مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥

٣٧ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال المؤمن أصلب من الجبل الجبل يستقل منه والمؤمن لا يستقل من دينه شيء.

٣٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال المؤمن حسن المعونة خفيف المئونة جيد

______________________________________________________

الحديث السابع والثلاثون : موثق.

« الجبل يستقل منه » من القلة أي ينقص ويؤخذ منه بعضا بالفأس والمعول ونحوهما ، والمؤمن لا ينقص من دينه شيء بالشكوك والشبهات.

الحديث الثامن والثلاثون : مجهول.

وفي المصباح : العون الظهير على الأمر واستعان به فأعانه وقد يتعدى بنفسه فيقال استعانة والاسم المعونة والمعانة أيضا بالفتح ، ووزن المعونة مفعلة بضم العين ، وبعضهم يجعل الميم أصلية ويقول : هي مأخوذة من الماعون ، ويقول هي فعولة والمعونة الثقل ، وفي القاموس : القوت ، والحاصل أنه يعين الناس كثيرا ويكتفي لنفسه بقليل من القوت واللباس وأشباههما ، وفي القاموس : المعيشة التي تعيش بها من المطعم والمشرب ، وما يكون به الحياة وما يعاش به أو فيه والجمع معائش ، وفي النهاية فيه : لا يلسع المؤمن من جحر مرتين ، وفي رواية : لا يلدغ. اللسع واللدغ سواء ، والجحر ثقب الحية ، وهو استعارة هنا ، أي لا يدهى المؤمن من جهة واحدة مرتين ، فإنه بالأولى يعتبر ، قال الخطابي : يروى بضم العين وكسرها ، فالضم على وجه الخبر ومعناه أن المؤمن هو الكيس الحازم الذي لا يؤتي من جهة الغفلة فيخدع مرة بعد مرة ، وهو لا يفطن لذلك ولا يشعر به ، والمراد به الخداع في أمر الدين لا أمر الدنيا ، وأما الكسر فعلى وجه النهي ، أي لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه أو شر وهو لا يشعر به ، وليكن فطنا

٢٨١

التدبير لمعيشته لا يلسع من جحر مرتين.

٣٩ ـ علي بن محمد بن بندار ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن سهل بن الحارث ، عن الدلهاث مولى الرضا عليه‌السلام قال سمعت الرضا عليه‌السلام يقول لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال سنة من ربه وسنة من نبيه وسنة من

______________________________________________________

حذرا وهذا التأويل يصلح أن يكون لأمر الدين والدنيا معا ، انتهى.

وأقول : روى مسلم في صحيحه مثل هذا الخبر ، وذكر في إكمال الإكمال هذين الوجهين اللذين ذكرهما في النهاية ، ثم قال : وذكر عياض هذين الوجهين ورجح الخبر بأن سبب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا أن أبا عزة الشاعر أخا مصعب بن عمير كان أسر يوم بدر فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمن عليه ففعل وعاهده أن لا يحرض عليه ولا يهجوه فلما لحق بأهله عاد إلى ما كان عليه فأسر يوم أحد فسأله أيضا أن يمن عليه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الكلام البليغ الجامع الذي لم يسبق إليه ، وفيه تنبيه عظيم على أنه إذا رأى الأذى من جهة لا يعود إليها ثانية.

وقال الآبي : رجح الخطابي النهي بعد ذكر الوجهين ، وكأنه لم يبلغه أي الخطابي سبب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الكلام ، ولو بلغه لم يحمله علي النهي ، وأجاب الطيبي بأنه وإن بلغه السبب فلا يبعد النهي بل هو أولى من الخبر ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما دعته نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله الزكية الكريمة إلى الحلم والصفح جرد من نفسه مؤمنا حازما فطنا ونهاه أن ينخدع لهذا المتمرد الخائن ، وكان مقام الغضب لله تعالى ، فأبى إلا الانتقام من أعداء الله لأن الانتقام منهم مطلوب ، والتجريد أحد ألقاب البديع ومحسناته ، وبيان أنه أولى أنه إذا حمل على الخبر تفوت دلالة الحديث على طلبه الانتقام.

الحديث التاسع والثلاثون : ضعيف.

٢٨٢

وليه فأما السنة من ربه فكتمان سره قال الله عز وجل : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » (١) وأما السنة من نبيه فمداراة الناس فإن الله عز وجل أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمداراة الناس فقال « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ » (٢)

______________________________________________________

« عالِمُ الْغَيْبِ » قال الطبرسي (ره) : أي هو عالم الغيب يعلم متى تكون القيامة « فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً » أي لا يطلع على الغيب أحدا من عباده ، ثم استثنى فقال : « إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » يعني الرسل فإنه يستدل على نبوتهم بأن يخبروا بالغيب ليكون آية معجزة لهم ، ومعناه إلا من ارتضاه واختاره للنبوة والرسالة فإنه يطلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة ، انتهى.

وقد مر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان والله محمد ممن ارتضاه ، وفي الخرائج عن الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى : « إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » قال : فرسول الله عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وفي تفسير علي بن إبراهيم « إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » يعني عليا المرتضى من الرسول وهو منه.

ثم اعلم أن الاستشهاد بالآية الكريمة يدل على أن المراد بكتمان السر الكتمان من غير أهله ، وعمن لا يكتمه.

