مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: خورشيد
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٣٥

كان في يدك هذه شيء فإن استطعت أن لا تعلم هذه فافعل قال وكان عنده إنسان ـ فتذاكروا الإذاعة فقال احفظ لسانك تعز ولا تمكن الناس من قياد رقبتك فتذل.

١٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن خالد بن نجيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن أمرنا مستور مقنع بالميثاق فمن هتك علينا أذله الله.

١٦ ـ الحسين بن محمد ومحمد بن يحيى جميعا ، عن علي بن محمد بن سعد ، عن محمد بن مسلم ، عن محمد بن سعيد بن غزوان ، عن علي بن الحكم ، عن عمر بن أبان ، عن عيسى بن أبي منصور قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول نفس المهموم لنا

______________________________________________________

« إن كان في يدك هذه شيء » هذا غاية المبالغة في كتمان سرك من أقرب الناس إليك فإنه وإن كان من خواصك فهو ليس بأحفظ لسرك منك « من قياد رقبتك » القياد بالكسر : حبل تقاد به الدابة ، وتمكين الناس من القياد ، كناية عن تسليط المخالفين على الإنسان بسبب ترك التقية وإفشاء الأسرار عندهم.

الحديث الخامس عشر : مجهول.

« والمقنع » اسم مفعول على بناء التفعيل. أي مستور وأصله من القناع « بالميثاق » أي بالعهد الذي أخذ الله رسوله والأئمة عليهم‌السلام أن يكتموه عن غير أهله وقوله « أذله الله » خبر ويحتمل الدعاء.

الحديث السادس عشر : مجهول. والظاهر محمد بن أسلم مكان ابن مسلم فيكون الخبر ضعيفا.

« نفس المهموم لنا » أي التفكر في أمرنا ، الطالب لفرجنا ، أو المغتم لعدم وصوله إلينا « المغتم لظلمنا » أي لمظلوميتنا « تسبيح » أي يكتب لكل نفس ثواب « وهمه لأمرنا » أي اهتمامه بخروج قائمنا ، وسعيه في أسبابه ودعاؤه لذلك « عبادة » أي ثوابه

٢٠١

المغتم لظلمنا تسبيح وهمه لأمرنا عبادة وكتمانه لسرنا جهاد في سبيل الله قال لي محمد بن سعيد اكتب هذا بالذهب فما كتبت شيئا أحسن منه.

(باب)

(المؤمن وعلاماته وصفاته)

١ ـ محمد بن جعفر ، عن محمد بن إسماعيل ، عن عبد الله بن داهر ، عن الحسن بن يحيى ، عن قثم أبي قتادة الحراني ، عن عبد الله بن يونس ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

ثواب المشتغل بالعبادة.

« وكتمانه لسرنا جهاد » لأنه لا يحصل إلا بمجاهدة النفس « قال لي » هو كلام محمد بن مسلم أو أسلم ، « اكتب هذا بالذهب » أي بمائه ولعله كناية عن شدة الاهتمام بحفظه والاعتناء به ونفاسته ، ويحتمل الحقيقة ، ولا منع منه إلا في القرآن كما سيأتي في كتابه « فما كتبت » بالخطاب ويحتمل التكلم.

باب المؤمن وعلاماته وصفاته

أقول : كان المراد بالمؤمن الكامل أو المراد بها الصفات التي ينبغي أن يكون المؤمن متصفا بها.

الحديث الأول : ضعيف على المشهور. لكنه منقول في نهج البلاغة باختلاف كثير ، وفي مجالس الصدوق ، عن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن محمد بن الحسن الصفار عن علي بن حسان الواسطي ، عن عمه عبد الرحمن بن كثير الهاشمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام وهو بما في النهج أوفق.

وفي النهج روي أن صاحبا لأمير المؤمنين يقال له همام كان رجلا مؤمنا عابدا قال له : يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم فتثاقل عن جوابه ، ثم قال صلوات الله عليه : يا همام اتق الله وأحسن « إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ

٢٠٢

قال قام رجل يقال له همام وكان عابدا ناسكا مجتهدا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يخطب فقال يا أمير المؤمنين صف لنا صفة المؤمن كأننا ننظر إليه فقال :

يا همام المؤمن هو الكيس الفطن بشره في وجهه وحزنه في قلبه أوسع

______________________________________________________

هُمْ مُحْسِنُونَ » فلم يقنع همام بذلك القول ، حتى عزم عليه قال : فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد وآله ، ثم قال.

وفي المجالس فقال همام : يا أمير المؤمنين أسألك بالذي أكرمك بما خصك به وحباك وفضلك بما آتاك وأعطاك لما وصفتهم لي؟ فقام أمير المؤمنين عليه‌السلام قائما على رجليه فحمد الله « إلخ » وهمام بفتح الهاء وتشديد الميم ، وقيل : هو همام بن شريح بن يزيد بن مرة وكان من شيعة علي عليه‌السلام وأوليائه (١).

وفي القاموس : الهمام كغراب الملك العظيم الهمة ، والسيد الشجاع السخي وكشداد ، ابن الحارث ، وابن زيد ، وابن مالك صحابيون ، ويمكن أن يكون همام سأل عن صفات المؤمنين والمتقين معا ، فاكتفى في بعض الروايات بذكر الأولى وفي بعضها بذكر الثانية ، وما ذكر في الروايتين من تثاقله عليه‌السلام في الجواب أنسب بقوله عليه‌السلام في آخر الخبر : لقد كنت أخافها عليه.

وفي القاموس : النسك مثلثة وبضمتين العبادة ، وكل حق لله عز وجل ، وقيل : المراد هنا المواظب على العبادة ، والمجتهد المبالغ في العبادة.

