلالة ـ أي انّ الامر عقيب الحظر هل يدل على الوجوب أو الإباحة ـ وذلك لأنّ الاقتضاء قد اسند الى لفظ الأمر لغرض التعرّف على دلالته.

وحينما يقال : الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء أو انّ الحرمة في العبادة هل تقتضي الفساد أو انّ الوجوب هل يقتضي حرمة ضده وهكذا ، فإنّ الاقتضاء هنا يكون بمعنى

٣١١

العلية أو المؤثرية ، وذلك لأنّ الاقتضاء لأنّ الاقتضاء اسند الى فعل أو الى أمر من الامور الواقعية وكان الغرض هو البحث عن العلاقة الواقعية بين أمرين.

هذا هو حاصل ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله في بحث الإجزاء وقد استوجهه جمع من الأعلام كالسيد الخوئي رحمه‌الله.

* * *

١٢٦ ـ الأمارة

الأمارة في اللغة هي العلامة ، وهي في المصطلح الاصولي تعني الأدلة الظنية النوعية والتي لها نحو كشف عن الواقع إلاّ انّ هذا الكشف ليس تاما ، بمعنى انّ المطلع عليها لا يصل لمرتبة اليقين والقطع بمطابقة مدلولها للواقع.

وقلنا انّها نوعية لنحترز بها عن الوسائل غير العقلائية والتي قد تورث الظن في حالات محدودة ولعوامل غالبا ما تكون نفسية وغير مطردة عند العقلاء. فهذه الوسائل الشخصية لا يعبّر عنها في المصطلح الاصولي بالأمارة.

ويمكن التمثيل للأمارة بخبر الواحد وبالإجماع المنقول وبالشهرة الفتوائية وبالظهورات العرفية والقياس والاستقراء ، فإنّ كلّ واحد من هذه الأمارات وسيلة من الوسائل الظنية العقلائية والتي لا تعطي الإراءة التامة عن الواقع. ولهذا لا يصحّ التعويل عليها واستكشاف الحكم بواسطتها إلاّ مع قيام الدليل القطعي على حجيتها ودليليتها.

وبهذا يتضح عدم اختصاص الامارة في اصطلاح الاصوليين بالدليل الظني الذي قام الدليل القطعي على حجيته ـ كما قد يتوهم ـ فإنّ الأمارة عندهم تطلق على الأعم من الدليل الظني المعتبر شرعا وغير المعتبر كالقياس والاستقراء. ولهذا

٣١٢

فهم يستعرضون الأمارات واحدة تلو الاخرى للبحث عن صلاحيتها للكشف عن الحكم الشرعي وعدم صلاحيتها لذلك ، فإن قام الدليل القطعي على صلاحية واحد منها للكشف والدليليّة على الحكم الشرعي عبّروا عن تلك الأمارة بالامارة المعتبرة وإلاّ فهي أمارة غير معتبرة ، وما يتراءى من تعبيرات بعض الاصوليين ـ عند التفريق بين الأمارة والاصل ـ من انّ الأمارة هي المعتبرة شرعا فغير مراد جزما حيث انهم يبحثون هناك عما هو المجعول في الأمارة ، وهذا انّما هو بعد الفراغ عن حجيتها ، فهي مرحلة متأخرة عن تحديد معنى الأمارة.

* * *

١٢٧ ـ الامتثال الاحتمالي

المستظهر من عبائر المحقق النائيني رحمه‌الله انّ المراد من الامتثال الاحتمالي هو الامتثال الإجمالي المنتج للقطع بفراغ الذمة عن عهدة التكليف ، الاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله لم يقبل باستعمال لفظ الامتثال الاحتمالي في الامتثال الإجمالي.

وعليه يكون المراد من الامتثال الاحتمالي هو التبعيض في الاحتياط وقد أوضحنا المراد منه تحت عنوان « التبعيض في الاحتياط » ، ومثاله :

ان يأتي المكلّف ببعض أطراف العلم الاجمالي دون البعض الآخر ، وحيث انّ من المحتمل كون المأتي به هو منطبق الجامع المعلوم بالإجمال فعندئذ يكون المكلّف محتملا لامتثال المأمور به واقعا.

وبهذا يتضح انّ الإتيان بالفعل المحتمل وجوبه أو استحبابه برجاء المطلوبية ، أو ترك الفعل المحتمل حرمته أو كراهته برجاء المطلوبية لا يكون من الامتثال الاحتمالي بل هو من الامتثال الاجمالي الذي يحصل معه القطع بفراغ الذمة عن التكليف لو كان

٣١٣

ثابتا واقعا.

ويتّضح أيضا مما ذكرناه انّ الامتثال الإجمالي هو المقابل للامتثال التفصيلي لا المقابل للامتثال اليقيني ، فإنّ الامتثال الاجمالي امتثال يقيني أيضا ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « الامتثال العلمي التفصيلي ».

