مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بما نزل به من المضار وليس في ظاهره شيء مما ظنه السائل لأنه تعالى قال : « وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ » والنصب هو التعب ، وفيه لغتان فتح النون والصاد ، وضم النون وتسكين الصاد ، والتعب هو المضرة التي لا تختص بالعقاب وقد تكون على سبيل الاختبار والامتحان ، فأما العذاب فهو أيضا يجري مجرى المضار التي لا يخص إطلاق ذكرها بجهة دون جهة ، ولهذا يقال للظالم المبتدي بالظلم أنه معذب ومضر ومؤلم ، وربما قيل : معاقب على سبيل المجاز ، وليس لفظة العذاب بجارية مجرى لفظة العقاب لأن لفظة العقاب يقتضي بظاهرها الجزاء لأنه من التعقيب والمعاقبة ، ولفظة العذاب ليست كذلك.

فإما إضافته ذلك إلى الشيطان وإنما ابتلاه الله تعالى به؟ فله وجه صحيح لأنه لم يضف المرض والسقم إلى الشيطان وإنما أضاف إليه ما كان يستضر به من وسوسته ويتعب به من تذكيره له ما كان فيه من النعم والعافية والرخاء ودعائه له إلى التضجر والتبرم بما هو عليه ، ولأنه كان أيضا يوسوس إلى قومه بأن يستقذروه ويتجنبوه لما كان عليه من الأمراض البشعة المنظر ، ويخرجوه من بينهم وكل هذا ضرر من جهة اللعين إبليس ، وقد روي أن زوجته عليه‌السلام كانت تخدم الناس في منازلهم وتصير إليه بما يأكله ويشربه ، وكان الشيطان يلقي إليهم أن داءه يعدي ويحسن إليهم تجنب خدمة زوجته من حيث كانت تباشر قروحه وتمس جسده ، وهذه مضار لا شبهة فيها.

فأما قوله تعالى في سورة الأنبياء : « وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ » (١) فلا ظاهر لها أيضا يقتضي ما ذكروه لأن الضر

__________________

(١) الآية : ٨٣ ـ ٨٤.

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

هو الضرر الذي قد يكون محنة كما يكون عقوبة.

فأما ما روي في هذا الباب عن جملة المفسرين فمما لا يلتفت إلى مثله لأن هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربهم تعالى وإلى رسله عليهم‌السلام كل قبيح ويقرفونهم بكل عظيم ، وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمله المتأمل علم أنه موضوع باطل ممنوع ، لأنهم رووا أن الله تعالى سلط إبليس على مال أيوب عليه‌السلام وغنمه وأهله ، فلما أهلكهم ودمر عليهم ورأى صبره وتماسكه قال إبليس لربه : يا رب إن أيوب قد علم أنه ستخلف عليه ماله وولده فسلطني على جسده ، فقال : قد سلطتك على جسده إلا قلبه وبصره ، قال : فأتاه فنفخه من لدن قرنه إلى قدمه ، فصار قرحة واحدة فقذف على كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهرا ، تختلف الدواب في جسده ، إلى شرح طويل تصون كتابنا عن ذكر تفصيله ، فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته؟ ومن لا يعلم أن الله تعالى لا يسلط إبليس على خلقه وأن إبليس لا يقدر على أن يقرح الأجساد ، ولا أن يفعل الأمراض كيف يعتمد على روايته؟

فأما هذه الأمراض النازلة بأيوب عليه‌السلام فلم يكن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها ، والعوض العظيم النفيس في مقابلتها ، وهذه سنة الله في أصفيائه وأوليائه ، فقد روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال ـ وقد سئل أي الناس أشد بلاء؟ ـ فقال : الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس.

فظهر من صبره على محنته وتماسكه ما صار إلى الآن مثلا حتى روي أنه كان في خلال ذلك كله شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفائدة وأنه ما سمعت له شكوى ، ولا تفوه بتضجر وتبرم فعوضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن رد عليه ماله أهله ، وضاعف عددهم في قوله تعالى : « وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

مَعَهُمْ » (١) وفي سورة ص « وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ » (٢) ثم مسح ما به وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية يركض برجله الأرض ، فظهرت عين اغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من الداء ، قال الله : « ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ » (٣) والركض هو التحريك ، ومنه ركضت الدابة ، انتهى كلامه.

وأقول : لا أعرف وجها لهذا الإنكار الفظيع والرد الشنيع لتلك الرواية ، ولا أعرف فرقا بين ما صدر من أشقياء الإنس بالنسبة إلى الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام حيث خلاهم الله سبحانه مع إرادتهم بمقتضى حكمته الكاملة ولم يمنعهم قهرا عن مثل هذا الظلم العظيم ، وبين ما نقل من تسليط إبليس في تلك الواقعة ، والجواب مشترك؟ نعم لا يجوز أن يسلط الشيطان على أديانهم كما دلت عليه الآيات والروايات ، وأما الأبدان فلم يقم دليل على نفي تسلطه في بعض الأحيان لضرب من المصلحة ، كيف لا وهو الذي يغري الأشرار على قتل الأخيار وإيلامهم بأنواع المضار ، وأيضا أي دليل قام على امتناع قدرة إبليس على فعل يوجب تقريح الأجساد وحدوث الأمراض؟ وأي فرق بين الإنس والجن في ذلك؟ نعم لو قيل بعدم ثبوت بعض الخصوصيات من جهة الأخبار لكان له وجه ، لكن الحكم بنفيها بمجرد الاستبعاد غير موجه.