في القاموس : جهد كمنع جد كاجتهد وقال : الكيس خلاف الحمق وقال : الفطنة بالكسر : الحذق ، وأقول : الكيس كسيِّد ، والفطن بفتح الفاء ، وكسر الطاء ، وتعريف الخبر باللام وتوسيط الضمير ، للحصر والتأكيد ، كان الفرق بينهما أن الكياسة ما كان خلقة والفطنة ما يحصل بالتجارب ، أو الأول ما كان في الكليات

__________________

(١) وفي هامش المخطوطة : بل هو همام بن عبادة بن خثيم ابن أخي ربيع بن خثيم الزاهد المعروف.

٢٠٣

شيء صدرا وأذل شيء نفسا زاجر عن كل فان حاض على كل حسن ـ لا حقود ولا حسود ولا وثاب ولا سباب ولا عياب ولا مغتاب يكره الرفعة ويشنأ السمعة طويل الغم بعيد الهم كثير الصمت وقور ذكور صبور شكور

______________________________________________________

والثاني ما كان في الجزئيات ، ويحتمل التأكيد.

وفي القاموس : البشر بالكسر الطلاقة « أوسع شيء صدرا » كناية عن كثرة العلم أو وفور الحلم « وأذل شيء نفسا » أي لا يترفع ، ولا يطلب الرفعة ، ويتواضع للناس ، ويرى نفسه أخس من كل أحد ، وقيل : أي صارت نفسه الأمارة ذليلة لروحه المقدسة ، وصارت مخالفته للنفس شعاره ، فعلى الأول من الذل وهو السهولة والانقياد وعلى الثاني من الذل بالضم بمعنى المذلة والهوان « زاجر » أي نفسه أو غيره أو الأعم منهما « عن كل فإن » أي من جميع الأمور الدنيوية فإنها في معرض الفناء ، والحض : الترغيب والتحريص ، وهذا أيضا يحتمل النفس والغير والأعم ، والحقد : إمساك العداوة والبغض في القلب ، والحقود : الكثير الحقد ، وقيل : لا للمبالغة في النفي ، لا لنفي المبالغة كما قيل في قوله تعالى : « وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ » (١) فلا يلزم ثبوت أصل الفعل وكذا في البواقي.

« ولا وثاب » أي لا يثب في وجوه الناس بالمنازعة والمعارضة ، وفي القاموس : رفع ككرم رفعة بالكسر شرف وعلا قدره ، وقال : شنأه كمنعه وسمعه شنأ ويثلث وشناة وشنآنا : أبغضه ، وقال الجوهري : تقول فعله رياء وسمعة : أي ليراه الناس ويسمعوا به « طويل الغم » أي لما تستقبله من سكرات الموت وأحوال القبر وأهوال الآخرة « بعيد الهم » إما تأكيد للفقرة السابقة فإن الهم والغم متقاربان أي يهتم للأمور البعيدة عنه من أمور الآخرة ، أو المراد بالهم القصد ، أي هو عالي الهمة لا يرضى بالدون من الدنيا الفانية.

وقيل : أي يتفكر في العواقب ، في القاموس الهم : الحزن والجمع هموم

__________________

(١) سورة ق : ٢٩.

٢٠٤

مغموم بفكره مسرور بفقره سهل الخليقة لين العريكة رصين الوفاء قليل

______________________________________________________

وما هم به في نفسه ، والهمة بالكسر ويفتح : ما هم به من أمر ليفعل « كثير الصمت » أي عما لا يعنيه « وقور » أي ذو وقار ورزانة ، لا يستعجل في الأمور ولا يبادر في الغضب ، ولا تجره الشهوات إلى ما لا ينبغي فعله ، وفي القاموس : الوقار كسحاب الرزانة ورجل وقار ووقور ووقر كندس « ذكور » كثير الذكر لله ، ولما ينفعه في الآخرة « صبور » عند البلاء « شكور » عند الرخاء « مغموم بفكره » أي بسبب فكره في أمور الآخرة « مسرور بفقره » لعلمه بقلة خطره ويسر الحساب في الآخرة وقلة تكاليف الله فيه.

« سهل الخليقة » أي ليس في طبعه خشونة وغلظة ، وقيل : أي سريع الانقياد للحق ، وفي القاموس : الخليقة الطبيعة ، قال الله تعالى : « وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ » (١).

« لين العريكة » هي قريبة من الفقرة السابقة مؤكدة لها ، في القاموس : العريكة كسفينة : النفس ورجل لين العريكة سلس الخلق منكسر النخوة ، وقال الجوهري : العريكة : الطبيعة ، وفلان لين العريكة إذا كان سلسا ويقال : لأنت عريكته إذا انكسرت نخوته ، وفي النهاية في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصدق الناس لهجة وألينهم عريكة ، العريكة : الطبيعة ، يقال : فلان لين العريكة إذا كان سلسا مطاوعا منقادا قليل الخلاف والنفور.

« رصين الوفاء » بالراء والصاد المهملتين ، وما في بعض نسخ الكافي بالضاد المعجمة تصحيف ، أي محكم الوفاء بعهود الله وعهود الخلق ، في القاموس : رصنه : أكمله وأرصنه : أحكمه ، وقد رصن ككرم ، وكأمير المحكم الثابت والحفي بحاجة صاحبه « قليل الأذى » إنما ذكر القلة ولم ينف الأذى رأسا ، لأن الإيذاء

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٥٩.

٢٠٥

الأذى لا متأفك ولا متهتك.

إن ضحك لم يخرق وإن غضب لم ينزق ضحكه تبسم واستفهامه تعلم

______________________________________________________

قد يكون حسنا بل واجبا ، كما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار ، وقيل : إنما قال ذلك ، لأنه يؤذي نفسه ، ولا يخفى بعده.

« لا متأفك » كأنه مبالغة في الإفك بمعنى الكذب ، أي لا يكذب كثيرا ، أو المعنى لا يكذب على الناس ، وفي بعض النسخ لا مستأفك ، أي لا يكذب على الناس فيكذبوا عليه فكأنه طلب منهم الإفك ، وقيل : المتأفك : من لا يبالي أن ينسب إليه الإفك « ولا متهتك » أي ليس قليل الحياء لا يبالي أن يهتك سترة ، أو لا يهتك ستر الناس ، في القاموس : هتك الستر وغيره يهتكه فانهتك وتهتك : جذبه فقطعه من موضعه ، أو شق منه جزءا فبدا ما وراءه ، ورجل منهتك ومتهتك ومستهتك لا يبالي أن يهتك ستره.

