المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

الاستصحاب الآخر ذا أثر شرعي ، وعندها يجري الاستصحاب ذو الأثر الشرعي دون معارض بناء على مبنى الشيخ الانصارى رحمه‌الله ، أما بناء على مبنى صاحب الكفاية رحمه‌الله فلا يجري الاستصحاب حتى في هذا الفرض لأنّ شبهة انفصال زمان الشك عن زمان اليقين لا يختلف الحال فيها بين الفرضين.

ومثال هذا الفرض هو ما لو كان الأثر الشرعي ـ وهو تنجّس الماء ـ مترتبا على عدم الكريّة حين الملاقاة ، فلو كنا نعلم بعدم الكرية وعدم الملاقاة ، ثم علمنا بحصول الكريّة وعلمنا كذلك بالملاقاة إلاّ اننا نشك في تقدم أحدهما على الآخر ، فهنا يمكن استصحاب عدم الكريّة الى حين الملاقاة ويترتب على ذلك الأثر الشرعي وهو تنجس الماء ، ولا يجري استصحاب عدم الملاقاة للنجس الى حين حصول الكرية لو افترضنا عدم وجود أثر شرعي لذلك ، وبهذا تتضح الثمرة بين المبنيين.

القسم الثالث : ان يكون موضوع الأثر الشرعي هو الوجود النعتي أي مفاد كان الناقصة ، ومنشأ التعبير عنه بالوجود النعتي هو انّ هذا الوجود يكون وصفا قائما بمعروضه كالعالمية بالإضافة لزيد فعلاقة العالمية بزيد علاقة العرض بمحلّه وهذا العرض هو المعبر عنه بالوجود النعتي إذا لوحظ قائما بمحلّه.

ومثال هذا القسم ما لو افترضنا ان موضوع استحقاق الابن للميراث هو اسلامه قبل موت الأب بمعنى لزوم اتصاف اسلامه بالتقدّم ، فلو كنا نعلم بعدم اسلامه وبعدم موت الأب ثم علمنا بتحققهما ، فهل يمكن استصحاب عدم اتصاف اسلام الولد بالتقدم أو لا؟

ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى عدم جريان الاستصحاب بدعوى انّ

٢٢١

اتصاف اسلام الولد بالتقدّم وعدم اتصافه بذلك ليس لهما حالة سابقة متيقنة حتى تستصحب ، إذ انّ اتصاف شيء بشيء أو بعدم ذلك الشيء مترتب على وجود المتصف به ولا يتعقل اتصافه بوجود شيء أو بعدم شيء حال عدمه ، وذلك لما قيل ان ثبوت شيء لشيء فرع وجود المثبت له فلا يوصف الانسان المعدوم بأنه قائم أو بأنه ليس بقائم.

ومن هنا لا يمكن اتصاف عدم الإسلام للابن المحرز سابقا بعدم التقدّم أو بالتقدّم ، وهذا هو المراد من عدم العلم باتصاف الحادث بالتقدّم أو بعدم التقدم.

إلاّ انه في مقابل هذه الدعوى ادعى السيد الخوئي رحمه‌الله امكان استصحاب عدم التقدّم ، وذلك لأنّ اسلام الابن عند ما لم يكن موجودا كان غير متصف بالتقدم وهذا هو مبرّر استصحاب عدم التقدّم ، او دعوى انّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وان كانت تامة إلاّ ان نفي شيء عن شيء لا يتوقف على وجود المنفي عنه ذلك الشيء ، فنحن وان كنا لا نتمكن من استصحاب الاتصاف بشيء أو بعدم شيء إلاّ انّه يمكن استصحاب عدم الاتصاف بالشيء ، إذ انّ ذلك كان محرزا عند ما لم يكن الموضوع موجودا.

وبتعبير آخر : انّ المستصحب في المقام هو عدم الربط والذي هو محرز سابقا عند ما لم يكن المعروض موجودا.

ومع اتضاح جريان الاستصحاب بنظر السيد الخوئي رحمه‌الله نقول : انه لا مانع من استصحاب عدم اتصاف اسلام الولد بالتقدم على موت الاب ، ولا يعارضه استصحاب عدم اتصاف موت الأب بالتقدّم وذلك لاحتمال تزامن اسلام الولد مع موت الأب إلاّ ان يكون هناك علم اجمالي بتقدّم

٢٢٢

أحدهما على الآخر ، وقد بينّا ذلك في القسم الأول.

القسم الرابع : ان يكون موضوع الأثر الشرعي هو العدم ولكن بمفاد ليس الناقصة المعبّر عنه بالعدم النعتي ، والذي يكون فيه المعروض متصفا بعدم العرض ، أو قل يكون موضوع الحكم هو عدم العرض ومحلّه على ان يكون عدم العرض وصفا لمعروضه بنحو ربط السلب والقضية الموجبة معدولة المحمول ، كأن تقول : زيد ليس بقائم ، أي زيد متصف بعدم القيام.

