المعجم الأصولي - ج ١

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

المعجم الأصولي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد صنقور علي البحراني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات نقش
المطبعة: عترت
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7606-16-8
ISBN الدورة:
964-7606-15-X

الصفحات: ٦٤٠
الجزء ١ الجزء ٢

هي إرادة استعمال اللفظ الذي له صلاحية الدلالة على المعنى وهذا يجامع إرادة الإجمال لكنه مع ذلك قصد اللفظ الذي له الصلاحية للدلالة على المعنى.

* * *

٤٢ ـ الإرادة الإلهيّة

إنّ البحث عن الإرادة الإلهيّة من المباحث الشائكة جدا ، فقد وقع الخلاف في ماهيتها وحقيقتها ، وما يهمنا في المقام هو المقدار الذي وقع في كلمات الاصوليين ، فقد اختلفوا فيما هو المراد من الإرادة الإلهية ، وهنا ثلاثة معان أساسية :

المعنى الاول : وهو الذي تبناه صاحب الكفاية رحمه‌الله وبعض الاصوليين تبعا لما هو المشهور بين الفلاسفة وحاصله :

انّ الإرادة الإلهية تعني العلم بالنظام الكامل والأصلح ، بمعنى انّه يعلم الخير والصلاح والكمال وأيّ الأفعال التي تكون متناسبة مع الكمال والنظام الأتم.

وقد فسّر الحكيم السبزواري هذا المعنى بما حاصله : انّ الإرادة الالهية تعني وجود الداعي لفعل الخير والنظام الأحسن والأكمل ، وهذا الداعي هو عين علمه تعالى بالنظام الأتم والأكمل ، ولمّا كان علمه تعالى هو عين ذاته فالإرادة الإلهية بهذا المعنى هي عين ذاته ، فالفرق بين الإرادة الإنسانيّة والإرادة الإلهية هو انّ الإرادة الإنسانية تعني الشوق المؤكد الناشئ عن الداعي والذي هو إدراك الشيء الملائم ، أما الإرادة الإلهيّة فهي عين الداعي والذي هو إدراك الأصلح والأكمل.

وبتعبير آخر : هي عين علمه والذي هو عين ذاته المقدسة ، فيكون الداعي للإيجاد هو عين ذاته ، إذ لا يتعقل في ساحته تعالى كون إرادته

١٠١

بمعنى الشوق والذي هو كيف نفساني حادث وعارض على الذات ، فإرادته ليست حالة منتظرة كما انّها ليست متخلّقة عن تصوّر الشيء الملائم كما هو الحال في الإرادة الإنسانية.

وأورد المحقّق النائيني رحمه‌الله على تفسير الإرادة بهذا المعنى بأنّه من خلط المفهوم بالمصداق ، إذ انّ البحث في المقام عن مفهوم الإرادة وعن اتّصاف المولى جلّ وعلا بها ، ومن الواضح انّ صفات الله جلّ وعلا متغايرة وليس أحدها عين الآخر ، فالقدرة غير العلم كما انّها غير الحياة كما انّ العلم غير الإرادة ، فلكلّ واحدة منها معنى مستقل عن الآخر ، غايته انّ مطابق هذه الصفات واحد ، إذ انّ صفات الله تعالى عين ذاته ، فهو كما قيل « قدرة كلّه وحياة كلّه وإرادة كلّه وعلم كلّه » فهو بسيط من تمام الجهات فليس كل واحدة من هذه الصفات يمثل جزء ذاته أو انّ صفاته زائدة على ذاته فهو صرف الوجود وصرف القدرة وصرف الإرادة وهكذا ، إلاّ انّ العينية في الخارج لا يعني اتحاد هذه الصفات مفهوما ، ومن هنا لا تصح دعوى انّ الإرادة هي العلم بالنظام الاصلح.

المعنى الثاني : وهو الذي تبنّاه المحقّق النائيني رحمه‌الله وادعى انّه مبنى أكابر الفلاسفة ، وحاصله :

انّ الإرادة الالهية تعني الابتهاج والعشق والرضا بذاته تعالى ، وذلك لأنّ ذاته أتم وأكمل مدرك ، فذاته حينما تدرك ذاته فإنّه تمام الإدراك لأتم مدرك ، فهي كل الخير والكمال والبهاء والجمال ، وهذا ما يقتضي ابتهاج الذات المقدّسة بذاتها ـ تقدّست وجلّت ـ ، ثم انّ ذلك يستوجب ابتهاجها بما يصدر عنها ، إذ انّ الذات المقدسة لمّا كانت في أعلى مراتب الكمال فما يصدر عنها يكون مسانخا لكمالها ، وهو تعالى لمّا كان مبتهجا بكمال ذاته يكون مبتهجا بآثارها وهو

١٠٢

المعبّر عنه بالابتهاج في مرحلة الفعل أو بالمشيئة بحسب تعبير الروايات.

فهناك ابتهاج يكون من صفاته الذاتية وهو الابتهاج بالذات لكونها أتمّ مدرك ، وهي الإرادة الذاتية الأزلية ، وهناك ابتهاج في مرحلة الفعل وهو الرضا عن آثار الذات ، إذ حينما تكون الذات مرضية ومعشوقة تكون آثارها كذلك ، والرضا المتعلّق بآثار الذات هي الإرادة التي من صفات الفعل المعبّر عنها بالإرادة الفعليّة.