« إن ضحك لم يخرق » أي لا يبالغ فيه حتى ينتهي إلى الخرق والسفه ، بل يقتصر على التبسم كما سيأتي ، في القاموس : الخرق بالضم والتحريك ضد الرفق وأن لا يحسن الرجل العمل والتصرف في الأمور والحمق ، وقيل : هو من الخرق بمعنى الشق أي لم يشق فاه ولم يفتحه كثيرا.

« وإن غصب لم ينزق » في القاموس : نزق الفرس كسمع ونصر وضرب نزقا ونزوقا : نزا أو تقدم خفة ووثب ، وأنزقه ونزقه غيره وكفرح وضرب : طاش وخف عند الغضب « ضحكه تبسم » في القاموس : بسم يبسم بسما وابتسم وتبسم وهو أقل الضحك وأحسنه ، وفي المصباح : بسم بسما من باب ضرب ضحك قليلا من غير صوت وابتسم وتبسم كذلك.

« واستفهامه تعلم » أي للتعلم لا لإظهار العلم « ومراجعته » أي معاودته في السؤال « تفهم » أي لطلب الفهم لا للمجادلة « كثير الرحمة » أي ترحمه على

٢٠٦

ومراجعته تفهم كثير علمه عظيم حلمه كثير الرحمة لا يبخل ولا يعجل ولا يضجر ولا يبطر ولا يحيف في حكمه ولا يجور في علمه نفسه أصلب من الصلد ومكادحته أحلى من الشهد لا جشع ولا هلع ولا عنف ولا صلف ولا متكلف

______________________________________________________

العباد كثير « لا يبخل » بالباء الموحدة ثم الخاء المعجمة كيعلم ويكرم ، وربما يقرأ بالنون ثم الجيم من النجل وهو الرمي بالشيء ، أي لا يرمي بالكلام من غير روية وهو تصحيف « ولا يعجل » أي في الكلام والعمل « ولا يضجر » في القاموس ضجر منه وبه كفرح وتضجر تبرم وفي الصحاح : الضجر القلق من الغم ، وقال : البطر الأشر وهو شدة المرح ، وقد بطر بالكسر يبطر والبطر أيضا الحيرة والدهش ، وفي القاموس : البطر محركة : النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة ، والدهش ، والحيرة ، والطغيان بالنعمة وكراهة الشيء ، من غير أن يستحق الكراهة ، فعل الكل كفرح ، وقال : الحيف : الجور والظلم.

« ولا يجور في علمه » أي لا يظلم أحدا بسبب علمه وربما يقرأ يجوز بالزاء أي لا يتجاوز عن العلم الضروري إلى غيره « نفسه أصلب من الصلد » أي من الحجر الصلب ، كناية عن شدة تحمله للمشاق ، أو عن عدم عدوله عن الحق وتزلزله فيه بالشبهات ، وعدم ميلة إلى الدنيا بالشهوات ، وفي القاموس : الصلد ويكسر الصلب الأملس « ومكادحته أحلى من الشهد » في القاموس : كدح في العمل كمنع : سعى وعمل لنفسه خيرا أو شرا وكد وجهه : خدش ، أو عمل به ما يشينه ككدحه ، أو أفسده ولعياله : كسب كاكتدح ، وفي الصحاح : الكدح : العمل والسعي والخدش والكسب ، يقال : هو يكدح في كذا أي يكد وقوله تعالى : « إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً » (١) أي تسعى ، انتهى.

والشهد : العسل ، وقيل : المكادحة هنا : المنازعة ، أي منازعته لرفقه فيها

__________________

(١) سورة الإنشقاق : ٦.

٢٠٧

ولا متعمق جميل المنازعة كريم المراجعة عدل إن غضب رفيق إن طلب

______________________________________________________

أحلى من العسل ، وأقول : يحتمل أن يكون المعنى أن سعيه في تحصيل المعيشة والأمور الدنيوية لمساهلته فيها حسن لطيف ، وقيل : الكدح الكد والسعي وحلاوة مكادحته لحلاوة ثمرتها ، فإن التعب في سبيل المحبوب راحة.

« لا جشع » في القاموس : الجشع محركة أشد الحرص وأسوأه ، وأن تأخذ نصيبك وتطمع في نصيب غيرك ، وقد جشع كفرح فهو جشع ، وقال : الهلع محركة أفحش الجزع وكصرد : الحريص ، والهلوع من يجزع ويفزع من الشر ويحرص ويشح على المال ، أو الضجور لا يصبر على المصائب ، وقال : العنف مثلثة العين ضد الرفق ، وقال : الصلف بالتحريك قلة نماء الطعام وبركته ، وأن لا تخطئ المرأة عند زوجها ، والتكلم بما يكرهه صاحبك والتمدح بما ليس عندك ، أو مجاوزة قدر الظرف ، والادعاء فوق ذلك تكبرا ، وهو صلف ككتف.

وأقول : أكثر المعاني مناسبة ، وقال : المتكلف العريض لما لا يعنيه ونحوه ، قال الجوهري : وقال تكلفت الشيء وتجشمته : أي ارتكبته على مشقة « ولا متعمق » أي لا يتعمق ولا يبالغ في الأمور الدنيوية ، وقيل : لا يطول الكلام ولا يسعى في تحسينه لإظهار الكمال ، قال في القاموس : عمق النظر في الأمور بالغ وتعمق في كلامه تنطع ، وقال : تنطع في الكلام : تعمق وغالى وتأنق.

