مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥

(باب)

(فيما يدفع الله بالمؤمن)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن علي بن الحسن التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زرارة ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن الله ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لا يصيب قرية عذاب وفيها سبعة من المؤمنين.

______________________________________________________

باب فيما يدفع الله بالمؤمن

الحديث الأول : مجهول.

« عن القرية » أي أهلها بحذف المضاف ، كما في قوله تعالى : « وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ » (١) وذلك الدفع إما بدعائه أو ببركة وجوده فيهم.

الحديث الثاني : صحيح.

ويمكن دفع التنافي بينه وبين الأول بوجوه : « الأول » أن الأول محمول على النادر ، والثاني على الغالب أو الحتم. « الثاني » أن يراد بالمؤمن في الأول الكامل ، وفي الثاني غيره. « الثالث » أن يحملا على اختلاف المعاصي واستحقاق العذاب فيها ، فإنها مختلفة ، ففي القليل والخفيف منها يدفع بالواحد ، وفي الكثير والغليظ منها لا يدفع إلا بالسبعة ، مع أن المفهوم لا يعارض المنطوق.

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٢.

٣٠١

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن غير واحد ، عن أبي عبد الله قال قيل له في العذاب إذا نزل بقوم يصيب المؤمنين قال نعم ولكن يخلصون بعده.

______________________________________________________

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

« ولكن يخلصون بعده » أي ينجون بعد نزول العذاب بهم في البرزخ والقيامة ، في المصباح : خلص الشيء من التلف خلوصا من باب قعد وخلاصا ومخلصا سلم ونجا ، وخلص الماء من الكدر صفا ، انتهى.

ويشكل الجمع بينه وبين الخبرين السابقين ، ويمكن الجمع بوجوه :

الأول : حمل العذاب في الأولين على نوع منه كعذاب الاستئصال ، كما أنه سبحانه أخرج لوطا وأهله من بين قومه ثم أنزل العذاب عليهم ، وهذا الخبر على نوع آخر كالوباء والقحط.

الثاني : أن يحمل هذا على النادر وما مر على الغالب على بعض الوجوه.

الثالث : حمل هذا على أقل من السبعة ، وحمل الواحد على النادر ، وما قيل : من أن المراد بالخلاص الخلاص في الدنيا فهو بعيد ، مع أنه لا ينفع في رفع التنافي.

٣٠٢

(باب)

(في أن المؤمن صنفان)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن نصير أبي الحكم الخثعمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال المؤمن مؤمنان فمؤمن صدق بعهد الله ووفى بشرطه وذلك قول الله عز وجل : « رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ » (١) فذلك الذي لا

______________________________________________________

باب في أن المؤمن صنفان

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

قال الله سبحانه : « مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ » قال البيضاوي : من الثبات مع الرسول والمقاتلة لأعداء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق فإن المعاهد إذا وفى بعهده فقد صدق « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ » أي نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر ، والنحب : النذر أستعير للموت ، لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان « وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ » أي الشهادة « وَما بَدَّلُوا » العهد ولا غيروه « تَبْدِيلاً » أي شيئا من التبديل.

وقال الطبرسي (ره) : « فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ » يعني حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب « وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ » يعني علي بن أبي طالب ، وروي في الخصال عن الباقر عليه‌السلام في حديث طويل قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لقد كنت عاهدت الله تعالى ورسوله أنا وعمي حمزة وأخي جعفر وابن عمي عبيدة على أمر وفينا به لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقدمني أصحابي وتخلفت بعدهم لما أراد الله تعالى فأنزل الله فينا : « رِجالٌ » الآية ، حمزة وجعفر وعبيدة ، وأنا والله المنتظر « وما بدلت تبديلا ».

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٢٣.

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والأخبار في ذلك كثيرة أوردتها في الكتاب الكبير ، فإذا عرفت ذلك فاعلم أنه عليه‌السلام استدل بهذه الآية على أن المؤمنين صنفان ، لأنه تعالى قال : « مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ » فصنف منهم مؤمن « صدق بعهد الله » قيل : الباء بمعنى في ، أي في عهد الله ، فقوله : صدق كنصر بالتخفيف ، ففيه إشارة إلى أن في الآية أيضا الباء مقدرة أي صدقوا بما عاهدوا الله عليه ، ويمكن أن يقرأ صدق بالتشديد بيانا لحاصل معنى الآية ، أي صدقوا بعهد الله وما وعدهم من الثواب وما اشترط في الثواب من الإيمان والعمل الصالح ، والأول أظهر ، والمراد بالعهد أصول الدين من الإقرار بالتوحيد والنبوة والإمامة والمعاد ، والوفاء بالشرط الإتيان بالمأمورات والانتهاء عن المنهيات ، وقيل : أراد بالعهد الميثاق بقوله : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » (١) وبالشرط قوله تعالى : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ » (٢).