وأورد السيد الخوئي رحمه‌الله على هذا المعنى بأنّه لا يتناسب مع مفهوم الإرادة لا لغة ولا عرفا ، ولا يبعد ان يكون منشأ هذا التكلّف هو دعوى ان إرادة الله جلّ وعلا ذاتية ، وهو ما لا يلزم الالتزام به ، فنحن وان كنّا نلتزم بأنّ الإرادة ليست بمعنى الشوق الأكيد إلاّ انّ ذلك لا يعيّن المعنى المذكور.

ثم ادعى السيد الخوئي رحمه‌الله انّ الرضا من الصفات الفعليّة كالسخط ، فهو ليس كالعلم والقدرة ، والدليل على ذلك صحة سلبه عن الذات ، وهو أمارة كونه من صفات الفعل ، ولو سلمنا انّه من صفات الذات فإنّه لا دليل على انّ الرضا هو الإرادة.

أقول : لا تخفى غفلة السيد الخوئي رحمه‌الله عن مراد المحقّق النائيني رحمه‌الله فإنّ الرضا الذي هو من صفات الفعل ليس هو الرضا المقصود عند المحقّق النائيني وجمع من الفلاسفة كما أوضحنا ذلك.

المعنى الثالث : وهو الذي تبنّاه السيد الخوئي رحمه‌الله ، وحاصله : انّ الإرادة لا تكون إلاّ من صفات الفعل ، وذلك لأنّ المراد منها هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنه في الروايات بالمشيئة.

واستدلّ لذلك بعد اسقاط المعنيين الأولين انّه لمّا كان من المستحيل نسبة الإرادة بمعنى الشوق الأكيد الى الله تعالى وانّه لا معنى معقول للإرادة غير

١٠٣

إعمال القدرة والسلطنة تعيّن ان يكون المراد من الإرادة هو هذا المعنى خصوصا وانّ الروايات لا تثبت معنى للإرادة غير هذا المعنى ، نعم لمّا كانت قدرة الله تعالى وسلطنته تامة لا يشوبها نقص فإن المراد الإلهي لا يناط بشيء آخر غير إعمال هذه القدرة والسلطنة.

وهذا هو معنى قوله عليه‌السلام في معتبرة صفوان « الإرادة من الخلق الضمير وما يبدوا لهم بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يروى ولا يهم ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكّر ولا كيف كما انّه لا كيف له » (٣).

ثم لا يخفى انّ إعمال القدرة والتي هي المشيئة والإرادة ليست ناشئة عن إعمال القدرة وإلاّ لزم التسلسل ، فالإرادة إذن متخلّقة عن غير إعمال القدرة ، وهذا هو معنى قوله عليه‌السلام في معتبرة عمرو بن أذينة « خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة » (٤).

* * *

٤٣ ـ الإرادة التفهيميّة

وهي تعني قصد تفهيم المعنى بواسطة اللفظ ، فهي تختلف عن الإرادة الاستعماليّة من جهة انّ المراد في الإرادة التفهيمية هو ايجاد او قل اخطار صورة المعنى في ذهن المخاطب عن طريق استعمال اللفظ ، وأمّا المراد في الإرادة الاستعمالية فهو ـ كما أفاد السيد الصدر ـ ليس أكثر من قصد الإتيان بما يمهّد للدلالة دون ان يستلزم ذلك قصد التفهيم ، إذ قد لا يكون مراد المستعمل تفهيم المعنى كما أوضحنا ذلك في بحث الإرادة الاستعمالية.

* * *

١٠٤

٤٥ ـ الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة

المراد من الإرادة التكوينية ـ بحسب نظر صاحب الكفاية رحمه‌الله ـ هي العلم بالنظام الاصلح ، وهذا هو المعنى الاول الذي ذكرناه للإرادة الإلهية ، وهذه الإرادة تقتضي إفاضة الوجود على الاشياء بما يتناسب مع علمه تعالى بما هو الأكمل والأتم.

وأما الإرادة التشريعية فهي بمعنى علمه تعالى بمصلحة فعل إذا صدر عن مكلّف بمحض اختياره ، فالفعل في علم الله تعالى انّما يكون واجدا للمصلحة عند ما يصدر بواسطة المكلّف ويكون عن اختيار. وهذا المعنى للإرادة التكوينية والتشريعية هو ما تبنّاه مشهور الفلاسفة.

المعنى الثاني : هو انّ الإرادة لمّا كانت بمعنى الحب والرغبة فهي تارة تتعلّق بالافعال الصادر عن المريد مباشرة ، كما لو كان الحب والإرادة متعلّقة بأن يحيي ويميت وفي الإنسان بأن يتزوج ، فهذه الإرادة هي المعبّر عنها بالإرادة التكوينية ، وتارة تتعلّق الإرادة والرغبة بأن يصدر الفعل عن آخر ، على ان يكون صدوره عنه باختياره ، وهذه هي الإرادة التشريعية ، كما في تعلّق إرادة المولى بأن تصدر الواجبات عن المكلّف عن اختيار منه.