ويحتمل أن يكون المراد : عدم التعمق في المعارف الإلهية فإنه أيضا ممنوع لقصور العقول عن الوصول إليها ، لما مر في كتاب التوحيد بسند صحيح قال : سئل علي بن الحسين عن التوحيد؟ فقال : إن الله تعالى علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى « قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ » والآيات من سورة الحديد إلى قوله : « عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » (١) فمن رام وراء ذلك فقد هلك.

« جميل المنازعة » أي إن احتاج إلى منازعة يأتي بها على أحسن الوجوه

__________________

(١) من أوّل السورة إلى آية ٦.

٢٠٨

لا يتهور ولا يتهتك ولا يتجبر خالص الود وثيق العهد وفي العقد شفيق

______________________________________________________

« كريم المراجعة » قد مر إن مراجعته في السؤال تفهم ، وهنا يصفها بالكرم ، أي يأتي بها في غاية الملاينة وحسن الأدب ، وقيل : المراد بالمراجعة هنا الرجوع عن الذنب ، أو السهو أو الخطإ « عدل إن غضب » أي لا يصير غضبه سببا لجوره على من غضب عليه.

« رفيق إن طلب » أي إن طلب شيئا من أحد يطلبه برفق سواء كان له عنده حق أم لا ، ويمكن أن يقرأ على بناء المجهول ، أي إن طلب أحد رفاقته يصاحبه برفق ، وإن طلب أحد منه حقه يجيبه برفق ، « لا يتهور » التهور الإفراط في الشجاعة وهو مذموم ، قال في القاموس : تهور الرجل وقع في الأمر بقلة مبالاة.

« ولا يتهتك » قد مر ذلك فهو تأكيد ، أو المراد هنا هتك ستر الغير فيكون تأسيسا لكن لا يساعده اللغة كما عرفت « ولا يتجبر » أي لا يتكبر على الغير ، أو لا يعد نفسه كبيرا « خالص الود » أي محبته خالصة لله ، أو مخصوصة بالله أو محبته خالصة لكل من يؤده ، غير مخلوطة بالخديعة والنفاق ، وكان هذا أظهر. « وثيق العهد » أي عهدة مع الله ومع الخلق محكم « وفي العقد » أي يفي بما يصدر عنه من العقود الشرعية كما قال سبحانه : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (١) على بعض الوجوه ، قال في مجمع البيان : اختلف في هذه العقود على أقوال :

أحدها : أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والموازرة والمظاهرة على من حاول ظلمهم ، أو بغاهم سوءا ، وذلك هو معنى الحلف.

وثانيها : أنها العقود التي أخذ الله سبحانه على عباده بالإيمان والطاعة فيما أحل لهم ، أو حرم عليهم.

__________________

(١) سورة المائدة : ١.

٢٠٩

وصول حليم خمول قليل الفضول راض عن الله عز وجل مخالف لهواه

______________________________________________________

وثالثها : أن المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان ، وعقد النكاح ، وعقد العهد ، وعقد البيع ، وعقد الحلف.

ورابعها : أن ذلك أمر من الله سبحانه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في كتبهم من تصديق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما جاء به من عند الله ، وأقوى هذه الأقوال عن ابن عباس : أن المراد بها عقود الله التي أوجبها على العباد في الحلال والحرام ، والفرائض ، والحدود ، ويدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر فيجب الوفاء بجميع ذلك ، إلا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح ، انتهى.

والعلماء مدارهم في الاستدلال على لزوم العقود بهذه الآية وقد يحمل العقد في هذا الخبر على الاعتقاد ، وفي القاموس : الشفق حرص الناصح على صلاح المنصوح وهو مشفق وشفيق ، وحاصله أنه ناصح ومشفق على المؤمنين ، وقيل : خائف من الله ، والأول أظهر « وصول » للرحم أو الأعم منهم ومن سائر المؤمنين ، والحلم : الأناة والعقل كما في القاموس ، قال الراغب : الحلم ضبط الشيء عن هيجان الغضب وجمعه أحلام ، قال الله تعالى : « أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا » (١) قيل : معناه عقولهم وليس الحلم في الحقيقة هو العقل لكن فسروه بذلك لكونه من مسببات العقل.

« خمول » في أكثر النسخ بالخاء المعجمة ، وفي بعضها بالحاء المهملة فعلى الأول المعنى أنه خامل الذكر غير مشهور بين الناس ، وكأنه محمول على أنه لا يحب الشهرة ، ولا يسعى فيها ، لا أن الشهرة مطلقا مذمومة.

في القاموس : خمل ذكره وصوته خمولا خفي ، وأخمله الله فهو خامل : ساقط لا نباهة له ، وعلى الثاني : إما المراد به الحلم تأكيدا ، أو المراد بالحليم : العاقل ، أو أنه يتحمل المشاق للمؤمنين ، والأول أظهر ، في القاموس : حمل عنه حلم فهو

__________________

(١) سورة الطور : ٣٢.

٢١٠

لا يغلظ على من دونه ولا يخوض فيما لا يعنيه ناصر للدين محام عن المؤمنين

______________________________________________________

حمول ذو حلم.

« قليل الفضول » الفضول جمع الفضل وهي الزوائد من القول والفعل ، في القاموس : الفضل ضد النقص ، والجمع فضول ، والفضولي بالضم : المشتغل بما لا يعنيه « مخالف لهواه » أي لما تشتهيه نفسه مخالفا للحق ، قال الراغب : الهوى ميل النفس إلى الشهوة ، ويقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة ، وقيل : سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية ، وفي الآخرة إلى الهاوية وقد عظم الله ذم اتباع الهوى ، فقال : « أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ » (١) وقال « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ » (٢) « وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً » (٣) « وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ » (٤) وقال : « وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » (٥) « وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ » (٦) « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ » (٧) انتهى.