وأقول : يحتمل أن يكون المراد بهما ما مر في الحديث السادس من باب معرفة الإمام والرد إليه حيث قال : إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفون حتى تصدقوا ، ولا تصدقوا حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها ، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا ، إن الله تعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ، أو لا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود ، فمن وفى لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده ، واستعمل عهده إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار ، وأخبرهم كيف يسلكون فقال : « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » (٣) وقال : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٢.

(٢) سورة النساء : ٣١.

(٣) سورة طه : ٨٢.

٣٠٤

تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة وذلك ممن يشفع ولا يشفع له ومؤمن كخامة الزرع تعوج أحيانا وتقوم أحيانا فذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا وأهوال

______________________________________________________

مِنَ الْمُتَّقِينَ » (١) إلى آخر الخبر (٢).

فالشروط والعهود هي التوبة والإيمان والأعمال الصالحة والاهتداء بالأئمة عليهم‌السلام.

« فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة » قيل : المراد بأهوال الدنيا القحط والطاعون وأمثالهما في الحياة وما يراه عند الموت من سكراته وأهواله ، وأهوال الآخرة ما بعد الموت إلى دخول الجنة ، وقيل : المراد بأهوال الدنيا الهموم من فوات نعيمها ، لأن الدنيا ونعيمها لم تخطر بباله فكيف الهموم من فواتها ، والمراد أعم منها ومن عقوباتها ومكارهها ومصائبها لأنها عنده نعمة مرغوبة لا أهوال مكروهة أو لأنها لا تصيبه لأجل المعصية فلا ينافي إصابتها لرفع الدرجة ، ولا يخفى بعد تلك الوجوه.

والأظهر عندي أن المراد بأهوال الدنيا ارتكاب الذنوب والمعاصي ، لأنها عنده من أعظم المصائب والأهوال بقرينة ما سيأتي في الشق المقابل له ، ويحتمل أن يكون إطلاق الأهوال عليها على مجاز المشاكلة « وذلك ممن يشفع » على بناء المجهول أي أنه لا يحتاج إلى الشفاعة لأنه من المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وإنما الشفاعة لأهل المعاصي « كخامة الزرع » قال في النهاية : فيه مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح ، هي الطاقة الغضة اللينة من الزرع ، وألفها منقلبة عن واو ، انتهى ، وأشار إلى وجه الشبه بقوله : يعوج أحيانا ، والمراد باعوجاجه ميلة إلى الباطل وهو متاع الدنيا والشهوات النفسانية ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٢٧.

(٢) راجع المجلد الثاني من هذه الطبعة ص ٣٠٥.

٣٠٥

الآخرة وذلك ممن يشفع له ولا يشفع.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عبد الله ، عن خالد العمي ، عن خضر بن عمرو ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول المؤمن مؤمنان مؤمن وفى لله بشروطه التي شرطها عليه فذلك مع « النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » وذلك من يشفع ولا يشفع له وذلك ممن لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة ومؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع

______________________________________________________

وبقيامه استقامته على طريق الحق ومخالفته للأهواء والوساوس الشيطانية ، وقد مر الكلام في أهوال الدنيا « ولا يشفع » أي لا يؤذن له في الشفاعة.

الحديث الثاني : كالأول.

وخضر بكسر الخاء وسكون الضاد أو بفتح الخاء وكسر الضاد صحح بهما في القاموس وغيره « وفي لله بشروطه » العهود داخلة تحت الشروط هنا « فذلك مع النبيين » إشارة إلى قوله تعالى : « وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » (١) وهذا مبني على ما ورد في الأخبار الكثيرة أن الصديقين والشهداء والصالحين هم الأئمة عليهم‌السلام ، والمراد بالمؤمن في المقسم هنا غيرهم من المؤمنين وقد مر عن أبي ـ جعفر عليه‌السلام أنه قال بعد قراءة هذه الآية فمنا النبي ومنا الصديق والشهداء والصالحون ، وفي تفسير علي بن إبراهيم قال : النبيين رسول الله والصديقين علي ، والشهداء الحسن والحسين ، والصالحين الأئمة « وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » القائم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يحتاج إلى ما قيل : أن الظاهر أنه كان من النبيين لأن الصنف الأول إما نبي أو صديق أو شهيد أو صالح ، والصنف الثاني يكون مع هؤلاء بشفاعتهم « زلت به قدم » كان الباء للتعدية ، أي أزلته قدم وأقدام على المعصية ، وقيل : الباء للسببية أي زلت بسببه قدمه أي فعله عمدا من غير نسيان

__________________

(١) سورة النساء : ٦٩.