« خُذِ الْعَفْوَ » قال في المجمع : أي خذ يا محمد ما عفا من أموال الناس أي ما فضل من النفقة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأخذ الفضل من أموالهم ليس فيها شيء موقت ثم نزلت آية الزكاة ، فصار منسوخا بها ، وقيل : معناه خذ العفو من أخلاق الناس ، واقبل الميسور منها ، ومعناه أنه أمره بالتساهل وترك الاستقصاء في القضاء والاقتضاء ، وهذا يكون في الحقوق الواجبة لله وللناس وفي غيرها ، وقيل : هو العفو في قبول

__________________

(١) سورة الجنّ : ٢٥ ـ ٢٦.

(٢) سورة الأعراف : ١٩٩.

٢٨٣

وأما السنة من وليه فالصبر فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ.

______________________________________________________

العذر عن المتعذر وترك المؤاخذة بالإساءة ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل جبرئيل عن ذلك فقال : يا محمد إن الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك. « وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ » يعني بالمعروف وهو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع ولم يكن منكرا ولا قبيحا عند العقلاء ، وقيل : بكل خصلة حميدة « وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » معناه وأعرض عنهم عند قيام الحجة عليهم والإياس من قبولهم ولا تقابلهم بالسفه صيانة لقدرك ، فإن مجاوبة السفيه تضع عن القدر ، ولا يقال هذه الآية منسوخة بآية القتال ، لأنها عامة خص عنها الكافر الذي يجب قتله بدليل.

وأقول : روى الصدوق قدس‌سره في العيون هذا الخبر عن هذا الراوي ، و « أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » موجود فيه ، وزاد في آخره أيضا قال الله عز وجل « وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ » ، وكأنه سقط من النساخ والآية هكذا : « لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » والأكثر على أن نصب الصابرين على المدح ، وقال البيضاوي عن الأزهري : البأساء في الأموال كالفقر ، والضراء في الأنفس كالمرض ، وحين البأس وقت مجاهدة العدو ، ويدل الخبر على أن هذه الآية نزلت في الأئمة عليهم‌السلام فهم الصادقون الذين أمر الله بالكون معهم ، حيث قال : « وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ».

٢٨٤

(باب)

(في قلة عدد المؤمنين)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن قتيبة الأعشى قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول المؤمنة أعز من المؤمن والمؤمن أعز من الكبريت الأحمر فمن رأى منكم الكبريت الأحمر.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن ابن أبي نجران ، عن مثنى الحناط ، عن كامل التمار قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول الناس كلهم بهائم

______________________________________________________

باب قلة عدد المؤمنين

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

وفي القاموس : عز يعز عزا وعزة بكسرهما صار عزيزا كتعزز وقوي بعد ذلة ، والشيء قل فلا يكاد يوجد فهو عزيز ، وقال : الكبريت من الحجارة الموقد بها ، والياقوت الأحمر والذهب أو جوهر معدنه خلف التبت بوادي النمل ، انتهى.

والمشهور أن الكبريت الأحمر هو الجوهر الذي يطلبه أصحاب الكيمياء وهو الإكسير ، وحاصل الحديث أن المرأة المتصفة بصفات الإيمان أقل وجودا من الرجل المتصف بها والرجل المتصف بها أعز وجودا من الإكسير الذي لا يكاد يوجد ، ثم أكد قلة وجود الكبريت بقوله : فمن رأى منكم؟ وهو استفهام إنكاري أي إذا لم تروا الكبريت الأحمر فكيف تطمعون في رؤية المؤمن الكامل الذي هو أعز وجودا منه ، أو في كثرته.

الحديث الثاني : كالسابق.

« كلهم بهائم » أي شبيهة بها في عدم العقل وإدراك الحمق وغلبة الشهوات

٢٨٥

ثلاثا إلا قليلا من المؤمنين والمؤمن غريب ثلاث مرات.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن ابن رئاب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لأبي بصير أما والله لو أني أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثي ما استحللت أن أكتمهم حديثا.

______________________________________________________

النفسانية على القوي العقلانية كما قال تعالى : « إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً » (١).

« إلا قليل » كذا في أكثر النسخ ، وفي بعضها : إلا قليلا ، وهو أصوب. « المؤمن غريب » لأنه قلما يجد مثله فيسكن إليه فهو بين الناس كالغريب الذي بعد عن أهله ووطنه ودياره. « ثلاث مرات » أي قال هذا الكلام ثلاث مرات ، وكذا قوله ثلاثا ، وفي بعض النسخ عزيز مكان غريب.

الحديث الثالث : حسن كالصحيح.

« ثلاثة مؤمنين » ثلاثة إما بالتنوين ومؤمنين صفتها أو بالإضافة فمؤمنين تميز ، ويدل على أن المؤمن الكامل الذي يستحق أن يكون صاحب أسرارهم وحافظها قليل ، وإنهم كانوا يتقون من أكثر الشيعة كما كانوا يتقون من المخالفين ، لأنهم كانوا يذيعون فيصل ذلك إما إلى خلفاء الجور فيتضررون عليهم‌السلام منهم ، أو إلى نواقص العقول الذين لا يمكنهم فهمها فيصير سببا لضلالتهم ، وقد مر تحقيق ذلك في باب الكتمان ، ويمكن أن يقال في سبب تعيين الثلاثة أن الواحد لا يمكنه ضبط السر وكذا الاثنان ، وأما إذا كانوا ثلاثة فيأنس بعضهم ببعض ، ويذكرون ذلك فيما بينهم فلا يضيق صدرهم ، ويخف عليهم الاستتار عن غيرهم كما هو المجرب.

