المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

منا إلاّ انّه نشك انّ الذي صدر هل هو تكفير أو لا ، فالشك في الصورة الاولى شك بمفاد كان التامة أي الشك في أصل تحقق الوجود للمانع ، وأما الشك في الصورة الثانية فهو شك بمفاد كان الناقصة أي الشك في اتصاف الموجود بما هو محرز المانعية كبرويا ، كالشك في اتصاف الفعل الصادر عنه بالتكفير.

وفي كلا الصورتين لا مانع من الحكم بالصحة ولكن لا بواسطة استصحابها وانما بواسطة استصحاب عدم صدور المانع ، بمعنى انّ المكلف يشك في تحقق ما اعتبر عدمه في الصلاة وقد كان على يقين بعدم صدور ما اعتبر عدمه فعند الشك يستصحب عدم صدور ما اعتبر عدمه.

* * *

٥٧ ـ استصحاب العدم الأزلي

راجع عنوان « العدم الأزلي ».

* * *

٥٨ ـ استصحاب الفرد المردد

ليس المراد من الفرد المردد هو المردد بحسب الواقع ونفس الأمر ، إذ لا نتعقل معنى لذلك ، فالمحتملات المتصورة لمعنى الفرد المردد واقعا لا تخلو عن أحد معان أربعة وكلها مستحيلة :

المعنى الاول : ان يكون التردّد من جهة الوجود والعدم بمعنى ان يكون الفرد المردد مردّدا واقعا بين الوجود والعدم ، وهو مستحيل ، إذ لا واسطة بين الوجود والعدم ، فإما ان يكون الفرد بحسب الواقع موجودا واما ان يكون في حيز العدم ، وأما افتراض تردده بحسب الواقع بين الوجود والعدم فهذا معناه ارتفاع النقيضين في مورده ، واستحالة ذلك من الوضوح بحيث لا يتعقل ان يحتمله أحد.

المعنى الثاني : ان يكون التردّد من جهة التشخّص ، بمعنى ان لا يكون

١٦١

للفرد المردد ما يشخصه واقعا وفي نفس الأمر ، وهذا ما أوجب نعته بالمردد ، فهو مجرّد من تمام المشخصات الزمانية والمكانية وغيرها. وهذا مستحيل أيضا ، لأنّ افتراض وجود الفرد المردد يساوق تشخصه ، لأنّ الشيء ما لم يتشخص لا يوجد.

المعنى الثالث : ان يكون التردد هو جهة التشخص للفرد المردد ، فكما انّ سائر الأفراد الموجودة لها ما يشخصها ويميزها فإنّ ما يشخص الفرد المردد ويميزه هو التردد ، وهذا ما لا نفهم له معنى محصلا ، إذ انّ التردد يباين التشخّص فكيف يكون ما به التشخّص مباينا للتشخص.

المعنى الرابع : ان يكون التردّد من جهة قابلية الفرد المردد للصدق على كثيرين ، وهذا المعنى ان كان المراد منه الكلي فهو معنى معقول لكنه غير مراد حتما ولو كان مرادا فهو من سوء التعبير ، وان كان المراد منه الجزئي بالحمل الشائع فهو مستحيل لأن الجزئي يمتنع فرض صدقه إلاّ على نفسه.

وبهذا اتضح انّ الفرد المردد الذي نبحث عن امكان جريان الاستصحاب في مورده ليس المقصود منه الفرد المردد واقعا ، وانّما هو الفرد المردد عند المكلّف المتشخّص في نفس الأمر والواقع.

وقد ذكروا له صورتين :

الصورة الاولى : هو القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، وهو ما لو علم المكلف بتحقّق الكلّي بواسطة فرده إلاّ انّ هذا الفرد مردد بين فردين لو كان الاول لكان قد انتفى يقينا ، ولو كان الثاني فهو باق يقينا.

ومثاله ما لو علم المكلف بجامع الحدث بواسطة العلم بصدور إما حدث البول أو حدث الجنابة ، فلو كان الصادر عنه هو حدث البول فهو مرتفع يقينا ، وذلك لافتراض توضأ المكلّف بعد العلم بصدور جامع

١٦٢

الحدث ، ولو كان الصادر عنه هو حدث الجنابة فهو باق يقينا.

وهنا ذكر الأعلام انّ الذي يمكن استصحابه هو كلّي الحدث باعتبار توفّره على أركان الاستصحاب ، إلاّ انّه في مقابل ذلك ذكر بعض الأعلام امكانية استصحاب الفرد الواقعي المردد بين الفردين ولا حاجة لاستصحاب الكلّي.

ولا يخلو كلامه من غموض ، إذ انّ مراده ـ كما أفاد المحقق النائيني ـ ان كان هو استصحاب الفرد الخارجي دون ملاحظة خصوصية الفردين والتي هي في المثال الجنابة والبول فهذا هو استصحاب الكلي ، إذ انّ تجريد الحدث عن خصوصية الجنابة وخصوصية البول تقتضي ان يكون المستصحب هو جامع الحدث ، وان كان مراده استصحاب الفرد على تقدير خصوصيته الاولى واستصحابه على تقدير خصوصيته الثانية فهو ممتنع قطعا لأنّه على تقدير خصوصيته الاولى « حدث البول » منتف جزما ـ كما هو الفرض ـ فلا شك في البقاء على تقدير هذه الخصوصية وعلى تقدير الخصوصية الثانية « حدث الجنابة » لا يقين بالحدوث.