ومثاله : ما لو كان موضوع الأثر الشرعي هو اتصاف اسلام الولد بعدم التأخر عن موت الأب ، فلو كنا نعلم بعدم اسلام الولد وعدم موت الأب ثم علنا باسلام الولد وموت الأب إلاّ انّا نشك في اتّصاف إسلام الولد بعدم التأخر عن موت الأب ، فهل يمكن استصحاب الاتصاف بعدم التأخر؟

ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى عدم امكان جريان الاستصحاب ، وذلك لعدم العلم بالاتصاف بالتأخر أو عدمه. فنحن وان كنّا نحرز سابقا عدم الإسلام إلاّ انّ هذا لا يعني العلم بعدم الاتصاف ، وذلك لأنّ وصف الشيء بعدم الاتّصاف فرع وجود ذلك الشيء ، إذ انّ القضية المعدولة المحمول تعني ربط السلب بموضوعه ، وهذا يتوقف على وجود الموضوع حتى يمكن ربطه بالسلب ، نعم لو كان مفاد القضية هو سلب الربط عن الموضوع لما كان وجود الموضوع لازما ، أمّا مع افتراض انّ مفاد القضية هو ربط السلب فإنّه لا بدّ من وجود الموضع أولا ثم ربطه بالسلب ، ونحن لم يكن عندنا يقين إلاّ بعدم الموضوع وعندئذ لا يمكن وصفه لا بوصف وجودي ولا بوصف عدمي « ربط السلب ».

أما السيد الخوئي رحمه‌الله فذهب الى امكان اجراء الاستصحاب وأفاد بأنّ الاتصاف بالعدم ـ بنحو ربط السلب

٢٢٣

والقضية الموجبة معدولة المحمول ـ وان لم يكن متيقنا فلا يمكن استصحابه إلاّ انّه يمكن استصحاب عدم الاتصاف اذ انّ عدم الاتصاف كان محرزا عند ما لم يكن الموضوع موجودا ، وواضح انّ عدم الاتّصاف ـ والذي هو بمعنى سلب الربط ـ لا يناط إحرازه بوجود الموضوع كما ذكرنا ذلك في القسم الثالث.

وبهذا يتضح إمكان استصحاب عدم اتّصاف اسلام الولد بالتأخر عن موت الأب والذي كان محرزا عند ما لم يكن اسلام الولد موجودا. وهذا الاستصحاب غير معارض باستصحاب عدم اتصاف موت الأب بالتأخر عن اسلام الولد ، وذلك لاحتمال تزامن موت الأب مع اسلام الولد إلاّ ان يكون هناك علم اجمالي بتأخر أحدهما عن الآخر ، كما ذكرنا نظير ذلك في القسم الاول.

* * *

٧٦ ـ استصحاب معلوم التاريخ

والبحث في المقام عن جريان الاستصحاب في حالات العلم بتاريخ أحد الحادثين والجهل بتاريخ الحادث الآخر.

ويمكن تقسيم البحث الى أربعة أقسام :

القسم الأول : ان يكون الأثر مترتبا على تقدّم أو تأخّر أحد الحادثين عن الآخر بنحو يكون المعتبر هو وجود التقدم أو التأخر بمفاد كان التامة المعبر عنه بالوجود المحمولي.

ومثاله ما لو كان الأثر مترتبا على تقدّم انعتاق الولد على موت الاب. فلو كنا نعلم بانعتاق الولد وان ذلك تم في يوم الجمعة ونعلم أيضا بموت الأب إلاّ انه نجهل ان ذلك تمّ قبل الانعتاق أو بعده كيوم السبت مثلا.

فهنا يمكن استصحاب عدم التقدّم

٢٢٤

للانعتاق ولا يعارضه استصحاب عدم التقدم للموت ، وذلك لاحتمال تزامن الانعتاق مع الموت للأب إلاّ أن يكون هناك علم اجمالي بتقدم أحد الحادثين على الآخر. وتفصيل ذلك ذكرناه في القسم الأول من استصحاب مجهولي التاريخ. فراجع.

القسم الثاني : ان يكون الأثر مترتبا على عدم أحد الحادثين عند حدوث الحادث الآخر أو عدم أحد الحادثين قبل أو بعد الحادث الآخر ، ويكون هذا العدم محموليا أي بمفاد ليس التامة.

فلو كان الأثر مثلا : مترتبا على عدم موت المورث عند انعتاق الوارث ، فلو علمنا بموت المورث وان ذلك تمّ يوم الجمعة وعلمنا أيضا بانعتاق الوارث إلاّ انّه لا ندري انّ ذلك وقع قبل موت المورث أو بعده.

وفي هذا القسم وقع الخلاف بين الأعلام ، فذهب الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية والمحقق النائيني رحمهم‌الله الى جريان الاستصحاب في الحادث المجهول التاريخ دون معلومه. وهذا معناه جريان استصحاب عدم انعتاق الوارث الى حين موت المورّث ، ومبرّر جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ هو توفّره على أركان الاستصحاب ، فعدم الانعتاق كان معلوما ثم وقع الشك في ارتفاع العدم وتحقق الانعتاق وحينئذ يستصحب عدم الانعتاق.

وأما عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ فلأن عدم الموت كان محرزا قبل يوم الجمعة وحدوث الموت محرز في يوم الجمعة وهو محرز البقاء الى ما بعد الجمعة ، فلا معنى لجريان الاستصحاب في مورده ، فلا عدم الموت مشكوك البقاء ولا حدوث الموت مشكوك الحدوث والبقاء ، ولمّا كان الاستصحاب معناه التعبّد ببقاء المستصحب في عمود الزمان الى حين

٢٢٥

التيقن بانتفائه فهذا معناه الشك في بقاء المستصحب في الحقبة الزمانية المتوسطة بين اليقين بالحدوث واليقين بالارتفاع وهذا غير حاصل في الفرض ، فلا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب.