__________________

(١) سورة الفرقان : ٤٤.

٢٨٦

٤ ـ محمد بن الحسن وعلي بن محمد بن بندار ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن عبد الله بن حماد الأنصاري ، عن سدير الصيرفي قال دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت له والله ما يسعك القعود فقال ولم يا سدير قلت لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك والله لو كان لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما لك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيم ولا عدي فقال يا سدير وكم عسى أن يكونوا قلت مائة ألف قال مائة ألف قلت نعم ومائتي ألف قال مائتي ألف قلت نعم ونصف الدنيا قال فسكت عني ثم قال يخف عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع قلت نعم فأمر بحمار وبغل أن يسرجا فبادرت فركبت الحمار فقال يا سدير أترى أن تؤثرني بالحمار

______________________________________________________

الحديث الرابع : ضعيف.

وسدير كأمير « ما يسعك القعود » أي ترك القتال والجهاد وفي المصباح : قعد عن حاجته تأخر عنها ، والموالي الأحباء أو المخلصون من الشيعة والتيم قبيلة أبي بكر ، والعدي قبيلة عمر ، أي ما طمع في غصب خلافته التيمي والعدوي أو قبيلتهما « قال مائة ألف » على التعجب والإنكار « يخف عليك » بكسر الخاء أي يسهل ولا يثقل ، وفي القاموس : خف القوم ارتحلوا مسرعين ، وقال : ينبع كينصر حصن له حصون ونخيل وزروع بطريق حاج مصر ، وفي النهاية : على سبع مراحل من المدينة من جهة البحر ، وقيل : على أربع مراحل وهو من أوقاف أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو عليه‌السلام أجرى عينه كما يظهر من الأخبار « أن يسرجا » بدل اشتمال لقوله : حمار « وبغل أزين » أي الزينة في ركوبه وعند الناس أحسن ، وفي القاموس : النبل بالضم الذكاء والنجابة ، نبل ككرم فهو نبيل وامرأة نبيلة في الحسن بينة النبالة ، وكذا الناقة والفرس والرجل.

والحاصل أني إنما اخترت لك البغل لأنه أشرف وأفضل ، واختار عليه‌السلام الحمار لأن التواضع فيه أكثر مع سهولة الركوب والنزول والسير.

٢٨٧

قلت البغل أزين وأنبل قال الحمار أرفق بي فنزلت فركب الحمار وركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة فقال يا سدير انزل بنا نصل ثم قال هذه أرض سبخة لا تجوز الصلاة فيها فسرنا حتى صرنا إلى أرض حمراء ونظر إلى غلام يرعى جداء فقال والله يا سدير لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود ونزلنا وصلينا فلما فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر.

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن سماعة بن مهران قال قال لي عبد صالح صلوات الله عليه يا سماعة أمنوا على فرشهم وأخافوني أما والله لقد كانت الدنيا وما فيها إلا واحد يعبد الله

______________________________________________________

« فحانت الصلاة » أي قرب أو دخل وقتها ، في القاموس : حان يحين قرب وآن ، وكان الأمر بالنزول أولا ثم الإعراض عنه للتنبيه على عدم جواز الصلاة فيها ، وفي المشهور محمول على الكراهة إلا أن لا يحصل الاستقرار ، وسيأتي في كتاب الصلاة ، وكره الصلاة في السبخة إلا أن تكون مكانا لينا تقع عليه الجبهة مستويا وسنتكلم عليه إنشاء الله ، وقال الجوهري : الجدي من ولد المعز وثلاثة أجد ، فإذا كثرت فهي الجداء ، ولا تقل الجدايا ، ولا الجدي بكسر الجيم ، وقال : عطفت أي ملت ، ويومئ إلى أن الصاحب عليه‌السلام مع كثرة من يدعي التشيع ليست له شيعة واقعية بهذا العدد ، وقيل : أي لا بد أن يكون في عسكر الإمام هذا العدد من المخلصين حتى يمكنه طلب حقه بهذا العسكر ، لا أن هذا العدد كاف في جواز الخروج.

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور.