الصورة الثانية : هي افتراض علم المكلّف بجامع التكليف مثلا مع التردد فيما هو متعلّقه واقعا وهل هو الفرد الأول أو الفرد الثاني ، ثم يحتمل ارتفاع الجامع بسبب احتمال عروض ما يوجب ارتفاع متعلّقه الواقعي.

والفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة انّ منشأ الشك في بقاء الجامع في الصورة الاولى هو الجزم بارتفاع أحد الفردين ، وحينها لو كان هو المتعلّق واقعا للجامع لكان الجامع قد ارتفع ، ولمّا لم نكن نحرز انّه متعلّق الجامع واقعا أدى ذلك للشك في بقاء الجامع ، وأما منشأ الشك في بقاء الجامع في هذه الصورة فهو احتمال

١٦٣

عروض ما يوجب ارتفاع متعلّق الجامع واقعا ، ومن هنا وقع الشك في بقاء الجامع.

ومثال هذه الصورة ما لو علم المكلّف بوجوب احدى الصلاتين ، اما صلاة الطواف أو صلاة الآيات ثم احتمل ارتفاع الوجوب بسبب نسخ أو انتفاء الموضوع.

وهنا لا يمكن استصحاب الفرد المردد لو كان بمعنى استصحاب الفرد على تقدير خصوصيّته الاولى واستصحابه على تقدير خصوصيته الثانية ، امّا استصحابه بقطع النظر عن الخصوصيتين فهو استصحاب لجامع التكليف المعلوم تفصيلا. والظاهر امكان استصحاب تنجّز الفرد الاول واستصحاب تنجّز الفرد الثاني.

* * *

٥٩ ـ الاستصحاب القهقرائي

وهو الذي يكون فيه المتيقن متأخرا عن المشكوك ، فهو على خلاف طبع الاستصحاب ، حيث يكون فيه متعلّق اليقين متقدما على متعلّق الشك ، فأولا يكون المكلّف متيقنا بوجود الشيء ثم يعرض له الشك في بقائه ، أما الاستصحاب القهقرائي فهو على عكس ذلك تماما ، إذ انّ الحالة المتأخرة عند المكلّف ـ في مورده ـ هي اليقين ويراد منه اسراء حالة اليقين الثابتة فعلا الى حالة الشك الثابتة في الزمن السابق.

مثلا : لو كان المكلّف على يقين فعلي بعدالة زيد إلاّ انّه يشك في اتّصافه بالعدالة قبل شهر ، إذ لو كان عدلا قبل شهر لكان الطلاق الذي أوقع أمامه في ذلك الوقت صحيحا.

والظاهر انّه لم يختلف أحد في عدم حجية هذا النحو من الاستصحاب ، إلاّ ما نسب الى الاستاذ الشريف أو بعض تلامذته ـ كما ذكر ذلك المحقق النائيني رحمه‌الله ـ وذلك لعدم شمول أدلة

١٦٤

الحجية للاستصحاب لهذا الفرض ، إذ لا يكون نقض اليقين بالشك المنهي عنه في أدلة الاستصحاب متحققا في هذا الفرض ، وعندها لا يجري الاستصحاب لاعتبار ذلك في جريانه.

ثم انّ هناك حالة ذكر جمع من العلماء جريان الاستصحاب القهقرائي في موردها وهي ما لو اتفق اليقين بظهور لفظ في معنى إلاّ انّه وقع الشك في انّ هذا الظهور الفعلي هل هو كذلك في زمن صدور النص مثلا أو لا بأن كان اللفظ ظاهرا في معنى آخر ثم انتقل منه الى المعنى الظاهر فعلا.

فالاستصحاب القهقرائي يثبت به ان ظهور اللفظ في زمن النص هو ما عليه الظهور فعلا ، مثلا لو كنّا نحرز انّ لفظ الصعيد ظاهر في مطلق وجه الارض إلاّ انّا نشك فيما هو المعنى الظاهر من لفظ الصعيد في زمن النص وهل هو ما عليه الظهور الفعلي أو انّه كان ظاهرا في معنى آخر ثم انتقل بتمادي الزمن الى المعنى الذي عليه الظهور الفعلي ، وبالاستصحاب القهقرائي نسرّي اليقين الثابت فعلا الى زمن الشك المتقدم.

الاّ انّ السيد الصدر رحمه‌الله ذكر انّ ذلك لا يثبت بواسطة الاستصحاب القهقرائي وانّما يثبت بواسطة أصالة الثبات ، والتي هي من الاصول العقلائية ، ولمزيد من التوضيح راجع عنوان أصالة الثبات.

* * *

٦٠ ـ الاستصحاب الكلّي

الاستصحاب ـ كما ذكرنا في أقسامه ـ قد يكون جزئيا وقد يكون كليا ، والتعرّف على الفرق بينهما يتم بملاحظة المستصحب ، فمتى ما كان المستصحب جزئيا فالاستصحاب في مورده جزئي ، ومتى ما كان المستصحب كليا فالاستصحاب

١٦٥

عندئذ كلّي ، فالتقسيم في المقام بلحاظ المستصحب.