* * *

١٢٨ ـ الامتثال الظنّي التفصيلي والامتثال الاجمالي

والمراد من الامتثال الظني التفصيلي هو امتثال التكليف الثابت بواسطة الظن المعتبر حيث لا يمكن العلم الوجداني بالتكليف ، وأما الامتثال الإجمالي فهو الإتيان بتمام المحتملات الموجبة للقطع بفراغ الذمة عن التكليف لو كان ثابتا واقعا. فالامتثال الإجمالي هنا لا يختلف عن الامتثال الإجمالي المقابل للامتثال العلمي التفصيلي.

ثم انّ الامتثال الظني التفصيلي على نحوين :

النحو الأول : هو ما يكون الظن فيه بالتكليف من الظنون الخاصة ، كالظن الناشئ عن خبر الثقة بناء على انفتاح باب العلم والعلمي.

والامتثال التفصيلي الظني بهذا النحو من الظنون يجري فيه تمام ما ذكرناه في الامتثال العلمي التفصيلي ، نعم بناء على مبنى المحقق النائيني رحمه‌الله من انّ الامتثال الإجمالي دائما يكون في طول الامتثال التفصيلي يلزم البناء على لزوم تقديم المظنون على المحتمل في مقام الامتثال الإجمالي ، بمعنى انّه لو دار الأمر بين القصر والتمام مثلا وكان مقتضى الظن المعتبر الخاص هو القصر فإنّ المكلّف لو اختار الامتثال الإجمالي فإنّه ملزم بتقديم القصر على التمام.

إلاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله ادعى انّ تقديم المظنون على المحتمل غير لازم

٣١٤

حتى بناء على مبنى المحقق النائيني رحمه‌الله ، وذلك لأنّ الإتيان بالتكليف المظنون بالظن الخاص يكون بداعي الأمر المتوجه للمكلّف بنحو اليقين التعبدي ، بمعنى انّ المكلّف يكون انبعاثه نحو التكليف المظنون عن جزم تعبدي بالتكليف ، وهذا الجزم كما يمكن ان يكون هو الداعي للمكلّف للإتيان بالتكليف المظنون أولا وقبل الإتيان بالتكليف المحتمل كذلك يكون هو الداعي لو جيء به بعد التكليف المحتمل ، فلا فرق بين الحالتين ، وكذلك الكلام في التكليف المحتمل ، فكما يكون الإتيان به بعد التكليف المظنون بداعي احتماله فكذلك يكون الداعي والباعث للإتيان به قبل التكليف المظنون هو داعي احتماله ، فأيّ فرق بين التقديم والتأخير إذا كان كذلك.

النحو الثاني : هو يكون الظن فيه بالتكليف من قبيل الظن المطلق ـ بناء على انسداد باب العلم والعلمي ـ وهو المعبّر عنه بالظن الانسدادي.

وهنا يكون الامتثال الإجمالي صحيحا بلا إشكال فيما لو بنينا على صحة الامتثال الإجمالي حتى على تقدير القدرة على الامتثال التفصيلي العلمي والظني الخاص.

أما لو بنينا هناك على الطولية بين الامتثال التفصيلي والامتثال الإجمالي في ظرف القدرة على الامتثال التفصيلي فإنّه يقع البحث هنا عن وجود خصوصية توجب صحة الامتثال الإجمالي رغم انّ الامتثال التفصيلي الظني ممكن ، أو انّه لا توجد خصوصية في البين توجب التفريق بين الظن الخاص والظن الانسدادي وعليه لا بدّ من البناء هنا أيضا على الطولية بين الامتثال التفصيلي والامتثال الإجمالي.

* * *

٣١٥

١٢٩ ـ الامتثال العلمي التفصيلي والامتثال الإجمالي

ويتحدّد الفرق بينهما بواسطة ملاحظة التكليف ، فتارة يكون التكليف معلوما تفصيلا ومن تمام الجهات وتارة لا يكون كذلك ، وفي الحالة الاولى حينما يمتثل المكلّف التكليف المعلوم يكون امتثاله تفصيليا ، وفي الحالة الثانية ـ أي حينما يكون التكليف مبهما من بعض جهاته ـ لا يمكن امتثال التكليف إلاّ بنحو الامتثال الاجمالي.

والمراد من الامتثال الإجمالي العلمي هو الإتيان بما يوجب القطع بفراغ الذمة عن التكليف ، ولهذا النحو من الامتثال حالتان ، فتارة يكون التكليف دائرا بين أمرين متباينين واخرى لا يكون كذلك.

ففي الحالة الاولى : يكون الامتثال الإجمالي مستوجبا للتكرار ، كما لو دار الوجوب بين القصر والتمام بنحو الشبهة الحكمية أو بين كون القبلة في الشرق أو الغرب وهذه شبهة موضوعية.

