بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٤٥
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

والده وجده عليهما‌السلام ومغيبه لما اراد الله إنفاذ أمره ، وإنجاز وعده ، أكثر البلاد موطئا للحجج بعد طيبة وأم القرى ، وأفضلها عندهم لطيب الهواء وقلة الداء وعذوبة الماء الممدوح بلسان الهادي عليه‌السلام « وأخرجت إليها كرها ولو أخرجت عنها أخرجت كرها » (١) المدعو تارة بسامرا ، وأخرى بسر من رأى طهرها الله تعالى من الارجاس ، وجعلها شاغرة عن أشباه الناس ، كان يختلج في خاطري ، ويتردد في خلدي ، أن أبتغي وسيلة بقدر الوسع والميسور ، إلى صاحب هذا القصر المشيد ، والبيت المعمور ، فلم أهتد إلى ذلك المرام سبيلا ، ولم أجد لما أتمناه هاديا ولا دليلا.

مفضى على ذلك عشر سنين ، فقلت يا نفس : هذا والله هوالخسران المبين إن كنت لا تجدين ما يليق عرضه على هذا السلطان ، العظيم القدر والشان ، فلا تقصرين عن قبرة أهدى جرادة إلى سليمان ، وهو بمقام من الرأفة والكرم ، لا يحوم حوله نبي ولا رسول من الروح إلى آدم ، فكيف بغيره من طبقات الامم ، يقبل البضاعة ولو كانت مزجاة ، ويتأسى بجده الاطهر في إجابة الدعوات ، ولو إلى كراع شاة.

فبينما أنا بين اليأس والطمع ، والصبر والجزع ، إذ وقع في خاطري أنه قد سقط عن قلم العلامة المجلسي رضوان الله عليه في باب من رآه عليه‌السلام في الغيبة من المجلد الثالث عشر من البحار ، جماعة فازوا بشرف اللقاء ، وحالزوا السبق الاعلى والقدح المعلى ، فلو ضبط أساميهم الشريفة ، ونقل قصصهم الطريفة ، وغيرهم من الابرار الذين نالوا المنى بعد صاحب البحار ، فيكون كالمستدرك للباب المذكور ، والمتمم

____________________

(١) اشارة إلى ما روى عنه عليه‌السلام أنه قال يوما لابي موسى من أصحابه : أخرجت إلى سر من رأى كرها ، ولو اخرجت عنها اخرجت كرها ، قال : قلت : ولم يا سيدي؟ فقال : لطيب هوائها ، وعذوبة مائها وقلة دائها ، ثم قال : تخرب سر من رأى حتى يكون فيها خان وقفا للمارة ، وعلامة خرابها تدارك العمارة في مشهدي بعدي. راجع مناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٤١٧.

٢٠١

لاثبات هذا المهم المسطور ، لما قصر شأنه من الجرادة والكراع ، فعسى أن يكون سببا للقرب إلى حضرته ، ولو بشبر ، فيقرب إلى المتقرب إليه بباع ، أو ألف ذراع.

فاسخرت الله تعالى وشرعت في المقصود مع قلة الاسباب ، وألحقت بمن أدرك فيض حضوره الشريف من وقف على معجزة منه عليه‌السلام أو أثر يدل على وجوده المقدس الذي هو من أكبر الآيات وأعظم المعاجز ، لاتحاد الغرض ووحدة المقصود ، ثم ما رأيته في كتب أصحابنا فنشير إلى مأخذه ومؤلفه ، وماسمعته فلا أنقل منه إلا ما تلقيته من العلماء الراسخين ، ونواميس الشرع المبين ، أو من الصلحاء الثقات الذين بلغوا من الزهد والتقوى والسداد محلا لا يحتمل فيهم عادة تعمد الكذب والخطا ، بل سمعنا أو رأينا من بعضهم من الكرامات ما تنبئ عن علو مقامهم عند السادات ، وقد كنا ذكرنا جملة من ذلك متفرقا في كتابنا دار السلام ونذكرهنا ما فيه وما عثرنا عليه بعد تأليفه وسميته جنة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجة عليه‌السلام أو معجزته في الغيبة الكبرى ، ولم نذكر ما هو موجود في البحار ، حذرا من التطويل والتكرار ، وها نحن نشرع في المرام ، بعون الله الملك العلام ، وإعانة السادات الكرام ، عليهم آلاف التحية والسلام.