هذا هو حاصل التقريب الذي أفاده الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني رحمهما الله لاثبات الدعوى إلاّ انّ لصاحب الكفاية رحمه‌الله تقريبا آخر لاثبات عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ وهو دعوى عدم اتصال زمان الشك باليقين وهذا ما أوضحناه تحت عنوان اتصال زمان الشك بزمان اليقين.

وفي مقابل ما ذهب اليه هؤلاء الأعلام ذهب جمع من الأعلام كالسيد الخوئي رحمه‌الله الى جريان الاستصحاب حتى في معلوم التاريخ.

وحاصل ما أفاده السيد الخوئي رحمه‌الله انّ الأثر الشرعي بحسب الفرض ليس مترتبا على عدم وقوع الحادث في الزمان المعلوم حتى يقال بعدم جريان الاستصحاب في مورده لكونه معلوما بل انّ الأثر الشرعي مترتب على عدم الحادث المتعنون بكون حدوثه في زمان الحادث الآخر أو بعده وهو مشكوك كما هو واضح فإنّ الحادث وان كان زمان وقوعه معلوما إلاّ انّه مشكوك من جهة وقوعه في زمان الحادث الآخر.

وبتعبير آخر : انّ الاستصحاب الذي يراد إجراؤه هو استصحاب عدم الحادث الى حين وقوع الحادث الآخر المجهول التاريخ ، وهذا متوفر على ركني الاستصحاب ، إذ انّ عدم الحادث كان محرزا ثم وقع الشك في انتفاء عدم الحادث حين وقوع الحادث الآخر المجهول التاريخ ، وعندها يمكن إجراء استصحاب عدم الحادث الى حين وقوع الحادث المجهول.

ففي المثال : انّ عدم الموت كان

٢٢٦

محرزا ثم وقع الشك في انتفاء عدم الموت ـ وتحقق الموت ـ حين انعتاق الوارث ، فهنا لا محذور من جريان استصحاب عدم الموت الى حين الانعتاق ، والعلم بأن الموت قد وقع يوم الجمعة لا ينافي امكان جريان الاستصحاب بعد ان كان الاستصحاب بلحاظ الحادث الآخر المجهول التاريخ لا بلحاظ عمود الزمان.

وبهذا البيان يتضح امكان جريان الاستصحاب إذا لم تكن بينهما معارضة بسبب العلم الإجمالي وكان لكل من الاستصحابين أثر شرعي يترتب على جريانه كما أوضحنا ذلك في استصحاب مجهولي التاريخ.

القسم الثالث والرابع : يفترضان انّ الأثر الشرعي مترتب على الوجود النعتي والعدم النعتي ، والاول يعني الاتصاف بتقدم أحد الحادثين على الآخر مثلا ، والثاني يعني الاتصاف بعدم تقدم أحد الحادثين على الآخر ، وهنا يأتي نفس الكلام الذي ذكرناه في القسم الثالث والرابع من استصحاب مجهولي التاريخ ، فراجع.

* * *

٧٧ ـ الاستعمال

المراد من الاستعمال ـ بدوا ـ هو إلقاء اللفظ واستخدامه أداة لغرض تفهيم المعنى المراد في نفس المتكلم ، فهو يختلف عن الدلالة من جهة ارتباطها بالمتلقي للفظ فهو ينتقل من اللفظ الى المعنى بسبب العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى ، فهو يستفيد من هذه العلاقة لتصوّر المعنى عند اطلاق اللفظ.

وأما الاستعمال فهو مرتبط بالمتكلم ، وهو أيضا يستفيد من العلاقة بين اللفظ والمعنى ولكن لغرض اخطار المعاني الحاضرة في نفسه أي اخطارها في ذهن السامع وذلك باتخاذ اللفظ وسيلة لذلك.

٢٢٧

وهذا المقدار لا إشكال فيه ، انّما الإشكال من جهة حقيقة هذا الاستعمال ، فقد ذهب المحقق صاحب الكفاية رحمه‌الله الى انّ حقيقة الاستعمال هي إفناء اللفظ في المعنى حتى كأنّ الملقى هو المعنى ابتداء. ومعنى ذلك انّ اللفظ يلاحظ باللحاظ الآلي المرآتي ويكون المعنى ملحوظا باللحاظ الاستقلالي.

فالآلية بالنسبة للفظ تعني طريقيته لالقاء المعنى ، فيكون أشبه شيء بالمرآة حيث يكون النظر اليها وسيلة للنظر الى المنكشف عنها ، فهي فانية في منكشفها وكأن المنظور اليه هو المنكشف ولهذا تكون المرآة مغفولا عنها حين النظر الى مرئيها ، وهذا هو المراد من انّ لحاظ المعنى يكون لحاظا استقلاليا.

ومن هنا يكتسب اللفظ ما للمعنى من حسن وقبح وما ذلك إلاّ لتهالك اللفظ وفنائه في معناه.