ومنها : أنها منافية لما مر من عدم ابتلاء الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام بالأمراض المنفرة؟

قال السيد رضي‌الله‌عنه في الكتاب المذكور : فإن قيل : أفتصححون ما روي

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٨٤.

(٢) سورة ص : ٤٣.

(٣) سورة ص : ٤٢.

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

من أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟ قلنا : أما العلل المستقذرة التي تنفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شيء منها على الأنبياء عليهم‌السلام لما تقدم ذكره في صدر هذا الكتاب ، لأن النفور ليس يواقف على الأمور القبيحة ، بل قد يكون من الحسن والقبيح معا ، وليس ننكر أن تكون أمراض أيوب عليه‌السلام وأوجاعه ومحنته في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما يزيد في الغم والألم ، على ما ينال المجذوم ، وليس ننكر تزايد الألم فيه عليه‌السلام وإنما ننكر ما اقتضى التنفير ، انتهى.

وأقول : يدل على ذلك ما رواه الصدوق (ره) في كتاب الخصال بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه‌السلام قال : إن أيوب عليه‌السلام ابتلي سبع سنين من غير ذنب ، وإن الأنبياء لا يذنبون لأنهم معصومون مطهرون ، ولا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا ، وقال عليه‌السلام : إن أيوب مع جميع ما ابتلي به لم تنتن له رائحة ولا قبحت له صورة ، ولا خرجت عنه مدة (١) من دم ولا قيح ولا استقذره أحد رآه ، ولا استوحش منه أحد شاهده ولا تدود شيء من جسده ، وهكذا يصنع الله عز وجل لجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه ، وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره ، لجهلهم بما له عند ربه تعالى ذكره من التأييد والفرج وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، وإنما ابتلاه الله عز وجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه تعالى متى شاهدوه ، وليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله تعالى ذكره على ضربين استحقاق واختصاص ، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه ، ولا فقيرا لفقره ، ولا مريضا لمرضه ، وليعلموا أنه

__________________

(١) المِدّة ـ بكسر الميم وتشديد الدال ـ ما يجتمع في الجرح من القيح والقيح : ما يقال له بالفارسية : « چرك ».

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يسقم من يشاء ويشفي من يشاء متى شاء ، كيف شاء ، بأي سبب شاء ، ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وسعادة لمن شاء ، وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه وحكيم في أفعاله ، لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ، ولا قوة لهم إلا به.

وأقول : هذا الخبر أوفق بأصول متكلمي الإمامية ، فالأخبار الأخر يمكن حملها على التقية موافقة للعامة فيما رووه ، لكن إقامة الدليل على نفي ذلك عنهم مطلقا ولو بعد ثبوت نبوتهم وحجيتهم لا تخلو من إشكال ، لاحتمال أن يكون ذلك ابتلاء للأمة وتشديدا للتكليف عليهم ، مع أن الأخبار الدالة على ثبوتها أكثر وأصح.

وسيأتي رواية الكليني بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : « فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » (١) فقال : يا با محمد تسلطه والله على المؤمن على بدنه ، ولا يسلط على دينه ، وقد سلط على أيوب عليه‌السلام فشوه خلقه ولم يسلط على دينه وقد يسلط من المؤمنين على أبدانهم ولا يسلط على دينهم ، قلت : قوله تعالى : « إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ » (٢) قال : الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم وعلى أديانهم.

وأقول : هذا ينفع في المقام الأول أيضا ، وبالجملة للتوقف فيهما مجال ، والله أعلم بحقيقة الحال.

ثم اعلم أنه أول بعضهم تسليط إبليس على ماله في هذا الخبر بأن أغرى الظلمة على نهبها وغصبها منه ، وعلى أولاده بأن أغرى الفسقة والكفرة على قتلهم ، وعلى أهله بأن أغواهم بأن تنفروا منه وعلى كل شيء منه بأن أنهب أثاث بيته وأغرى

__________________

(١ و ٢) سورة النحل : ١٩٩ ـ ١٠٠.

٣٤٥

٢٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إنه ليكون للعبد منزلة عند الله فما ينالها إلا بإحدى خصلتين إما بذهاب ماله أو ببلية في جسده.

٢٤ ـ عنه ، عن ابن فضال ، عن مثنى الحناط ، عن أبي أسامة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال الله عز وجل لو لا أن يجد عبدي المؤمن في قلبه لعصبت رأس الكافر

______________________________________________________

أحباءه على تركه والنفرة عنه ، ولا يخفى بعد الجميع ، وقد علمت حقيقة الحال في جميع ذلك بعون الله.

الحديث الثالث والعشرون : موثق كالصحيح.

« بذهاب ماله » بكسر اللام وقد يقرأ بالفتح ، وعلى الأول يمكن أن يكون على المثال فيشمل ذهاب ولده وأهله وأقاربه وأشباه ذلك ، والمراد بالعبد المؤمن الخالص الذي يحبه الله.

الحديث الرابع والعشرون : حسن.