« وأخافوني » أي بالإذاعة وترك التقية والضمير في آمنوا راجع إلى المدعين للتشيع الذين لم يطيعوا أئمتهم في التقية وترك الإذاعة ، وأشار بذلك إلى أنهم ليسوا بشيعة لنا ، ثم ذكر لرفع استبعاد السائل عن قلة المخلصين بقوله

٢٨٨

ولو كان معه غيره لأضافه الله عز وجل إليه حيث يقول « إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » (١) فغبر بذلك ما شاء الله ثم إن الله آنسه بإسماعيل وإسحاق فصاروا ثلاثة أما والله إن المؤمن لقليل وإن أهل الكفر لكثير

______________________________________________________

لقد كانت الدنيا وما فيها ، الواو للحال وما نافية « ولو كان معه غيره » أي من أهل الإيمان « لإضافة الله عز وجل إليه » لأن الغرض ذكر أهل الإيمان التاركين للشرك ، حيث قال : « وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » فلو كان معه غيره من المؤمنين لذكره معه « إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً » قال في مجمع البيان : اختلف في معناه فقيل : قدوة ومعلما للخير قال ابن الأعرابي : يقال للرجل العالم أمة ، وقيل : أراد إمام هدى ، وقيل : سماه أمة لأن قوام الأمة كان فيه ، وقيل : لأنه قام بعمل أمة ، وقيل : لأنه انفرد في دهره بالتوحيد ، فكان مؤمنا وحده والناس كفار « قانِتاً لِلَّهِ » أي مطيعا له دائما على عبادته ، وقيل : مصليا « حَنِيفاً » أي مستقيما على الطاعة وطريق الحق وهو الإسلام « وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » بل كان موحدا ، انتهى.

وقيل : يحتمل أن يكون من للابتداء أي لم يكن في آبائه مشرك وهو بعيد ، وفي النهاية في حديث قس : أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده : الأمة الرجل المتفرد بدين كقوله تعالى « إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ » انتهى.

وأقول : كان هذا كان بعد وفاة لوط عليه‌السلام أو أنه لما لم يكن معه وكان مبعوثا على قوم آخرين لم يكن ممن يؤنسه ويقويه على أمره في قومه.

« فغبر بذلك » في أكثر النسخ بالغين المعجمة والباء الموحدة أي مكث أو مضى وذهب كما في القاموس ، فعلى الأول فيه ضمير مستتر راجع إلى إبراهيم ، وعلى الثاني فاعله ما شاء الله ، وفي بعض النسخ فصبر فهو موافق للأول ، وفي بعضها بالعين المهملة فهو موافق للثاني « وإن أهل الكفر كثير » المراد بالكفر هنا مقابل

__________________

(١) سورة النحل : ١٢٠.

٢٨٩

أتدري لم ذاك فقلت لا أدري جعلت فداك فقال صيروا أنسا للمؤمنين يبثون إليهم ما في صدورهم فيستريحون إلى ذلك ويسكنون إليه.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن أورمة ، عن النضر ، عن يحيى بن أبي خالد القماط ، عن حمران بن أعين قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك ما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها فقال ألا أحدثك بأعجب من ذلك ـ المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا وأشار بيده ثلاثة قال حمران فقلت جعلت

______________________________________________________

الإيمان الكامل ، كما قال سبحانه : « وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ » (١) « أتدري لم ذلك »؟ هذا بيان لحقية هذا الكلام أي قلة عدد المؤمنين مع أنهم بحسب الظاهر كثيرون أو لأن الله تعالى لم جعل هؤلاء في صورة المؤمنين؟ أو لم خلقهم؟ والمعنى على التقديرين أن الله تعالى جعل لهؤلاء المتشيعة أنسا للمؤمنين لئلا يستوحشوا لقلتهم ، أو يكون علة لخروج هؤلاء عن الإيمان ، فالمعنى أن الله تعالى جعل المخالفين أنسا للمؤمنين فيبثون أي المؤمنون إلى المخالفين أسرار أئمتهم فبذلك خرجوا عن الإيمان ، ويؤيد الاحتمالات المتقدمة خبر علي بن جعفر « فيستريحون إلى ذلك » إلى بمعنى مع لو ضمن في متعلقة معنى التوجه ونحوه.

الحديث السادس : ضعيف.

« ما أقلنا » صيغة تعجب « ما أفنيناها » أي ما نقدر على أكل جميعها و « أشار » كلام الراوي ، والمراد به الإشارة بثلاث أصابع من يده و « ثلاثة » كلام الإمام ، والمراد بالثلاثة سلمان وأبو ذر والمقداد ، كما روى الكشي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال : ارتد الناس إلا ثلاثة نفر سلمان وأبو ذر والمقداد ، قال الراوي : فقلت : فعمار؟ قال : كان جاض جيضة ثم رجع ثم قال : إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد

__________________

(١) سورة يوسف : ١٠٦.

٢٩٠

فداك ما حال عمار قال رحم الله عمارا أبا اليقظان بايع وقتل شهيدا فقلت في نفسي ما شيء أفضل من الشهادة فنظر إلي فقال لعلك ترى أنه مثل الثلاثة أيهات أيهات.

٧ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، عن علي بن جعفر قال سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول ليس كل من قال بولايتنا مؤمنا ولكن جعلوا أنسا للمؤمنين.

______________________________________________________

فأما سلمان فإنه عرض في قلبه أن عند أمير المؤمنين اسم الله الأعظم لو تكلم به لأخذتهم الأرض وهو هكذا ، وأما أبو ذر فأمره أمير المؤمنين عليه‌السلام بالسكوت ولم يأخذه في الله لومة لائم فأبى إلا أن يتكلم.