المعنى الآخر للاستعمال : وهو عبارة عن جعل اللفظ علامة على المعنى ، فهو أشبه شيء بالعلامات الموضوعة على الطرقات لبيان انّها سالكة أو مغلقة وكالإشارات التي يحدثها الأخرس لغرض تفهيم مراداته.

واذا كان اللفظ كذلك فلا يلزم ان يكون لحاظه آليا ، إذ من الممكن جدا ان يلحظ بشكل استقلالي ويتأدى منه الغرض وتفهيم المعنى المراد. وهذا هو الذي مال اليه السيد الخوئي رحمه‌الله كما يستظهر من عبائره. ونبه على ذلك بما هو مشاهد عند إلقاء القصائد والخطب البليغة ، إذ انّ ألفاظها وتراكيبها تلحظ لحاظا استقلاليا ومع ذلك يكون المتكلم قاصدا تفهيم معانيها.

وبما ذكرناه يتضح انّ الاستعمال بكلا معنييه متقوّم بالإرادة الاستعمالية ، وهذا ما أوضحناه تحت عنوان « الإرادة الاستعمالية ».

وأما شروط الاستعمال فسنبحثها تحت عنوان « الاستعمال وشروطه ».

٢٢٨

٧٨ ـ الاستعمال الحقيقي

والمراد منه هو استعمال اللفظ للدلالة على معناه الحقيقي. والمعنى الحقيقي للفظ هو المعنى الذي وضع لغرض الدلالة عليه ، فالعلاقة بينهما نشأت عن الاوضاع اللغوية ، ولذلك تكون دلالة اللفظ على معناه الموضوع له دلالة ابتدائية لا تناط بشيء آخر ، وذلك في مقابل دلالة اللفظ على المعنى المجازي حيث انها منوطة بوجود تناسب بين المعنى المجازي والمعنى الموضوع له اللفظ ، فهي متأخرة عن دلالة اللفظ على معناه الحقيقي.

وبهذا يتضح انّ الاستعمال الحقيقي هو استعمال اللفظ للدلالة على معناه الاولي الحقيقي والذي نشأ عن العلقة الوضعية بينهما.

* * *

٧٩ ـ استعمال اللفظ في أكثر من معنى

المراد من هذا العنوان هو استعمال لفظ واحد وإرادة معنيين أو أكثر من ذلك اللفظ ، ففي الوقت الذي يكون فيه المعنى الاول مرادا من اللفظ يكون المعنى الثاني كذلك وهكذا الثالث ، فبدلا من استعمال اللفظ مرتين للكشف عن مدلولين مستقلّين يستعمل اللفظ مرة واحدة لغرض الكشف عن مدلولين مستقلّين.

وأوضح موارد استعمال اللفظ في أكثر من معنى هو استعمال اللفظ المشترك وإرادة مجموع معانيه من ذلك الاستعمال.

ومثاله : ان يقول المتكلّم « رأيت عينا » ويريد بذلك العين النابعة والجارحة الباصرة والذهب.

ويشمل محل النزاع استعمال اللفظ وإرادة معنيين أحدهما حقيقي والآخر

٢٢٩

مجازي ، كما يشمل استعمال اللفظ وإرادة معنيين مجازيين ، ومثال الاول ما لو قال المتكلم : « رأيت قمرا » وأراد من « القمر » الكوكب السماوي والوجه الصبيح. ومثال الثاني : ما لو قيل : « احذر عدوك » واريد من العدو الحسد والكسل.

والمتحصّل انّ الضابطة في تشخيص محل البحث هو افتراض استقلالية المعاني التي يراد التعبير عنها بواسطة اللفظ الواحد ، وبذلك يخرج عن محل البحث استعمال اللفظ في مجموع معانيه بنحو يكون المدلول عليه بواسطة اللفظ هو المجموع بما هو مجموع ، ومنشأ خروج ذلك عن محل البحث هو انّ هذا الاستعمال من استعمال اللفظ في معنى واحد هو المجموع.

وكيف كان فقد وقع النزاع بين الأعلام في امكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فمنهم من ذهب الى امكانه ومنهم من ذهب الى استحالته وهو مشهور المتأخرين ، ومنهم من مال الى التفصيل كما سيتضح ان شاء الله تعالى.

وقد استدلّ للقول بالاستحالة بمجموعة من الأدلة ، نكتفي بذكر ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله وحاصله : انّ صفحة النفس إذا كانت مشغولة بمعنى من المعاني الاستقلاليّة فإنّ من المستحيل اشتغالها بمعنى استقلاليّ آخر.

ومدرك هذه الدعوى هو الوجدان ، فإنّ الوجدان قاض بضيق النفس عن استيعاب معنيين مستقلّين في عرض واحد ، نعم عند ما تنمحي صورة المعنى الاول عن النفس فإنّ من الممكن عروض صورة اخرى كما هو الحال في المرآة ، فحينما تكون المرآة مستوعبة لصورة فإنّ من المستحيل انطباع صورة اخرى عليها دون ان تنمحي الصورة الاولى ، وما ذلك إلاّ

٢٣٠

لانشغال المرآة بالصورة الاولى المقتضي لامتناع انطباع الصور الاخرى عليها ، نعم يمكن للمرآة ان تستوعب أكثر من صورة فيما لو كانت تلك الصور تمثل بمجموعها صورة واحدة ، وهكذا الحال بالنسبة للمعاني الحاضرة في النفس في عرض واحد إلاّ ان ذلك خروج عن محلّ النزاع ، إذ انّ المفترض هو استيعاب المعنى الاول للنفس ، إذ هو معنى الاستقلالية.