« لو لا أن يجد عبدي المؤمن في قلبه » كان مفعول الوجدان محذوف أي شكا أو حزنا شديدا أو يكون الوجد بمعنى الغضب أو بمعنى الحزن فقوله : في قلبه ، للتأكيد أي وجدا مؤثرا في قلبه باقيا فيه ، في المصباح : وجدته أجده وجدانا بالكسر ووجدت عليه موجدة في الغضب ، ووجدت به في الحزن وجدا بالفتح ، انتهى.

والعصابة بالكسر ما يشد على الرأس والعمامة والعصب الطي الشديد ، وعصب رأسه بالعصابة وعصب أيضا بالتشديد أي شدة بها ، والصداع كغراب وجع الرأس يقال : صدع على بناء المفعول من التفعيل وجوز في الشعر التخفيف ، وذكر الرأس هنا على التجريد ، والعصب بالحديد كناية عن حفظه مما يؤلمه ويؤذيه ، وتخصيص الرأس لأن أكثر الأمراض العظيمة ينشأ منه وأكثر القوي فيه ، وذكر الصاع لأنه أقل مراتب الآلام والأوجاع وأخفها ، أي فكيف ما فوقه ،

٣٤٦

بعصابة حديد لا يصدع رأسه أبدا.

٢٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حسين بن عثمان ، عن عبد الله بن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل المؤمن كمثل خامة الزرع تكفئها الرياح كذا وكذا وكذلك المؤمن تكفئه

______________________________________________________

ويحتمل كون تخصيص الرأس لذلك ، والحاصل أنه لو لا مخافة انكسار قلب المؤمن أو ضعف يقينه لما يراه على الكافر من العافية المستمرة لقويت الكافر وصححت جسمه حتى لا يرى وجعا وألما في الدنيا أبدا.

وقيل : تعصب الرأس كناية عن وضع تاج السلطنة على رأسه ، وذكر الحديد كناية عن شدة ملكه بحيث لا تحصل فيه ثلمة ، ولا يخفى بعده ، وفيه إشارة إلى قوله سبحانه : « لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً » (١) قال الطبرسي (ره) : أي لو لا أن يجتمع الناس على الكفر فيكونوا كلهم كفارا على دين واحد لميلهم إلى الدنيا وحرصهم عليها « لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ » فالسقف إذا كان من فضة فالحيطان من فضة « وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ » أي وجعلنا درجا وسلاليم من فضة لتلك السقف عليها يعلون ويصعدون « وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها » أي على السرر « يَتَّكِؤُنَ ، وَزُخْرُفاً » أي ذهبا أي وجعلنا لهم مع ذلك ذهبا ، وقيل : زخرف النقوش ، وقيل : هو الفرش ومتاع البيت ، والمعنى لأعطي الكافر في الدنيا غاية ما يتمناه فيها لقلتها وحقارتها عنده ، ولكنه سبحانه لم يفعل ذلك لما فيه من المفسدة « وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ » خاصة لهم.

الحديث الخامس والعشرون : حسن كالصحيح.

وقد مر معنى خامة الزرع في باب أن المؤمن صنفان ، والفرق بين التشبيه

__________________

(١) سورة الزخرف : ٣٣.

٣٤٧

الأوجاع والأمراض ومثل المنافق كمثل الإرزبة المستقيمة التي لا يصيبها شيء حتى يأتيه الموت فيقصفه قصفا.

______________________________________________________

هنا وبين ما سبق حيث شبه هناك بعض المؤمنين بها ، وهيهنا جميعهم بها هو أنه شبه المعاصي هناك بالريح ، وهيهنا شبه البلايا والأمراض بها « تكفئها » بالهمز أي تقلبها ، في القاموس : كفئه كمنعه صرفه وكبه وقلبه كاكفاه ، وقال : الإرزبة والمرزبة مشددتان ، أو الأولى فقط : عصية من حديد ، وحتى في قوله : حتى يأتيه الموت ، متعلق بالجار والمجرور في قوله : كمثل الأرزبة ، وفي المصباح : قصفت العود قصفا فانقصف ، مثل كسرته فانكسر لفظا ومعنى.

ومثل هذه الرواية رواها مسلم في صحيحه بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تكفئها الرياح تصرفها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله ، ومثل المنافق مثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة ، وفي رواية أخرى مثل الكافر.

قال عياض : الخامة هي الزرع أول ما ينبت ومعنى تكفئها بضم التاء تميلها الريح ، وتلقيها بالأرض كالمصروع ، ثم تقيمه يقوم على سوقه ، ومعنى المجذية الثابتة ، يقال أجذى يجذي ، والانجعاف الانقطاع يقال : جعفت الرجل صرعته ، وقال محيي الدين : الأرزة بفتح الهمزة وسكون الراء شجر معروف بالشام ، ويسمى بالعراق الصنوبر ، والصنوبر إنما هو ثمره ، وسمي الشجر باسم ثمره.