الحكاية الاولى

حدث السيد المعظم المبجل ، بهاء الدين علي بن عبدالحميد الحسيني النجفي النيلي المعاصر للشهيد الاول في كتاب الغيبة عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ ، المحمود الحاج المعتمر شمس الحق والدين محمد بن قارون قال : دعيت إلى امرءة فأتيتها وأنا أعلم أنها مؤمنة من أهل الخير والصلاح فزوجها أهلها من محمود الفارسي المعروف بأخي بكر ، ويقال له ولاقاربه :

٢٠٢

بنو بكر ، وأهل فارس مشهورون بشدة التسنن والنصب والعداوة لاهل الايمان وكان محمود هذا أشدهم في الباب ، وقد وفقه الله تعالى للتشيع دون أصحابه.

فقلت لها : واعجباه كيف سمح أبوك بك؟ وجعلك مع هؤلاء النواصب؟ وكيف اتفق لزوجك مخالفة أهله حتى ترفضهم؟ فقالت : يا أيها المقرئ إن له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الادب حكموا أنها من العجب ، قلت : وما هي؟ قال : سله عنها سيخبرك.

قال الشيخ : فلما حضرنا عنده قلت له : يا محمود ما الذي أخرجك عن ملة أهلك ، وأدخلك مع الشيعة؟ فقال : يا شيخ لما اتضح لي الحق تبعته ، اعلم انه قد جرت عادة أهل الفرس (١) أنهم إذا سمعوا بورود القوافل عليهم ، خرجوا يتلقونهم ، فاتفق أناسمعنا بورود قافلة كبيرة ، فخرجت ومعي صبيان كثيرون وأنا إذ ذاك صبي مراهق ، فاجتهدنا في طلب القافلة ، بجهلنا ، ولم نفكر في عاقبة الامر ، وصرنا كلما انقطع مناصبي من التعب خلوه إلى الضعف ، فضللنا عن الطريق ، ووقعنا في واد لم نكن نعرفه ، وفيه شوك ، وشجر ودغل ، لم نر مثله قط فأخذنا في السير حتى عجزنا وتدلت ألسنتنا على صدورنا من العطش ، فأيقنا بالموت ، وسقطنا لوجوهنا.

فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض ، قد نزل قريبا منا ، وطرح مفرشا لطيفا لم نر مثله تفوح منه رائحة طيبة ، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض ، وعلى رأسه عمامة لها ذؤابتان ، فنزل على ذلك المفرش ثم قام فصلى بصاحبه ، ثم جلس للتعقيب.

فالتفت إلي وقال : يا محمود! فقلت : بصوت ضعيف لبيك يا سيدي ، قال :

____________________

(١) الظاهر أنه بالفتح ، موضع للهذيل أو بلد من بلدانهم كما في القاموس منه رحمه‌الله.

اقول : بل هو بالضم لما سبق قبل أسطر من قوله « وأهل فارس مشهورون بشدة التسنن النصب والعداوة ».

٢٠٣

ادن مني ، فقلت : لا أستطيع (١) لما بي من العطش والتعب ، قال : لا بأس عليك.

فلما قالها حسبت كأن قد حدث في نفسي روح متجددة ، فسعيت إليه حبوا فمر (٢) يده على وجهي وصدري ورفعها إلى حنكي فرده حتى لصق بالحنك الاعلى ودخل لساني في فمي ، وذهب مابي ، وعدت كما كنت أولا.