ومع اتضاح هذه المقدمة نقول : انّ معنى استعمال اللفظ في المعنى هو ايجاد المعنى واخطاره في نفس المخاطب ، فوظيفة اللفظ هي احضار المعنى المنطبع في نفس المتكلم وايجاده في نفس المخاطب. وهذا معناه انّ الملحوظ أولا وبالذات هو المعنى ولحاظ اللفظ انما هو لحاظ آلي يراد منه رسم الصورة الحاضرة في نفس المتكلم رسمها في نفس المخاطب ، واذا كان كذلك فالمعنى مستقطبا لتمام صفحة النفس ، إذ انّ هذا هو مقتضى الاستقلالية ، وعليه لا تكون النفس قادرة على استيعاب معنى استقلاليّ آخر ، وذلك لافتراض انشغالها بالمعنى الأول.

لا يقال بأن انشغال النفس بلحاظين عند استعمال اللفظ في المعنى أمر لا بدّ منه بدعوى انّ المعنى كما يكون ملحوظا عند الاستعمال كذلك اللفظ يكون ملحوظا عنده.

فإنّه يقال : انّ لحاظ اللفظ انّما هو لحاظ آلي تبعي ، ولذلك لا يجد المخاطب في نفسه عند استعمال المتكلم اللفظ في المعنى لا يجد إلاّ المعنى مما يعبّر عن انّ اللفظ يكون فانيا في المعنى ، فليس في البين سوى المعنى فهو الملحوظ أولا وبالذات.

هذا هو حاصل ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله في تقريب القول بالاستحالة ، واذا تمّ ما أفاده فإنّ استحالة استعمال اللفظ في أكثر من

٢٣١

معنى يكون مستحيلا حتى بناء على مسلك السيد الخوئي رحمه‌الله في الوضع ـ حيث بنى على ان حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفساني من المتكلّم بأن لا يستعمل هذا اللفظ إلاّ اذا قصد تفهيم هذا المعنى ـ وذلك لأن الكبرى التي ينشأ عنها القول بالاستحالة هي انّ النفس عاجزة عن استيعاب أكثر من معنى استقلالي في آن واحد ، ولذلك لا يمكن للمتعهد ان يلتزم باستعمال لفظ وإرادة معنيين استقلاليين حتى وان تعهّد بذلك ، فإنّه وان كان من الممكن ان يتعهّد المتكلّم بقصد معنيين مستقلّين حين استعمال لفظ معين إلاّ انّه عاجز عن الالتزام بهذا التعهّد ، إذ انّ نفسه لا تسع معنيين استقلاليين في عرض واحد.

ومن هنا كان همّ السيد الخوئي رحمه‌الله هو الخدشة في الكبرى حيث ادعى انّ النفس جوهر بسيط ، وهذا ما يقتضي سعتها وأهليّتها لاستيعاب معان استقلالية في عرض واحد. ونبّه على ذلك بثلاثة امور نذكر منها أمرين ، إذ انّ الثالث يرجع روحا الى الثاني.

الأمر الاول : انّه لا ريب في انّ القضايا الحملية مستوجبة للحاظ ثلاثة معان استقلالية في آن واحد ، وذلك لأنّ الحكم على الموضوع بالمحمول يستلزم ملاحظة الموضوع والمحمول والنسبة بينهما ، فإنّ من المستحيل الحكم على الموضوع بالمحمول دون الالتفات الى هذه المعاني الاستقلالية ، وافتراض غفلة المتكلم عن الموضوع والمحمول حين الحكم مستحيل ، وذلك لتقومه بهما.

فتحصّل انّ الموضوع والمحمول والنسبة والتي هي معانى استقلالية تكون بأجمعها حاضرة في النفس حين الحكم.

الأمر الثاني : انّ الوقوع خير شاهد على الإمكان ، حيث نجد انّه قد يصدر من شخص واحد فعلان إراديّان في

٢٣٢

آن واحد ، وواضح استحالة صدور الفعل الإرادي دون تصوره استقلالا في النفس ، إذ انّ عدم تصوره خلف إراديته.

ومثال ذلك : ان يلاعب الوالد طفله وفي نفس الوقت يقرأ كتابا أو يصلح آلة.

وباتضاح ما ذكرناه يتضح منشأ القول بالاستحالة ومنشأ دعوى الإمكان ، ويبقى الكلام عن دعوى التفصيل ، وهو مبنى الشيخ صاحب المعالم رحمه‌الله حيث فصّل بين المفرد وبين التثنية والجمع فذهب الى الاستحالة في المفرد والى الإمكان في التثنية والجمع ، واستدلّ على ذلك بما حاصله :