ثم انّه قد يكون المستصحب الكلي حكما شرعيا كما قد يكون موضوعا لحكم شرعي ، فالاول من قبيل طبيعي الوجوب وجامع الحكم التكليفي الأعم من الوجوب والاستحباب أو جامع الحكم الإلزامي الأعم من الحرمة والوجوب ، والثاني مثل جامع الحدث الأعم من الحدث الأكبر والأصغر.

ثم انّه لا فرق في المستصحب الكلّي بين ان يكون من قبيل العناوين المتأصلة كالجواهر والأعراض أو من قبيل الاعتبارات كالاحكام الشرعيّة التكليفية والوضعية أو من قبيل العناوين الانتزاعية والتي تنتزع من اضافة شيء لآخر.

ثم انّ المصحح لجريان الاستصحاب الكلّي أمران :

الأول : ان يكون المستصحب كليا ، بمعنى انّ الذي تواردت عليه حالتا اليقين والشك هو الكلّي.

الثاني : ان يكون لاستصحابه بعنوانه الكلّي أثر شرعي ، فلو لم يكن الأثر الشرعي مترتبا على المستصحب بعنوانه الكلّي فإنّ الاستصحاب الكلّي لا يجري في مورده.

مثلا : لو كان المكلف على يقين بجامع الحدث الأعم من الأكبر والأصغر ثم شك بعد ذلك في بقائه فليس له ان يستصحب جامع الحدث لو كان الأثر الذي يريد ترتيبه مختصا بالحدث الأكبر كحرمة المكث في المسجد أو عبور أحد المسجدين المعظمين ، وذلك لانّ الحدث الأكبر بخصوصه ـ والموجب لهذا الأثر الخاص ـ لم يكن متيقنا وانّما المتيقن هو الجامع الأعم منه ومن الحدث الأصغر.

وهذا بخلاف ما لو كان الأثر مترتبا على الأعم منهما ، فإنّه لا ريب في

١٦٦

صحة جريان استصحاب الكلّي لترتيب ذلك الأثر ، مثلا : لو كان الاثر من قبيل مس كتابة القرآن المجيد أو الدخول في الصلاة أو الطواف الواجب فإنّ استصحاب جامع الحدث ينتج عدم صحة الدخول في الصلاة وكذلك بقية الآثار المشتركة.

ثم انّ الشيخ الانصاري رحمه‌الله وتبعه الشيخ صاحب الكفاية رحمه‌الله قسموا الاستصحاب الكلّي الى ثلاثة أقسام وأضاف السيد الخوئي رحمه‌الله قسما رابعا :

القسم الاول : ان يفترض تحقق العلم بوجود الكلّي وذلك بواسطة العلم بوجود فرده ثم يقع الشك في بقاء ذلك الفرد وهذا يقتضي الشك في بقاء الكلّي ، إذ انّ الشك في انتفاء الفرد ملازم في هذا الفرض للشك في انتفاء الكلّي ، وذلك لأن العلم بالكلّي نشأ ـ كما هو الفرض ـ عن العلم بوجود فرده.

ومثاله : ما لو علم المكلّف بأنه رزق غلاما ذكرا « هو زيد » ولم يكن قد رزق قبله بمولود فهنا يحصل له العلم بوجود جامع الولد له ، ثم لو شك في بقاء ولده زيد فإنّ ذلك يساوق الشك في بقاء كلّي الولد.

وعندئذ ان كان الأثر الشرعي مترتبا على بقاء زيد الولد بعنوانه الشخصي فإنّ الذي يجري هو الاستصحاب الشخصي دون الكلّي ، مثلا لو كان الأب قد نذر ان يعقّ عن ولده زيد في اليوم السابع فإنّ الاستصحاب الجاري عند الشك في البقاء انّما هو الاستصحاب الشخصي ، وذلك لانّ الأثر الشرعي وهو وجوب العقيقة في اليوم السابع انّما هو مترتب على بقاء زيد الولد لا انّه مترتب على كلّي الولد ، نعم لو كان الاثر المراد ترتيبه هو وجوب النفقة فإنّ الاستصحاب الجاري حينئذ هو الاستصحاب الكلّي ، وذلك لأن موضوع هذا الأثر هو وجود كلّي الولد.

١٦٧

القسم الثاني : ان يفترض تحقق العلم بوجود الكلّي في ضمن فرد غير متشخّص ـ فيكون الكلّي وكذلك الفرد محرز الوجود ، غايته انّ الفرد المحرز الوجود مجهول الهويّة ـ ثم بعد ذلك أحرزنا ارتفاع فرد معين إلاّ انّه وقع الشك من جهة انّ الفرد المنتفي هل هو الواقع في ضمن الكلي حتى ينتفي مع ارتفاعه الكلّي أو انّه لم يكن الواقع في ضمن الكلّي ، وهذا ما سبّب الشك في بقاء الكلّي.

ومثاله : ما لو علم المكلّف بصدور كلّي الحدث منه الاّ انّه لم يكن يعلم انّ الحدث الصادر عنه هل هو في ضمن حدث البول أو الجنابة ، ثم انّه لو توضأ بعد ذلك فلا محالة يقع الشك منه في بقاء كلّي الحدث ، إذ لو كان الحدث الذي صدر منه هو حدث البول فقد ارتفع يقينا ولو كان الحدث الصادر منه هو الجنابة فهو باق يقينا ، ولمّا لم يكن يعلم بهويّة الفرد الواقع في ضمن كلّي الحدث أوجب ذلك الشك في بقاء كلّي الحدث.