وحكى الجوهري في « راء » الأرزة بالفتح ، وقال بعضهم : هي الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة ، وأنكره أبو عبيد ، وقال أهل اللغة الآرزة بالمد النابتة وهذا المعنى صحيح هيهنا ، فإنكار أبو عبيد إنكار الرواية لا إنكار اللغة ، وقال أبو ـ عبيد : شبه المؤمن بالخامة التي تميلها الريح لأنه يرزأ في نفسه وماله ، وشبه الكافر بالأرزة لأنه لا يرزأ في شيء حتى يموت ، وإن رزأ لم يؤجر حتى يلقى الله

٣٤٨

٢٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما لأصحابه ملعون كل مال لا يزكى ملعون كل جسد لا يزكى ولو في كل أربعين يوما مرة فقيل يا رسول الله أما زكاة المال فقد عرفناها فما زكاة الأجساد فقال لهم أن تصاب بآفة قال فتغيرت وجوه الذين سمعوا ذلك منه فلما رآهم قد تغيرت ألوانهم قال لهم أتدرون ما عنيت بقولي قالوا لا يا رسول الله قال بلى الرجل يخدش الخدشة وينكب النكبة

______________________________________________________

بذنوب جمة.

الحديث السادس والعشرون : ضعيف.

« ملعون كل مال لا يزكي » قال الشيخ البهائي (ره) : أي بعيد عن الخير والبركة ، يعني لا خير فيه لصاحبه ولا بركة ، ويجوز أن يراد ملعون صاحبه على حذف مضاف ، أي مطرود مبعد من رحمة الله تعالى ، وقس عليه قوله عليه‌السلام : ملعون كل جسد لا يزكى وذكر الزكاة هنا من باب المشاكلة ويجوز أن يكون استعارة تبعية ، ووجه الشبه أن كلا منهما وإن كان نقصا بحسب الظاهر إلا أنه موجب لمزيد الخير والبركة في نفس الأمر « فتغيرت وجوه الذين سمعوا ذلك منه » لأنهم ظنوا أن مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآفة العاهة والبلية الشديدة التي كثيرا ما يخلو عنهما الإنسان سنين عديدة فضلا عن أربعين يوما.

« قال بلى » أقول : كأنه جواب عن سؤال مقدر كان القوم قالوا : ألا تفسره لنا؟ قال : بلى ، وصحف بعض الأفاضل فقرأ بلى الرجل مصدرا مضافا إلى الرجل ، أي خلقه ، كان البلايا تبلى الجسد وتخلقها و « يخدش » صفة الرجل لأن اللام للعهد الذهني ولا يخفى ما فيه ، وقال الشيخ المتقدم ذكره قدس‌سره : يخدش بالبناء للمفعول ، وكذا ينكب ، والخدشة تفرق اتصال في الجلد من ظفر ونحوه ، سواء خرج معه الدم أو لا.

٣٤٩

ويعثر العثرة ويمرض المرضة ويشاك الشوكة وما أشبه هذا حتى ذكر في حديثه

______________________________________________________

وأقول : النكبة أن يقع رجله على الحجارة ونحوها ، أو يسقط على وجهه أو أصابته بلية خفيفة من بلايا الدهر ، في القاموس : النكب الطرح ونكب الإناء هراق ما فيه ، والكنانة نثر ما فيها ، والحجارة رجله لتمتها أو أصابتها فهو منكوب ، ونكب وبه طرحه ، والنكبة بالفتح المصيبة ونكبة الدهر نكبا ونكبا بلغ منه أو أصابه بنكبة ، وفي النهاية : وقد نكب بالحرة أي نالته حجارتها وأصابته ، ومنه النكبة وهي ما يصيب الإنسان من الحوادث ، ومنه الحديث : أنه نكبت إصبعه أي نالته الحجارة « ويعثر العثرة » في القاموس : العثرة المرة من العثار في المشي.

وقال الشيخ (ره) : المراد بها عثرة الرجل ، ويجوز أن يراد بها ما يعم عثرة اللسان أيضا لكنه بعيد.

« ويشاك الشوكة » يقال : شاكته الشوكة تشوكه إذا دخلت في جسده وانتصاب الشوكة بالمفعولية المطلقة كانتصاب الخدشة والنكبة والعثرة ، فإن قلت : تلك مصادر بخلاف الشوكة فكيف يكون مفعولا مطلقا؟ قلت : قد يجيء المفعول المطلق غير مصدر إذا لابس المصدر بالآلية ونحوها ، نحو ضربته سوطا وإن أبيت فاجعل انتصابها بنزع الخافض أي يشاك بالشوكة.

أقول : وفي القاموس شاكته الشوكة دخلت في جسمه وشكته أنا أشوكه وأشكته أدخلتها في جسمه وشاك يشاك شاكة وشيكة بالكسر وقع في الشوك ، والشوكة خالطها وما أشاكه شوكة ولا شاكة بها ما أصابه ، انتهى.

فعلى بعض الوجوه يمكن أن يكون الشوكة مفعولا ثانيا من غير تقدير ، وقال (ره) : وما أشبه هذا يحتمل أن يكون من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن يكون من كلام الراوي.

أقول : الظاهر أنه من كلام الصادق عليه‌السلام إلى آخر الخبر ، وضمير حديثه

٣٥٠

اختلاج العين.

٢٧ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام أيبتلى المؤمن بالجذام والبرص وأشباه هذا قال فقال وهل كتب البلاء إلا على المؤمن.