« لا يغلظ » على بناء الأفعال ، يقال : أغلظ له في القول ، أي خشن ، أو على بناء التفعيل أو على بناء المجرد ككرم ، قال في المصباح : غلظ الرجل : اشتد فهو غليظ وفيه غلظة ، أي غير لين ولا سلس ، وأغلظ له في القول إغلاظا وغلظت عليه في اليمين تغليظا شددت عليه وأكدت.

« على من دونه » دنيا أو دينا ، أو الأعم « ولا يخوض » أي لا يدخل « فيما لا يعنيه » أي لا يهمه ، في القاموس : عناه الأمر يعنيه ويعنوه عناية وعناية أهمه واعتنى به اهتم « ناصر للدين » أصوله وفروعه قولا وفعلا « محام عن المؤمنين » أي يدفع الضرر عنهم ، في القاموس : حاميت محاماة وحماء : منعت عنه ،

__________________

(١) سورة الجاثية : ٢٣.

(٢) سورة ص : ٢٦.

(٣) سورة الكهف : ٢٨.

(٤) سورة البقرة : ١٢٠.

(٥) سورة الجاثية : ١٨.

(٦) سورة المائدة : ٧٧.

(٧) سورة القصص : ٥٠.

٢١١

كهف للمسلمين لا يخرق الثناء سمعه ولا ينكي الطمع قلبه ولا يصرف اللعب حكمه ولا يطلع الجاهل علمه قوال عمال عالم حازم لا بفحاش ولا بطياش

______________________________________________________

« كهف للمسلمين » في القاموس : الكهف : الوزر والملجإ.

« لا يخرف الثناء سمعه » كان المراد بالخرق الشق وعدمه كناية عن عدم التأثير فيه كأنه لم يسمعه ، وما قيل : من أنه على بناء الأفعال ، أي لا يصير سمعه ذا خرق وأحمق فلا يخفى بعده « ولا ينكي الطمع قلبه » أي لا يؤثر في قلبه ولا يستقر فيه ، وفيه إشعار بأن الطمع يورث جراحة القلب جراحة لا تبرأ.

في القاموس : نكأ القرحة كمنع قشرها قبل أن تبرأ فنديت ، وقال في المعتل : نكى العدو وفيه نكاية قتل وجرح والقرحة نكأها ، أقول : فهنا يمكن أن يقرأ مهموزا وغير مهموز « ولا يصرف اللعب حكمه » أي حكمته ، والمعنى : لا يلتفت إلى اللعب لحكمته ، كما قال تعالى : « وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً » (١) أو المعنى : أن الأمور الدنيوية لا تصير سببا لتغيير حكمه كما قال تعالى : « وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ » (٢) « ولا يطلع الجاهل علمه » لا يطلع على بناء الأفعال ، والمراد بالجاهل المخالفون ، أي يتقى منهم ، أو ضعفاء العقول ، فالمراد بالعلم : ما لا يستطيعون فهمه كما مر « قوال » أي كثير القول لما يحسن قوله ، كثير الفعل والعمل بما يقوله « عالم » قيل : هو ناظر إلى قوله قوال ، و « حازم » ناظر إلى قوله عمال ، والحزم رعاية العواقب.

وفي القاموس : الحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة « لا بفحاش » في القاموس : الفحش ، عدوان الجواب ، وقال الراغب : الفحش ، والفحشاء والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال ، وفي القاموس : الطيش النزق والخفة ، طاش يطيش فهو طايش وطياش وذهاب العقل ، والطياش : من لا يقصد وجها واحدا

__________________

(١) سورة الفرقان : ٧٢.

(٢) سورة العنكبوت : ٦٤.

٢١٢

وصول في غير عنف بذول في غير سرف لا بختال ولا بغدار ولا يقتفي أثرا ولا يحيف بشرا رفيق بالخلق ساع في الأرض عون للضعيف غوث للملهوف لا يهتك سترا ولا يكشف سرا كثير البلوى قليل الشكوى إن رأى خيرا ذكره وإن عاين شرا ستره يستر العيب ويحفظ الغيب ويقيل العثرة ويغفر الزلة

______________________________________________________

« وصول في غير عنف » كان في بمعنى مع ، أي يعاشر الأرحام والمؤمنين ويحسن إليهم بحيث لا يصير سببا للثقل عليهم ، أو وصله دائم غير مشوب بعنف ، أو يصلهم بالمال ولا يعنف عليهم عند العطاء ولا يؤذيهم بالقول والفعل.

« بذول في غير سرف » أي يبذل المال مع غير إسراف « ولا يختار » وفي بعض النسخ ولا يختال ، في القاموس : الختر : الغدر ، والخديعة ، أو أقبح الغدر ، وهو خاتر وختار ، وقال : ختله يختله ويختله ختلا وختلانا : خدعه والذئب الصيد تخفى له فهو خاتل ، وختول ، وخاتله : خادعه ، وتخاتلوا : تخادعوا « لا يقتفي أثرا » أي لا يتبع عيوب الناس ، أو لا يتبع أثر من لا يعلم حقيته ، « ولا يحيف بشرا » بالحاء المهملة وفي بعضها بالمعجمة ، فعلى الأول هو من الحيف الجور والظلم ، وعلى الثاني من الإخافة.

« ساع في الأرض » أي لقضاء حوائج المؤمنين ، وعيادة مرضاهم ، وشهود جنائزهم وهدايتهم وإرشادهم ، والغوث اسم من الإغاثة وهي النصرة ، وأغاثهم الله برحمته كشف الله شدتهم ، وفي القاموس : لهف كفرح حزن وتحسر كتلهف عليه ، والملهوف ، واللهيف ، واللهفان ، واللاهف : المظلوم المضطر يستغيث ويتحسر ، انتهى.

