المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الإمامية « أعزّهم الله » في العصر الحاضر وهو كذلك على امتداد تاريخ الفقه الإمامي ، غايته انّ تبلور هذه الصياغة لم يكن بهذا الشكل إلاّ انّ ما عليه العمل في مقام استنباط الحكم الشرعي من أدلته هو ما عليه العمل فعلا ، فهم يبدءون بالبحث عن الأدلة القطعية ثم الأدلة الظنيّة المعتبرة والتي قام الدليل القطعي على حجيتها ودليليتها ومع عدم العثور على نحو من أحدهما يلجئون الى الأصل العملي ، والتي هي وسيلة علمية أيضا ـ لقيام الدليل القطعي على دليليتها ـ غايته انّها تحدد الحكم الشرعي الظاهري بخلاف الأدلة المحرزة فإنّها تكشف عن الحكم الشرعي الواقعي.

وهذا يتضح بالتأمل السريع في منهجيتهم المتبعة في مقام استنباط الأحكام الشرعية ، وبهذا يمتاز الفقه الإمامي عن الفقه السنّي حيث انّهم يلجئون عند فقدان الدليل القطعي أو الذي قام الدليل القطعي على حجيته ـ كالسنة الثابتة بخبر الثقة ـ الى الظنون والاعتبارات الذوقية مثل الاستحسان وقياس مستنبط العلة حيث يعولون في استنباطها على التخمين والحدس كما لا يخفى على كل من لاحظ منهجيتهم في الاستنباط.

ومن المناسب تقرير ما أفاده السيد الصدر رحمه‌الله في مقام استعراض المراحل التاريخية التي مرّ بها الأصل العملي الى ان بلغ هذه المرحلة التي هو عليها فعلا.

وستلاحظون انّ الاصل العملي في تمام مراحله التاريخية ظل محتفظا بركنيه الأساسيين :

الاول : انّه وسيلة علميّة تتحدد بواسطته الوظيفة العملية المقرّرة على المكلّف من قبل الشارع.

الثاني : انّ موقعه في المنهجية المتبعة في استنباط الحكم الشرعي موقع المرجع والملجأ عند فقدان

٢٦١

الدليل الكاشف عن الحكم الواقعي أو ما ينتج نتيجة الفقدان كاجمال الدليل او ابتلاؤه بالمعارض.

فالسيد المرتضى علم الهدي والشيخ ابن ادريس الحلّي رحمهما الله أفادا بأنّ المصادر المعتمدة عندنا في الاستنباط للحكم الشرعي هي الأدلة المنتجة للعلم فحسب ، فلا يصح التعويل على الظنون والاعتبارات الذوقية المؤطرة بالقياس والاستحسان ، وهذه الأدلة العلمية هي الكتاب المجيد والسنة الشريفة والإجماع المحصّل والعقل المنتج للقطع.

ثم طبقا الدليل العقلي على مثل البراءة والمقصود منها البراءة العقلية المعبّر عنها عندهم بالبراءة الأصلية ، فهم يدرجون الاصل العملي في اطار الدليل العقلي. ثم لمّا تطوّر البحث الاصولي عند الإمامية أرجعوا البراءة العقلية الى الاستصحاب ، ويقصدون من الاستصحاب الذي ترجع اليه البراءة العقلية هو استصحاب حال العقل ، بمعنى استصحاب ما يدركه العقل من براءة ذمة المكلّف عن التكليف الواقعي غير المعلوم ، واستدلّوا على البراءة العقلية بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق ، إذ انّ التكليف بغير المعلوم تكليف بما هو خارج عن القدرة فهو قبيح عقلا ، وهذا ما ينتج براءة الذمة عن التكليف غير المعلوم ، وهذا هو المستظهر من عبائر المحقق الحلّي رحمه‌الله.

« ولمزيد من التوضيح راجع استصحاب حال العقل ».

ثم في مرحلة متأخرة عن هذه المرحلة استدلّ على البراءة ـ كما في المعتبر للمحقق الحلّي والدروس للشهيد الاول رحمهما الله ـ بقاعدة « انّ عدم الدليل دليل العدم » وذلك انّ الفقيه إذا استفرغ الوسع في بحثه عن الأدلة المحرزة للحكم الشرعي فلم يجد فيها ما يثبت أو ينفي الحكم الشرعي المعين

٢٦٢

فهذا ما ينقح عدم الدليل وهو دليل العدم.

والمراد من أنّه دليل العدم هو انّه دليل على عدم مسئولية المكلّف عن التكليف الواقعي الثابت في نفس الأمر وهو معنى آخر للبراءة العقلية والتي هي حكم ظاهري مجعول في ظرف الجهل بالحكم الواقعي ، وليس المراد من دليل العدم هو عدم وجود حكم شرعي في الواقع ، إذ انّ ذلك مناف لما عليه الإمامية قاطبة من البناء على انّه ما من واقعة إلاّ ولها حكم واقعي يصيبه المجتهد أو يخطأه.

وكيف كان فهذا التعبير يوضح انّ البراءة عندهم من الأدلة العقلية القطعيّة إلاّ انّ موضوعها الذي يترتّب عليه جريانها هو عدم وجدان الدليل المحرز للحكم الواقعي.