وبهذا يتضح انّ الذي يمكن استصحابه في هذا القسم هو الكلي فحسب ولكن شريطة ان يكون لاستصحابه أثر شرعي كما في المثال حيث انّ لاستصحاب جامع الحدث أثرا شرعيا وهو حرمة مس كتابة القرآن الكريم والدخول في الصلاة والطواف الواجب ، إذ ان ذلك من آثار كلّي الحدث الأعم من الأكبر والاصغر.

وأمّا استصحاب الجزئي فلا يمكن جريانه في هذا القسم ـ كما ذكرنا ـ وذلك لأن مورده مردد بين ما هو معلوم الارتفاع وهو حدث البول ـ كما في المثال ـ وبين ما هو مشكوك الحدوث وهو حدث الجنابة.

ومن هنا لا يمكن ترتيب الآثار المختصة بأحدهما ، فلا يمكن الحكم بحرمة المكث في المسجد والذي هو أثر

١٦٨

شرعي للحدث الأكبر ، كما انّ الاثر الخاص بالحدث الاصغر لو اتفق لا يمكن ترتيبه لو كان الأكبر هو المعلوم الارتفاع.

القسم الثالث : ان يفترض تحقق العلم بالفرد وهذا يقتضي تحقق العلم بوجود الكلّي الواقع في ضمن الفرد ثم انّه لو حصل العلم بارتفاع الفرد إلاّ انّه نحتمل بقاء الكلّي ضمن فرد آخر كان موجودا قبل ارتفاع الفرد الاول أو انّ الفرد الآخر حدث ساعة انتفاء الفرد الاول المعلوم الحدوث.

ومثاله : ما لو علم المكلّف بصدور حدث البول منه ، فهو حينئذ يعلم بصدور كلّي الحدث ، ثم لو أحرز ارتفاع حدث البول بواسطة الوضوء إلاّ انّه احتمل طروء حدث الجنابة له قبل ارتفاع حدث البول أو ساعة ارتفاعه ، فهو حينئذ وان كان يقطع بارتفاع حدث البول إلاّ انّه لا يقطع بارتفاع كلّي الحدث لاحتمال طرو حدث الجنابة عنه قبل ارتفاع حدث البول أو حين ارتفاعه بحيث لم يتخلل وقت لم يكن محدثا.

وهنا يقع البحث عن امكان إجراء استصحاب الكلّي باعتبار انّ كلّي الحدث كان متيقنا ثم وقع الشك في بقائه.

هذه هي الأقسام الثلاثة التي ذكرها الشيخ الانصاري رحمه‌الله وأضاف اليها السيد الخوئي قسما رابعا وهو :

القسم الرابع : هو ما لو احرز وجود فرد معين ومشخّص ، وهذا يستوجب إحراز وجود الكلّي في ضمنه ، واتفق ان كان هناك علم بفرد متعنون بعنوان معين إلاّ انّه لا ندري انّ هذا الفرد ذو العنوان هل هو عينه الفرد الاول أو انّه فرد آخر ، ثم لو حصل العلم بارتفاع الفرد الاول المعين فإنّه يقع الشك في بقاء الكلّي ، لأنّه ان كان الفرد ذو العنوان هو عينه الفرد الاول فهذا يعني ارتفاعه قطعا وبه يرتفع الكلّي ايضا ، وان كان الفرد ذو العنوان مغايرا للفرد الاول فهذا يعني بقاء الكلّي جزما في

١٦٩

ضمن الفرد ذي العنوان ، ولمّا لم نكن نحرز انطباق الفرد ذي العنوان على الفرد الاول يقع الشك في بقاء الكلّي.

ومثاله : ما لو علم المكلّف بغرق ولده زيد فهو اذن يعلم بغرق إنسان ، ولو اتفق ان علم أيضا بغرق شاب إلاّ انّه لم يحرز انّ هذا الشاب هو ابنه زيد أو انّه فرد آخر. ثم انّ هذا المكلّف لو انقذ ولده من الغرق فإنّه يظلّ محتملا لبقاء كلّي الإنسان في حالة الغرق ، وذلك لاحتمال ان يكون عنوان الشاب المعلوم كونه في حالة الغرق هو فرد آخر غير ولده الذي أنقذه ، وحينئذ يقع البحث في جريان استصحاب الكلّي في هذا الفرض.

* * *

٦١ ـ استصحاب المفهوم المردد

والمفهوم المردد هو الكلّي الذي يدور معناه بين معنيين متباينين أو بين معنيين أحدهما أوسع دائرة من الآخر.

ومثال الاول : ما لو قال المولى « ذات القرء لا يصح طلاقها » فإنّ القرء مردد بين معنيين متباينين ، فإمّا ان يكون المراد منه الطهر أو يكون المراد منه الحيض.

ومثال الثاني : عدم جواز الصلاة خلف الفاسق ، فإن مفهوم الفاسق مردد بين مرتكب الكبيرة والصغيرة ، وهذا يقتضي ضيق دائرة المفهوم ، وبين مرتكب الكبيرة فحسب.

أما في حالات دوران المفهوم بين متباينين وعدم وجود قدر مشترك بينهما فلا مجال للاستصحاب ، لأن الأثر الشرعي المترتب على المفهوم المردد لا نحرز ترتّبه على المعنى الاول ولا على المعنى الثاني.