فقال : قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل وكأن في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة فقسمها نصفين ، وناولنيها وقال : كل منها فأخذتها منه ، ولم أقدم على مخالفته وعندي (٣) أمرني أن آكل الصبر لما أعهد من مرارة الحنظل فلما ذقتها فاذا هي أحلى من العسل ، وأبرد من الثلج ، وأطيب ريحا من المسك شبعت ورويت.

ثم قال لي : ادع صاحبك ، فدعوته ، فقال بلسان مكسور ضعيف : لا أقدر على الحركة ، فقال له : قم لا بأس عليك فأقبل إليه حبوا وفعل معه كما فعل معي ثم نهض ليركب ، فقلنا بالله عليك يا سيدنا إلا ما أتممت علينا نعمتك ، وأوصلتنا إلى أهلنا ، فقال : لا تعجلوا وخط حولنا برمحه خطة ، وذهب هو وصاحبه فقلت لصاحبي : قم بناحتى نقف بازاء الجبل ونقع على الطريق ، فقمنا وسرنا وإذا بحائط في وجوهنا فأخذنا في غير تلك الجهة فاذا بحائط آخر ، وهكذا من أربع جوانبنا.

فجلسنا وجعلنا نبكي على أنفسنا ثم قلت لصاحبي : ائتنا من هذا الحنظل لنأكله ، فأتى به فاذا هو أمر من كل شئ ، وأقبح ، فرمينا به ، ثم لبثناهنيئة وإذا قد استدار من الوحش ما لا يعلم إلا الله عدده ، وكلما أرادوا القرب منا منعهم ذلك الحائط ، فاذا ذهبوا زال الحائط ، وإذا عادوا عاد.

قال : فبتنا تلك الليلة آمنين حتى أصبحنا ، وطلعت الشمس واشتد الحر

____________________

(١) هذا هو الظاهر ، والنسخة « لم استطع ». منه رحمه‌الله.

(٢) فأمر ظ.

(٣) اى وعندى من العقيدة والنظر أنه أمرني أن آكل الصبر.

٢٠٤

وأخذنا العطش فجزعنا أشد الجزع ، وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالامس ، فلما أرادا مفارقتنا قلنا له : بالله عليك إلا أوصلتنا إلى أهلنا ، فقال : ابشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما ثم غابا.

فلما كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا ، ومعه ثلاث أحمرة ، قد أقبل ليحتطب فلما رآنا ارتاع منا وانهزم ، وترك حميره فصحنا إليه باسمه ، وتسمينا له فرجع وقال : يا ويلكما إن أهاليكما قد أقاموا عزاء كما ، قوما لا حاجة لي في الحطب ، فقمنا وركبنا تلك الاحمرة ، فلما قربنا من البلد ، دخل أمامنا ، وأخبر أهلنا ففرحوا فرحا شديدا وأكرموه وأخلعوا عليه.

فلما دخلنا إلى أهلنا سألونا عن حالنا ، فحكينا لهم بما شاهدناه ، فكذبونا وقالوا : هو تخييل لكم من العطش.

قال محمود : ثم أنساني الدهر حتى كأن لم يكن ، ولم يبق على خاطري شي ء منه حتى بلغت عشرين سنة ، وتزوجت وصرت أخرج في المكاراة ولم يكن في أهلي أشد مني نصبا لاهل الايمان ، سيما زوار الائمة عليهم‌السلام بسر من رأى فكنت أكريهم الدواب بالقصد لاذيتهم بكل ما أقدر عليه من السرقه وغيرها وأعتقد أن ذلك مما يقربني إلى الله تعالى.

فاتفق أني كريت دوابي مرة لقوم من أهل الحلة ، وكانوا قادمين إلى الزيارة منهم ابن السهيلي وابن عرفة وابن حارب ، وابن الزهدري ، وغيرهم من أهل الصلاح ، ومضيت إلى بغداد ، وهم يعرفون ما أنا عليه من العناد ، فلما خلوا بي من الطريق وقد امتلاؤا علي غيظا وحنقا لم يتركوا شيئا من القبيح إلا فعلوه بي وأنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم ، فلما دخلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك ، وقد امتلا فؤادي حنقا.