ثم في مرحلة متأخرة عن المرحلة الآنفة الذكر صنفت البراءة وكذلك الاستصحاب في الامارات الظنية التي قام الدليل القطعي على حجيتها ، وتميز في هذه المرحلة الاستصحاب عن البراءة ، وهذا ما يتضح بملاحظة عبائر صاحب المعالم رحمه‌الله حيث صرّح بأنّ أصالة البراءة من الأدلة الظنية ، ومقصوده التي قام الدليل القطعي على حجيتها.

ثمّ انّ المرحلة التي تلت صاحب المعالم والشيخ البهائي رحمهما الله تبلور فيها الاصل العملي بشكل أكثر مما عليه قبل هذه المرحلة وان الاصل العملي لا يعدو عن كونه وظيفة عملية. ولعلّ أول من تنبّه لذلك ـ كما أفاد الشيخ الانصاري رحمه‌الله ـ هو صاحب شرح الوافية وهو السيد جمال الدين رحمه‌الله.

ثم انّ مفهوم الاصل العملي أخذ في التبلور بشكل أدق وشبه متكامل في عصر الشيخ الوحيد البهبهاني رحمه‌الله حيث بلغ علم الاصول عموما في عصره مستوى ناضجا جدا ، وكان من رواد مدرسة الوحيد البهبهاني رحمه‌الله

٢٦٣

صاحب الحاشية الكبرى على المعالم الشيخ محمد تقي رحمه‌الله ، وقد ساهم هذا العالم الجليل في تنضيج المفهوم من الأصل العملي. ثم بلغ الاصل العملي غايته في الدقة على يد الشيخ الانصاري رحمه‌الله.

والبحث عن أقسام الاصل العملي أوضحناه تحت عنوان « الاصول العملية ».

* * *

٩٨ ـ الأصل المثبت

والبحث في الاصل المثبت عن ترتّب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية للمستصحب بواسطة الاستصحاب ، بمعنى انّ الاستصحاب هل يقتضي التعبّد بوجود اللوازم العقلية للمستصحب ، وعندئذ لو كانت لهذه اللوازم آثار شرعية يكون الاستصحاب مقتضيا لتنجزها أو انّ أدلة الاستصحاب قاصرة عن إثبات هذا المقدار وان أقصى ما تقتضيه الأدلة هو التعبّد ببقاء المستصحب ، وعندئذ تثبت الاحكام المجعولة للمستصحب أو الآثار الشرعية للمستصحب والتي هي موضوعات لاحكام شرعية اخرى.

وبيان ذلك : انّ الآثار الشرعية قد ترتب على نفس المستصحب ـ وهو المشكوك الذي له حالة سابقة متيقنة ـ وقد تكون الآثار الشرعية مترتبة على اللوازم الشرعية للمستصحب ، وهناك حالة ثالثة تكون الآثار الشرعية مترتبة على اللوازم العقلية أو العادية للمستصحب.

ومثال الصورة الاولى : اطلاق الماء فإنّ الأثر الشرعي المترتّب عليه هو صحة الاغتسال به وهو أثر شرعي لنفس الماء المطلق ، وحينئذ لو وقع الشك في انتفاء الإطلاق عن الماء فإنّ استصحاب الاطلاق مصححا لترتب الاثر الشرعي المذكور.

٢٦٤

ومثال الصورة الثانية : هو انّ صحة الاغتسال ـ والذي هو أثر شرعي لإطلاق الماء ـ موضوع لحكم شرعي آخر وهو جواز الدخول في الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن الكريم.

فهذه الاحكام جميعا لوازم شرعية لأثر المستصحب الشرعي والذي هو صحة الاغتسال ، والتعبّد ببقاء المستصحب تعبّد بثبوت لوازم آثاره الشرعية كما انّ التعبّد ببقائه مقتض للتعبّد بالاحكام المترتبة عليه ابتداء. وهذا المقدار لا إشكال فيه.

ومثال الصورة الثالثة : ما لو كان وجوب الصدقة مترتبا على العجز عن التكسب. فهنا نقول : لو كنا نعلم بوجود زيد قبل خمسين سنة ثم شككنا في بقائه على قيد الحياة ، وعندئذ لو استصحبنا حياته لكان الاستصحاب مقتضيا للتعبد ببقاء زيد الى هذه المدة ، وبقاء زيد الى هذه المدة يستلزم عادة عجزه عن التكسب ، فالعجز عن التكسب من اللوازم العادية للمستصحب ، فلو كان التعبّد ببقاء المستصحب تعبّدا بوجود اللوازم العادية فهذا معناه إحراز العجز عن التكسب بواسطة الاستصحاب وبذلك يتنقح موضوع الأثر الشرعي ، حيث افترضنا انّ موضوع وجوب الصدقة هو العجز عن التكسب وهو قد ثبت بواسطة التعبّد ببقاء زيد الى هذه المدة أي التعبّد بالملزوم.

فلو كان التعبّد بالملزوم تعبدا بلوازمه العادية والعقلية لكان معنى ذلك هو ترتّب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العادية والعقلية ، وهذا هو معنى حجية الأصل المثبت والتي هي محل النزاع ، فالمراد من المثبت هو اللازم العقلي أو العادي للمستصحب ، والمراد من الأصل في المقام هو الاستصحاب والذي يقتضي التعبد ببقاء المستصحب في ظرف الشك.