انّ التثنية تعني تكرار المفرد مرتين كما انّ الجمع يعني تكرار المفرد مرّات فحينما يقول المتكلّم « رأيت عينين » فإن معنى ذلك « رأيت عينا وعينا » ، وحينما يقول : « رأيت عيون » فإنّ معناه « رأيت عينا وعينا » ، فكما انّه لو عطف مفردات العين على بعضها فإنّ من الممكن إرادة الباصرة من المفرد الاول والنابعة من الثاني والذهب من الثالث فكذلك حينما يأتي بلفظ العين بصيغة التثنية أو الجمع ، ثم أيّد دعواه بالتثنية والجمع في الأعلام الشخصية ، فإنّ المتكلم حينما يقول « رأيت زيدين » « وهؤلاء زيدون » فإنّه يقصد بذلك ذاتين أو ثلاث ذوات ، وهي معان استقلالية متباينة ، إذ انّ لفظ زيد لا يكشف عن طبيعة لها أفراد فيكون المراد من زيدين فردان من طبيعة واحدة ، إذ انّ لفظ زيد علم شخصي لا يكشف إلاّ عن ذات واحدة ممتنعة الصدق على غيرها.

وقد أجاب السيد الخوئي رحمه‌الله عن دليل صاحب المعالم رحمه‌الله بما حاصله : انّ الموضوع له لفظ العين وغيره في المفرد والتثنية والجمع واحد وهو الطبيعة المهملة المجردة عن تمام الحيثيات

٢٣٣

والخصوصيات حتى خصوصية التجرّد عن الخصوصيات المعبّر عنه باللابشرط ، غايته انّ هيئة التثنية وهكذا هيئة الجمع موضوعان للدلالة على التعدد ، فالمثنى اذن له وضعان وضع للمادة ووضع آخر للهيئة ، والوضع المختص بالمادة لا يختلف الحال فيه بين المفرد وغيره حيث قلنا انّ المادة وضعت للطبيعة المهملة ، نعم هيئة التثنية وضعت للدلالة على المادة المتهيئة بها مرتين ، وهيئة الجمع وضعت للدلالة على المادة المتهيئة بها مرّات ، واذا كان كذلك فالمادة المستعملة في ضمن الهيئة تظلّ محلا للنزاع ، فبناء على الاستحالة يكون استعمال المادة في أكثر من معنى مستحيلا حتى وان وضعت في ضمن هيئة التثنية أو الجمع ، وعليه لا بدّ وان يكون المراد من المادة الواقعة في ضمن هيئة التثنية فردين من طبيعة واحدة ، إذ انّ ذلك هو مقتضى استحالة استعمال المادة في أكثر من معنى ومقتضى ما وضعت له هيئة التثنية.

وقد اجيب عن التأييد الذي أيّد به صاحب المعالم دعواه بما حاصله : انّه مع تمامية دعوى الاستحالة لا بدّ من تأويل التثنية والجمع في الأعلام الشخصية بأن يقال انّ المراد من قولنا « هؤلاء زيديون » هو « هؤلاء المسمّون بزيديين » فيكون لفظ « زيدون » قد استعمل في المسمّى مجازا.

ثم انّ هنا بحث يتصل بمقام الإثبات وهو انه لو كان البناء هو امكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى فهل يحمل اللفظ المشترك على معانيه مع خلو الكلام عن القرينة المفيدة لإرادة أحد المعاني بعينه أو انّ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى يكون منافيا لما هو مقتضى الظهور العرفي.

الظاهر عدم وقوع الخلاف في انّ استعمال اللفظ في أكثر مناف لما هو

٢٣٤

مقتضى الظهور العرفي ، وذلك لأنّ اللفظ المشترك لم يوضع لمجموع المعاني بوضع واحد ، وانّما وضع لكل معنى بوضع مستقل ، فاستعماله في تمام المعاني يكون من استعمال اللفظ في غير ما وضع له وهو محتاج للقرينة كما انّ استعماله في معنيين أو في أحد المعاني من غير قرينة يؤدي الى اجمال المراد ، إذ لا كاشف عما هو المراد بهذا الاستعمال.

* * *

٨٠ ـ الاستعمال المجازي

والمراد من الاستعمال المجازي هو استعمال اللفظ للدلالة على معنى لم يكن اللفظ قد وضع لغرض الدلالة عليه وانما وضع للدلالة على معنى آخر ، فالدلالة على المعنى المجازي واقعة في طول الدلالة على المعنى الحقيقي ، إذ انّها تفترض وجود معنى حقيقي للفظ ويكون المستعمل قد تجاوز هذا المعنى الى معنى آخر مستعينا على ذلك اما بالتناسب بين المعنيين الحقيقي والمجازي أو بالقرينة على ما هو الخلاف بينهم في ذلك ، وسيأتي مزيد توضيح تحت عنوان دلالة اللفظ على المعنى المجازي.

* * *

٨١ ـ الاستعمال المجازي طبعي أو وضعي

والبحث في المقام يقع عمّا هو المصحّح لاستعمال اللفظ في المعنى المجازي ، وهل انّ التناسب بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي كافيا في تصحيح استعمال اللفظ في المعنى المجازي أو ان صحة الاستعمال منوطة بالوضع أي بإذن الواضع.