٣٠٦

كيفما كفأته الريح انكفأ وذلك ممن تصيبه أهوال الدنيا والآخرة ويشفع له وهو على خير.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن إسماعيل بن مهران ، عن يونس بن يعقوب ، عن أبي مريم الأنصاري ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان فقال الإخوان صنفان إخوان الثقة وإخوان المكاشرة فأما إخوان الثقة فهم الكف

______________________________________________________

وإكراه ، و « كيفما » مركب من كيف للشرط ، نحو كيف تصنع أصنع ، وما زائدة للتأكيد ، وفي النهاية : يقال كفأت الإناء وأكفأته إذا كببته وإذا أملته ، وفي القاموس : كفاه كمنعه صرفه وكبه وقلبه كاكفاه واكتفاه وانكفأ رجع ، ولونه تغير.

الحديث الثالث : موثق كالصحيح.

« الإخوان صنفان » المراد بالإخوان إما مطلق المؤمنين فإن المؤمنين إخوة ، أو المؤمنين الذين يصاحبهم ويعاشرهم ويظهرون له المودة والأخوة ، أو الأعم من المؤمنين وغيرهم إذا كانوا كذلك ، والمراد بإخوان الثقة أهل الصلاح والصدق والأمانة ، الذين يثق بهم ويعتمد عليهم في الدين ، وعدم النفاق وموافقة ظاهر هم لباطنهم ، وبإخوان المكاشرة الذين ليسوا بتلك المثابة ، ولكن يعاشرهم لرفع الوحشة ، أو للمصلحة والتقية فيجالسهم ويضاحكهم ولا يعتمد عليهم ولكن ينتفع بمحض تلك المصاحبة منهم لإزالة الوحشة ودفع الضرر ، قال في النهاية : فيه : إنا لنكشر في وجوه أقوام ، الكشر : ظهور الأسنان في الضحك ، وكاشرة إذا ضحك في وجهه وباسط ، والاسم الكشرة كالعشرة « فهم الكف » الحمل على المبالغة والتشبيه أي هم بمنزلة كفك في أعانتك وكف الأذى عنك ، فينبغي أن تراعيه وتحفظه كما تحفظ كفك ، قال في المصباح : قال الأزهري : الكف الراحة مع الأصابع سميت بذلك لأنها

٣٠٧

والجناح والأهل والمال فإذا كنت من أخيك على حد الثقة فابذل له مالك وبدنك ـ وصاف من صافاه وعاد من عاداه واكتم سره وعيبه وأظهر منه الحسن

______________________________________________________

تكف الأذى عن البدن ، وقال : جناح الطائر بمنزلة اليد للإنسان ، وفي القاموس : الجناح اليد والعضد والإبط والجانب ونفس الشيء ، والكنف والناحية ، انتهى.

وأكثر المعاني مناسبة ، والعضد أظهر والحمل كما سبق ، أي هم بمنزلة عضدك في إعانتك فراعهم كما تراعى عضدك ، وكذا الأهل والمال ، ويمكن أن يكون المراد بكونهم مالا أنهم أسباب لحصول المال عند الحاجة إليه « فإذا كنت من أخيك » أي بالنسبة إليه كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت مني بمنزلة هارون من موسى « على حد الثقة » أي على مرتبة الثقة والاعتماد ، أو على أول حد من حدودها ، والثقة في الأخوة والديانة والاتصاف بصفات المؤمنين وكون باطنه موافقا لظاهرة « فابذل له مالك وبدنك » بذل المال هو أن يعطيه من ماله عند حاجته إليه سأل أم لم يسأل وبذل البدن هو أن يسعى في حاجته ويخدمه ويدفع الأذى عنه قولا وفعلا ، وهما متفرعان على كونهم الكف والجناح والأهل والمال.

« وصاف من صافاه » أي أخلص الود لمن أخلص له الود ، قال في المصباح : صفا خلص من الكدر ، وأصفيته الود إذا خلصته ، وفي القاموس : صافاه صدقه الإخاء كأصفاه « وعاد من عاداه » أي في الدين أو الأعم إذا كان الأخ محقا وإنما أطلق لأن المؤمن الكامل لا يكون إلا محقا.

ويؤيد هاتين الفقرتين ما روي عنه عليه‌السلام في النهج أنه قال : أصدقاؤك ثلاثة وأعداؤك ثلاثة : فأصدقاؤك صديقك وصديق صديقك ، وعدو عدوك ، وأعداؤك عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك.

« واكتم سره » أي ما أمرك بإخفائه أو تعلم أن إظهاره يضره « وعيبه » أي إن كان له عيب نادرا أو ما يعيبه الناس عليه ولم يكن قبيحا واقعا كالفقر

٣٠٨

واعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت الأحمر وأما إخوان المكاشرة فإنك تصيب لذتك منهم فلا تقطعن ذلك منهم ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان.