وهتك الستر : إفشاء العيوب « ولا يكشف سرا » أي سر نفسه ، أو سر غيره ، أو الأعم ، والشكوى : الشكاية « إن رأى خيرا » بالنسبة إليه ، أو مطلقا « ذكره » عند الناس « وإن عاين شرا » بالنسبة إليه أو مطلقا « ستره » عن الناس ، وحفظ الغيب : أن يكون في غيبة أخيه مراعيا لحرمته ، كرعايته عند حضوره « ويقيل العثرة »

٢١٣

لا يطلع على نصح فيذره ولا يدع جنح حيف فيصلحه أمين رصين تقي نقي

______________________________________________________

أصل الإقالة هو أن يبيع الإنسان آخر شيئا فيندم المشتري فيستقيل البائع أي يطلب منه فسخ البيع فيقيله أي يقبل ذلك منه فيتركه. ثم يستعمل ذلك في أن يفعل أحد بغيره ما يستحق تأديبا أو ضررا فيعتذر منه ، ويطلب العفو فيعفو عنه ، كأنه وقع بينهما معاوضة فتتاركا ، ومنه قولهم : أقال الله عثرته.

وغفر الزلة أيضا قريب من ذلك ، يقال : أرض مزلة : تزل فيها الأقدام ، وزل في منطقه أو فعله يزل من باب ضرب زلة : أخطأ ، ويمكن أن تكون الثانية تأكيدا ، أو تكون إحداهما محمولة على ما يفعل به ، والأخرى على الخطإ الذي صدر منه من غير أن يصل ضرره إليه ، أو يكون إحداهما محمولة على العمد ، والأخرى على الخطإ ، أو إحداهما على القول والأخرى على الفعل ، أو إحداهما على نقض العهد والوعد والأخرى على غيره.

« لا يطلع على نصح فيذره » لا يطلع بالتشديد على بناء الافتعال أي إذا اطلع على نصح لأخيه لا يتركه بل يذكره له « ولا يدع جنح حيف فيصلحه » ، في القاموس : الجنح بالكسر : الجانب ، والكتف ، والناحية ، ومن الليل الطائفة منه ويضم ، وقال : الحيف : الجور والظلم ، والحاصل أنه لا يدع شيئا من الظلم يقع منه أو من غيره على أحد بل يصلحه ، أو لا يصدر منه شيء من الظلم فيحتاج إلى أن يصلحه ، وفي بعض النسخ جنف بالجيم والنون وهو محركة الميل والجور.

« أمين » يأتمنه الناس على حالهم وعرضهم « رصين » بالصاد المهملة وتقدم وفي بعض النسخ بالضاد المعجمة ، وفي القاموس المرصون شبه المنضود من حجارة ونحوها يضم بعضها إلى بعض في بناء وغيره « تقي » عن المعاصي « نقي » عن ذمائم الأخلاق أو مختار ، يقال : انتقاه ، أي اختاره « زكي » أي طاهر من العيوب ، أو نام في الكمالات أو صالح ، في القاموس : زكا يزكو زكاء ، وزكاه الله ، وأزكاه والرجل صلح وتنعم فهو

٢١٤

زكي رضي يقبل العذر ويجمل الذكر ويحسن بالناس الظن ويتهم على العيب نفسه يحب في الله بفقه وعلم ويقطع في الله بحزم وعزم لا يخرق به فرح

______________________________________________________

زكي من أزكياء ، وفي بعض النسخ بالذال : أي يدرك المطالب العلية من المبادئ الخفية بسهولة.

« رضي » أي راض عن الله وعن الخلق ، أو مرضي عندهما ، كما قال تعالى : « وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا » (١) أي مرضيا عندك قولا وفعلا « ويجمل الذكر » على بناء الأفعال أي يذكرهم بالجميل.

« ويتهم على العيب نفسه » بالعين المهملة ، وفي بعض النسخ بالمعجمة : أي يتهم نفسه غائبا عن الناس ، لا كالرائي الذي يظهر ذلك عند الناس وليس كذلك ، أو يتهم نفسه على ما يغيب عن الناس من عيوبه الباطنة الخفية « يحب في الله بفقه وعلم » أي يحب في الله ولله من يعلم أنه محبوب لله ويلزم محبته ، لا كالجهال الذين يحبون أعداء الله لزعمهم أنهم أولياء الله كالمخالفين.

« ويقطع في الله بحزم وعزم » أي يقطع من أعداء الله بجزم ، ورعاية للعاقبة ، فإنه قد تلزم مواصلتهم ظاهرا للتقية ، وهو عازم على قطعهم ، لا كمن يصل يوما ، ويقطع يوما « لا يخرق به فرح » يخرق كيحسن والباء للتعدية أي لا يصير الفرح سببا لخرقه وسفهه ، قال في المصباح : الفرح يستعمل في معان :

أحدها الأشر والبطر ، وعليه قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ » (٢) ، والثاني : الرضا وعليه قوله تعالى : « كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ » (٣) والثالث : السرور وعليه قوله تعالى : « فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ » (٤) ويقال : فرح بشجاعته ، وبنعمة الله عليه ، وبمصيبة عدوه ، فهذا الفرح لذة القلب بنيل ما يشتهي.

__________________

(١) سورة مريم : ٦.

(٢) سوره القصص : ٧٦.

(٣) سورة المؤمنون : ٥٣.

(٤) سورة آل عمران : ١٧٠.

٢١٥

ولا يطيش به مرح مذكر للعالم معلم للجاهل لا يتوقع له بائقة ولا يخاف له غائلة كل سعي أخلص عنده من سعيه وكل نفس أصلح عنده من نفسه

______________________________________________________

« ولا يطيش به مرح » أي لا يصير شدة فرحه سببا لنزقه وخفته ، وذهاب عقله أو عدوله عن الحق ، وميلة إلى الباطل ، في القاموس : الطيش : جواز السهم الهدف وأطاشه : أماله عن الهدف ، وقال : مرح كفرح : أشر وبطر واختال ونشط وتبختر ، وقال الجوهري : المرح شدة الفرح والنشاط « مذكر للعالم » الآخرة أو مسائل الدين « لا يتوقع له بائقة » أي لا يخاف أن يصدر عنه داهية وشر ، في القاموس : توقع الأمر : انتظر كونه ، وقال : البائقة : الداهية وباق : جاء بالشر والخصومات ، وقال الجوهري : فلان قليل الغائلة والمغالة أي الشر ، الكسائي ، الغوائل : الدواهي.