هذا إذا بنينا على انّ الإرادة تعني الحب والرغبة ، وأما لو بنينا على انّ الإرادة بمعنى العزم على الإنجاز والتي هي مرتبة متأخرة عن الحب فإنّه لا توجد في هذه الحالة إلاّ إرادة تكوينيّة وهي العزم على انجاز فعل ، غايته انّ هذا الفعل قد يكون تكوينيا وقد يكون تشريعيا ، بمعنى انّه قد يكون من سنخ الافعال التي لا تتصل بشخص آخر مختار وهذا هو المراد من الفعل التكويني ، وقد يكون من سنخ

١٠٥

الافعال التي تتصل بشخص آخر مختار ، إلاّ انّ الجامع بينهما ان الإرادة لهما تتعلّق بفعل المريد مباشرة ، إذ انّ ايجاد الفعل وافاضته أو ايجاد التشريع كلاهما فعل مباشري للمريد. ومن هنا لا توجد إرادة تشريعية بالمعنى المتقدم ، نعم يوجد ـ بناء على هذا المعنى ـ « إرادة التشريع » أي إرادة فعل التشريع والتي هي فعل مباشري للمريد.

وهذا المعنى ذكره بعض الفلاسفة ، والظاهر من كلمات السيد الخوئي رحمه‌الله اختيار هذا التفصيل حيث أفاد انّ الإرادة لما كانت بمعنى البناء القلبي فإنّها دائما تكون تكوينية ، نعم يمكن تقسيمها الى تكوينية وتشريعية بلحاظ المتعلّق ، أما لو كانت الإرادة بمعنى الشوق فإنّ تقسيمها إلى إرادة تكوينية وإرادة تشريعية تام.

المعنى الثالث : انّ الإرادة التكوينية تعني الإحداث والايجاد أو قل افاضة الوجود للأشياء ، وأما الإرادة التشريعية فتعني الاوامر والنواهي المولوية. وهذا التقسيم للإرادة ذكره بعض الأعلام ، وهو يتناسب مع القول بأن الإرادة هي إعمال القدرة والسلطنة.

* * *

٤٥ ـ الإرادة الجدّيّة

وهي ان يكون الداعي من استعمال الألفاظ هو قصد الحكاية أو قصد الإنشاء واقعا وحقيقة ، وذلك في مقابل قصد الكذب أو الهزل أو السخرية.

ومن هنا لا تكون الإرادة الجدّية إلاّ في موارد استعمال الجمل التامة الإنشائية والخبريّة ، إذ هي التي يتعقل فيها الجد والهزل ، وأما استعمال الجمل الناقصة والمفردات اللفظية فلا يكون استعمالها إلاّ لغرض الاستعمال أو إرادة التفهيم ، وأما الإرادة الجدّية فهي غير

١٠٦

متصوّرة في موارد الجمل الناقصة والمفردات اللفظية ، إذ ليس لها أهلية الكشف عن واقع النفس بعد ان كانت مجرّد مفردات أو مركبات ناقصة.

وسنوضح ذلك أكثر في الدلالة الجدّية.

* * *

٤٦ ـ الاستثناء

وهو إخراج بعض أفراد موضوع عن الحكم المجعول على ذلك الموضوع ولو لا الاستثناء لكانت الأفراد الخارجة مشمولة للحكم كما هو الحال في سائر أفراد الموضوع ، فخروجها بالاستثناء انّما هو من جهة عدم شمول الحكم المجعول للموضوع لها وإلاّ فهي من أفراد الموضوع حقيقة.

مثلا حينما يقال « أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم » يكون خروج الفساق من جهة عدم مشموليتهم للحكم المجعول للمستثنى منه « الموضوع » وإلا فهم من أفراد الموضوع حقيقة ، نعم هم خارجون عنه حكما.

وهذا النحو من الاستثناء يعبّر عنه عند النحاة بالاستثناء المتصل ، ويعبّر عن هذا النحو من الإخراج والاقتطاع عند الاصوليين بالتخصيص أو بالخروج التخصيصي. وفي مقابل هذا النحو من الاستثناء هناك استثناء عند علماء العربية يعبّر عنه بالاستثناء المنقطع وهو المعبّر عنه بالخروج الموضوعي أو التخصّصي عند الأصوليين وهو لا يتصل روحا بالاستثناء والذي هو التخصيص.

والمقصود من الاستثناء المنقطع هو إخراج موضوع عن الحكم المجعول لموضوع آخر بأحد أدوات الاستثناء ، ومثاله قوله تعالى ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ) (٥) فالخارج عن الحكم المذكور للمستثنى منه هو موضوع آخر لا صلة له بالموضوع المستثنى منه ، فالمستثنى منه هم

١٠٧

الملائكة والمستثنى هو ابليس وهو من غير جنس الملائكة ، ومن هنا كان الاستثناء منقطعا ظاهرا.

وهذا النحو من الاستثناء يعبّر عنه ـ كما ذكرنا ـ بالخروج الموضوعي التخصّصي عن حكم المستثنى منه ، فليس هو إخراج وانما هو خروج ، فحتى لو لم يتصد المتكلّم لإخراجه عن حكم الموضوع فإنّه خارج من اول الأمر ، إذ انّ شخص الحكم إذا كان مجعولا لموضوع فإنّ عدم شموله لموضوع آخر لا يحتاج الى بيان ، نعم قد يتصدى المتكلم لبيان خروجه لغرض يقتضيه الحال أو نكتة بلاغية.