ثم انّ هنا أمر لا بدّ من التنبيه عليه

٢٦٥

ليتحرّر محل النزاع بشكل تام وهو انّ اللازم العقلي والعادي للمستصحب والذي نبحث عن صلاحية الاستصحاب للتعبّد بوجوده هو لازم المستصحب في مرحلة البقاء فحسب ، لا مرحلة البقاء والحدوث ، إذ لو كان لازم المستصحب لازما له في مرحلة الحدوث لكان معنى ذلك انّ للازم حالة سابقة متيقنة ، وعندئذ يمكن استصحابه بنفسه ، وبذلك تترتب آثاره الشرعية ، إذ انّها حينئذ تصبح آثارا للمستصحب نفسه بعد افتراض انّ المستصحب هو نفس اللازم.

مثلا لو كنا نعلم بوجود زيد وانّه عاجز عن التكسب ثم شككنا في بقاء زيد وبقاء عجزه عن التكسب فإن بالإمكان استصحاب العجز الى ظرف الشك وعندها يترتب الأثر الشرعي على العجز وهو وجوب التصدّق.

فالمتحصل : انّ محل البحث هو ما لو كان لازم المستصحب لازما له في مرحلة البقاء ولم يكن لازما له في مرحلة الحدوث ، كما هو المفترض في المثال الاول حيث لم يكن زيد قبل خمسين عاجزا عن التكسب إلاّ انّ بقاءه الى هذه المدة يستلزم العجز.

وباتضاح ذلك نقول : انّ المعروف بين المحققين هو عدم حجية الأصل المثبت وانّ أدلة الاستصحاب قاصرة عن الشمول للتعبّد بلوازم المستصحب العقليّة.

* * *

٩٩ ـ الأصل الموضوعي

وهو الأصل النافي لموضوع أصل آخر ، وهذا هو المنشأ للتعبير عنه بالاصل الموضوعي ، إذ انّه يمنع عن جريان الأصل الآخر بواسطة إلغاء موضوعه ـ ويعبّر عن الأصل الموضوعي بالأصل السببي وذلك لأنّه يكون سببا في انتفاء موضوع الأصل الآخر.

٢٦٦

ثم انّ الأصل الموضوعي لا يختص بالشبهات الموضوعية ، بمعنى انه قد يكون مجراه شبهة موضوعية وقد يكون مجراه شبهة حكمية ، فالمناط في كون الأصل موضوعيا هو ان يكون نافيا لموضوع أصل آخر حتى وان كان هذا الأصل النافي جاريا في الشبهات الحكمية.

وبيان ذلك :

حينما يقع الشك في خمرية مائع فإنّ أصالة الحلّ قاضية بحليته. إلاّ انّه لو اتّفق ان كان هذا المائع مسبوقا باليقين بالخمرية فعندئذ يكون استصحاب بقائه على الخمرية نافيا لموضوع أصالة الحل إذ انّ موضوعها الشك في خمرية المائع وبالاستصحاب ينتفي الشك في الخمرية ويكون هذا المائع خمرا تعبدا فلا مجال لجريان أصالة الحل بعد ان ألغى الاستصحاب موضوعها.

وتلاحظون انّ هذا الاستصحاب موضوعي وذلك لأن الشبهة في المثال موضوعية ، وقد تكون الشبهة حكمية.

ومثاله : ما لو وقع الشك في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فإنّ مقتضى أصالة البراءة هو عدم الوجوب إلاّ انّه لو كان الشك في الوجوب مسبوقا باليقين به فإنّ استصحاب وجوب صلاة الجمعة ينفي موضوع أصالة البراءة وهو الشك في الوجوب ، إذ لا شك حينئذ بعد استصحاب الوجوب فلا مجال لجريان أصالة البراءة عن الوجوب.

فأصالة الاستصحاب في المثال منعت من جريان أصالة البراءة بواسطة نفي موضوعها ، وبهذا تحدّد المراد من الأصل الموضوعي وانّه الاصل الجاري في رتبة موضوع الأصل الآخر والموجب لارتفاعه وإلغائه ويترتب على ذلك عدم جريانه.

٢٦٧

ولمزيد من التوضيح راجع « الاستصحاب السببي والمسببي ».

* * *

١٠٠ ـ الاصول العمليّة

والتي هي ـ كما ذكرنا تحت عنوان الأصل العملي ـ عبارة عن الوظائف العمليّة المؤمنة أو المنجّزة التي يلجأ اليها عند فقدان الدليل المحرز الأعم من القطعي أو الظني المعتبر.

والاصول العملية هي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب ، وهي ـ كما ذكر جمع من الأعلام ـ منحصرة في هذه الاصول الاربعة إلاّ انّ هذا الحصر استقرائي. وهذا يعني إمكان وجود اصل عمليّ آخر غير الذي ذكرنا إلاّ انّه بعد البحث في الأدلة لم يعثر على ما يصلح لإثبات أصل آخر غير هذه الاصول الأربعة.