______________________________________________________

والأمراض الخفية « وأظهر منه الحسن » بالتحريك أي ما هو حسن ممدوح عقلا وشرعا من الصفات والأخلاق والأعمال ، ويمكن أن يقرأ بالضم « فإنك تصيب لذتك منهم » أي تلتذ بحسن صحبتهم ومؤانستهم وتحصيل بعض المنافع الدنيوية منهم ، بل الأخروية أيضا أحيانا بمذاكرتهم ومفاوضتهم « فلا تقطعن ذلك » الحظ « منهم » بالاستيحاش عنهم ، وترك مصاحبتهم فتصير وحيدا لندرة النوع الأول كما قال عليه‌السلام في حديث آخر : زهدك في راغب فيك نقصان حظ ، ورغبتك في زاهد فيك ذل نفس.

« ولا تطلبن ما وراء ذلك من ضميرهم » أي ما يضمرون في أنفسهم فلعله يظهر لك منهم حسد وعداوة ونفاق ، فتترك مصاحبتهم فيفوتك ذلك الحظ منهم ، أو يظهر لك منهم سوء عقيدة وفساد رأي فتضطر إلى مفارقتهم لذلك ، أو المعنى لا تتوقع منهم موافقة ضميرهم لك وحبهم الواقعي واكتف بالمعاشرة الظاهرة وإن علمت عدم موافقة قلبهم للسانهم كما يرشد إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وابذل لهم ما بذلوا لك منهم طلاقة الوجه » أي تهلله وإظهار فرحه برؤيتك وتبسمه ، في المصباح : رجل طلق الوجه أي فرح ظاهر البشر وهو طليق الوجه ، قال أبو زيد : متهلل بسام ، وفي الحديث حث على حسن المعاشرة والاكتفاء بظواهر حالهم وعدم تجسس ما في بواطنهم فإنه أقرب إلى هدايتهم وإرشادهم إلى الحق ، وتعليم الجهال وهداية أهل الضلال وأبعد من التضرر منهم والتنفر عنهم ، والأخبار في حسن المعاشرة كثيرة لا سيما مع المدعين للتشيع والإيمان ، وسيأتي بعضها والله المستعان.

٣٠٩

(باب)

(ما أخذه الله على المؤمن من الصبر على ما يلحقه فيما ابتلي به)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن داود بن فرقد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال أخذ الله ميثاق المؤمن على أن لا تصدق مقالته ولا ينتصف من عدوه وما من مؤمن يشفي نفسه إلا بفضيحتها لأن كل

______________________________________________________

باب ما أخذه الله على المؤمن من الصبر

أي ما يلحقه من الغم والهم « فيما ابتلي به » من الأمور الأربعة المذكورة في الأخبار ، أو على ما يلحقه من معاشرة الخلق ، وقيل : أي فيما كلف به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمثال ذلك ، والأول أظهر.

الحديث الأول : صحيح.

« على أن لا تصدق » أي على الصبر على أن لا تصدق مقالته في دولة الباطل أو أهل الباطل مطلقا ، والانتصاف الانتقام ، وفي القاموس : انتصف منه استوفى حقه منه كاملا حتى صار كل على النصف سواء كاستنصف منه « يشفي نفسه » يقال : شفاه يشفيه من باب ضرب فاشتفى هو ، وهو من الشفاء بمعنى البرء من الأمراض النفسانية ، والمكاره القلبية ، كما يستعمل في شفاء الجسم من الأمراض البدنية ، وكون شفاء نفسه من غيظ العدو موجبا لفضيحتها ظاهر لأن الانتقام من العدو مع عدم القدرة عليه يوجب الفضيحة والمذلة ، ومزيد الإهانة ، والضمير في بفضيحتها راجع إلى النفس « لأن كل مؤمن ملجم » يعني إذا أراد المؤمن أن يشفي غيظه بالانتقام من عدوه افتضح ، وذلك لأنه ليس بمطلق العنان خليع العذار ، يقول ما يشاء ويفعل ما يريد ، إذ هو مأمور بالتقية والكتمان والخوف من العصيان ، والخشية من الرحمن ، ولأن زمام أمره بيد الله سبحانه لأنه فوض أمره إليه ،

٣١٠

مؤمن ملجم.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن ابن محبوب ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله أخذ ميثاق المؤمن على بلايا أربع أيسرها عليه مؤمن يقول بقوله

______________________________________________________

فيفعل به ما يشاء مما فيه مصلحته ، وقيل : أي ممنوع من الكلام الذي يصير سببا لحصول مطالبه الدنيوية في دولة الباطل.

وأقول : يحتمل أن يكون المعنى أنه ألجمه الله في الدنيا ، فلا يقدر على الانتقام في دول اللئام ، أو ينبغي أن يلجم نفسه ويمنعها من الكلام ، أو الفعل الذي يخالف التقية كما مر ، وقال في النهاية : فيه من سئل عما يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة الممسك عن الكلام ، يمثل بمن ألجم نفسه بلجام ، ومنه الحديث : يبلغ العرق منهم ما يلجمهم ، أي يصل إلى أفواههم فيصير لهم بمنزلة اللجام يمنعهم عن الكلام.

الحديث الثاني : كالأول.