فلو علمنا بتحيض المرأة ثم شككنا في بقائها على حدث الحيض ، فهنا لا يمكن استصحابه حدث الحيض لترتيب الأثر الثابت لمفهوم القرء وهو صحة الطلاق ، وهكذا لو كانت الحالة

١٧٠

السابقة هي الطهر. نعم لو كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم القرء فإنّه يمكن استصحاب لترتيب أثره الشرعي.

وأما في حالات دوران المفهوم بين الأقل والأكثر ، فلو كان القدر المتيقن ـ وهو الأكثر ـ محرزا ثم شك في بقائه فإنه لا مانع من استصحابه لترتيب الأثر الشرعي المترتب على المفهوم المردد ، كما لو كنا نحرز عدالة زيد على كلا تقديري المراد من مفهوم العدالة ثم شك في بقاء هذا المقدار من العدالة.

أما لو كان الأقل هو المحرز ثم شك في بقائه فحينئذ لا يمكن استصحابه لترتيب الاثر الشرعي المترتب على المفهوم المردد ، لعدم إحراز تحقق المفهوم المردد ، إذ لعلّ الأكثر هو المراد من المفهوم المردد ، فالشك في مورد الأقل شك في أصل الحدوث للمفهوم.

أما لو كان الأثر مترتبا على العدم فإنّه لا مانع من جريانه لو كان العدم محرزا ثم شك في ارتفاعه ، كما لو كنا نحرز عدم عدالة زيد على كلا تقديري المراد من مفهوم العدالة ثم انّ زيدا ترك ارتكاب الكبائر ، فشككنا انّ عدم العدالة هل ارتفع بذلك أو لا ، فعندئذ نستصحب عدم العدالة.

ثم لا يخفى ان المقصود من ترتّب الأثر على المفهوم المردّد هو ترتّبه على المفهوم المتعيّن في نفس الأمر والواقع ، وليس المقصود ترتّبه على المفهوم المردد بعنوان كونه مرددا ، فالتردّد ليس هو موضوع الأثر الشرعي وانّما نشأ عن جهل المكلّف بما هو المراد الواقعي من المفهوم ، فلم يؤخذ التردد في مفهوم الأثر الشرعي.

* * *

٦٢ ـ استصحاب حال الشرع

المراد منه استصحاب الحكم الأعم من الكلّي والجزئي الثابت في الشريعة في ظرف الشك في بقائه ، فالمستصحب في المقام هو الحكم الكلّي والجزئي

١٧١

الأعم من الوضعي والتكليفي ، وهذا بخلاف استصحاب حال العقل فإنّ المستصحب في مورده هو نفي الحكم الشرعي التكليفي الإلزامي.

على انّ المقصود من الاستصحاب في المقام هو الاستصحاب الاصطلاحي والذي يقتضي لزوم البناء على الحالة المتيقنة في ظرف الشك في بقائها ، وهذا بخلاف استصحاب حال العقل فإنّه بمعنى الرجوع الى ما تقتضيه القاعدة العقلية من براءة ذمة المكلّف عن التكليف غير المعلوم فهو تعبير آخر عن التمسّك بالبراءة الأصلية.

ومنشأ التعبير باستصحاب حال الشرع هو انّ المستصحب والذي هو الحالة السابقة المتيقنة ثبتت حكمها بواسطة الشرع ، ويمكن ان يكون المنشأ لذلك هو انّ المستصحب عبارة عن الحكم الشرعي ، فحال الشرع هو الحكم الشرعي.

وكيف كان فقد ذكر صاحب الحدائق رحمه‌الله انّ الاستصحاب يطلق ـ عند قدماء الاصوليين ـ على معان ثلاثة بالإضافة الى استصحاب حال العقل والتي هي البراءة الأصلية.

الأول والثاني : هو استصحاب حكم العموم واستصحاب الإطلاق الى ان يثبت المخصّص والمقيّد. وعلّق على هذين القسمين بأنهما ليسا من الاستصحاب في شيء وانّهما يرجعان الى التمسّك باطلاق النص أو عمومه ، فهما من الأدلة اللفظية الشرعية المحرزة. ولعل هذا هو منشأ عدم تعرّض الشيخ الطوسي رحمه‌الله في العدّة وكذلك صاحب المعالم والفاضل التوني في الوافية لهذين القسمين.

الثالث : هو استصحاب الحكم الشرعي الثابت لمورد في حالة طروء ما يوجب الشك في انتفاء الحكم عن ذلك المورد. ومنشأ الشك تارة يكون اشتباه الامور الخارجية وهذا هو

١٧٢

مورد استصحاب الحكم الجزئي أو قل الاستصحاب في الشبهات الموضوعية ، وتارة يكون منشأ الشك هو احتمال ارتفاع الحكم وزواله بعد اليقين بثبوته ، وهذا من استصحاب الحكم الكلي والذي هو من أقسام الشبهات الحكمية ، وقد يكون منشأ الشك هو الجهل بحدود موضوع الحكم المجعول من حيث السعة والضيق ، وهذا أيضا من الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وكلّ هذه الموارد داخلة في محلّ النزاع عندهم كما هو المستظهر من كلماتهم بالتأمل ، نعم المثال الذي عادة ما يقرّبون به محلّ النزاع هو ما ينقلونه عن بعض أصحاب الشافعي من انّ المتيمم الفاقد للماء لو اتفق ان وجد الماء أثناء الصلاة ، فهل يجب عليه المضي في الصلاة أو انّ وجدان الماء يكون بمثابة الحدث المانع من المضي في الصلاة ، وهنا يكون الاستصحاب مقتضيا للبناء على الحالة السابقة وهي وجوب المضي في الصلاة ، وهذا الفرض انّما يناسب استصحاب الحكم الكلّي ، وذلك لأن منشأ الشك هو الجهل بسعة دائرة موضوع الحكم المجعول كما أوضحنا ذلك تحت عنوان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