٢٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير عمن رواه ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن المؤمن ليكرم على الله حتى لو سأله الجنة بما فيها

______________________________________________________

راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال قدس‌سره : عد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلاج العين من جملة الآفات لأن الاختلاج مرض من الأمراض ، وقد ذكره الأطباء وهو حركة سريعة متواترة غير عادية يعرض لجزء من البدن كالجلد ونحوه بسبب رطوبة غليظة لزجة تنحل فتصير ريحا بخاريا غليظا يعسر خروجه من المسام ، وتزاول الدافعة دفعة فتقع بينهما مدافعة واضطراب.

الحديث السابع والعشرون : موثق كالصحيح.

« وهل كتب البلاء إلا على المؤمن » أي غالبا.

الحديث الثامن والعشرون : حسن كالصحيح.

وكلمة لو في الموضعين شرطية امتناعية و « أعطاه » جزاء أي لو سأل المؤمن الجنة أعطاه لكن لا يسأله ذلك لأنه يعلم عدم المصلحة في ذلك ، أو يحب الشركاء فيها ، ولا يطلب التفرد مع أنه يمكن أن يعطيه ما هو جنة بالفعل ، ويخلق أمثالها وأضعافها لغيره ، وأما الكافر فإنه أيضا لا يسأل جميع الدنيا لأنه لا يؤمن بالله وسعة قدرته ، بل يعد ذلك ممتنعا ، وقيل : لأنه ممتنع أن يسأل الله لأنه سبحانه لا يدرك بالكنه ولا بالشخص ، بل معرفته منحصرة في أن يعرف بصفات الربوبية والكافر لا يعرفه كذلك وإليه يشير قوله تعالى : « أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ » (١).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٦.

٣٥١

أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا وإن الكافر ليهون على الله حتى لو سأله الدنيا بما فيها أعطاه ذلك من غير أن ينتقص من ملكه شيئا وإن الله ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الغائب أهله بالطرف وإنه ليحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

٢٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن في كتاب علي عليه‌السلام أن أشد الناس بلاء النبيون ثم الوصيون ثم الأمثل فالأمثل وإنما يبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه وذلك أن الله عز وجل لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا

______________________________________________________

و « انتقص » يكون لازما ومتعديا ، والمراد هنا الثاني ، في القاموس : نقص لازم متعد وأنقصه وانتقصه ونقصه نقصه فانتقص ، وقيل : شيئا ، قائم مقام المفعول المطلق في الموضعين بمعنى انتقاصا ، وفي المصباح : الطرفة ما يستطرف أي يستملح والجمع طرف ، مثل غرفة وغرف ، وفي القاموس : أطرف فلانا أعطاه ما لم يعطه أحد قبله ، والاسم الطرفة بالضم.

الحديث التاسع والعشرون : حسن أو موثق.

« وذلك أن الله تعالى. ».

أقول : دفع لما يتوهم من أن المؤمن لكرامته على الله كان ينبغي أن يكون بلاؤه أقل ، والمعنى أن المؤمن لما كان محل ثوابه الآخرة لأن الدنيا لفنائه وانقطاعه لا يصلح أن يكون ثوابا له فينبغي أن لا يكون له في الدنيا إلا ما يوجب الثواب في الآخرة ، وكذا الكافر لما كانت عقوبته في الآخرة لأن الدنيا لانقطاعها لا يصلح أن تكون عقوبته فيها فلا يبتلى في الدنيا كثيرا ، بل إنما يكون ثوابه لو كان له عمل في الدنيا بدفع البلاء والسعة في النعماء ، وفي القاموس : القرار والقرارة : ما قر فيه والمطمئن من الأرض ، شبه عليه‌السلام البلاء النازل إلى المؤمن بالمطر النازل

٣٥٢

عقوبة لكافر ومن سخف دينه وضعف عمله قل بلاؤه وأن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض.

٣٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن مالك بن عطية ، عن يونس بن عمار قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن هذا الذي ظهر بوجهي ـ يزعم الناس أن الله لم يبتل به عبدا له فيه حاجة قال فقال لي لقد كان مؤمن آل فرعون مكنع الأصابع فكان يقول هكذا ـ ويمد يديه ـ ويقول : « يا

______________________________________________________

إلى الأرض ، ووجه الشبه متعدد وهو السرعة ، والاستقرار بعد النزول وكثرة النفع والتسبب للحياة فإن البلاء للمؤمن سبب للحياة الأرضية.

الحديث الثلاثون : مجهول.

والظاهر أن الآثار التي ظهرت بوجهه كان برصا ، ويحتمل الجذام وعلى الأول ذكر المؤمن لبيان أنه إذا جاز ابتلاء المؤمن بالجذام جاز ابتلاؤه بالبرص بطريق أولى ، لأن الجذام أشد وأخبث ، وأما ذكر مؤمن آل فرعون في هذا الخبر فلعله من اشتباه الرواة أو النساخ لأن الآية المذكورة إنما هي في قصة آل ياسين كما مر في هذا الباب أيضا وربما يوجه بوجهين : أحدهما : أن المراد بالفرعون هنا فرعون عيسى عليه‌السلام وهو الجبار الذي كان بالأنطاكية حين ورده رسل عيسى عليه‌السلام والفرعون يطلق على كل جبار متكبر ، نعم شاع إطلاقه على ثلاثة : فرعون الخليل واسمه سنان ، وفرعون يوسف واسمه الريان بن الوليد ، وفرعون موسى واسمه الوليد بن مصعب ، وإضافته إلى آل فرعون عيسى بأدنى الملابسة وهو كونه فيهم واشتغاله بإنذارهم ، أو باعتبار كونه منهم في نفس الأمر ، وثانيهما : كونهما واحدا وكان طويل العمر جدا ومع إدراكه زمان موسى أدرك زمان عيسى عليه‌السلام أيضا ، مع أنه كان بينهما على رواية ابن الجزري في التنقيح ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة ، وكان اسمه حبيب النجار وكان يلقب بمؤمن آل ياسين كما مر