« على بلايا أربع » قيل : أي إحدى بلايا للعطف بأو ، وللحديث الرابع ، وأربع مجرور صفة للبلايا ، وأشدها خبر مبتدإ محذوف ، أي هي أشدها والضمير المحذوف راجع إلى إحدى ، والضمير المجرور راجع إلى البلايا ، ومؤمن مرفوع ، وهو بدل أشدها ، وإبدال النكرة من المعرفة جائز إذا كانت النكرة موصوفة ، نحو قوله تعالى : « بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ » (١) و « أو منافق » عطف على أشدها ، وفي بعض النسخ أيسرها وقال بعضهم : أيسرها صفة لبلايا أربع ، وفيه إشعار بأن للمؤمن بلايا أخر أشد منها ، قال : وفي بعض النسخ أشدها بدل أيسرها فيفيد أن هذه الأربع أشد بلاياه ، وقوله : مؤمن خبر مبتدإ محذوف أي هو مؤمن ، وقيل : إن أيسرها

__________________

(١) سورة العلق : ١٥.

٣١١

يحسده أو منافق يقفو أثره أو شيطان يغويه أو كافر يرى جهاده فما بقاء المؤمن بعد هذا.

______________________________________________________

مبتدأ ومؤمن خبره ، وإن أشدها أولى م ن أيسرها لئلا ينافي قوله عليه‌السلام فيما بعد : ومؤمن يحسده وهو أشدهن عليه ، وفيه أن أيسرها أو أشدها صفة لما تقدم فلا تتم ما ذكر ، وكون هذه الأربع أيسر من غيرها لا ينافي أن يكون بعضها أشد من بعض ، ولو جعل مبتدأ كما زعم لزم أن لا يكون المؤمن الحاسد أشد من المنافق وما بعده ، وهو مناف لما سيأتي.

وأقول : يمكن أن يكون أو للجمع المطلق بمعنى الواو ، فلا نحتاج إلى تقدير إحدى ، ويكون أشدها مبتدأ ومؤمن خبره ، وعبر عن الأول بهذه العبارة لبيان الأشدية ثم عطف عليه ما بعده كأنه عطف على المعنى ، ولكل من الوجوه السابقة وجه وكون مؤمن بدل أشدها أوجه.

« يقول بقوله » أي يعتقد مذهبه ويدعي التشيع لكنه ليس بمؤمن كامل بل يغلبه الحسد « أو منافق يقفو أثره » أي يتبعه ظاهرا وإن كان منافقا أو يتبع عيوبه فيذكرها للناس وهو أظهر « أو شيطان » أي شيطان الجن أو الأعم منه ومن شيطان الإنس « يغويه » أي يريد إغواءه وإضلاله عن سبيل الحق بالوساوس الباطلة كما قال تعالى حاكيا عن الشيطان : « لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ » الآية (١) وقال سبحانه : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » (٢) وقال : « وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ » (٣).

وربما يقرأ يغويه على بناء التفعيل أي ينسبه إلى الغواية وهو بعيد « أو كافر يرى جهاد » أي لازما فيضره بكل وجه يمكنه « فما بقاء المؤمن بعد هذا »؟

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٦.

(٢) سورة الأنعام : ١١٢.

(٣) سورة الأنعام : ١٢١.

٣١٢

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن ابن مسكان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما أفلت المؤمن من واحدة من ثلاث ولربما اجتمعت الثلاث عليه إما بغض من يكون معه في الدار يغلق عليه بابه يؤذيه أو جار يؤذيه أو من في طريقه إلى حوائجه يؤذيه ولو أن مؤمنا على قلة جبل

______________________________________________________

استفهام إنكار أي كيف يبقى المؤمن على إيمانه بعد الذي ذكرنا ، ولذا قل عدد المؤمنين أو لا يبقى في الدنيا بعد هذه البلايا والهموم والغموم ، أو لا يبقى جنس المؤمن في الدنيا إلا قليل منهم.

الحديث الثالث : موثق.

« ما أفلت المؤمن » أي ما تخلص ، في المصباح : أفلت الطائر وغيره إفلاتا تخلص وأفلته إذا أطلقته وخلصته يستعمل لازما ومتعديا ، وفلت فلتا من باب ضرب لغة وفليته أنا ، يستعمل أيضا لازما ومتعديا ، والظاهر أن بعض مبتدأ ويؤذيه خبره ، ويحتمل أن يكون بعض خبر مبتدإ محذوف ويؤذيه صفة أو حالا « ويغلق » على بناء المجهول أو المعلوم والأول أظهر ، فبابه نائب الفاعل ، وضمير عليه راجع إلى ما يرجع إليه المستتر في يكون ، وجملة يغلق حال عن ضمير يكون أي داخل في داره يكون معه فيها ، والمراد بالشيطان إما شيطان الجن لأن معارضته للمؤمن أكثر أو شيطان الإنس.