إلاّ انّه لا يختص محلّ النزاع بهذا المورد كما يوضح ذلك تمثيلهم بمن تيقن الطهارة ثم شك في طروء الحدث وكذلك الشك في حياة الزوج بعد غيابه أو الشك في طهارة الثوب بعد العلم بطهارتها ، فإنّ هذه الأمثلة تناسب الاستصحاب في الشبهات الموضوعية.

وأما شمول محلّ النزاع لموارد الشك في نسخ الحكم فهو مستفاد من بعض كلمات الفاضل التوني رحمه‌الله.

وكيف كان فقد كان السائد بين قدماء الاصوليين هو تصنيف استصحاب حال الشرع في الأدلة

١٧٣

العقلية ، ومنشأ ذلك ـ بنظرهم ـ هو انّ ثبوت الحكم في الحالة السابقة كاشف عن بقائه ، وذلك لوجود المقتضي للحكم في ظرف الشك وليس شيء سوى الشك في صلاحية العارض للمنع عن ان يؤثر المقتضي أثره ، والشك في صلاحيته لذلك يساوق عدم صلاحيته للمنع عن ان يؤثر المقتضي المحرز أثره.

ثم انّ هنا استصحاب يعبّر عنه باستصحاب حال الإجماع ، وهو في الواقع من أقسام استصحاب حال الشرع ، والمقصود منه الإشارة الى مدرك الحكم الشرعي المستصحب وانّه الإجماع ، فالحكم الشرعي الثابت في حالة أو وقت بواسطة الإجماع إذا وقع الشك فيه في حالة لاحقة أو وقت آخر فإنّ استصحابه يقتضي لزوم البناء على بقاء الحكم الشرعي الثابت بالإجماع.

* * *

٦٣ ـ استصحاب حال العقل

المراد من استصحاب حال العقل ـ كما هو المستظهر من عبائر صاحب الحدائق رحمه‌الله ـ هو البراءة الأصلية النافية للحكم الإلزامي « الوجوب والحرمة » ، والتي يعبّر عنها بأصالة النفي وبأصالة براءة الذمة عن التكليف ما لم يقم على ثبوته دليل ، كما سنوضح ذلك في محلّه.

وأما ما هو المستظهر من عبائر الفاضل التوني رحمه‌الله فهو انّ استصحاب حال العقل يختلف عن البراءة الأصلية ، وذلك بقرينة اعتبار استصحاب حال العقل قسيما للبراءة الأصلية ، نعم المراد من استصحاب حال العقل هو استصحاب البراءة الأصلية.

وما أفاده الفاضل التوني رحمه‌الله هو المناسب لكلمات قدماء الاصوليين ـ رغم اضطرابها ـ ، إذ انّ كثيرا منهم

١٧٤

يصنّفون الدليل العقلي الى البراءة والاستصحاب ـ ويجعلون استصحاب حال العقل في أقسام الاستصحاب ـ وقد يضيفون اليها الملازمات العقلية وكذلك غيرها.

وصاحب الحدائق رحمه‌الله وان كان قد ذكر هذا التصنيف وأفرد للاستصحاب عنوانا مستقلا عن البراءة الأصلية في المقدمة الثالثة إلاّ انّه بعد ان ذكر أقسام الاستصحاب ذكر انّ القسم الاول منها هو « استصحاب نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة منه الى ان يظهر دليله » ثم قال : « وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصلية الذي تقدم الكلام عليها بمعنييها ».

وكيف كان فالمراد من حال العقل هو الحالة التي عليها العقل من إدراك براءة ذمة المكلّف عن كلّ تكليف إلزامي لم يقم دليل على ثبوته ، وبهذا يكون المراد من استحباب حال العقل هو استصحاب المدرك العقلي.

والظاهر انّ الاستصحاب هنا يعني الرجوع الى الحكم العقلي القاضي ببراءة الذمة عن التكليف الإلزامي غير المعلوم ، وليس المراد منه الاستصحاب الاصطلاحي المقتضي للبناء على الحالة المتيقنة في ظرف الشك ، نعم فسّر الفاضل التوني « الحال » بالحالة السابقة ، وهذا يعبّر بدوا عن انّ المراد من استصحاب حال العقل هو الاستصحاب الاصطلاحي إلاّ انّ الظاهر عدم إرادته لذلك بقرينة تفسيره للحالة السابقة بعدم اشتغال الذمة في الزمن السابق ، وواضح انّ عدم اشتغال الذمة انّما ثبت بواسطة حكم العقل ببراءة الذمة عن كلّ تكليف لم يقم على ثبوته دليل ، وهذا الافتراض وهو عدم قيام الدليل يظلّ منقّحا لموضوع الحكم العقلي بالبراءة مطلقا ، فليس ثمة حالة يمكن افتراضها مجرى لاستصحاب حال العقل ولا يكون موضوع الحكم العقلي بالبراءة

١٧٥

متحرّرا فأين اليقين السابق والشك اللاحق ، فلو افترض انّ المكلّف قد عثر على دليل الحكم فلا مجال لاستصحاب حال العقل كما لا مجال لإجراء القاعدة العقلية ، ففي كلّ مورد يجري فيه استصحاب حال العقل تجري فيه القاعدة وكذلك العكس.