فلما جاء أصحابي قمت إليهم ، ولطمت على وجهي وبكيت ، فقالوا : مالك؟ وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى علي من أولئك القوم ، فأخذوا في سبهم ولعنهم وقالوا : طب نفسا فانا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا ، ونصنع بهم أعظم



٢٠٥

مما صنعوا.

فلما جن الليل ، ادركتني السعادة ، فقلت في نفسي : إن هؤلاء الرفضة لا يرجعون عن دينهم ، بل غيرهم إذا زهد يرجع إليهم ، فما ذلك إلا لان الحق معهم فبقيت مفكرا في ذلك ، وسألت ربي بنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يريني في ليلتي علامة أستدل بها على الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده.

فأخذني النوم فاذا أنا بالجنة قد زخرفت ، فاذا فيها أشجار عظيمة ، مختلفة الالوان والثمار ، ليست مثل أشجار الدنيا ، لان أغصانها مدلاة ، وعروقها إلى فوق ، ورأيت أربعة أنهار : من خمر ، ولبن ، وعسل ، وماء ، وهي تجري وليس لها جرف (١) بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت ، ورأيت نساء حسنة الاشكال ورأيت قوما يأكلون من تلك الثمار ، ويشربون من تلك الانهار ، وأنا لا أقدر على ذلك ، فكلما أردت أن أتناول من الثمار ، تصعد إلى فوق ، وكلما هممت أن أشرب من تلك الانهار ، تغور إلى تحت فقلت للقوم : مابالكم تأكلون وتشربون؟ وأنا لا أطيق ذلك؟ فقالوا : إنك لا تأتي إلينا بعد.

فبينا أنا كذلك وإذا بفوج عظيم ، فقلت : ما الخبر؟ فقالوا : سيدتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام قد أقبلت ، فنظرت فاذا بأفواج من الملائكة على أحسن هيئة ، ينزلون من الهواء إلى الارض ، وهم خافون بها ، فلما دنت وإذا بالفارس الذي قد خلصنا من العطش باطعامه لنا الحنظل. قائما بين يدي فاطمة عليها‌السلام فلما رأيته عرفته ، وذكرت تلك الحكاية ، وسمعت القوم يقولون : هذا م ح م د بن الحسن القائم المنتظر ، فقام الناس وسلموا على فاطمة عليها‌السلام.

____________________

(١) الجرف بالضم وبضمتين ما تجرفته السيول ، وأكلته من الارض ، ومنه المثل « فلان يبنى على جرف هار ، لا يدرى ما ليل من نهار » وجمعه أجرف ، ويقال للجانب الذي أكله الماء من حاشية النهر أيضا ، أو هو بضمتين ، فكانه أراد أن تلك الانهار كان لها جداول مستوية وكانت المياة تجري فيها مملوءة ، بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت ، ولم تقع فيها.

٢٠٦

فقمت أنا وقلت : السلام عليك يا بنت رسول الله ، فقالت : وعليك السلام يا محمود أنت الذي خلصك ولدي هذا من العطش؟ فقلت : نعم ، يا سيدتي ، فقالت : إن دخلت مع شيعتنا أفلحت ، فقلت : أنا داخل في دينك ودين شيعتك ، مقر بإمامة من مضى من بنيك ، ومن بقي منهم ، فقالت : أبشر فقد فزت.

قال محمود : فانتبهت وأنا أبكي ، وقد ذهل عقلي مما رأيت فانزعج أصحابي لبكائي ، وظنوا أنه مما حكيت لهم ، فقالوا : طب نفسا فوالله لننتقمن من الرفضة فسكت عنهم حتى سكتوا ، وسمعت المؤذن يعلن بالاذان ، فقمت إلى الجانب الغربي ودخلت منزل أولئك الزوار ، فسلمت عليهم ، فقالوا : لا أهلا ولا سهلا اخرج عنا لا بارك الله فيك ، فقلت : إني قد عدت معكم ، ودخلت عليكم لتعلموني معالم ديني ، فبهتوا من كلامي ، وقال بعضهم : كذب ، وقال : آخرون جاز أن يصدق.