وذكروا لتسليط الشياطين والكفرة على المؤمنين وجوها من الحكمة « الأول » أنه لكفارة ذنوبه ، الثاني : أنه لاختبار صبره وإدراجه في الصابرين ، الثالث : أنه لتزهيده في الدنيا لئلا يفتتن بها ويطمئن إليها فيشق عليه الخروج منها ، الرابع : توسله إلى جناب الحق سبحانه في الضراء وسلوكه مسلك الدعاء لدفع ما يصيبه من البلاء ، فترتفع بذلك درجته ، الخامس : وحشته عن المخلوقين وأنسه برب العالمين ، السادس : إكرامه برفع الدرجة التي لا يبلغها الإنسان بكسبه لأنه ممنوع

٣١٣

لبعث الله عز وجل إليه شيطانا يؤذيه ويجعل الله له من إيمانه أنسا لا يستوحش معه إلى أحد.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن داود بن سرحان قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول أربع لا يخلو منهن المؤمن

______________________________________________________

من إيلام نفسه شرعا وطبعا ، فإذا سلط عليه في ذلك غيره أدرك ما لا يصل إليه بفعله كدرجة الشهادة مثلا ، السابع : تشديد عقوبة العدو في الآخرة فإنه يوجب سرور المؤمنين به ، والغرض من هذا الحديث وأمثاله حث المؤمن على الاستعداد لتحمل النوائب والمصائب وأنواع البلاء بالصبر والشكر والرضا بالقضاء.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور معتبر.

« أربع » أي أربع خصال « أو واحدة » أي أو من واحدة « مؤمن يحسده » أي حسد مؤمن وهو أشدهن عليه لأن صدور الشر من القريب المجانس أشد وأعظم من صدوره من البعيد المخالف لتوقع الخير من الأول دون الثاني ، وفي الخصال بإسناده عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : يا سماعة لا ينفك المؤمن من خصال أربع : من جار يؤذيه ، وشيطان يغويه ، ومنافق يقفو أثره ، ومؤمن يحسده ، ثم قال : يا سماعة أما إنه أشدهم عليه ، قلت كيف ذاك؟ قال : إنه يقول فيه القول فيصدق عليه (١) « وعدو » أي مجاهر بالعداوة ، يجاهده بلسانه ويده.

__________________

(١) ويبقى في هذا الحديث وأمثاله سؤال لم أر من تعرض له من الشرّاح وهو أنّه كيف يحسد المؤمن على أخيه مع أنّ الحسد من المعاصي الكبيرة الموبقة ، وأنّه لا يجامع الإيمان لقولهم عليهم‌السلام : الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب ، وقول الصادق عليه‌السلام ( على ما سيأتي في باب الحسد ) : إنّ المؤمن يغبط ولا يحسد ، وأمثال ذلك؟

ويمكن أن يجاب بأنّ المراد من الإيمان معناه اللغويّ والإيمان الظاهري لا الواقعي ، أو المراد من الحسد هو الغبطة أو التنافس كما ورد في الحديث ، وقد استعمل الحسد في هذا المعنى في اللغة والحديث أيضا ، والله العالم.

٣١٤

أو واحدة منهن مؤمن يحسده وهو أشدهن عليه ومنافق يقفو أثره أو عدو يجاهده أو شيطان يغويه.

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن سماعة بن مهران ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله عز وجل جعل وليه في الدنيا غرضا لعدوه.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن محمد بن عجلان قال كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فشكا إليه رجل الحاجة فقال له اصبر فإن الله سيجعل لك فرجا قال ثم سكت ساعة ثم أقبل على الرجل

______________________________________________________

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور.

والغرض بالتحريك هدف يرمى فيه أي جعل محبة في الدنيا هدفا لسهام عداوة عدوه وحيله وشروره.

الحديث السادس : مجهول.

« فإن الله سيجعل لك فرجا » أي بتهيئة أسباب الرزق كما قال سبحانه : « سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً » (١) وقال : « وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » (٢) « أو بالموت » فإن للمؤمن بعده السرور والراحة والحبور ، كما يومئ إليه ما بعده : « الدنيا سجن المؤمن » هذا الحديث مع تتمته : وجنة الكافر ، منقول من طرق الخاصة والعامة.

قال الراوندي (ره) في ضوء الشهاب بعد نقل هذه الرواية : شبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤمن بالمسجون من حيث هو ملجم بالأوامر والنواهي ، مضيق عليه في الدنيا ، مقبوض على يده فيها ، مخوف بسياط العقاب ، مبتلى بالشهوات ، ممتحن بالمصائب بخلاف الكافر الذي هو مخلوع العذار متمكن من شهوات البطن والفرج ، بطيبة

__________________

(١) سورة الطلاق : ٧.

(٢) سورة الطلاق : ٣.

٣١٥

فقال أخبرني عن سجن الكوفة كيف هو فقال أصلحك الله ضيق منتن وأهله بأسوإ حال قال فإنما أنت في السجن فتريد أن تكون فيه في سعة أما علمت أن الدنيا سجن المؤمن.