فالاستثناء ـ إذن ـ المبحوث عند الاصوليين من حيث افادته للمفهوم وعدم افادته انما هو الاستثناء المتصل.

ثم انّ الاستثناء تارة يكون راجعا للموضوع واخرى يكون راجعا للحكم ، بمعنى انّه تارة يكون من قيود الموضوع واخرى يكون من قيود الحكم.

أما الاستثناء الراجع للموضوع فهو ما يؤتى فيه بأداة الاستثناء قبل الإسناد أي قبل الحكم على الموضوع المستثنى منه ، كما لو قيل « العلماء إلاّ الفساق يجب اكرامهم » أو « العلماء غير الفساق يجب اكرامهم » ، فالاستثناء هنا ضيق من دائرة الموضوع قبل اسناد الحكم له.

وهذا الاستثناء يعبّر عنه بالاستثناء الصفتي ، إذ انّه يؤول روحا الى توصيف الموضوع بغير المستثنى أو قل يؤول الى تضييق دائرة الموضوع وتحصيصه بحصة خاصة ، فكأنّ أداة الاستثناء حصّصت الموضوع الى حصتين فكانت احدى الحصتين هي المسند اليها الحكم دون الحصة الاخرى ، ولهذا لو كنا نبحث عن المفهوم في مثل هذه الجملة الاستثنائية لكان البحث عنها داخلا تحت البحث عن المفهوم في الجمل الوصفية.

وأما الاستثناء الراجع للحكم فهو

١٠٨

ما تكون فيه أداة الاستثناء واقعة بعد الإسناد أي بعد عروض الحكم على موضوعه كما لو قيل « العلماء يجب إكرامهم إلاّ الفساق منهم » ، فإنّ الاستثناء هنا من قيود الحكم باعتباره واقعا بعد الإسناد. والمقصود من كونه من قيود الحكم انّ الاستثناء هو المتصدي لإخراج المستثنى من الحكم الواقع على المستثنى منه أي موجبا لاختصاص الحكم بالمستثنى منه.

وبهذا يتضح انّ الاستثناء الراجع للموضوع ليس استثناء حقيقة وإنما هو صورة استثناء بسبب استعمال أداة الاستثناء لغرض تضييق دائرة الموضوع فهو أشبه بالقيد النعتي الذي يضاف للموضوع لغرض تحديده.

ثم انّ هنا كلاما ينسب الى نجم الأئمة حاصلة : انّ الاستثناء دائما يكون راجعا للموضوع ، فسواء جيء بأداة الاستثناء قبل الإسناد أو بعده فإنّه يكون موجبا لتضييق دائرة الموضوع.

واستدل لذلك بدعوى انّ المصير الى غير ما ذكر يستوجب التناقض ، إذ انّ الحكم بعد ما يعرض على الموضوع بتمامه الشامل للمستثنى يكون إخراج المستثنى بعد ذلك عن الحكم من التناقض ، فكأنّه أثبت له الحكم ثم نفاه عنه.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن ذلك بما حاصله : انّ الظهور التصديقي للكلام انّما ينعقد بعد تماميته أما قبل ان يتم المتكلّم كلامه فلا يصح التعويل على ما يظهر بدوا منه ، واذا كان كذلك فلا تناقض فيما لو جاء المتكلم بحكم لموضوع ثم أخرج بعض أفراد الموضوع عن الحكم قبل ان يتم كلامه ، إذ لم ينعقد لكلامه قبل الإخراج والاستثناء ظهور تصديقي في انّ الحكم شامل لتمام أفراد الموضوع ، والظهور البدوي ليس له استقرار قبل اتمام الكلام كما هو أوضح من ان يخفى ،

١٠٩

بل وحتى لو نصب المتكلم قرينة منفصلة على انّ مراده الجدّي لم يكن هو استيعاب الحكم لتمام أفراد الموضوع فإن ذلك لا يكون من التناقض بين القرينة وذي القرينة ، هذا هو الجواب الحلّي.

وقد أجاب المحقّق رحمه‌الله على دعوى نجم الأئمة بجواب آخر نقضي وحاصله : انّ هذا الإشكال سيّال ومطّرد في تمام الحالات التي يكون فيها الكلام مشتملا على قرينة موجبة لإخراج بعض أفراد موضوع الحكم عن ان تكون مشمولة للحكم ، كالقرائن الموجبة للتقييد والتخصيص ، وكذلك لو تم الإشكال لكانت القرينة على المجاز ـ والتي تصرف ذي القرينة عن ظهورها الاولي الى الظهور المناسب للقرينة ـ تقتضي التناقض بين القرينة وذي القرينة.

* * *

٤٧ ـ الاستحالة

راجع ما ذكرناه تحت عنوان الامتناع بالذات والامتناع بالغير والامتناع بالقياس.

* * *

٤٨ ـ الاستحباب

وهو أحد الأحكام التكليفية الخمسة ، وقد ذكروا انّ تعريفه هو عبارة عن « طلب الشيء مع الإذن في تركه » ، وهذا ما يقتضي تركّب الاستحباب من جزءين.

ومن هنا لم يقبل جمع من الأعلام بهذا التعريف ، وذلك لأنّ الاستحباب من المفاهيم البسيطة ، وهذا ما أوجب العدول عنه الى تعريف آخر وهو انّ الاستحباب « هو الطلب غير الإلزامي ».