فسألولي عن سبب ذلك ، فحكيت لهم ما رأيت ، فقالوا : إن صدقت فانا ذاهبون إلى مشهد الامام موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، فامض معنا حتى نشيعك هناك فقلت : سمعا وطاعة ، وجعلت أقبل أيديهم وأقدامهم ، وحملت إخراجهم وأنا ادعو لهم حتى وصلنا إلى الحضرة الشريفة ، فاستقبلنا الخدام ، ومعهم رجل علوي كان أكبرهم ، فسلموا على الزوار فقالوا له : افتح لنا الباب حتى نزور سيدنا ومولانا ، فقال : حبا وكرامة ، ولكن معكم شخص يريد أن يتشيع ، ورأيته في منامي واقفا بين يدي سيدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها ، فقالت لي : يأتيك غدا رجل يريد أن يتشيع فافتح له الباب قبل كل أحد ، ولو رأيته الآن لعرفته.

فنظر القوم بعضهم إلى بعض متعجبين ، فقالوا : فشرع ينظر إلى واحد واحد فقال : الله أكبر هذا والله هو الرجل الذي رأيته ثم أخذ بيدي فقال القوم : صدقت يا سيد وبررت ، وصدق هذا الرجل بما حكاء ، واستبشروا بأجمعهم وحمدوا الله تعالى ثم إنه أدخلني الحضرة الشريفة ، وشيعني وتوليت وتبريت.

فلما تم أمري قال العلوي : وسيدتك فاطمة تقول لك : سيلحقك بعض



٢٠٧

حطام الدنيا فلا تحفل به ، وسيخلفه الله عليك ، وستحصل في مضايق فاستغث بنا تنجو ، فقلت : السمع ، والطاعة ، وكان لي فرس قيمتها مائتا دينار فماتت وخلف الله علي مثلها ، واضعافها ، واصابني مضايق فندبتهم ونجوت ، وفرج الله عني بهم ، وأنا اليوم أوالي من والاهم ، وأعادي من عاداهم ، وأجو بهم حسن العاقبة.

ثم إني سعيت إلى رجل من الشيعة ، فزوجني هذه المرءة ، وتركت أهلي فما قبلت أتزوج منهم ، وهذا ما حكالي في تاريخ شهر رجب [ سنة ] ثمان وثمانين وسبعمائة هجرية ، والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله.

الحكاية الثانية

قال السيد الجليل صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة رضي الدين علي بن طاوس في كتاب غياث سلطان الورى على ما نقله عنه المحدث الاسترابادي في الفوائد المدنية في نسختين كانت إحداهما بخط الفاضل الهندي ما لفظه : يقول علي بن موسى بن جعفر بن طاوس : كنت قد توجهت أنا وأخي الصالح محمد بن محمد بن محمد القاضي الآوي ضاعف الله سعادته ، وشرف خاتمته من الحلة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، في يوم الثلثاء سابع عشر شهر جمادي الاخرى سنة إحدى وأربعين وستمائة ، فاختار الله لنا المبيت بالقرية التي تسمى دورة بن سنجار ، وبات أصحابنا ودوابنا في القرية ، وتوجهنا منها أوائل نهار يوم الاربعاء ثامن عشر الشهر المذكور.

فوصلنا إلى مشهد مولانا علي صلوات الله وسلامه عليه قبل ظهر يوم الاربعاء المذكور ، فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جمادي الاخرى المذكورة فوجدت من نفسي إقبالا على الله ، وحضورا وخيرا كثيرا فشاهدت ما يدل على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة ، فحدثني أخي الصالح محمد بن محمد الآوي ضاعف الله سعادته أنه رأى في تلك الليلة في منامه كأن في يدي لقمة وأنا أقول له : هذه من فم مولانا المهدي عليه‌السلام وقد أعطيته بعضها.