______________________________________________________

من قلبه وانشراح من صدره مخلى بينه وبين ما يريد على ما يسول له الشيطان لا ضيق عليه ولا منع ، فهو يغدو فيها ويروح على حسب مراده وشهوة فؤاده ، فالدنيا كأنها جنة له يتمتع بملاذها ويتمتع بنعيمها كما أنها كالسجن للمؤمن صارفا له عن لذاته مانعا من شهواته.

وفي الحديث أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة عليها‌السلام : يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ، وروي أن يهوديا تعرض للحسن بن علي عليه‌السلام وهو في شظف من حاله وكسوف من باله (١) والحسن عليه‌السلام راكب بغلة فارهة (٢) عليه ثياب حسنة فقال : جدك يقول : إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فأنا في السجن وأنت في الجنة؟ فقال عليه‌السلام : لو علمت مالك وما يرتب لك من العذاب لعلمت أنك مع هذا الضر هيهنا في الجنة ، ولو نظرت إلى ما أعد لي في الآخرة لعلمت أني معذب في السجن هيهنا ، انتهى.

وأقول : فالكلام يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون المعنى أن المؤمن غالبا في الدنيا بسوء حال وتعب وخوف والكافر غالبا في سعة وأمن ورفاهية فلا ينافي كون المؤمن نادرا بحال حسن ، والكافر نادرا بمشقة ، وثانيهما أن يكون المعنى أن المؤمن في الدنيا كأنه في سجن لأنه بالنظر إلى حاله في الآخرة وما أعد الله له من النعيم كأنه في سجن ، لأنه بالنظر إلى حاله في الآخرة وما أعد الله له من النعيم كأنه في سجن وإن كان بأحسن الأحوال بالنظر إلى أهل الدنيا ، والكافر بعكس ذلك لأن نعيمه منحصر في الدنيا وليس له في الآخرة إلا أشد

__________________

(١) الشظف : الضيق والشدة. ويقال : فلان كاسف البال أي سيىء الحال.

(٢) فره فرها : نشط وبطر.

٣١٦

٧ ـ عنه ، عن محمد بن علي ، عن إبراهيم الحذاء ، عن محمد بن صغير ، عن جده شعيب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول الدنيا سجن المؤمن فأي سجن جاء منه خير.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن داود بن أبي يزيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال المؤمن مكفر.

______________________________________________________

العذاب ، فالدنيا جنته وإن كان بأسوء الأحوال ، وظهر وجه آخر مما ذكرنا سابقا.

الحديث السابع : ضعيف.

إذ ضمير عنه راجع إلى البرقي ، ومحمد بن علي هو أبو سمينة.

« فأي سجن » استفهام للإنكار ، والمعنى أنه ينبغي للمؤمن أن لا يتوقع الرفاهية في الدنيا.

الحديث الثامن : صحيح وآخره مرسل.

« المؤمن مكفر » على بناء المفعول من التفعيل أي لا يشكر الناس معروفه بقرينة تتمة الخبر ، وقد قال الفيروزآبادي : المكفر كمعظم المجحود النعمة مع إحسانه ، والموثق في الحديد.

وروى الصدوق في العلل بإسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : المؤمن مكفر وذلك أن معروفه يصعد إلى الله عز وجل فلا ينتشر في الناس ، والكافر مشكور وذلك أن معروفه للناس ينتشر في الناس ولا يصعد إلى السماء ، وروي أيضا بإسناده عن الحسين بن موسى ، عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه عن جده علي بن الحسين عليهم‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكفرا لا يشكر معروفه ، ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي ومن كان أعظم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا الخلق؟ وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا وخيار المؤمنين مكفرون لا يشكر معروفهم.

٣١٧

وفي رواية أخرى وذلك أن معروفه يصعد إلى الله فلا ينشر في الناس والكافر مشكور.

______________________________________________________

وقال الجزري في النهاية : فيه المؤمن مكفر أي مزرئا في نفسه وماله لتكفر خطاياه ، انتهى.

وهذا الوجه لا يحتمل في هذه الأخبار ، وكان المراد بالتعليل أن معروفه لما كان خالصا لله مقبولا عنده لا يرضى له بأن يثيبه في الدنيا فتكفر نعمته ليكمل ثوابه في الآخرة ، والكافر لما لم يكن مستحقا لثواب الآخرة يثاب في الدنيا كعمل الشيطان ، وقيل : هو مبني على أن المؤمن يخفى معروفه من الناس ولا يفعله رياء ولا سمعة فيصعد إلى الله ولا ينتشر في الناس ، والكافر يفعله علانية ورياء وسمعة فينتشر في الناس ، ولا يقبله الله ولا يصعد إليه ، وقيل : المعنى أن معروفه الكثير ، الذي يدل عليه صيغة التفعيل ، لا يعلمه إلا الله ، ومن علمه بالوحي من قبله تعالى لأن معروفه ليس من قبيل الدراهم والدنانير ، بل من جملة معروفه حياة سائر الخلق ، وبقائهم بسببه وأمثال ذلك من النعم العظيمة المخفية.