إلاّ انّهم ذكروا إنّ الحصر بلحاظ الموارد عقلي ، بمعنى انّ ملاحظة الموارد التي تقع متعلّقا للشك من جهة الحكم الواقعي يتضح انّه ما من مورد إلاّ وهو مجرى لأحد هذه الأصول الأربعة.

فالشك تارة يقع في الحكم الشرعي وتكون لمورد الشك حالة سابقة متيقنة ومعتبرة بنظر الشارع ، وتارة لا تكون له حالة سابقة أو تكون إلاّ انّها غير معتبرة شرعا.

فالفرض الاول مجرى لأصالة الاستصحاب أي استصحاب الحالة السابقة والبناء على بقائها ، والفرض الثاني وهي حالة الشك الغير المسبوق باليقين أو المسبوق باليقين إلاّ انّ الشارع لم يرتّب على بقائه أثرا هذا الفرض تارة يكون الشك معه شكا في أصل التكليف كالشك في وجود الحرمة أو الوجوب ، وتارة يكون الشك معه شكا في المكلّف به كالشك في امتثال التكليف مع العلم باشتغال الذمة به.

والاول وهو الشك في التكليف

٢٦٨

مجرى لأصالة البراءة ، والثاني وهو الشك في المكلف به له صورتان ، فتارة يكون المكلّف به مما يمكن الاحتياط في مورده كما لو علم المكلف باشتغال ذمته بقضاء صلاة فائتة إلاّ انه شك في ماهية هذه الصلاة وهل هي صلاة المغرب أو صلاة العشاء ، وفي هذه الحالة يكون المجرى أصالة الاحتياط.

والصورة الثانية يكون الشك في المكلّف به مما لا يمكن الاحتياط في مورده ، كما لو علم المكلف بجامع التكليف الإلزامي في مورد من الموارد ولم يدر انّه الوجوب أو الحرمة ، فهنا لا يمكن الاحتياط ، لانه إن جاء بالفعل المشكوك فقد يكون ما فعله محرما وان تركه فقد يكون ما تركه واجبا ، وهذا ما يعبّر عنه بدوران الأمر بين المحذورين ، والجاري في هذه الصورة هو أصالة التخيير.

وتلاحظون انّ حالات الشك في الحكم الشرعي الواقعي لا تعدو هذه الموارد ، وتمام هذه الموارد مجرى لأحد الاصول الأربعة.

وذكر السيد الصدر رحمه‌الله انّ المنشأ لانحصار الاصول العملية في الاربعة المذكورة يتضح بملاحظة المراحل التاريخية التي مرّ بها الأصل العملي الى ان بلغ هذه المرحلة من النضوج والتبلور.

فقد كان الأصل العملي في مراحله الاولى مصنّفا ضمن الدليل العقلي حتى انّك تجد انّهم لم يستدلّوا على حجية الاستصحاب بالأخبار بل كان دليلهم عليه هو العقل. فهم حينما ذكروا انّ الاصول العملية هي هذه الأربعة لأنّ العقل بنظرهم يستقلّ بإدراك البراءة العقلية في مورد وبالاحتياط العقلي في مورد ثان وبالتخيير العقلي في مورد ثالث وبالاستصحاب في مورد رابع.

وأما مثل أصالة الطهارة فلا يحور العقل في إدراكها ، ولهذا لم تذكر في ضمن الاصول العملية ، إذ لو كانت من

٢٦٩

الاصول العملية بنظرهم فهي ليست من الاصول العملية العقلية ، ثم انّ هذا التصنيف بقي سائدا حتى في مدرسة الوحيد البهبهاني رحمه‌الله حيث تصنّف هذه الاصول ضمن الدليل العقلي رغم انّ الأصل العملي في هذه المرحلة قد تميّز عن الأمارة وتبلور مفهومه بشكل شبه متكامل.

والذي صنّف الاصول العملية بالصورة التي هي عليه الآن هو الشيخ الانصاري رحمه‌الله إلاّ انّه اقتصر على بحث هذه الاصول الأربعة تبعا لطريقة المتقدمين من الاصوليين ، فلم يكن من منشأ في انحصار الاصول العملية في هذه الأربعة سوى توهم القدماء من الاصوليين. وانّ الاصول العملية من الادلة العقلية ، وحيث انّ العقل لا يدرك سوى هذه الاصول الاربعة ، فهي إذن منحصرة فيهم. إلاّ انّه بعد تبلور المفهوم من الأصل العملي لا يكون ثمة مبرر يقتضي الانحصار.

* * *

١٠١ ـ الاصول العملية التنزيليّة

المراد من الاصول العملية التنزيليّة ـ كما أفاد السيد الصدر رحمه‌الله ـ هي ما كان لسان دليليها معبّرا عن تنزيل الأصل أو قل الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي ، فالشارع في مورد الاصول العملية التنزيليّة لاحظ الحكم الواقعي ونزّل الحكم الظاهري منزلته.

ويمكن التمثيل لهذا النحو من الاصول بأصالة الطهارة وأصالة الحل ، حيث انّ لسان جعلهما يعبّر عن تنزيل مشكوك الطهارة ومشكوك الحليّة منزلة الطهارة الواقعية والحليّة الواقعية.