وكيف كان فإنّ نظر هذين التعريفين انما هو لمقام الإثبات ، وثمة

١١٠

تعريف آخر للاستحباب يتصل بمقام الثبوت حاصله انّ الاستحباب عبارة عن الحكم التكليفي الناشئ عن ملاك غير بالغ حدّا يستوجب تعلّق الإرادة الملزمة بتحقيق متعلّقه ، فالإرادة الموجبة لجعل الحكم الاستحبابي لم تكن شديدة تبعا للملاك الذي تولدت عنه الإرادة حيث لم يكن تاما.

* * *

٤٩ ـ استحباب الاحتياط

يمكن ان يراد من الاستحباب في المقام الاستحباب الطريقي ، بمعنى انّ الأمر به نشأ عن تعلّق إرادة المولى بالتحفّظ على الأحكام الواقعية ، فالاحتياط ليس مطلوبا للمولى بنفسه بل انّ مطلوبيته باعتباره وسيلة للتحفّظ على الأحكام الواقعية.

ويمكن ان يراد من استحباب الاحتياط الاستحباب النفسي ، بمعنى انّ إرادة المولى قد تعلّقت بنفس الاحتياط وبقطع النظر عما يترتّب عليه من التحفّظ على الواقع.

ويمكن ان يكون الاحتياط مستحبا بالاستحباب الطريقي وكذلك النفسي كما مال الى ذلك السيد الصدر رحمه‌الله.

وكيف كان فمشهور الاصوليين ذهبوا الى استحباب الاحتياط ، وذلك للروايات الكثيرة الآمرة بالاحتياط ، ولمّا كان حملها على الوجوب يواجه مجموعة من الإشكالات فإنّ المتعين حينئذ حملها على الاستحباب ، إلاّ انّه في مقابل هذه الدعوى ادعى البعض استحالة الاستحباب المولوي للاحتياط ، ولذلك لا بدّ من حمل الروايات الآمرة بالاحتياط على انّها أوامر إرشادية بمعنى انّها متصدية للتنبيه على ما يدركه العقل من حسن الاحتياط.

واستدلّ لهذه الدعوى بدليلين :

الأول : انّه يلزم من جعل

١١١

الاستحباب المولوي للاحتياط اللغوية ، وذلك لانّه إن كان الغرض من جعل الاستحباب هو بعث المكلّف نحو الاحتياط فهذا تحصيل للحاصل ، إذ انّ إدراك العقل لحسن الاحتياط وحسن التحفّظ على الاوامر المولوية الواقعية المحتملة كاف في بعث المكلّف نحو الاحتياط فلا مبرّر لجعل الاستحباب ، مما يعبّر عن انّ غرض الاوامر الباعثة نحو الاحتياط هو الإرشاد الى الحكم العقلي.

وقد أجاب الأعلام عن هذا الدليل بما حاصله :

انه قد يفترض انّ الأمر بالاحتياط مولويا ومفيدا للاستحباب ومع ذلك لا تلزم اللغويّة ، وذلك فيما لو كان الاستحباب نفسيا أي مطلوب بنفسه للمولى لكونه موجبا لتأكيد التقوى وترويض النفس على الطاعة وهذا الملاك بنفسه مطلوب للمولى وبقطع النظر على متعلّق الاحتياط ، وحينئذ يكون الباعث العقلي مؤكدا بالباعث المولوي فلا يكون الباعث المولوي تحصيلا للحاصل.

ثم انّه لو فرض انّ استحباب الاحتياط طريقي فلا يلزم منه اللغوية أيضا ، وذلك لانّه حينئذ يكشف عن تعلّق إرادة المولى بالتحفظ على الواقع ولو بنحو الإرادة الغير الملزمة ، وهذا ما يمنع من تهاون المكلّف بالتكاليف الواقعية المحتملة بدعوى انّها موهومة وانّ التحفظ عليها من الوسوسة كما ربما ينقدح ذلك في بعض الأذهان ، فيكون استحباب الاحتياط نافيا لهذه الدعوى ومؤكدا لما يحكم به العقل من حسن التحفظ على الواقع ـ وهذا الجواب ملفق من كلام المحقق النائيني رحمه‌الله والسيد الصدر رحمه‌الله.

الدليل الثاني : انّ حكم العقل بحسن الاحتياط واقع في سلسلة معلومات الحكم الشرعي وكلما كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة

١١٢

معلومات الاحكام الشرعية فإنّ الامر به من قبل الشارع يكون إرشاديا ، هذا ما أفاده المحقق النائيني ، وبيانه :

ان حكم العقل بحسن الاحتياط معناه إدراك العقل لحسن التحفظ على الاوامر الواقعية المجهولة ، فهو إذن مترتب على وجود الأحكام الشرعية فما لم يكن في الواقع أحكام شرعية فإنّ العقل لا يحكم بحسن الاحتياط ، إذ لا أوامر في الواقع حتى يحكم العقل بحسن التحفّظ عليها ، إذن حكم العقل بحسن الاحتياط معلول لوجود الاحكام الواقعية ، وكلّما كان كذلك فالامر من الشارع بما يقتضيه الحكم العقلي لا يكون مولويا.