فالمقصود من اناطة صحة الاستعمال في المعنى المجازي بالوضع هو ترخيص الواضع استعمال اللفظ في المعنى المتناسب مع المعنى الموضوع له اللفظ ، لا انّ المقصود من ذلك هو

٢٣٥

افتقار الاستعمال في المعنى المجازي الى وضع ثان ، إذ لا تنحفظ الطولية بينهما عندئذ ويكون استعمال اللفظ في المعنى الاول والمعنى الثاني استعمالا حقيقيا ، إلا ان يقال انّه قد يكون المراد من اناطة صحة الاستعمال بالوضع هو سنخ الوضع في المعنى الحقيقي ومع ذلك تنحفظ الطولية بين الوضعين بافتراض مئونة اضافية في الوضع الثاني يتميّز بها الوضع في المعنى المجازي عن الوضع في المعنى الحقيقي وتحتفظ بالطولية بينهما.

ومع تحرّر محلّ النزاع نقول : انّ في المقام اتجاهين :

الإتجاه الاول : هو اناطة صحة الاستعمال المجازي بالوضع ، وهذا الإتجاه هو المنسوب الى المشهور.

الاتجاه الثاني : هو انّ المرجع في تصحيح الاستعمال المجازي هو ما يستسيغه العرف بحسب طبعه وسليقته. واستحسانه عادة ما ينشأ عن التناسب بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المجازي الذي يراد استعمال اللفظ لإفادته.

وعليه فمتى ما استحسن العرف اطلاق لفظ على معنى باعتبار تناسبه مع المعنى الموضوع له اللفظ بنحو من أنحاء التناسب فهو كاف في تصحيح الاستعمال دون الحاجة لوضع الواضع أو لترخيصه ، بل لو رخّص الواضع في استعمال لفظ في معنى مجازي ولم يكن ذلك الاستعمال مستساغا بنظر العرف لمنافاته مع ما تقتضيه طبيعته وسليقته فإنّ ذلك لا يصحّح الاستعمال ، فالمناط اذن هو المذاق العرفي.

وهذا الإتجاه ذهب اليه جمع من الأعلام كصاحب الكفاية رحمه‌الله ، واستدلّ عليه بالوجدان. وأما الإتجاه الاول فقد ذكرت له مجموعة من المبرّرات أهمها :

دعوى انّ انتساب استعمال لفظي الى لغة لا يكون إلاّ بواسطة ما تقرّره

٢٣٦

الاوضاع اللغوية المختصة بتلك اللغة ، وهذا ما يقتضي عدم صحة استحداث أيّ استعمال إلاّ في اطار المقرّرات المتلقاة عن الواضع.

واجيب عن هذه الدعوى بأنّ الاستعمال المجازي المتناسب مع المذاق العرفي لأهل المحاورة لا يكون خروجا عن إطار المقرّرات اللغويّة بعد ان كان المصحح للاستعمال هو تناسب المعنى المجازي مع المعنى الموضوع له اللفظ.

* * *

٨٢ ـ الاستعمال وشروطه

ذكر السيد الصدر رحمه‌الله انّ مقومات الاستعمال وشروطه ثلاثة :

الأول : هو أهلية اللفظ للكشف عن المعنى ، وهذه الأهليّة قد تنشأ عن العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى ، بأن يكون اللفظ وضع ابتداء للدلالة على المعنى ، وقد تنشأ عن التناسب بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى الآخر الذي يراد استعمال اللفظ لإفادته ، وهذا هو المعبّر عنه بالمعنى المجازي ، حيث انّ منشأ دلالة اللفظ على غير معناه ـ الذي وضع بإزائه ـ هو التناسب بنحو ما بين المعنى الحقيقي للفظ والمعنى الآخر ، وقد تنشأ الأهلية عن مناشئ اخرى كما في حالات اطلاق اللفظ وإرادة نوعه على ما سنوضح ذلك في محلّه.

والمتحصّل : انّه ما لم تكن للفظ أهليّة للكشف عن المعنى فإنّ الاستعمال لا يكون صحيحا ، وذلك لأن الاستعمال متقوّم بقصد تفهيم المعنى بواسطة اللفظ.

الثاني : انّه لمّا كانت علاقة المستعمل ـ وهو اللفظ ـ والمستعمل فيه ـ وهو المعنى ـ علاقة الدال والمدلول فهذا معناه انّهما متضايفان ، واذا كان كذلك فلا بدّ من تغاير المستعمل عن المستعمل فيه ، بمعنى ان يكون موضوع أحدهما غير موضوع

٢٣٧

الآخر ، اذ يستحيل ان يجتمع المتضايفان من جهة واحدة على موضوع واحد ، فلا يعقل ان يكون شخص واحد أبا لآخر وابنا له ، فكذلك يستحيل ان يكون اللفظ مستعملا ومستعملا فيه ، فالكاشف لا يكون عين المنكشف والدال لا يكون عين المدلول ، ولذلك ذكرت توجيهات للتفصّي عن هذا المحذور في حالات استعمال اللفظ في شخصه ، كأن تقول : « زيد ثلاثي » وتقصد من لفظ زيد شخص ذلك اللفظ فقد يقال : انّ المستعمل والمستعمل فيه واحد وهو شخص لفظ زيد.