هذا ما أفاده السيد الصدر رحمه‌الله في الحلقة الثالثة إلاّ انّه في مباحث الاصول فسّر الاصول العمليّة التنزيليّة بما يناسب الاصول المحرزة

٢٧٠

بالنحو الذي شرحناه تحت عنوانها.

ثم انّ الظاهر من عبائر المحقق النائيني رحمه‌الله انّ الاصول التنزيلية هي الاصول المحرزة ـ بالمعنى الذي شرحناه تحت عنوانها ـ كما انّ المستظهر من عبائر السيد الخوئي رحمه‌الله انّ الاصول العملية المحرزة هي الاصول العملية التنزيلية وانهما اصطلاحان لمعنى واحد.

إلاّ انّه قد ذكرنا هناك ـ تبعا للسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله ـ انّ الأصل المحرز هو ما يكون لسان دليلية معبّرا عن تنزيل مورد الاصل منزلة اليقين إلاّ انّ المحقق النائيني رحمه‌الله ذكر في الفوائد انّ الاصول التنزيلية متكفلة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع بلحاظ الجري العملي ، ومثل لذلك بالاستصحاب وقاعدة التجاوز وأصالة الصحة.

إلاّ انّ مراده كما هو المستظهر من عبائره هو انّ الاصول التنزيلية متكفلة لتنزيل مؤداها منزلة العلم ولكن من جهة البناء العملي لا من جهة الكاشفية كما أوضحنا ذلك ، تحت عنوان « الاصول العملية المحرزة ».

* * *

١٠٢ ـ الاصول العملية الشرعية

وهي الوظائف العملية المقررة من قبل الشارع ، والتي جعلها الشارع مرجعا ومآلا في ظرف الشك وعدم العثور في الأدلة المحرزة على ما ينفي الشك ، وهي مثل أصالة البراءة الشرعية والاستصحاب وأصالة الاحتياط الشرعي على مبنى الاخباريين وأصالة الطهارة على بعض المباني.

ومنشأ وصفها بالشرعية هو انّ التعرّف عليها تم بواسطة الأدلة الشرعية « الكتاب والسنة » وذلك في مقابل الاصول العملية العقلية والتي هي من مدركات العقل العملي.

* * *

٢٧١

١٠٣ ـ الاصول العملية العقلية

وهي الاصول العملية التي يستقل العقل بإدراكها. أو قل : هي الوظائف العملية المدركة بواسطة العقل العملي ، إذ انّ العقل لمّا كان يدرك استحقاق المولى جلّ وعلا للطاعة على عباده يدرك أيضا سعة هذا الحق وحدوده.

فالبراءة العقلية ـ مثلا ـ منشؤها إدراك العقل ضيق هذا الحق عن الشمول للتكاليف غير المعلومة وانّ حق الطاعة للمولى جلّ وعلا انّما هو مختص بالتكاليف المعلومة فحسب ، إذ انّ العقل يدرك قبح مؤاخذة العبد على التكاليف الواقعية المجهولة.

وأما البناء على انّ حق الطاعة يتسع ليشمل التكاليف الواقعية المظنونة والمحتملة فهذا يستوجب البناء على أصالة الاشتغال العقلي وان المكلّف مسئول تجاه المولى جلّ وعلا عن أيّ تكليف مظنون أو محتمل إلاّ ان يرخص المولى جلّ وعلا في ترك هذه التكاليف المظنونة أو المحتملة.

وأما أصالة الاشتغال « الاحتياط العقلي » في موارد العلم الإجمالي فمنشؤها إدراك العقل لسعة حق الطاعة لمطلق التكاليف المعلومة أي سواء كانت معلومة بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، أو انّ منشأها إدراك العقل لحرمة المخالفة القطعية ـ بتقريب مذكور في محله ـ وهو يرجع الى دعوى انّما يدركه العقل من حدود حق الطاعة لا يقتضي أكثر من لزوم عدم مخالفة التكليف المعلوم اجمالا بنحو قطعي.

وأما أصالة التخيير العقلي فمنشؤها إدراك العقل لضيق هذا الحق عن الشمول للتكليف الواقعي غير المقدور على إحراز امتثاله ، وذلك لدوران الأمر بين المحذورين.

والمتحصل مما ذكرناه انّ مرجع الاصول العملية العقلية هو ما يدركه

٢٧٢

العقل من حدود حق الطاعة للمولى جلّ وعلا. كما يتضح مما ذكرناه انّ الاصول العملية العقلية تقع في طول الاصول العمليّة الشرعية أو تكون في بعض الحالات مؤكّدة للأصل العملي الشرعي لاتحاد موضوعيهما.

والمراد من وقوع الاصول العملية العقلية في طول الاصول العملية الشرعية هو انّ الاصول العملية العقلية لا تجري في موارد جريان الاصول العملية الشرعية ، وذلك لانتفاء موضوعها في موارد جريان الاصل العملي الشرعي.

مثلا : التكليف المشكوك إذا كانت له حالة سابقة متيقنة مجرى لاصالة البراءة العقلية لو لا جعل الاستصحاب في هذا المورد وذلك لأنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم العلم بالتكليف بقطع النظر عن انّ له حالة سابقة متيقنة لو لم يكن كذلك إلاّ انه وباعتبار ان جعل الاستصحاب يقتضي التعبّد ببقاء المستصحب فإنّ موضوع البراءة العقلية ينتفي حينئذ.