« جاض » أي عدل عن الحق ومال ، وروي في حديث آخر عنه عليه‌السلام قال : ارتد الناس إلا ثلاثة نفر سلمان وأبو ذر والمقداد ثم أناب الناس بعد ، كان أول من أناب أبو ساسان وعمار وأبو عروة وشتيرة (١) فكانوا سبعة فلم يعرف حق أمير المؤمنين عليه‌السلام إلا هؤلاء السبعة « فنظر إلى » نظره عليه‌السلام إليه لعلمه بما حدثت به نفسه ، وفي النهاية : قد تكرر في الحديث ذكر هيهات وهي كلمة تبعيد مبنية على الفتح وناس يكسرونها ، وقد تبدل الهاء همزة ، فيقال أيهات ، ومن فتح وقف بالتاء ومن كسر وقف بالهاء ، وقال الجوهري : هيهات كلمة تبعيد ، والتاء مفتوحة ، مثل كيف وأصلها هاء ، وناس يكسرونها على كل حال بمنزلة نون التثنية ، وقد تبدل الهاء همزة ، فيقال أيهات ، مثل هراق وأراق ، قال الكسائي : ومن كسر التاء وقف عليها بالهاء ، فيقول هيهات ، ومن نصبها وقف بالتاء وإن شاء بالهاء.

الحديث السابع : ضعيف.

__________________

(١) قال العلاّمة التستريّ : الظاهر أنّ أبا ساسان محرّف أبي سنان ، وأبي سنان إمّا هو أبو سنان الأسدي أخو عكاشة بن محصن ، وهو أوّل من بايع تحت الشجرة في قصة بيعة الرضوان ، وإمّا أبو سنان الأنصاريّ من خواصّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصفيائه. وشتيرة مولى أسود لعليّ عليه‌السلام كما ذكره أيضا فراجع إن شئت.

٢٩١

(باب)

(الرضا بموهبة الإيمان والصبر على كل شيء بعده)

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن فضيل بن يسار ، عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال قال أبو جعفر عليه‌السلام يا عبد الواحد ما يضر رجلا إذا كان على ذا الرأي ما قال الناس له ولو قالوا مجنون وما يضره ولو كان على رأس جبل يعبد الله حتى يجيئه الموت.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن مسكان ، عن معلى بن خنيس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله تبارك وتعالى لو لم يكن في الأرض إلا مؤمن واحد لاستغنيت به عن جميع خلقي ولجعلت

______________________________________________________

باب الرضا بموهبة الإيمان والصبر على كل شيء بعده

الحديث الأول : مجهول.

« ما يضر » ما نافية ويحتمل الاستفهام على الإنكار « على ذا الرأي » أي على هذا الرأي وهو التشيع « ما قال » فاعل ما يضر « ولو قالوا مجنون » فإن هذا أقصى ما يمكن أن يقال فيه كما قالوا في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « وما يضره » أي قول الناس وهذا أيضا يحتمل الاستفهام « ولو كان على رأس جبل » لكثرة قول الناس فيه هربا من أقوالهم فيه وضررهم « يعبد الله » حال أو استيناف كأنه سئل كيف لا يضره ذلك؟ قال لأنه يعبد الله حتى يأتيه الموت.

الحديث الثاني : مختلف فيه بالمعلى معتبر عندي.

« لاستغنيت به » أي لأقمت نظام العالم وأنزلت الماء من السماء ، ولدفعت العذاب وأنواع البلاء بسبب هذا المؤمن لأن هذا يكفي لمصلحة بقاء النظام ، ويحتمل أن يكون هذا المؤمن الواحد الإمام ، أو لا بد من أحد غيره يؤمن به ، والأول أظهر

٢٩٢

له من إيمانه أنسا لا يحتاج إلى أحد.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن الحسين بن موسى ، عن فضيل بن يسار ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ما يبالي من عرفه الله هذا الأمر أن يكون على قلة جبل يأكل من نبات الأرض حتى يأتيه الموت.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن كليب بن معاوية ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول ما ينبغي للمؤمن أن يستوحش إلى أخيه

______________________________________________________

لما مر من كون إبراهيم عليه‌السلام أمة وأما كون الإيمان سببا للأنس وعدم الاستيحاش لأنه يتفكر في الله وصفاته وفي صفات الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام وحالاتهم ، وفي درجات الآخرة ونعمها ويتلو كتاب الله ويدعوه ويعبده فيأنس به سبحانه ، كما سئل عن راهب لم لا تستوحش من الخلوة؟ قال : لأني إذا أردت أن يكلمني أحد أتلو كتاب الله ، وإذا أردت أن أكلم أحدا أناجي الله ، وسيأتي في كتاب القرآن عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنه لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي.

الحديث الثالث : مجهول.

« ما يبالي » خبر أو المعنى ينبغي أن لا يبالي « من عرفه الله هذا الأمر » أي دين الإمامية ، وفي الصحاح : القلة أي بالضم أعلى الجبل ، وقلة كل شيء أعلاه.

الحديث الرابع : حسن.

« أن يستوحش » أي يجد الوحشة ، ولعله ضمن معنى الميل والسكون ، فعدي بإلى أي استوحش من الناس مائلا أو ساكنا إلى أخيه ، وقال في الوافي : ضمن الاستيحاش معنى الاستئناس ، فعداه بإلى ، وإنما لا ينبغي له ذلك لأنه ذل ، فلعل أخاه الذي ليس في مرتبته لا يرغب في صحبته ، وقال بعضهم : إلى بمعنى مع ، والمراد بأخيه أخوه النسبي ، ومن موصولة ودون منصوب بالظرفية ، والضمير لأخيه

٢٩٣

فمن دونه المؤمن عزيز في دينه.