« كل سعي أخلص عنده من سعيه » أي لحسن ظنه بالناس ، واتهامه لنفسه سعى كل أحد في الطاعات أخلص عنده من سعيه ، وقريب منه الفقرة التالية ، وقوله : عالم بعيبه ، كالدليل عليها « شاغل بغمه » أي غمه لآخرته شغله عن أن يلتفت إلى عيوب الناس أو إلى الدنيا ولذاتها « قريب » في أكثر النسخ بالقاف أي قريب من الله أو قريب من الناس لا يتكبر عليهم ، أو من فهم المسائل والاطلاع على الأسرار ، قال في النهاية فيه اتقوا قراب المؤمن فإنه ينظر بنور الله ، وروي قرابة المؤمن ، يعني فراسته وظنه الذي هو قريب من العلم والتحقق ، لصدق حدسه وإصابته ، انتهى.

وأقول : كونه مأخوذا منه ليس بقريب والأظهر غريب بالغين كما في بعض النسخ أي لا يجد مثله ، فهو بين الناس غريب ، ولذا يعيش وحيدا فردا لا يأنس بأحد قال في النهاية : فيه أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء ، أي أنه كان في أول أمره كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده لقلة المسلمين يومئذ وسيعود غريبا كما كان ، أي يقل المسلمون في آخر الزمان فيصيرون كالغرباء فطوبى للغرباء أي الجنة لأولئك المسلمين الذين كانوا في أول الإسلام ويكونون في آخره وإنما

٢١٦

عالم بعيبه شاغل بغمه ـ لا يثق بغير ربه غريب وحيد جريد [ حزين ] يحب في الله ويجاهد في الله ليتبع رضاه ولا ينتقم لنفسه بنفسه ولا يوالي في سخط ربه مجالس لأهل الفقر مصادق لأهل الصدق مؤازر لأهل الحق عون للقريب أب لليتيم بعل للأرملة حفي بأهل المسكنة مرجو لكل كريهة مأمول

______________________________________________________

خصهم بها لصبرهم على أذى الكفار أولا وآخرا ولزومهم دين الإسلام ، انتهى.

« وحيد » أي يصبر على الوحدة ، أو فريد لا مثل له « حزين » لضلالة الناس وقلة أهل الحق « لا ينتقم لنفسه بنفسه » بل يصبر حتى ينتقم الله له في الدنيا ، أو في الآخرة « ولا يوالي في سخط ربه » أي ليس موالاته لمعاصي الله ، وفي القاموس : الصداقة : المحبة ، والمصادقة والصداق المخالة كالتصادق والمؤازرة : المعاونة « عون » أي معاون « للغريب » النائي عن بلده ، أو للغرباء من أهل الحق كما مر « أب لليتيم » أي كالأب له وكذا البعل ، وفي الصحاح : الأرملة : المرأة التي لا زوج لها ، وفي القاموس امرأة أرملة محتاجة أو مسكينة ، والجمع أرامل وأراملة ، والأرمل العزب وهي بهاء ولا يقال للعزبة المؤسرة : أرملة.

« حفي بأهل المسكنة » قال الراغب : الحفي : البر اللطيف في قوله عز ذكره « إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا » (١) ويقال : حفيت بفلان وتحفيت به : إذا عنيت بإكرامه ، والحفي :

العالم بالشيء « مرجو لكل كريهة » أي يرجى لرفع كل كريهة ويأمله الناس لدفع كل شدة ولو بالدعاء إن لم تمكنه الإعانة الظاهرة وفي القاموس : الكريهة : الحرب ، أو الشدة في الحرب والنازلة ، وقيل : المرجو أقرب إلى الوقوع من المأمول.

« هشاش بشاش » قال الجوهري : الهشاشة : الارتياح والخفة للمعروف ، وقد هششت بفلان ـ بالكسر ـ أهش هشاشة : إذا خففت إليه وارتحت له ، ورجل هش

__________________

(١) سورة مريم : ٤٧.

٢١٧

لكل شدة هشاش بشاش لا بعباس ولا بجساس صليب كظام بسام دقيق النظر عظيم الحذر لا يجهل وإن جهل عليه يحلم لا يبخل وإن بخل عليه صبر عقل فاستحيا ـ وقنع فاستغنى حياؤه يعلو شهوته ووده يعلو حسده وعفوه يعلو حقده لا ينطق بغير صواب ولا يلبس إلا الاقتصاد مشيه التواضع خاضع

______________________________________________________

بش ، وقال : البشاشة : طلاقة الوجه ، ورجل هش بش أي طلق الوجه.

« لا بعباس » أي كثير العبوس « ولا بجساس » أي لا كثير التجسس لعيوب الناس « صليب » أي متصلب شديد في أمور الدين « كظام » يكظم الغيظ كثيرا ، يقال : كظم غيظه أي رده وحبسه « بسام » أي كثير التبسم « دقيق النظر » أي نافذ الفكر في دقائق الأمور « عظيم الحذر » عن الدنيا ومهالكها وفتنها « لا يبخل » بمنع حقوق الناس واجباتها ومندوباتها « وإن بخل عليه » بمنع حقوقه « صبر » ، « عقل » أي فهم قبح المعاصي فاستحيى من ارتكابها ، أو عقل أن الله مطلع عليه في جميع أحواله « فاستحيى » من أن يعصيه « وقنع » بما أعطاه الله « فاستغني » عن الطلب من المخلوقين.

« حياؤه » من الله ومن الخلق « يعلو شهوته » فيمنعه عن اتباع الشهوات النفسانية « ووده » للمؤمنين « يعلو حسده » أي يمنعه عن أن يحسدهم على ما أعطاهم الله « وعفوه » عن زلات إخوانه وما أصابه منهم الأذى « يعلو حقده » عليهم.