٣٥٣

قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ » ثم قال لي إذا كان الثلث الأخير من الليل في أوله فتوض وقم إلى صلاتك التي تصليها فإذا كنت في السجدة الأخيرة من الركعتين الأوليين فقل وأنت ساجد ـ يا علي يا عظيم يا رحمان يا رحيم يا سامع الدعوات يا معطي الخيرات صل على محمد وآل محمد وأعطني من خير الدنيا والآخرة ما أنت أهله واصرف عني من شر الدنيا والآخرة ما أنت أهله واذهب عني بهذا الوجع ـ وتسميه فإنه قد غاظني وأحزنني وألح في الدعاء قال فما وصلت إلى الكوفة

______________________________________________________

في الخبر.

وقال في القاموس خربيل كقنديل اسم مؤمن آل ياسين ، وقال علي بن إبراهيم في قوله تعالى : « وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ » (١) قال : كتم إيمانه ستمائة سنة ، قال : وكان مجذوما مكنعا ، وهو الذي قد وقعت أصابعه ، وكان يشير إلى قومه بيديه المكنوعين ويقول : « يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ » وفي بعض النسخ مكتعا وهو الذي قد عقفت أصابعه ، وكان يشير بيديه المعقوفتين ويقول ، والعقف : العطف ، ولا يخفى بعد الوجهين لا سيما الأخير فإنه ينافيه أخبار كثيرة دالة على تعدد المؤمنين.

« إذا كان الثلث » كان تامة ، وقيل : ناقصة واسمه ضمير مستتر راجع إلى العالم أو نحوه ، والثلث منصوب بالظرفية الزمانية بقرينة في أوله فإنه بدل الثلث والظرف خبر كان ، و « تسميه » كلام الإمام عليه‌السلام اعترض بين الدعاء ، أي وتسمى الوجع بأن تقول مكان هذا الوجع هذا البرص ، وفيه إشعار بأن الدعاء لا يخص البرص.

« وأحزنني » وفيما سيأتي في كتاب الدعاء حزنني وكلاهما صحيح ، يقال : حزنه وأحزنه والإلحاح : المداومة والمبالغة بالتضرع والتكرار والاستشفاع بالنبي والأئمة عليهم‌السلام وأشباه ذلك ، قال في المصباح : ألح السحاب إلحاحا دام مطره ، و

__________________

(١) سورة غافر : ٢٨.

٣٥٤

حتى أذهب الله به عني كله.

(باب)

(فضل فقراء المسلمين)

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن محمد بن سنان ، عن العلاء ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن فقراء المسلمين يتقلبون في رياض الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ثم قال سأضرب لك مثل ذلك إنما مثل ذلك مثل سفينتين مر بهما على عاشر فنظر في إحداهما فلم ير فيها شيئا فقال

______________________________________________________

منه ألح الرجل على الشيء إذا أقبل عليه مواظبا.

باب فضل فقراء المسلمين

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

وفي القاموس : تقلب في الأمور تصرف كيف شاء ، وقال في النهاية : فيه فقراء أمتي يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ، الخريف : الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء ، ويريد به أربعين سنة لأن الخريف لا يكون في السنة إلا مرة واحدة ، فإذا انقضى أربعون خريفا فقد مضت أربعون سنة ، انتهى.

وروي في معاني الأخبار بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن عبدا مكث في النار سبعين خريفا ، والخريف سبعون سنة إلى آخر الخبر ، وفسره صاحب المعالم بأكثر من ذلك ، وفي بعض الروايات أنه ألف عام ، والعام ألف سنة ، وقيل : إن التفاوت بهذه المدة إذا كان الأغنياء من أهل الصلاح والسداد وأدوا الحقوق الواجبة ، ولم يكتسبوا من وجه الحرام ، فيكون حبسهم بمجرد خروجهم عن عهدة الحساب والسؤال عن مكسب المال ومخرجه ، وإلا فهم على خطر عظيم.

« مر بهما » على بناء المجهول والباء للتعدية ، والظرف نائب الفاعل ، و

٣٥٥

أسربوها ونظر في الأخرى فإذا هي موقورة فقال احبسوها.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن سعدان قال

______________________________________________________

العاشر من يأخذ العشر على الطريق ، في المصباح : عشرت المال عشرا من باب قتل وعشورا ، أخذت عشره ، واسم الفاعل عاشر وعشار « فقال أسربوها » على بناء الأفعال أي أرسلوها وخلوها تذهب ، والسارب الذاهب على وجهه في الأرض « فإذا هي موقرة » (١) بفتح القاف أو كسرها ، في القاموس : الوقر بالكسر الحمل الثقيل أو أعم ، وأوقر الدابة إيقارا وقرة ودابة وقرى موقرة ، ورجل موقر ذو وقر ، ونخلة موقرة وموقرة وموقور وموقرة.