وهكذا لو كان البناء هو جريان أصالة الاشتغال العقلي في الشبهات البدويّة واتفق ان وقع الشك في وجوب شيء ، فإنّ ما يقتضيه الأصل العملي العقلي هو الاشتغال إلاّ انّه اذ لم يكن ثمة مانع عن جريان البراءة الشرعية فإنّ أصالة الاشتغال العقلي لا تجري وذلك لانتفاء موضوعها. بعد افتراض انّ جريانها معلّق على عدم الترخيص الشرعي.

* * *

١٠٤ ـ الاصول العملية المحرزة

وهي من أقسام الاصول العملية الشرعية ، والمقصود من المحرزية هو ان يكون لسان دليل الأصل معبّرا عن جعل الشارع مورد الأصل علما تنزيلا ، فالشارع مثلا جعل مورد الاستصحاب وهو الشك المسبوق

٢٧٣

بالعلم علما تنزيلا ، وجعل مورد قاعدة التجاوز وهو الشك بعد تجاوز المحل علما تنزيلا. إلاّ انّه وقع الخلاف بين الشيخ النائيني والسيد الخوئي رحمهما الله فيما هو الملحوظ حين تنزيل مورد الاصل منزلة العلم ، فهل الملحوظ هو الجري العملي أو ان الملحوظ هو الطريقية والكاشفية.

وبتعبير آخر : هل انّ تنزيل مورد الأصل منزلة العلم هو تنزيله من جهة الجري العملي أو تنزيله من جهة الكاشفية عن الواقع؟

لا يخفى عليك انّ للعلم شئون ومقتضيات مترتبة عنه ، فمن هذه الشئون هي الكاشفية عن الواقع كما انّ منها اقتضاؤه للجري العملي أي اقتضاؤه للتحرّك نحو الفعل المعلوم لو تعلّق الغرض بفعله. وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه.

ومع اتّضاح هذه المقدمة نقول : انّ المحقق النائيني رحمه‌الله ذهب الى انّ تنزيل مورد الأصل منزلة العلم انما هو من جهة الجري العملي ، فكما انّ العلم يقتضي الجري والتحرّك على وفق ما يقتضيه المعلوم فكذلك الشك المسبوق بالعلم ـ مثلا ـ يقتضي ذلك ، فالشارع لم ينزّل مورد الاستصحاب منزلة العلم من تمام حيثيات العلم وانما نزله منزلة العلم بلحاظ حيثية واحدة من حيثياته وهي الجري العملي ، وهذا ما تم التعرّف عليه من ملاحظة لسان دليل أصالة الاستصحاب. كقوله عليه‌السلام « انت على يقين من وضوئك ».

وأما السيد الخوئي رحمه‌الله فبنى على انّ التنزيل المستفاد من لسان دليل الأصل هو التنزيل بلحاظ حيثية اخرى من حيثيات العلم وهي الكاشفية والطريقية للواقع ، فمعنى تنزيل مورد الأصل منزلة العلم هو ان لمورد الاصل ما للعلم من كاشفية عن الواقع ، فكما انّ العلم طريق للواقع فكذلك مورد الاصل.

٢٧٤

فالشك المسبوق بالعلم مثلا هو مورد الاستصحاب وقد نزّل ـ كما هو المستفاد من لسان دليله ـ منزلة العلم من حيث الكاشفية عن الواقع ، فكما انّ العلم محرز للواقع فكذلك مورد الاصل محرز للواقع تنزيلا.

وهنا تقريب آخر للأصل العملي المحرز أفاده السيد الصدر رحمه‌الله وحاصله : انّ الاصل العملي المحرز تارة يكون مجعولا بلحاظ أهمية المحتمل واخرى يكون مجعولا بلحاظ أهمية المحتمل بالإضافة الى قوة الاحتمال والثاني هو الأصل المحرز دون الاول.

وبيان ذلك : انّ في الواقع ونفس الامر مجموعة من الملاكات يقتضي بعضها الحرمة ويقتضي بعضها الوجوب ويقتضي البعض الآخر الترخيص ، ويكون التحفظ عليها جميعا غير ميسور لافتراض جهل المكلّف بها ، وليس من وسيلة للتعرف عليها. فهنا يوازن المولى بين هذه الملاكات ويجعل الأصل على ما هو الأهم ملاكا ، فحينما يكون الاهم ملاكا مقتضيا للترخيص فإنّ المولى يجعل الاصل مطابقا لما يقتضيه الترخيص.

وباتضاح ذلك نقول : انّه تارة يكون مصبّ نظر المولى عند جعل الأصل هو التحفظ على الملاك الأهم من هذه الملاكات المختلطة على المكلّف فالاصل في هذا الفرض غير محرز ، وتارة يكون نظره حين جعل الأصل الى أمرين ، الاول هو أهمية الملاك على سائر الملاكات ، والثاني هو كاشفية مورد الأصل عن الواقع بنحو ما ، فهذا النحو من الاصل فيه جنبتان اقتضتا جعله من قبل المولى ، الجنبة الاولى هي التحفظ على الملاك الأهم ، والثانية انه له نحو كشف عن الواقع ، والاولى يعبّر عنها بأهمية المحتمل ، والثانية يعبّر عنها بقوة الاحتمال ، وكل أصل يتوفر على هاتين الحيثيتين فهو أصل محرز.