٥ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن فضالة بن أيوب ، عن عمر بن أبان وسيف بن عميرة ، عن فضيل بن يسار قال دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام في مرضة مرضها لم يبق منه إلا رأسه فقال يا فضيل إنني كثيرا ما أقول ما على

______________________________________________________

أي لا ينبغي للمؤمن أن يجد وحشة مع أخيه النسبي إذا كان كافرا ، فمن كان دون هذا الأخ من الأقارب والأجانب ، وقيل : أي لا ينبغي للمؤمن أن يستوحش من الله ومن الإيمان به إلى أخيه فكيف من دونه ، إذ للمؤمن أنس بالإيمان وقرب الحق من غير وحشة ، فلو انتفى الأنس وتحققت الوحشة انتفى الإيمان والقرب.

وأقول : الأظهر ما ذكرنا أولا من أن المؤمن لا ينبغي أن يجد الوحشة من قلة أحبائه وموافقيه وكثرة أعدائه ومخالفيه ، فيأنس لذلك ويميل إلى أخيه الديني أو النسبي ، فمن دونه من الأعادي أو الأجانب ، وقوله : المؤمن عزيز في دينه ، جملة استينافية فكأنه يقول قائل : لم لا يستوحش؟ فيجيب : بأنه منيع رفيع القدر بسبب دينه فلا يحتاج في عزه وكرامته وغلبته إلى أن يميل إلى أحد ويأنس به ، والحاصل أن عزته بالدين لا بالعشائر والتابعين ، فكلمة في سببية.

وأقول : في بعض النسخ عمن دونه ، وفي بعضها عن دونه ، فهو صلة للاستيحاش أي يأنس بأخيه مستوحشا عمن هو غيره.

الحديث الخامس : صحيح.

« في مرضة » بالفتح أو بالتحريك وكلاهما مصدر « مرضها » أي مرض بها ، وقيل : البارز في مرضها مفعول مطلق للنوع « لم يبق منه إلا رأسه » من للتبعيض والضمير للإمام عليه‌السلام أي من أعضائه ، أو للتعليل والضمير للمرض والأول أظهر ، والمعنى أنه نحف جميع أعضائه وهزلت حتى كأنه لم يبق منها شيء إلا رأسه ، فإنه لقلة لحمه لا يعتريه الهزال كثيرا ، أو المراد أنه لم تبق قوة الحركة في شيء

٢٩٤

رجل عرفه الله هذا الأمر لو كان في رأس جبل حتى يأتيه الموت يا فضيل بن يسار إن الناس أخذوا يمينا وشمالا وإنا وشيعتنا هدينا « الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ » يا فضيل بن يسار إن المؤمن لو أصبح له ما بين المشرق والمغرب كان ذلك خيرا له ولو أصبح مقطعا أعضاؤه كان ذلك خيرا له يا فضيل بن يسار إن الله لا يفعل بالمؤمن إلا ما هو خير له يا فضيل بن يسار لو عدلت الدنيا عند الله عز وجل جناح بعوضة ما سقى

______________________________________________________

من أعضائه إلا في رأسه ، والأول أظهر.

« كثيرا ما أقول » ما زائدة للإبهام وما في قوله : « ما على رجل » نافية أو استفهامية للإنكار ، وحاصلهما واحد ، أي لا ضرر أو لا وحشة عليه « أخذوا يمينا وشمالا » أي عدلوا عن الصراط المستقيم إلى أحد جانبيه ، من الإفراط كالخوارج أو التفريط كالمخالفين « له ما بين المشرق » أي والحال أن له ما بينهما أو أصبح بمعنى صار « مقطعا » على بناء المفعول للتكثير « أعضاؤه » بدل اشتمال من الضمير المستتر في مقطعا ، ومنهم من قرأ أعضاء بالنصب على التميز ، وقوله عليه‌السلام : إن الله لا يفعل بالمؤمن ، تعليل لهاتين الجملتين ، فإنه تعالى لو أعطى جميع الدنيا المؤمن لم يكن ذلك على سبيل الاستدراج ، بل لأنه علم أنه يشكره ويصرفه في مصارف الخير ، ولا يصير ذلك سببا لنقص قدره عند الله ، كما فعل بسليمان عليه‌السلام بخلاف ما إذا فعل ذلك بغير المؤمن ، فإنه لإتمام الحجة عليه واستدراجه ، فيصير سببا لشدة عذابه ، وكذا إذا قدر للمؤمن تقطيع أعضائه فإنما هو لمزيد قربه عنده تعالى ، ورفعة درجاته في الآخرة ، فينبغي أن يشكره سبحانه في الحالتين ، ويرضى بقضائه فيهما ، ولما كان الغالب في الدنيا فقر المؤمنين وابتلائهم بأنواع البلاء ، وغنى الكفار والأشرار والجهال رغب الأولين بالصبر وحذر الآخرين عن الاغترار بالدنيا والفخر بقوله عليه‌السلام : « لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة » عند الناس « ما سقى عدوه منها شربة ماء » فما أعطاه أعداءه ليس لكرامتهم عنده بل لهوانهم عليه ، ولذا لم

٢٩٥

عدوه منها شربة ماء يا فضيل بن يسار إنه من كان همه هما واحدا كفاه الله همه ومن كان همه في كل واد لم يبال الله بأي واد هلك.