ولتوضيح المطلب أكثر نمثّل بهذه الآية الشريفة وهي قوله تعالى ( أَطِيعُوا اللهَ ) (٦) فإنّ الأمر فيها لا بدّ من حمله على الإرشاد لما يدركه العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا ، ومنشأ ذلك هو انّ حكم العقل بلزوم طاعة المولى جلّ وعلا واقع في رتبة المعلول للأحكام الشرعية ، فلو لم يكن هناك أحكام شرعية فإنّ العقل لا يدرك لزوم طاعة المولى ، إذ المفترض انّ لا أوامر للمولى حتى يدرك العقل لزوم طاعتها ، إذن إدراك العقل للزوم الطاعة معلول لوجود الأوامر الشرعية او قل واقع في سلسلة معلولات الاوامر الشرعية ، وحينئذ يكون الأمر بطاعة هذه الاوامر إرشاديا وإلاّ لزم التسلسل ، إذ ما هو الملزم لطاعة المولى بأمره بالطاعة ، فإن كان الملزم هو أمر آخر للمولى ينسحب الكلام لذلك وهكذا ، أما لو كان القاضي بلزوم الطاعة هو العقل فإنّ التسلسل لا يلزم ، إذ انّ ثمة أوامر شرعية يدرك العقل لزوم طاعتها.

وبهذا يثبت انّ الأمر الصادر من الشارع إذا كان متناسبا مع ما يقتضيه

١١٣

الحكم العقلي وكان ذلك الحكم واقعا في رتبة المعلول للحكم الشرعي فإنّ المتعين هو حمل الأمر الصادر عن الشارع على الإرشادية ، والمقام من هذا القبيل ، إذ انّ الأمر بالاحتياط يتناسب مع الحكم العقلي وهو حسن التحفّظ على الحكم الشرعي الواقعي المجهول. وبه تسقط دعوى الاستحباب الشرعي بالاحتياط.

وأجاب عنه السيد الخوئي رحمه‌الله بما حاصله : انّه وان كنا نسلّم انّ حكم العقل بحسن الاحتياط واقع في سلسلة معلومات الحكم الشرعي إلاّ انّه مع ذلك يمكن ان يكون الأمر به أمرا مولويا شرعيا ، وذلك لأنّ مقدار ما يدركه انما هو حسن الاحتياط وهذا لا يمنع من أن يأمر الشارع بوجوب الاحتياط الشرعي تحفّظا على أغراضه التي قد تفوت لو لا حكمه بوجوب الاحتياط ، فالأمر بالاحتياط يكون مولويا رغم انّ ما يدركه العقل من حسن الاحتياط واقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي.

ثم انّ الجواب الذي ذكره السيد الصدر رحمه‌الله على الدليل الأول يصلح للجواب عن هذا الدليل مع شيء من التعديل فتأمل.

* * *

٥٠ ـ الاستحسان

المتبادر بدوا من معنى الاستحسان هو اعمال الذوق ومقتضيات الطبع في مقام التعرّف على الحكم الشرعي ، فمتى ما وجد المجتهد انّ هذا الفعل ملائما لما يقتضيه الطبع فهذا يكشف عن ان حكم هذا الفعل الواقعي هو الإباحة ، وبخلافه ما لو كان الفعل مستبشعا تمجّه الطباع وتشمئز له النفوس ويتنافى مع الذوق فهذا يعبّر عن انّ حكمه الواقعي هو الحرمة لو كانت مرتبة الاشمئزاز والاستقذار شديدة جدا ، أما لو كانت

١١٤

مرتبة الاستقذار والاستبشاع بمستوى أدنى من الحالة السابقة فإنّ هذا يكشف عن ان حكم هذا الفعل عند الله تعالى هو الكراهة.

وهذا المعنى للاستحسان يمكن ان يستفاد من كلام الشافعي ـ والذي لا يرى حجية الاستحسان ـ حيث قال في مقام الرد على دعوى حجية الاستحسان : « أفرأيت اذا قال المفتي في النازلة ليس فيها نص خبر ولا قياس وقال استحسن ، فلا بدّ ان يزعم انّ جائزا لغيره ، ان يستحسن خلافه فيقول كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن ، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ، فإن كان هذا جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا وان كان ضيقا فلا يجوز ان يدخلوا فيه ».

فإنّ هذا النص كما تلاحظون صريح في انّ الشافعي يفهم من الاستحسان المعنى الذي ذكرناه ، وذلك لأنّ ملاحظته في مرتبة متأخرة عن فقدان النص يعبّر عن انّ الاستحسان ليس بمعنى تقديم أقوى النصين ظهورا أو سندا ـ كما ذكر البعض ـ وملاحظته مترتبا على القياس يعبّر عن ان الاستحسان ليس بمعنى العدول عن قياس الى قياس أقوى ـ كما ذكر البعض ـ كما يعبّر عن انّ الاستحسان لا يدخل تحت أيّ وجه من وجوه القياس المذكورة ، ومن هنا يتمحض معنى الاستحسان ـ بحسب فهم الشافعي ـ في مجموعة من المحتملات.