٢٧٥

١٠٥ ـ الأصول اللفظية

الأصول اللفظيّة هي الأصول النافية لاحتمال إرادة غير المعنى الظاهر من الكلام.

وبتعبير أدقّ : الأصول اللفظيّة هي الظهورات الاقتضائيّة التي تكون مرجعا عند الشكّ في إرادة المتكلّم لغيرها.

والمراد من الظهور الاقتضائي ـ كما أوضحناه في محلّه ـ هو الظهور الناشئ عن مقتضيات الضوابط اللغويّة والمناسبات العرفيّة.

فحينما يكون الكلام ظاهرا في معنى من المعاني بسبب ما تقتضيه الضوابط اللغويّة والعرفيّة ووقع الشكّ في إرادة المتكلّم للمعنى الظاهر ، إذ المتكلّم قد يكون مريدا لغير ما هو الظاهر من كلامه فحينئذ يكون المرجع هو الظهور الاقتضائي بمعنى أنّ المرجع في تحديد مراد المتكلّم من كلامه هو ما يقتضيه الظهور الناشئ عن ضوابط اللغة وطريقة العرف وأهل المحاورة ، وهذا هو معنى أصالة التطابق بين الدلالة التصديقيّة والإرادة الجدّيّة.

ولكي يتّضح المراد من الأصل اللفظي أكثر نذكر مثالا :

لو قال المتكلّم ( أكرم كلّ عالم ) فإنّ الظاهر من هذا الكلام بحسب ما تقتضيه اللغة والفهم العرفي هو طلب إيقاع الإكرام لجميع أفراد العلماء ، فالعموم المستفاد من الخطاب قد تمّ استظهاره بواسطة لفظ ( كلّ ) الموضوعة في اللغة لهذا المعنى ، فلو وقع الشكّ بعد ذلك في أنّ المتكلّم هل أراد العموم من لفظ ( كلّ ) وهل أراد حقّا طلب إكرام جميع العلماء أو أراد إكرام بعضهم؟

فهنا يقع البحث عمّا هو المرجع في مثل هذا اللفظ؟ والجواب هو أنّ المرجع في ذلك هو أصالة العموم ، فأصالة العموم أصل لفظي يلجأ إليه

٢٧٦

في ظرف الشكّ في إرادة المتكلّم للعموم أو عدم إرادته له.

وإنّما يصحّ اللجوء إلى أصالة العموم عند ما يكون الكلام ظاهرا بحسب ضوابط اللغة والفهم العرفي في العموم.

وتلاحظون أنّ الأصل اللفظي ألغى احتمال إرادة المتكلّم لغير ما هو الظاهر من كلامه. وأنّ الظهور الاقتضائي في العموم كان هو المرجع في تحديد مراد المتكلّم.

وبذلك اتّضح المراد من معنى الأصل وأنّه بمعنى المرجع في ظرف الشكّ ، كما اتّضح المنشأ من انتسابه للفظ والتعبير عنه باللفظي ، ذلك لأنّ العموم إنّما يستفاد بواسطة اللفظ أو من سياق الكلام.

ثمّ إنّ الأصول اللفظيّة تتحدّد عناوينها بمتعلّق الشكّ في مراد المتكلّم فعند ما يكون الشكّ في إرادة المتكلّم للعموم مع كون الكلام ظاهرا في العموم فالمرجع هو أصالة العموم ، وعند ما يكون الشكّ في إرادة الإطلاق فالمرجع هو أصالة الإطلاق ، وعند ما يكون الشكّ في إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ فالمرجع هو أصالة الحقيقة ، وعند ما يكون الشكّ في وجود قرينة متّصلة أو منفصلة لم تصل إلينا فالمرجع هو أصالة عدم القرينة. وهكذا. ويمكن التعبير عن جميع هذه الأصول بأصالة الظهور لأنّ مآلها جميعا هو الظهور الاقتضائي كما اتّضح ذلك ممّا تقدّم.

ثمّ إنّ المستند في التمسّك بالأصول اللفظيّة هو السيرة العقلائيّة المقتضية للبناء على تطابق الظهور الاقتضائي مع المراد الجدّي في ظرف الشكّ في المراد الجدّي للمتكلّم لذلك قد يعبّر عن الأصول اللفظيّة بأصالة التطابق بين الدلالة التصديقيّة والإرادة الجدّيّة. فهي إذن أصول عقلائيّة.

* * *

٢٧٧

١٠٦ ـ الأصول المؤمّنة

المراد من الأصول المؤمّنة هو الأصول العمليّة النافية للتكليف كأصالة البراءة وأصالة الحلّ وأصالة الطهارة ، ومنشأ التعبير عنها بالمؤمّنة هو أنّ احتمال التكليف يساوق احتمال العقوبة ، فحينما لا يكون ثمّة أصل ناف للتكليف فإنّ هذا الاحتمال يكون منجّزا ومصحّحا للإدانة ، أمّا حينما يجري الأصل النافي للتكليف في مورد الاحتمال فإنّ المكلّف حينئذ يكون في أمن من العقوبة المحتملة بعد افتراض انتفاء التكليف المحتمل والمصحّح للإدانة والمسئوليّة ، ولذلك حينما يتّفق عدم جريان الأصل النافي للتكليف فإنّ الاحتمال يكون منجّزا ومصحّحا لاستحقاق العقوبة.