« فقال احبسوها » بالأمر من باب ضرب ، والتشبيه في غاية الحسن والكمال ، والحديث يدل أن الفقر أفضل من الغنى ومن الكفاف للصابر ، وما وقع في بعض الروايات من استعاذتهم عليهم‌السلام من الفقر ، يمكن حمله على الاستعاذة من الفقر الذي لا يكون معه صبر ولا ورع يحجزه عما لا يليق بأهل الدين ، أو على فقر القلب أو فقر الآخرة ، وقد صرح به بعض العلماء ، ودل عليه بعض الروايات ، وللعامة في تفضيل الفقر على الغنى والكفاف أو العكس أربعة أقوال ثالثها ، الكفاف أفضل ، ورابعها الوقف ، ومعنى الكفاف أن لا يحتاج ولا يفضل ، ولا ريب أن الفقر أسلم وأحسن بالنسبة إلى أكثر الناس ، والغناء أحسن بالنسبة إلى بعضهم ، فينبغي أن يكون المؤمن راضيا بكل ما أعطاه الله ، وعلم صلاحه فيه ، وسؤال الفقر لم يرد في الأدعية ، بل ورد في أكثرها الاستعاذة عن الفقر الذي يشقي به ، وعن الغنى الذي يصير سببا لطغيانه ، وروى الصدوق (ره) في معاني الأخبار بإسناده عن الحارث الأعور قال : كان فيما سأل عنه علي بن أبي طالب ابنه الحسن عليهما‌السلام إنه قال له : ما الفقر؟ قال : الحرص والشره.

الحديث الثاني : مجهول.

__________________

(١) وفي المتن « موقورة ».

٣٥٦

قال أبو عبد الله عليه‌السلام المصائب منح من الله والفقر مخزون عند الله.

٣ ـ وعنه رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي إن الله جعل الفقر أمانة عند خلقه فمن ستره أعطاه الله مثل أجر الصائم القائم ومن أفشاه إلى من يقدر على قضاء حاجته فلم يفعل فقد قتله أما إنه ما قتله بسيف ولا رمح ولكنه قتله بما نكى من قلبه.

______________________________________________________

« منح من الله » المنح بكسر الميم وفتح النون جمع منحة بالكسر وهي العطية ، في القاموس : منحه كمنعه وضربه أعطاه ، والاسم المنحة بالكسر. وأقول : الخبر يحتمل وجهين : أحدهما أن ثواب المصائب منح وعطايا يبذلها الله في الدنيا ، وثواب الفقر مخزون عند الله لا يعطيه إلا في الآخرة لعظمه وشرافته ، والدنيا لا يصلح أن يكون عوضا عنه ، وثانيهما أن المصائب عطايا من الله عز وجل يعطيها من يشاء من عباده ، والفقر من جملتها مخزون عنده ، عزيز لا يعطيه إلا من خصه بمزيد العناية ، ولا يعترض أحد بكثرة الفقراء وذلك لأن الفقير هنا من لا يجد إلا القوت من التعفف ، ولا يوجد من هذه صفته في ألف ألف واحد.

أقول : أو المراد به الفقر الذي يصير سببا لشدة الافتقار إلى الله ، ولا يتوسل معه إلى المخلوقين ، ويكون معه في أعلى مراتب الرضا ، وفيه تنبيه على أنه ينبغي أن يفرح صاحب المصيبة بها كما يفرح صاحب العطية بها.

الحديث الثالث : مرفوع وضمير عنه راجع إلى أحمد.

« فقد قتله » أي قتل المسؤول السائل ، والعكس كما زعم بعيد جدا ، وفي المصباح نكأت القرحة أنكأها مهموز بفتحتين قشرتها ، ونكيت في العدو ونكى من باب نفع أيضا لغة في نكيت فيه أنكى من باب رمى ، والاسم النكاية بالكسر إذا قتلت وأثخنت.

٣٥٧

٤ ـ عنه ، عن محمد بن علي ، عن داود الحذاء ، عن محمد بن صغير ، عن جده شعيب ، عن مفضل قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام كلما ازداد العبد إيمانا ازداد ضيقا في معيشته.

٥ ـ وبإسناده قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام لو لا إلحاح المؤمنين على الله في طلب الرزق لنقلهم من الحال التي هم فيها إلى حال أضيق منها.

______________________________________________________

الحديث الرابع : ضعيف.

والازدياد هنا لازم بمعنى الزيادة ، وإيمانا وضيقا تميزان ، وفي المصباح ازداد الشيء مثل زاد وازددت مالا زدته لنفسي زيادة على ما كان ، ويؤيده ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام :

كم من أديب عالم فطن

مستكمل العقل مقل عديم

وكم من جهول يكثر ماله

ذاك تقدير العزيز العليم

والسر ما مر من فوائد الابتلاء من المثوبات التي ليس لها انتهاء ، وأيضا الإكثار موجب للتكبر والخيلاء ، واحتقار الفقراء والخشونة والقسوة والجفاء والغفلة عن الله سبحانه ، بسبب اشتغالهم بحفظ أموالهم وتنميتها مع كثرة ما يجب عليهم من الحقوق التي قل من يؤديها ، وبذلك يتعرضون لسخط الله عز وجل ، والفقراء مبرؤون من ذلك مع توسلهم بربهم وتضرعهم إليه ، وتوكلهم عليه ، وقربهم عنده بذلك مع سائر الخلال الحميدة التي لا تنفك عن الفقر إذا صبر على الشدائد التي هي من قواصم الظهر.