وبهذا يتّضح انّ المراد من استصحاب حال العقل هو الرجوع الى القاعدة العقلية القاضية بالبراءة عن كلّ تكليف غير معلوم ، والذي يؤكد ما ذكرناه انّهم استدلوا على حجية هذا الاستصحاب بمدرك القاعدة القاضية ببراءة الذمة عن كلّ تكليف لم يقم عليه دليل.

وأما وجه تفسير الفاضل التوني « للحال » بالحالة السابقة فلعلّه لأجل انّ الشك في كلّ مورد بخصوصه يكون متأخرا عن تحرّر القاعدة العقلية فيكون نفي الحكم الإلزامي عن ذلك المورد بواسطة الرجوع الى القاعدة العقلية ، وهذا هو المبرّر للتعبير عن الرجوع بالاستصحاب ، لأنه عبارة عن إجراء القاعدة المتيقنة على مورد الشك ، فهو أشبه بتطبيق الكبرى على احدى صغرياتها فينتفي الشك عن المورد بواسطة التطبيق والإرجاع.

نعم المستظهر من عبائره انّ ثمة حالة سابقة متيقنة وحالة لاحقة مشكوكة ، وهذا معناه انّ المراد من الاستصحاب هو الاستصحاب الاصطلاحي ، إلاّ انّه مع ذلك يمكن توجيهه بما يناسب ما ذكرناه من انّ استصحاب حال العقل معناه الرجوع الى البراءة الأصلية.

وهو انّ المكلّف قد يتمسك بالبراءة الأصلية المدركة بالعقل ابتداء لعدم عثوره على دليل أصلا ، إلاّ انّه بعد ذلك يعثر على رواية ضعيفة السند أو مضطربة الدلالة فيحتمل انّ ذلك موجبا لاشتغال ذمته بمفادها أو بما يتراءى منها ، وهنا يستصحب البراءة

١٧٦

الأصلية المدركة بالعقل والثابتة قبل العثور على هذه الرواية ، وواضح انّ هذا ليس من الاستصحاب الاصطلاحي ، لأنّ العثور على الرواية الضعيفة لا ينفي موضوع القاعدة العقلية ـ القاضية بالبراءة الأصلية ـ والذي هو عدم العثور على دليل ، فالحالة التي هو عليها قبل العثور هي الحالة التي هو عليها بعد العثور على الرواية ، فليس ثمة يقين سابق وشك لاحق.

نعم المناسب في المقام هو التعبير باستصحاب البراءة المدركة بالعقل ، وذلك لتجدّد شيء لم يكن موجودا والذي هو العثور على الرواية.

وهناك صورة اخرى تناسب عبائر الفاضل التوني رحمه‌الله ولا تنافي ما ذكرناه ، وهي ما لو لم يقم دليل على وجوب النفقة على الأخ ، وكان حال المكلّف عند ذلك هو الفقر ، ثم أصبح المكلّف مليا فاحتمل انّ طروء هذه الحالة موجب لاشتغال ذمته بوجوب النفقة على أخيه.

فهنا يستصحب البراءة الأصلية والتي هي استصحاب حال العقل ، وواضح انّ هذا الاستصحاب ليس أكثر من إجراء البراءة الأصلية ، غايته انّ المناسب هنا هو التعبير باستصحاب حال العقل ، وذلك لأنه رجوع الى ما يقتضيه حكم العقل بعد ان لم يكن مبرّر لهذه المئونة الزائدة في حالته الاولى.

وكيف كان فلو كان في هذا التوجيه وسابقه شيء من التكلّف فهو ناشئ عن اضطراب عبائر الفاضل التوني رحمه‌الله وعدم تعقل إرادة ظهورها الاولي.

وبهذا يتضح تمامية ما أفاده صاحب الحدائق رحمه‌الله من انّ استصحاب حال العقل هو عينه البراءة الأصلية النافية للتكليف الإلزامي بمقتضى حكم العقل بعدم اشتغال ذمة المكلّف بتكليف لم يقم

١٧٧

على ثبوته دليل.

ومن هنا عدّ قدماء الاصوليين هذا النحو من الاستصحاب من الأدلة العقلية ، إذ انّ مستنده عندهم ـ كما أفاد ذلك الفاضل التوني وغيره ـ هو ما يدركه العقل من قبح التكليف بما لا يطاق ، ويمكن تقريب ذلك بأحد وجهين :

الأول : انّ المفترض هو انّ المكلّف بذل الوسع في البحث عن التكليف ولم يتمكن من الوصول اليه ، وهذا معناه انّ الوصول للتكليف خارج عن طاقة المكلّف ، فمطالبته بالتكليف حينئذ تكليف بما لا يطاق.

الثاني : انّ الجاهل بالتكليف يستحيل منه الانبعاث عن التكليف وحينئذ يكون تكليفه بما لا يتمكن من الانبعاث عنه تكليف بما لا يطاق.