* * *

١٠٧ ـ الاضطرار

تستعمل كلمة الاضطرار في كلمات الاصوليين في معنيين :

المعنى الاول : هو ما يساوق الضرورة والتي تكون معها الإرادة منتفية بتمام مراتبها ، كما في حالات وجود القاسر التكويني. فالسقوط من الشاهق بعد الإسقاط اضطراري أي ضروري الوقوع. وذلك لانّ الإسقاط مقدمة توليدية لا يتوسط بينها وبين ذي المقدمة اختيار فاتّفاق الإسقاط ينتج بالضرورة السقوط فهو إذن قاسر تكويني ينفي الإرادة بتمام مراتبها.

وهذا المعنى من الاضطرار هو المراد عادة من كلمة الاضطرار في قاعدة « الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ».

المعنى الثاني : للاضطرار هو ما يكون ترك متعلّقه موجبا للوقوع في

٢٧٨

محذور لا يحتمل عادة أو يكون تحمله شاقا.

ومثاله : أكل الميتة لذي المخمصة فإنّه فعل اضطراري ، وذلك لأنّ تركه يوجب الوقوع في الهلكة وهو محذور لا يحتمل عادة ، وكذلك حينما يبيع المكلّف ما يملك ليعالج بثمنه ولده المريض ، فإنّ هذا البيع فعل اضطراري ، لأن تركه يوجب الوقوع في محذور يكون تحمله شاقا.

وهذا المعنى هو المراد من بحث الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي وهو المراد من قوله تعالى ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) (٢٠) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « رفع ... ما اضطروا اليه » (٢١).

* * *

١٠٨ ـ الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي

لا ريب في انّ الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي مصحح لجواز ارتكاب الطرف المضطر اليه أو مقدار ما يرتفع معه الاضطرار ، انّما الكلام في الاطراف الاخرى التي لم تقع محلا للاضطرار ، فهل انّها تظلّ منجّزة بالعلم الإجمالي أو انّ العلم الإجمالي يسقط عن التنجيز بالاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي ، ومن هنا يصحّ ارتكاب سائر الأطراف بعد إجراء الاصل المؤمّن في موردها.

وحتى يتحرّر محل البحث لا بدّ من التنبيه على أمر نبّه عليه السيد الخوئي رحمه‌الله : وهو انّ الاضطرار المبحوث عن مسقطيته لمنجزية العلم الإجمالي أو عدم مسقطيته هو الاضطرار النافي لتمام آثار الطرف المضطر اليه ، أما لو كان نافيا لبعض الآثار الشرعية دون البعض فإنّ العلم الإجمالي لا يسقط عن التنجيز بلا ريب.

وذلك لانّ دعوى سقوط المنجزية عن العلم الإجمالي بالاضطرار انّما هي

٢٧٩

لأجل انّ الطرف المضطر اليه لا يتنجز بالعلم الإجمالي لافتراض اضطرار المكلف اليه فيبقى الطرف الآخر موردا للشك لاحتمال ان يكون المحرم واقعا هو الطرف المضطر اليه ، وعندئذ يجري الأصل المؤمّن عن الطرف الآخر بلا معارض ، بعد ان لم يكن الطرف المضطر اليه مجرى للأصل المؤمّن لإحراز جواز ارتكابه.

وهذا البيان انّما يناسب حالات رفع الاضطرار لتمام الآثار عن الطرف المضطر اليه ، أما في حالات ارتفاع بعض الآثار الشرعية ـ عن الطرف المضطر اليه ـ بالاضطرار فلا معنى للبحث عن سقوط المنجزية عن العلم الإجمالي بعد ان لم يكن الطرف المضطر اليه خارجا عن منجزية العلم الإجمالي.

مثلا : لو علم المكلف اجمالا بحرمة أحد الطعامين وكان أحدهما المعين أو غير المعين موردا للاضطرار فإنّ هذا الاضطرار يكون موجبا لانتفاء تمام الآثار عن الطرف الواقع موردا للاضطرار ، إذ ليس الاثر الشرعي المتصور في المثال سوى الحرمة والاضطرار يوجب ارتفاعها بلا ريب ، وعندها يقع البحث عن سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز للأطراف الاخرى.

أما لو كان المعلوم اجمالا هو نجاسة أحد المائعين « الماء أو العصير » أو كان المعلوم اجمالا هو نجاسة أحد الماءين فإنّ الاضطرار الى شرب أحدهما المعين وهو الماء في المثال الاول ، أو الى أحدهما غير المعين في المثال الثاني ، فإنّ الاضطرار في المثالين لا يوجب انتفاء تمام الآثار الشرعية ، فإنّ لنجاسة الماء أثرين الاول هو عدم جواز الشرب والثاني هو عدم صحة التطهر به من الحدث والخبث. والاضطرار انما يرفع الأثر الاول دون الثاني. ومن هنا لا يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية بل تبقى

٢٨٠