منها انّ مراد الشافعي من الاستحسان هو المصالح المرسلة ، وهذا الاحتمال غير مراد جزما ، وذلك لانّ المصالح المرسلة تخضع لضوابط عقليّة أو عقلائية أو شرعية كما سيتضح ذلك في الحديث عن المصالح المرسلة ، فلو كان مراده ذلك لكان إشكاله ـ وهو انّه يلزم من القول بحجية الاستحسان « ان يقول كل

١١٥

حاكم في بلد ومفت بما يستحسن » ـ غير وارد ، إذ انّ الضوابط العقلية والعقلائية وكذلك الشرعية مطردة والاختلاف انما هو في موارد تطبيقها وهذا حاصل حتى في الكتاب والسنة وكذلك القياس ، وهذا ما يعبّر عن انّ الشافعي لا يقصد بالاستحسان المصالح المرسلة.

وبما ذكرناه يتضح عدم إرادته للحسن والقبح العقليين أو العقلائيين ، وكذلك يتّضح عدم إرادته من الاستحسان ما يعبّر عنه بحجية العرف.

وبسقوط تمام المحتملات يتعيّن كون المراد من معنى الاستحسان هو ما ذكرناه ، إذ هو الذي يرد عليه إشكال الشافعي ، فالذوق وما يلائم الطبع وكذلك الاشمئزاز والاستقذار والاستبشاع كلها حالات نفسانية تخضع لعوامل تربوية أو اجتماعية أو ثقافية ، وهي تختلف من بلد لآخر ومن بيئة لاخرى ، بل قد يتفاوت المجتمع الواحد في ذلك فتجد انّ طبقة معينة أو شريحة خاصة تنفر من بعض الأطعمة وتستقذرها والحال انّ نفس هذه الأطعمة تستهوي طبقة اخرى من المجتمع أولا أقل لا تكون مستقذرة عندهم ، كما نلاحظ ان بعض المجتمعات تمارس بعض الأعمال وترى انها ملائمة للذوق والتحضّر ، ونجد مجتمعات اخرى تستبشع هذه الأعمال وترى انها من التخلّف والتسافل الى مستوى الحيوان ، وما ذلك إلاّ لاختلاف التربية والثقافة.

ثم انّ المجتمع الواحد قد يمرّ بأطوار وظروف تتغيّر معها طبائعه ومذاقاته. وبهذا اتضح انّ ما يفهمه الشافعي من معنى الاستحسان هو ما ذكرناه.

ويمكن تأكيد هذا الفهم ببعض التعريفات المذكورة للاستحسان فقد نقل صاحب محاضرات في اسباب اختلاف الفقهاء عن المبسوط ـ كما ذكر ذلك السيد الحكيم ـ انّ الاستحسان

١١٦

« هو الأخذ بالسماحة وانتفاء ما فيه الراحة ».

وكذلك نقل عن ابن قدامة انّ الاستحسان « دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه ».

والتعريف الاول يعبّر عن الحكم بمناط الاستحسان لا بدّ وان يكون متناسبا مع السماحة والسهولة ، فلو كان فعل من الأفعال متناسبا مع انس النفس ومتناغما مع مذاقها وموجبا لراحتها واستجمامها فهذا يقتضي الحكم بإباحته بل وباستحبابه ، لأنّه هو مقتضى الأخذ بالسماحة وانتفاء ما فيه الراحة ، فلو حكمنا بحرمته لأخذنا بما فيه التعب وأوردنا المكلّف موارد النصب وهو ما ينافي مآرب النفس في الطرب.

وأما التعريف الثاني فنتساءل ما هو الدليل الذي ينقدح في نفس المجتهد ويتعذّر عليه التعبير عنه ، فحتما ليس هو من قبيل النصوص الشرعية ولا هو من قبيل البراهين العقلية ولا هو قياس من الأقيسة وإلاّ لأجاد التعبير عنه ، ولو كان من قبيل المصالح المرسلة أو سدّ الذرائع أو ما الى ذلك فما هو الموجب لانتفاء القدرة على التعبير عنه ، نعم لو كان الذوق هو الدليل فإنّ من الصعب التعبير عنه إلاّ ان يكون المجتهد شاعرا.

المعنى الثاني للاستحسان : هو « ما يستحسنه المجتهد بعقله » ، وهذا التعريف منقول عن ابن قدامة ، وهو يحتمل معان ثلاثة :

الاحتمال الاول : انّ مراده من الاستحسان العقلي هو خصوص مدركات العقل القطعية الأعم من مدركات العقل العملي ـ كإدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم ـ ومدركات العقل النظري كإدراكه للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو انّ مراده مختص بالاول.

الاحتمال الثاني : انّ مراده من

١١٧

الاستحسان العقلي هو مطلق ما يستحسنه العقل الأعم من العقل النظري والعملي والقطعي والظني.

والظاهر من التعريف انّ المتعين هو الاحتمال الثاني ، وذلك لعدم وجود ما يوجب اختصاصه بالاول ، ومن هنا يكون الاستحسان شاملا للقياس والاستقراء وسدّ الذرائع ، لانها جميعا من صغريات ما يستحسنه العقل الاعم من القطعي والظني ، وعليه فليس الاستحسان ـ بناء على هذا المعنى ـ دليلا مستقلا في مقابل الدليل العقلي ، وذلك حتى بناء على الاحتمال الاول ، وهذا ما يعبّر عن وجود خلل في التعريف.

المعنى الثالث : انّ الاستحسان هو « العدول بحكم مسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة ». وهذا التعريف نقله ابن قدامة أيضا.