وبتقريب آخر ذكره الشيخ الأنصاري رحمه‌الله انّ امتثال التكليف لا يكون إلاّ بقصد امتثاله ، ومع جهل المكلّف به لا يكون قصد الامتثال منه ممكنا ، وحينئذ يكون تكليفه بما لا يتمكن من امتثاله ـ لعدم القدرة على قصد امتثاله ـ تكليفا بما لا يطاق.

* * *

٦٤ ـ استصحاب حكم المخصص في العموم الأزماني

والبحث في المقام عن حكم الفرد المخصص لو كان تخصيصه محرز في زمان ثم وقع الشك في حكمه بعد ذلك الزمان ، فهل المرجع هو عموم العام الأزماني او انّ المرجع هو استصحاب حكم المخصص.

مثلا قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١٨) يدلّ باطلاقه أو عمومه على لزوم كل عقد وانّ هذا اللزوم ثابت للعقد على امتداد الزمن ، فلو قام الدليل الخاص على انّ البيع الذي يكون المبيع فيه معيبا ليس لازما حين انكشاف العيب للمشتري وانّ له خيار العيب ، بمعنى انّ له فسخ العقد

١٧٨

حين انكشاف العيب ، فلو انّ المشتري لم يعمل خياره حين انكشاف العيب وتوانى بحيث مضى وقت يعدّه العرف خروجا عن حدّ الفورية المحرز معها ثبوت الخيار والخروج عن عموم العام الأزماني ، وعندها يقع الشك في انّ هذا البيع خياري أو انه بيع لزومي كسائر البيوع.

والحكم بأن هذا البيع ـ بعد انتهاء الوقت المحرز للخيار ـ لزومي معناه ان المرجع في مثل هذا الشك هو عموم العام الأزماني ـ كما انّ الحكم بأنّ هذا البيع ـ بعد انتهاء الوقت المحرز للخيار ـ خياري معناه انّ المرجع في مثل هذا الشك هو استصحاب المخصص.

وهنا أمر لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّ البحث ليس عن كبرى التعارض بين عموم العام الأزماني وبين الاستصحاب فإن نتيجة هذا البحث واضحة على ما هو محرر في محلّه وهي ان المقدم حينئذ هو عموم العام باعتباره دليلا اجتهاديا فالامارات دائما مقدمة على الاصول العملية بل حتى لو كان الاستصحاب أمارة فإنّ العموم مقدم عليه ، فالبحث في المقام انّما هو عن الحالات والموارد التي يكون المرجع فيها هو عموم العام والموارد التي يكون المرجع فيها هو استصحاب المخصص.

ولا بأس بتقرير ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله في المقام باعتباره دخيلا في اتضاح معالم البحث.

فقد ذكر انّ الحالات المتصورة في المقام أربع :

الصورة الاولى : ان يكون العموم الأزماني عموما مجموعيا ويكون الزمان الملحوظ في دليل المخصص ليس أكثر من ظرف للحكم المخصص.

والمراد من العموم المجموعي هو انّ الأفراد الطولية للعام تمثّل بمجموعها موضوع حكم العام فيكون كل فرد جزء لموضوع حكم العام ، ومن هنا لا

١٧٩

يكون لحكم العام إلاّ امتثال واحد ومعصية واحدة ، فلو أخلّ المكلّف بفرد من أفراد العام الممتدة في عمود الزمان فهذا معناه عدم امتثال حكم العام ، إذ انّ تحقّق الامتثال لا يكون في هذا الفرض بالإتيان بتمام الأفراد المتعاقبة.

ومثاله قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١٩) فإنّ المطلوب هو وجوب الوفاء بالعقد في تمام الآنات المتعاقبة ، بمعنى ان ظرف وجوب الوفاء بالعقد هو مجموع الآنات الممتدّة في عمود الزمان ، فليس الزمان مفرّدا ومصنّفا لحكم العام الى أحكام طولية يكون لكلّ واحد طاعة ومعصية مستقلّة ، بل هناك حكم واحد ظرفه هو مجموع آنات الزمان ، وحينئذ لو قام دليل مفاده عدم وجوب الوفاء بالعقد حين انكشاف الغبن في المعاملة ، فلو افترضنا انّ الزمان الملحوظ في المخصص لم يكن سوى ظرف لحكم الخاص فما هو المرجع عند الشك في حكم المخصّص بعد انتهاء الزمان الملحوظ فيه؟

ذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله الى انّ المرجع في هذا الفرض هو استصحاب المخصص ، وذلك لأن الزمان الملحوظ في حكم العام لم يكن سوى ظرف للحكم ، وهذا يقتضي ان لا يكون الزمان مستوجبا لتصنيف موضوع العام الى أفراد طولية يتعدد بتعددها الحكم ، فليس في البين سوى حكم واحد ظرفه الدوام والاستمرار ، وعند مجيء المخصص يكون ذلك الاستمرار قد انقطع بواسطته ، فلا يكون الفرد العرضي الذي خرج بالتخصيص مشمولا لحكم العام بعد انتهاء الزمان الذي اخذ ظرفا للحكم الخاص مشمولا ، وعندئذ لا مبرّر للرجوع الى العام عند الشك في حكم الخاص بعد انتهاء زمن الخاص الذي أخذ ظرفا له.

١٨٠