وفي الحالة الثانية : يكون الامتثال الإجمالي مستوجبا للإتيان بتمام ما هو محتمل الدخل في التكليف ، كما لو وقع الشك في وجوب السورة في الصلاة أو لزوم مراعاة الاطمئنان في القراءة ، فإنّ الامتثال الإجمالي يقتضي الإتيان بالصلاة مع السورة ومراعاة الاطمئنان.

ثم انّه وقع البحث بين الأعلام عن صحة الامتثال الإجمالي مع القدرة على الامتثال التفصيلي وهل بين الامتثال التفصيلي القطعي والامتثال الإجمالي القطعي طولية أو ان للمكلّف اختيار أيّهما شاء في مقام الامتثال للتكليف.

ولا يخفى عليك انّ المراد من القدرة على الامتثال التفصيلي هو القدرة على

٣١٦

معرفة التكليف تفصيلا ، إذ انّ المكلّف تارة يكون قادرا على الوصول الى الحكم الشرعي بواسطة الفحص عنه في مظانه ، واخرى يكون عاجزا عن الوصول اليه حتى مع الفحص ، وفي الحالة الثانية لا ريب في صحة الامتثال الإجمالي القطعي سواء كان مستوجبا للتكرار أو لم يكن مستوجبا لذلك وسواء كان في التوصليات أو في التعبديات ، وسواء كان التكليف متنجزا على المكلّف كما في موارد العلم الإجمالي أو لم يكن متنجزا كما في الشبهات البدوية بعد الفحص أو قبل الفحص لو لم يكن الفحص نافعا في التعرّف على الحكم الشرعي.

وأما الحالة الاولى ـ وهي التي يكون فيها المكلّف قادرا على الامتثال التفصيلي القطعي وذلك بواسطة الفحص عن الحكم الشرعي ـ فهي التي وقعت محلا للنزاع بين الأعلام إلاّ انّ النزاع يختص بحالات تنجّز الواقع كما في الشبهات الحكمية قبل الفحص وموارد العلم الإجمالي ، هذا فيما لو كان التكليف المراد امتثاله من التعبديات ، وأما التوصليات وكذلك الأحكام الوضعية كالطهارة فالظاهر انها لم تقع محلا للنزاع ، نعم أثار الشيخ الأنصاري رحمه‌الله اشكالا في خصوص العقود والإيقاعات ، وقال ما حاصله :

انّ العقود وكذلك الإيقاعات لما كانت من قبيل الإنشاء والذي يعتبر فيه الجزم والبت فهو لا يناسب الامتثال الإجمالي والاحتياط بتكرار الإنشاء المحتمل اعتباره في تحقق العقد أو الإيقاع ، إذ انّ كل إنشاء حينئذ سوف يكون معلقا على كونه هو المعتبر شرعا.

فحينما يقع الشك في انّ طلاق الكارهة الباذلة هل يكون بصيغة الخلع أو بصيغة الطلاق ، أي هل يلزم المكلف ان ينشأ الإيقاع بصيغة « انت مخلوعة » أو « انت طالق » ، فإنّ

٣١٧

الإتيان بكلّ واحد من الإنشاءين سوف لن يكون بنحو الجزم المعتبر في الإيقاعات ، وذلك لأن المكلّف حينئذ سوف يكون عاجزا عن الجزم بكون الإنشاء الاول هو الموجب شرعا لانتهاء العلقة وكذلك الإنشاء الثاني ، ولذلك يكون الامتثال الإجمالي في العقود والايقاعات داخل في محل النزاع.

* * *

١٣٠ ـ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار

وهي من القواعد العقلية المشتهرة بين علماء الكلام وكذلك علماء الاصول ، وكثيرا ما ترد في كلمات الاصوليين بعنوان « الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ».

وكيف كان فالمراد من القاعدة ـ اجمالا ـ هو انّ الضرورة المستندة الى الاختيار لا تنفي عن متعلّقها صدق اختياريته ، ولهذا لا تقبح معاقبة الواقع تحت سلطانه بعد ان كانت ناشئة عن اختياره.

ومثال ذلك المقدمات التوليدية بالنسبة لذيها ، فذو المقدمة وان كان ضروري الوقوع عند اتفاق وقوع المقدمة التوليدية إلاّ انّ مقدمته لمّا كانت اختيارية فإنّ ذلك يقتضي اختيارية ذي المقدمة ، ومن هنا يصحّ اسناد ذي المقدمة الى فاعل المقدمة التوليدية عن اختيار ، رغم انّ ذا المقدمة خارج عن الاختيار.