وربما يقال في وجه التعليل أن المؤمن يجعل معروفه في الضعفاء والفقراء الذين ليس لهم وجه عند الناس ولا ذكر ، فلا يذكر ذلك في الخلق ، والكافر يجعل معروفه في المشاهير والشعراء والذين يذكرونه في الناس فينتشر فيهم.

فإن قيل : بعض تلك الوجوه ينافي ما سيأتي في باب الرياء أن الله تعالى يظهر العمل الخالص ويكثره في أعين الناس ومن أراد بعمله الناس يقلله الله في أعينهم؟

قلنا : يمكن حمل هذا على الغالب ، وذاك على النادر ، وهذا على المؤمن الخالص وذاك على غيرهم ، أو هذا على العبادات المالية وذاك على العبادات البدنية

٣١٨

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما من مؤمن إلا وقد وكل الله به أربعة شيطانا يغويه يريد أن يضله وكافرا يغتاله ومؤمنا يحسده وهو أشدهم عليه ومنافقا يتتبع عثراته.

١٠ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سمعته يقول إذا مات المؤمن خلى على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر كانوا مشتغلين به.

______________________________________________________

الحديث التاسع : حسن كالصحيح.

« يريد أن يضله » بيان ليغويه لئلا يتوهم أنه يقبل إغواءه ويؤثر فيه ، بل إنما ابتلاؤه به بسبب أنه يوسوسه ، وهو يشتغل بمعارضته وقد مر أن الشيطان يحتمل الجن والإنس والأعم.

« وكافرا يقاتله » وفي بعض النسخ يغتاله (١) وفي المصباح غاله غولا من باب قال أهلكه. واغتاله : قتله على غرة ، والاسم الغيلة بالكسر ، يتبع (٢) كيعلم أو على بناء الافتعال أي يتفحص ويتطلب عثراته أي معاصيه التي تصدر عنه أحيانا على الغفلة وعيوبه.

الحديث العاشر : ضعيف.

« خلى على جيرانه » على بناء المعلوم والإسناد مجازي لأن موته صار سببا لاشتغال شياطينه بجيرانه أو هو على بناء المجهول ، والتعدية بعلى لتضمين معنى الاستيلاء أي ترك على جيرانه ، أو خلي بين الشياطين المشتغلين به أيام حياته وبين جيرانه ، والحاصل أن الشياطين كانوا مشغولين بإضلاله ووسوسته لأن إضلاله كان أهم عندهم أو بإيذائه وحث الناس عليه ، فإذا مات تفرقوا على جيرانه لإضلالهم أو إيذائهم ، وقيل : الباء للسببية وضمير كانوا إما راجع إلى الشياطين أو الجيران

__________________

(١) كما في المتن.

(٢) وفي المتن « يتتبع ».

٣١٩

١١ ـ سهل بن زياد ، عن يحيى بن المبارك ، عن عبد الله بن جبلة ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما كان ولا يكون وليس بكائن مؤمن إلا وله جار يؤذيه ولو أن مؤمنا في جزيرة من جزائر البحر لابتعث الله له من يؤذيه.

١٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبي أيوب ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما كان فيما مضى ولا فيما بقي ولا فيما أنتم فيه مؤمن إلا وله جار يؤذيه.

١٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول ما كان ولا يكون إلى أن تقوم الساعة مؤمن إلا وله جار يؤذيه.

______________________________________________________

أي كان الشياطين ممنوعين عن المعاصي بسببه لأنه كان يعظهم ويهديهم ، أو كان الجيران ممنوعين عن المعاصي بسببه وكأنه دعاه إلى ذلك قول الجوهري يقال شغلت بكذا على ما لم يسم فاعله واشتغلت ، ولا يخفى ما فيه.

وربيعة كقبيلة ، ومضر كصرد قبيلتان عظيمتان من العرب ، يضرب بهما المثل في الكثرة ، وهما في النسب إخوان ابنا نزار بن معد بن عدنان ، ومضر الجد السابع عشر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الحديث الحادي عشر : ضعيف.

وكان المراد بالجار هنا أعم من جار الدار والرفيق والمعامل والمصاحب ، وفي الحديث الجار إلى أربعين دارا « لانبعث له » أي من الشيطان ، وفي بعض النسخ لابتعث الله له ، فالإسناد على المجاز يقال : بعثه كمنعه أرسله كابتعثه فانبعث.

الحديث الثاني عشر : موثق.

« ولا فيما بقي » أي فيما يأتي « ولا فيما أنتم فيه » أي وليس فيما أنتم فيه.

الحديث الثالث عشر : حسن كالصحيح.

٣٢٠