______________________________________________________

يعطهم من الآخرة التي لها عنده قدر ومنزله شيئا ، وقد قال تعالى : « وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ » (١).

« إنه من كان همه هما واحدا » الهم القصد والعزم والحزن ، والحاصل أنه من كان مقصوده أمرا واحدا وهو طلب دين الحق ورضا الله تعالى وقربه وطاعته ولم يخلطه بالأغراض النفسانية والأهواء الباطلة فإن الحق واحد وللباطل شعب كثيرة « كفاه الله همه » أي أعانه على تحصيل ذلك المقصود ، ونصره على النفس والشيطان وجنود الجهل « ومن كان همه في كل واد » من أودية الضلالة والجهالة « لم يبال الله بأي واد هلك » أي صرف الله لطفه وتوفيقه عنه ، وتركه مع نفسه وأهوائها حتى يهلك باختيار واحد من الأديان الباطلة ، أو كل واد من أودية الدنيا وكل شعبة من شعب أهواء النفس الأمارة بالسوء ، من حب المال والجاه والشرف والعلو ولذة المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وغير ذلك من الأمور الباطلة الفانية.

والحاصل أن من اتبع الشهوات النفسانية والآراء الباطلة ولم يصرف نفسه عن مقتضاها إلى دين الحق وطاعة الله وما يوجب قربه لم يمدده الله بنصره وتوفيقه ، ولم يكن له عند الله قدر ومنزلة ، ولم يبال بأي طريق سلك ولا في أي واد هلك ، وقيل : بأي واد من أودية جهنم ، وقيل : يمكن أن يراد بالهم الواحد القصد إلى الله والتوكل عليه في جميع الأمور ، فإنه تعالى يكفيه هم الدنيا والآخرة ، بخلاف من اعتمد على رأيه وقطع علاقة التوكل عن نفسه ، ويحتمل أن يكون

__________________

(١) سورة الزخرف : ٣٣.

٢٩٦

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن ابن مسكان ، عن منصور الصيقل والمعلى بن خنيس قالا سمعنا أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله عز وجل ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي في موت عبدي

______________________________________________________

المراد بالهم الحزن والغم أي من كان حزنه للآخرة كفاه الله ذلك وأوصله إلى سرور الأبد ، ومن كان حزنه للدنيا وكله الله تعالى إلى نفسه حتى يهلك في واد من أودية أهوائهم.

الحديث السادس : ضعيف على المشهور.

« ما ترددت في شيء » هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بين الفريقين ، ومن المعلوم أنه لم يرد التردد المعهود من الخلق في الأمور التي يقصدونها فيترددون في إمضائها إما لجهلهم بعواقبها أو لقلة ثقتهم بالتمكن منها لمانع ونحوه ، ولهذا قال : « أنا فاعله » أي لا محالة أنا أفعله لحتم القضاء بفعله ، أو المراد به التردد في التقديم والتأخير لا في أصل الفعل.

وعلى التقديرين فلا بد فيه من تأويل وفيه وجوه عند الخاصة والعامة ، أما عند الخاصة فثلاثة :

الأول : أن في الكلام إضمارا ، والتقدير لو جاز على التردد ما ترددت في شيء كترددي في وفاة المؤمن.

الثاني : أنه لما جرت العادة بأن يتردد الشخص في مساءة من يحترمه ويوقره كالصديق ، وأن لا يتردد في مساءة من ليس له عنده قدر ولا حرمة كالعدو ، بل يوقعها من غير تردد وتأمل ، صح أن يعبر عن توقير الشخص واحترامه بالتردد ، وعن إذلاله واحتقاره بعدمه ، فالمعنى ليس لشيء من مخلوقاتي عندي قدر وحرمة ، كقدر عبدي المؤمن وحرمته ، فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية.

الثالث : أنه ورد من طرق الخاصة والعامة أن الله سبحانه يظهر للعبد المؤمن

٢٩٧

المؤمن إنني لأحب لقاءه ويكره الموت فأصرفه عنه وإنه ليدعوني فأجيبه وإنه ليسألني فأعطيه ولو لم يكن في الدنيا إلا واحد من عبيدي مؤمن لاستغنيت

______________________________________________________

عند الاحتضار من اللطف والكرامة والبشارة بالجنة ما يزيل عنه كراهة الموت ، ويوجب رغبته في الانتقال إلى دار القرار ، فيقل تأذيه به ، ويصير راضيا بنزوله ، وراغبا في حصوله فأشبهت هذه المعاملة معاملة من يريد أن يؤلم حبيبه ألما يتعقبه نفع عظيم ، فهو يتردد في أنه كيف يوصل ذلك الألم إليه على وجه يقل تأذيه ، فلا يزال يظهر له ما يرغبه فيما يتعقبه من اللذة الجسيمة ، والراحة العظيمة إلى أن يتلقاه بالقبول ، ويعده من الغنائم المؤدية إلى إدراك المأمول ، فيكون في الكلام استعارة تمثيلية.