« ولا يلبس إلا الاقتصاد » أي يقتصد ويتوسط في لباسه ، فلا يلبس ما يلحقه بدرجة المسرفين والمترفين ، ولا ما يلحقه بأهل الخسة والدناءة ، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه ، أو يصير سببا لشهرتهم بالزهد كما هو دأب المتصوفة ، ويحتمل أن يكون المراد جعله الاقتصاد في جميع أموره شعارا ودثارا على الاستعارة « ومشيه التواضع » أي لا يختال في مشيه ، وقيل : هو العدل بين رذيلتي المهانة والكبر.

٢١٨

لربه بطاعته راض عنه في كل حالاته نيته خالصة أعماله ليس فيها غش ولا خديعة نظره عبرة سكوته فكرة وكلامه حكمة مناصحا متباذلا متواخيا ناصح في السر والعلانية لا يهجر أخاه ولا يغتابه ولا يمكر به ولا يأسف على ما فاته ولا يحزن على ما أصابه ولا يرجو ما لا يجوز له الرجاء ولا يفشل في

______________________________________________________

وأقول : يحتمل أن يكون المراد مسلكه وطريقته التواضع وفي النهج : ملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع ، « بطاعته » أي بأن يطيعه ، أو بسبب طاعته في كل حالاته أي من الشدة والرخاء والنعمة والبلاء « خالصة » أي لله سبحانه ليس فيها غش لله أو للخلق ، أو الأعم.

في القاموس : غشه لم يمحضه النصح ، أو أظهر له خلاف ما أضمر ، والغش بالكسر الاسم منه « نظره » إلى المخلوقات « عبرة » واستدلال علي وجود الخالق ، وعلمه ، وقدرته ، ولطفه ، وحكمته ، وإلى الدنيا عبرة بفنائها وانقضائها « وسكوته فكرة » أي تفكر في عظمة الله وقدرته ، وفناء الدنيا ، وعواقب أموره ، والحمل في تلك الفقرات للمبالغة في السببية فإن النظر سبب للعبرة ، والسكوت سبب للفكرة « مناصحا » نصبه وأختيه على الحال مما أضيف إليه المبتدإ على القول بجوازه ، وقيل : نصبها على الاختصاص ، أي ينصح أخاه ويقبل منه النصح « متباذلا » أي يبذل أخاه من المال والعلم ويقبل منه « متاخيا » أي يؤاخي مع خلص المؤمنين لله وفي الله ، ناصحا في السر والعلانية ، أي ينصح في السر إن اقتضته المصلحة ، وفي العلانية إن اقتضته الحكمة ، أو المراد بالسر القلب ، وبالعلانية اللسان ، إشارة إلى أن نصحه غير مشوب بالخدعة « لا يهجر أخاه » الهجر : ضد الوصل أي لا يترك صحبته « ولا يأسف علي ما فاته » أي من النعم.

في القاموس : الأسف محركة : أشد الحزن أسف كفرح وعليه : غضب ، « ولا يحزن على ما أصابه » أي من البلاء « ولا يرجو ما لا يجوز له الرجاء » كان يرجو

٢١٩

الشدة ولا يبطر في الرخاء يمزج الحلم بالعلم والعقل بالصبر تراه بعيدا كسله دائما نشاطه قريبا أمله قليلا زلله متوقعا لأجله خاشعا قلبه ذاكرا ربه قانعة نفسه منفيا جهله سهلا أمره حزينا لذنبه ميتة شهوته كظوما

______________________________________________________

البقاء في الدنيا أو درجة الأنبياء والأوصياء أو الأمور الدنيوية كالمناصب الباطلة « ولا يفشل في الشدة » أي لا يكسل في العبادة في حال الشدة ، أو لا يضطرب ولا يجبن فيها ، بل يصبر ، أو يقدم علي دفعها بالجهاد ونحوه ، في القاموس : فشل كفرح فهو فشل : كسل وضعف ، وتراخى وجبن.

« يمزج العلم بالحلم » (١) أي بالعفو وكظم الغيظ أو العقل ، والأول أظهر لأن العلم يصير غالبا سببا للتكبر والترفع وترك الحلم ، والمزج : الخلط والفعل كنصر ، وفي النهج : يمزج الحلم بالعلم فالمعنى أنه يحلم مع العلم بفضيلة الحلم ، لا كحلم بعض الجاهلين عن ضعف النفس ، وعدم المبالاة بما قيل له وفعل به ، أو المراد بالحلم العقل أي يتعلم عن تفكر وتدبر ولا يعتمد على الظنون والآراء « والعقل بالصبر » أي مع وفور عقله يصبر على جهل الجهال ، أو يصبر على المصائب لقوة عقله ، وقيل : أي مع عقله وفهمه أحوال الخلائق يصبر عليها « تراه بعيدا كسله » أي في العبادات.

« دائما نشاطه » أي رغبته في الطاعات ، في القاموس : نشط كسمع نشاطا : طابت نفسه للعمل وغيره « قريبا أمله » أي لا يؤمل ما يبعد حصوله من أمور الدنيا ، أو لا يأمل ما يتوقف حصوله على عمر طويل ، بل يعد موته قريبا.

والحاصل أنه ليس له طول الأمل أو لا يؤخر ما يريده من الطاعة ، ولا يسوف فيها « قليلا زلله » لتيقظه وأخذه بالحائطة لدينه « متوقعا لأجله » أي منتظرا له يعده قريبا منه « خاشعا قلبه » أي خاضعا منقادا لأمر الله متذكرا له خائفا منه سبحانه « قانعة نفسه » بما أعطاه ربه « منفيا جهله » لوفور علمه « سهلا أمره » أي هو خفيف المؤنة أو يصفح عن السفهاء ، ولا يصر على الانتقام منهم ، وقيل : أي لا يتكلف

__________________

(١) وفي المتن « الحلم بالعلم » كما في المنقول عن النهج.

٢٢٠