وببيان أبعد عن الإشكال : انّ المستعمل والمستعمل فيه من قبيل العلة والمعلول ، واذا كان كذلك فيستحيل افتراض ان يكون الشيء علة ومعلولا لنفسه ، فالعلة والمعلول وان كانا متضايفين إلاّ انّ العليّة تستبطن شيئا زائدا على ما يقتضيه التضايف وهو امتناع تصادقهما على شيء واحد حتى مع تعدد الاعتبار ، وهذا بخلاف ما يقتضيه التضايف فإنّه لا يقتضي أكثر من التغاير في حال اتحاد الجهة والاعتبار أما لو تعدّدت الجهة والاعتبار فلا مانع من تصادقهما على موضوع واحد ، نعم يبقى الكلام في أصل دعوى انّ العلاقة بينهما علاقة العلة والمعلول ، والسيد الصدر رحمه‌الله يدعي ذلك بلحاظ الوجود الذهني.

والظاهر انّ مراده من العلّية هي العلّية في مقام الكشف والدلالة وهو المستظهر من كلمات الأعلام « رضوان الله عليهم » ، والمنبّه على ذلك هو انّ الاستعمال متقوّم بقصد التفهيم ، فيكون اللفظ المستعمل هو العلة التي يتوسّل بها لتفهيم المعنى فيكون المعنى حينئذ هو المعلول.

وواضح انّ اللفظ المفهم للمعنى هو اللفظ المتصوّر للمتلقّي له وهذا هو معنى انّ العلية بلحاظ الوجود الذهني.

٢٣٨

الثالث : انّه لا بدّ في الاستعمال من تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، غايته انّ تصوّر اللفظ يكون بنحو اللحاظ الآلي المرآتي ويكون المعنى متصورا بنحو اللحاظ الاستقلالي ، هذا بناء على انّ استعمال اللفظ في المعنى يعني فناء اللفظ في معناه ، أما بناء على علاميّة اللفظ على المعنى فإنّ آلية اللحاظ للفظ ليست ضرورية بل يمكن ان يكون لحاظه استقلاليا أيضا كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « الاستعمال ».

* * *

٨٣ ـ الاستلزامات العقلية

المراد منها هو استلزام قضية لقضية اخرى واقعا وفي نفس الأمر على ان يكون المدرك لذلك الاستلزام هو العقل ، وذلك في مقابل الاستلزامات الجعلية أو الاستلزامات الواقعية التي يمكن إدراكها بواسطة الحس والتجربة.

ثم انّ هذه الاستلزامات مدركة بواسطة العقل النظري والذي تكون وظيفته متمحضة في إدراك الواقع دون ان يكون لهذا الإدراك أيّ انعكاس واقتضاء للعمل على طبق ما يقتضيه ذلك المدرك ، نعم يكون للمدرك النظري تأثير واقتضاء عملي لو انضمت اليه مقدمة من الخارج.

ومثال الاستلزامات العقلية هو ما يدركه العقل من استلزام وجوب شيء لحرمة ضده ، وما يدركه من استلزام وجوب الشيء لوجوب مقدمته ، واستلزام حرمة الشيء لحرمة مقدماته التوليديّة ، وما يدركه من استلزام الحكم العقلي العملي للحكم الشرعي كاستلزام قبح الظلم لحرمته شرعا.

وحتى يتبلور المراد من الاستلزامات العقلية نذكر هذه الامور الثلاثة :

الأمر الاول : انّ الاستلزامات العقلية ليس لها ان تنتج الحكم الشرعي إلاّ بواسطة انضمام مقدمة خارجية ، فمثلا استلزام وجوب

٢٣٩

الشيء لوجوب مقدمته معناه إدراك العقل للعلية وانّ العلاقة بين الوجوب ومقدماته علاقة العلة مع معلولها ، وهذا يقتضي حتمية وجوب المقدمة عند وجوب ذيها ، إلاّ انّ هذا المقدار لا ينتج حكما شرعيا بل انّ النتيجة الشرعية منوطة بتوفّر مقدمة خارجة عن هذا الاستلزام ، وهذه المقدمة هي ثبوت الوجوب للشيء وعندها تترتب النتيجة الشرعية والتي هي وجوب مقدمات ذلك الواجب.

وبطبيعة الحال فإنّ هذه النتيجة الشرعية منوطة بتمامية مقدمة مطوية وهي حجية الدليل العقلي ، وهذه المقدمة هي التي تؤهل القضية الاستلزامية للدليلية على الحكم الشرعي ، ومن هنا يعبّر عن مثل الاستلزامات بصغرى الدليل العقلي ، لانّها تقع في صغرى قياس نتيجته دليلية الاستلزام العقلي ، وتكون كبرى ذلك القياس هو حجية المدرك العقلي ، وعندها يكون القياس الذي يقع الاستلزام العقلي في كبراه منتجا للنتيجة الشرعية ، ولو لا القياس الذي وقعت حجية الدليل العقلي في كبراه لاصبح القياس الآخر الذي يراد التعرّف به على الحكم الشرعي عقيما.

وبيان ذلك :

انّ العقل يدرك الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته. وما يدركه العقل حجّة.

النتيجة : انّ إدراك العقل للملازمة حجّة.

وبهذه النتيجة يتأهل الاستلزام العقلي للدليلية على الحكم الشرعي ، وذلك إذا انضمت اليه مقدمة خارجية تثبت وجوب شيء.

الأمر الثاني : انّ الاستلزامات العقليّة تعبّر عن أنحاء العلاقات الواقعية بين القضايا أو قل الأحكام ، وهذا يقتضي ان لا تخرج هذه

٢٤٠