واحتمالات المراد من هذا التعريف ثلاثة :

الاول : انّ الاستحسان يعني تقديم الدليل المخصص من الكتاب والسنة على عمومات الكتاب واطلاقاته وكذلك عمومات السنة واطلاقاتها. مثلا قوله تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) (٧) ، فالآية الكريمة تدلّ باطلاقها على حلّية أكل طعام البحر ، فلو ورد دليل من السنة مفاده « حرمة أكل ما لا فلس له » فإنّ هذا الدليل يكون مقدما بالاستحسان أي بقاعدة حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص.

الثاني : انّ المراد من الاستحسان هو تقديم الآيات والروايات ـ في مقام التعرّف على الحكم الشرعي ـ على سائر الأدلة الاخرى سواء كان من قبيل الإجماع أو العقل أو القياس أو ما الى ذلك فكل ما سوى الكتاب والسنة يكون في مرحلة متأخرة عنهما في مقام المرجعية ، أي لا يلجأ الى غير الكتاب والسنة في موارد اشتمالهما أو أحدهما

١١٨

على حكم المسألة المبحوث عنها.

الثالث : انّ الاستحسان يعني الخروج عمّا يقتضيه القياس بسبب وجود دليل خاص من الكتاب والسنة ، بمعنى انّه في فرض التعارض بين ما يدلّ عليه الكتاب والسنة وبين ما يقتضيه القياس فإنّ الاستحسان يقتضي تقديم ما يدلّ عليه الكتاب والسنة.

والظاهر إرادة هذا المعنى من التعريف بقرينة قوله « العدول بحكم مسألة عن نظائرها » ، فإنّ هذا التعبير يناسب القياس والذي يعني إسراء حكم من مسألة الى نظائرها من المسائل ، فلو كانت احدى هذه المسائل مما قام الدليل الخاص من الكتاب والسنة على انّ حكمها مناف لحكم نظائرها من المسائل فإنّ مقتضى الاستحسان هو تقديم الدليل الخاص من الكتاب والسنة.

والذي يؤكد ما ذكرناه انّ التعبير بالعدول لا يناسب التخصيص ـ والذي هو الاحتمال الاول ـ إذ انّ العدول يستبطن وجود قاعدة كلية متبناة تقتضي حكما معينا إلاّ انّ ثمة شيئا أوجب العدول عن هذه القاعدة ، والتخصيص ليس من هذا القبيل ، وذلك لأنّ المخصص لو كان متصلا فإنّ حكم المسألة المستفاد من المخصّص ثابت بنفس الخطاب المفيد للعموم ، فليس من قاعدة تقتضي حكما مغايرا وتكون المسألة الخارجة بالتخصيص مشمولة له أولا ثم تخرج بواسطة الدليل الخاص حتى يصدق العدول ، إذ انّ العموم من أول الأمر لا يشمل المسألة الخارجة بالمخصص المتصل ، وأمّا لو كان المخصّص منفصلا فكذلك لا يكون التعبير بالعدول دقيقا لو كان المراد منه التخصيص ، إذ ان التعويل على الاطلاق أو العموم قبل الفحص عن المخصّص أو المقيّد غير صحيح ، وذلك للعلم الإجمالي بوجودات

١١٩

مخصّصات ومقيّدات منفصلة في الخطابات الشرعية ، فمع الفحص والعثور على المخصّص المنفصل لا يكون العمل بمقتضى المخصص أو المقيد عدولا عن العموم والاطلاق ، وذلك لانّ الاطلاق وكذلك العموم لم يكونا مرادين بالإرادة الجدية من أول الأمر بل المراد الجدّي منهما هو غير ما يقتضيه المخصّص المنفصل.

وبهذا يتنقح ان لا قاعدة كلية مبتناة تم العدول عنها في موارد التخصيص بل انّ المخصّص يثبت في عرض العموم والاطلاق وانما قد يتفق العثور على العموم قبل العثور على المخصّص وقد ينعكس الأمر فنعثر على المخصّص قبل العثور على العموم أو الاطلاق وحينئذ فما معنى التعبير بالعدول.

وأما الاحتمال الثالث فيناسبه التعبير بالعدول ، وذلك لأنّ القياس ضابطة عقلية كلية محددة المعالم لا يقال في موردها انّ بعض مواردها خارج من أول الأمر بل انّ كل ما يخرج عنها يكون عدولا عن مقتضاها الى شيء آخر.

هذا ما يناسب سقوط الاحتمال الاول ، وأما الاحتمال الثاني فهو أبعد من الاحتمال الأول ، وذلك لأنّ الاستحسان فيه بمعنى تقديم الكتاب والسنة على سائر الادلة ، ولا نجد مناسبة للتعبير بالعدول لو كان هذا المعنى هو المراد ، إذ انّ هذا المعنى لا يعني أكثر من بيان الترتيب المرحلي للأدلة في مقام المرجعية والاستنباط للأحكام الشرعية.

والمتحصّل انّ حمل التعريف على الدقة يقتضي كون المراد منه ما ذكرناه وهو الخروج عن القاعدة الكليّة المستلهمة بواسطة القياس في موارد وجود الدليل الخاص من الكتاب والسنة ، وهذا ما تؤكده مقتضيات القياس ، إذ ان القياس العقلي لا يفرق

١٢٠