الحديث الخامس : ضعيف إن كان المراد بإسناده السند السابق ، أو مرسل إن كان المراد سند آخر وهو أظهر.

ويدل على محبوبية الفقر وعلى أن دعاءهم لا يرد ولا يمنع عن السماء.

٣٥٨

٦ ـ عنه ، عن بعض أصحابه رفعه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام ما أعطي عبد من الدنيا إلا اعتبارا وما زوي عنه إلا اختبارا.

٧ ـ عنه ، عن نوح بن شعيب وأبي إسحاق الخفاف ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ليس لمصاص شيعتنا في دولة الباطل إلا القوت شرقوا إن شئتم أو غربوا

______________________________________________________

الحديث السادس : مرفوع.

« إلا اعتبارا » مفعول له ، وكذا اختبارا ، وكان المعنى لا يعطيه إلا ليعتبر به غيره ، فيعلم أنه لا خير فيه لما يظهر للناس من مفاسده الدنيوية والأخروية ، أو ليعتبر بحال الفقراء فيشكر الله على الغناء ويعين الفقراء كما مر في حديث آدم عليه‌السلام حيث سأل عن سبب اختلاف ذريته؟ فقال تعالى في سياق جوابه : وينظر الغني إلى الفقير فيحمدني ويشكرني ، وينظر الفقير إلى الغني فيدعوني ويسألني ، لكن الأول في هذا المقام أنسب ، وقوله : إلا اختبارا في بعض النسخ بالياء المثناة التحتانية أي لأنه اختاره وفضله وأكرمه بذلك ، وفي بعضها بالموحدة أي امتحانا فإذا صبر كان خيرا له ، والابتلاء والاختبار في حقه تعالى مجاز باعتبار أن فعل ذلك مع عباده ليترتب عليه الجزاء ، شبيه بفعل المختبر منا مع صاحبه ، وإلا فهو سبحانه عالم بما يصدر عن العباد قبل صدوره منهم ، و « زوي » على بناء المجهول ، في القاموس : زواه زيا وزويا نحاه فانزوى وسره ، عنه طواه. والشيء جمعه وقبضه.

وأقول : نائب الفاعل ضمير الدنيا ، وقيل : هذا مخصوص بزمان دولة الباطل لئلا ينافي ما سيأتي من الأخبار في كتاب المعيشة.

الحديث السابع : مرسل.

وقال الجوهري : المصاص خالص كل شيء ، يقال : فلان مصاص قومه إذا كان أخلصهم نسبا ، يستوي فيه الواحد والاثنان ، والجمع والمؤنث ، وفي النهاية ومنه الحديث : اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا ، أي بقدر ما يمسك الرمق من المطعم ، وفي المصباح : القوت ما يؤكل ليمسك الرمق قاله ابن فارس والأزهري ، انتهى.

٣٥٩

لن ترزقوا إلا القوت.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن الحسن الأشعري ، عن بعض مشايخه ، عن إدريس بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي الحاجة أمانة الله عند خلقه فمن كتمها على نفسه أعطاه الله ثواب من صلى ومن كشفها إلى من يقدر أن يفرج عنه ولم يفعل فقد قتله أما إنه لم يقتله بسيف ولا سنان ولا سهم ولكن قتله بما نكى من قلبه.

٩ ـ وعنه ، عن أحمد ، عن علي بن الحكم ، عن سعدان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله عز وجل يلتفت ـ يوم القيامة إلى فقراء المؤمنين شبيها بالمعتذر إليهم فيقول وعزتي وجلالي ما أفقرتكم في الدنيا من هوان بكم علي ولترون ما أصنع بكم اليوم فمن زود أحدا منكم في دار الدنيا معروفا فخذوا بيده فأدخلوه الجنة قال

______________________________________________________

وقيل : هو البلغة يعني قدر ما يتبلغ به من العيش ويسمى ذلك أيضا كفافا لأنه قدر يكفه عن الناس ويغنيه عن سؤالهم ، ثم بالغ عليه‌السلام في أن نصيبهم القوت بقوله : شرقوا « إلخ » وهو كناية عن الجد في الطلب والسير في أطراف الأرض.

الحديث الثامن : مجهول « من صلى » أي في الليل كله أو واظب عليها

الحديث التاسع : مجهول.

« ولترون » بسكون الواو وتخفيف النون أو بضم الواو وتشديد النون المؤكد « ما أصنع » ما موصولة أو استفهامية « فمن زود » على بناء التفعيل أي أعطي الزاد للسفر كما ذكره الأكثر ، أو مطلقا فيشمل الحضر ، في المصباح : زاد المسافر طعامه المتخذ لسفره وتزود لسفره وزودته أعطيته زادا ونحوه قال الجوهري وغيره ، لكن قال الراغب : الزاد المدخر الزائد على ما يحتاج إليه في الوقت « منكم » أي أحدا منكم ، وقيل : من هنا اسم بمعنى البعض ، وقيل : معروفا صفة للمفعول المطلق المحذوف ، أي تزويدا معروفا ، وفي النهاية : التنافس من المنافسة وهي

٣٦٠