وأما وجوهه عند العامة فهي أيضا ثلاثة :

الأول : أن معناه ما تردد عبدي المؤمن في شيء أنا فاعله كتردده في قبض روحه ، فإنه متردد بين إرادته البقاء وإرادتي للموت ، فأنا ألطفه وأبشره حتى أصرفه عن كراهة الموت ، فأضاف سبحانه تردد نفس وليه إلى ذاته المقدسة كرامة وتعظيما له ، كما يقول غدا يوم القيامة لبعض من يعاتبه من المؤمنين في تقصيره عن تعاهد ولي من أوليائه : عبدي مرضت فلم تعدني؟ فيقول : كيف تمرض وأنت رب العالمين؟ فيقول : مرض عبدي فلان فلم تعده ، فلو عدته لوجدتني عنده ، فكما أضاف مرض وليه وسقمه إلى عزيز ذاته المقدسة عن نعوت خلقه إعظاما لقدر عبده ، وتنويها بكرامة منزلته كذلك أضاف التردد إلى ذاته لذلك.

الثاني : أن ترددت في اللغة بمعنى رددت مثل قولهم فكرت وتفكرت ودبرت وتدبرت فكأنه يقول : ما رددت ملائكتي ورسلي في أمر حكمته بفعله مثل ما رددتهم عند قبض روح عبدي المؤمن فأرددهم في إعلامه بقبضي له وتبشيره بلقائي ، وبما أعددت له عندي كما ردد ملك الموت عليه‌السلام إلى إبراهيم وموسى عليهما‌السلام في القصتين

٢٩٨

به عن جميع خلقي ولجعلت له من إيمانه أنسا لا يستوحش إلى أحد.

______________________________________________________

المشهورتين إلى أن اختارا الموت فقبضهما (١) كذلك خواص المؤمنين من الأولياء يرددهم إليهم رفقا وكرامة ليميلوا إلى الموت ، ويحبوا لقاءه تعالى.

الثالث : أن معناه ما رددت الأعلال والأمراض والبر واللطف والرفق حتى يرى بالبر عطفي وكرمي ، فيميل إلى لقائي طمعا ، وبالبلايا والعلل فيتبرم بالدنيا ، ولا يكره الخروج منها.

وما دل عليه هذا الحديث من أن المؤمن يكره الموت ، لا ينافي ما دلت الروايات الكثيرة عليه من أن المؤمن يحب لقاء الله ولا يكرهه.

أما ما ذكره الشهيد في الذكرى من أن حب لقاء الله غير مقيد بوقت فيحمل على حال الاحتضار ومعاينة ما يحب ، فإنه ليس شيء حينئذ أحب إليه من الموت ولقاء الله ، ولأنه يكره الموت من حيث التألم به ، وهما متغايران وكراهة أحد المتغايرين لا يوجب كراهة الآخر ، أو لأن حب لقاء الله يوجب حب كثرة العمل النافع وقت لقائه ، وهو يستلزم كراهة الموت القاطع له ، واللازم لا ينافي الملزوم.

قوله تعالى : « وإنه ليدعوني » بأن يقول يا الله مثلا « فأجيبه » بأن يقول له : لبيك مثلا « وإنه ليسألني » أي يطلب حاجته كان يقول : اصرف عني الموت « لاستغنيت به » أي اكتفيت به في إبقاء نظام العالم للمصلحة ، وضمن يستوحش معنى الاحتياج ونحوه فعدي بإلى كما مر

__________________

(١) وتفصيل القصّتين مذكور في تاريخ الطبريّ والكامل وكتاب علل الشرايع والأمالي وإكمال الدين للصدوق (ره) ونقلت ترجمة الأحاديث المذكورة في كتاب تاريخ الأنبياء ج ١ ص ١٥٢ وج ٢ ص ١٧٩ فراجع إن شئت.

٢٩٩

(باب)

(في سكون المؤمن إلى المؤمن)

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد.

______________________________________________________

باب في سكون المؤمن إلى المؤمن

الحديث الأول : مرسل.

« إلى المؤمن » قيل : إلى بمعنى مع وأقول : كان فيه تضمينا وهذا تشبيه كامل للمعقول بالمحسوس ، فإن للظمآن اضطرابا في فراق الماء ، ويشتد طلبه له فإذا وجده استقر وسكن ، ويصير سببا لحياته البدني فكذلك المؤمن يشتد شوقه إلى المؤمن وتعطشه في لقائه ، فإذا وجده سكن ومال إليه ، ويحيى به حياة طيبة روحانية فإنه يصير سببا لقوة إيمانه وإزالة شكوكه وشبهاته ، وزوال وحشته.

وقيل : هذا السكون ينشأ من أمرين : أحدهما : الاتحاد في الجنسية للتناسب في الطبيعة والروح كما مر ، والمتجانسان يميل أحدهما إلى الآخر ، وكلما كان التناسب والتجانس أكمل كان الميل أعظم ، كما روي : أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

وثانيهما : المحبة لأن المؤمن لكمال صورته الظاهرة والباطنة بالعلم والإيمان والأخلاق والأعمال محبوب القلوب ، وتلك الصورة قد تدرك بالبصر والبصيرة ، وقد تكون سببا للمحبة والسكون بإذن الله تعالى ، وبسبب العلاقة في الواقع ، وإن لم يعلم تفصيلها.

٣٠٠