وحتى يتجلّى المراد من القاعدة نقول : انّ مورد البحث عنها في علم الكلام يختلف عن مورد البحث عنها في علم الاصول ، ومنشأ الاختلاف هو انّ الغرض من بحثها في علم الكلام هو الاستفادة منها للرد على شبهة الأشعري فيما هو واقع الأفعال الصادرة عن العباد ، حيث انّ مبنى الأشعري في ذلك هو الجبر.

٣١٨

وأما الغرض من بحثها في علم الاصول فهو التعرّف على ما هو حكم الأفعال الاضطرارية الناشئة عن مقدمات اختيارية ، وهل تسقط المسئولية عنها بعد ان كانت ثابتة لو لا الاضطرار. ولهذا يبحث عن هذه القاعدة عادة في موردين : الاول : في بحث اجتماع الأمر والنهي ، والمورد الثاني في بحث المقدمات المفوتة.

وقبل بيان المراد من القاعدة في علم الأصول لا بأس بالإشارة الى المراد منها في علم الكلام فنقول :

انّ الأشاعرة في مقام الانتصار لمذهبهم ادعوا انّ الأفعال لا تخلو عن ان تكون ضرورية الوقوع أو ضرورية العدم ، فليس ثمة فعل إلاّ وهو كذلك ، بمعنى انّه لا يوجد فعل ممكن الوجود فهو إمّا واجب أو ممتنع ، فهو واجب الوقوع لو كانت علته تامة ، وهو ممتنع الوقوع مع عدم علته أو كانت علته ناقصة ، واذا تمّ ذلك فكلّ فعل يصدر عن الإنسان فهو ضروري الوقوع ، إذ لو لم يكن كذلك لم يقع فالشيء ما لم يجب لا يوجد ، وما هو ضروري الوقوع لا يمكن ان يكون اختياريا ، إذ انّ اختياريته تنافي ضرورة وقوعه.

هذا هو حاصل الشبهة المثارة من الأشعري لغرض الانتصار لمذهبه.

وقد أجاب عن هذه الشبهة الخواجة نصير الدين الطوسي وكذلك العلامة الحلّي رحمهما الله بقولهم انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ومرادهم من الامتناع هو الامتناع بالغير ، بمعنى انّ وجوب الوجود للفعل إذا كان ناشئا عن اختيار المكلّف فإنّ ذلك لا يسلب الاختيارية عن الفعل ، فنحن وان كنا نسلّم بأن الوقوع لم يكن ليحصل لو لا وجوبه وضرورته إلاّ انّ هذه الضرورة ليست ذاتية للفعل ، بمعنى انّ ضرورة الوقوع لم تكن ناشئة عن مقام الذات للفعل وانّما كانت

٣١٩

ناشئة عن علته التامة ، فهي ضرورية ولكن بالغير ، وعندئذ يقع البحث عن منشأ الضرورة فإذا كانت ناشئة عن مقدمات وكانت بعض هذه المقدمات هي إرادة واختيار الفاعل فإنّ الفعل المترتّب عليها يكون اختياريا ، إذ انّ الفاعل كان قادرا على عدم ايقاع الفعل بواسطة عدم ايجاد علّته ومن الواضح انّ القدرة على ترك الفعل بواسطة ترك علته معناه اختيارية الفعل ، إذ انّ الفعل الاختياري هو الفعل الذي يكون للمكلّف فعله وتركه ولو بواسطة ايجاد علته الاختيارية أو اعدامها.

وبهذا يتضح انّ المراد من الامتناع هو الامتناع بالغير والذي هو ضرورة الوجود أو ضرورة العدم الناشئة عن غير مقام الذات لمتعلّق الضرورة ، وذلك في مقابل الضرورة الذاتية أي الناشئة عن مقام الذات لمتعلقها كاقتضاء ذات الباري جلّ وعلا للوجود ، فالوجوب الثابت لذاته تعالى ناشئ عن مقام ذاته « جلّت أسماؤه » ، وهكذا ضرورة العدم الثابتة لشريك الباري فإنها ناشئة أيضا عن مقام الذات لشريك الباري ، فيكون حاصل المراد من القاعدة هو انّ الضرورة المستندة الى اختيار علتها يقتضي اختيارية ذي الضرورة.

وأمّا المراد من القاعدة في كلمات الاصوليين فالظاهر انّه لا يختلف عما هو المراد منها في علم الكلام ، إلاّ انّ السيد الخوئي رحمه‌الله في المحاضرات ذكر انّ المراد من الامتناع في القاعدة هو الامتناع الوقوعي ، وذكر في الدراسات انّ المراد من الامتناع هو الامتناع الحقيقي.

والظاهر انّ مقصوده من الامتناع الوقوعي هو ضرورة وقوع الفعل عند ايجاد مقدماته الاختيارية التوليدية ، وهذا بخلاف ما هو المراد من الامتناع عند المتكلّمين حيث انّ مقصودهم منه

٣٢٠