٢٠٨

فلما كان سحر تلك الليلة ، كنت على ما تفضل الله به من نافلة الليل فلما أصبحنا به من نهار الخميس المذكور ، دخلت الحضرة حضرة مولانا علي صلوات الله عليه على عادتي ، فورد علي من فضل الله وإقباله والمكاشفة ، ما كدت أسقط على الارض ، ورجفت أعضائي واقدامي ، وارتعدت رعدة هائلة ، على عوائد فضله عندي وعنايته لي ، وما أراني من بره لي ورفدي ، وأشرفت على الفناء ومفارقة دار الفناء والانتقال إلى دار البقاء ، حتى حضر الجمال محمد بن كنيلة ، وأنا في تلك الحال فسلم علي فعجزت عن مشاهدته ، وعن النظر إليه ، وإلى غيره ، وما تحققته بل سالت عنه بعد ذلك ، فعرفوني به تحقيقا وتجددت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة ، و بشارات جميلة.

وحدثني أخي الصالح محمد بن محمد بن محمد الآوي ضاعف الله سعادته ، بعدة بشارات رواها لي منها أنه رأى كأن شخصا يقص عليه في المنام مناما ، ويقول له : قد رأيت كأن فلانا يعني عني (١) وكأنني كنت حاضرا لما كان المنام يقص عليه راكب فرسا وأنت يعني الاخ الصالح الآوي ، وفارسان آخران قد صعدتم جميعا إلى السماء قال : فقلت له : أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم لا أدري ، فقلت : أنت يعني عني ذلك مولانا المهدي صلوات الله وسلامه عليه.

وتوجهنا من هناك لزيارة أول رجب بالحلة ، فوصلنا ليلة الجمعة ، سابع عشر جمادى الآخرة بحسب الاستخارة ، فعرفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة أن شخصا فيه صلاح يقال له : عبدالمحسن ، من أهل السواد قد حضر بالحلة وكر أنه قدلقيه مولانا المهدي صلوات الله عليه ظاهرا في اليقظة ، وقد أرسله إلى عناى؟ برسالة ، فنفذت قاصدا وهو محفوظ بن قرا فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادي الآخرة المقدم ذكرها.

____________________

(١) قد تكرر في الحكاية قوله « يعنى عنى » وأمثاله ، وهي من لغة أهل العراق : المولدين ، وكانه يستعمل « يعني » بمعنى « يكنى » أى يكنى بفلان عني.

٢٠٩

فخلوت بهذا الشيخ عبدالمحسن ، فعرفته فهو رجل صالح ، لا يشك النفس في حديثه ، ومستغن عنا ، وسألته فذكر أن أصله من حصن بشر وأنه انتقل إلى الدولاب الذي بازاء المحولة المعروفة بالمجاهدية ، ويعرف الدولاب بابن أبي الحسن وأنه مقيم هناك ، وليس له عمل بالدولاب ولا زرع ، ولكنه تاجر في شراء غليلات وغيرها ، وأنه كان قد ابتاع غلة من ديوان السرائر وجاء ليقبضها ، وبات عند المعيدية في المواضع المعروفة بالمحبر.

فلما كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيدية ، فخرج بقصد النهر ، والنهر في جهة المشرق ، فما أحس بنفسه إلا وهو في قل السلم ، في طريق مشهد الحسين عليه‌السلام ، في جهة المغرب ، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر شهر جمادي الآخرة من سنة لحدى وأربعين وستمائة التي تقدم شرح بعض ما تفضل الله علي فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

فجلست أريق ماء وإذا فارس عندي ما سمعت له حسا ، ولا وجدت لفرسه حركة ، ولا صوتا ، وكان القمر طالعا ، ولكن كان الضباب كثيرا (١).

فسألته عن الفارس وفرسه ، فقال : كان لون فرسه صدءا وعليه ثياب بيض وهو متحنك بعمامة ومتقلد بسيف.

فقال الفارس لهذا الشيخ عبدالمحسن : كيف وقت الناس؟ قال عبدالمحسن : فظننت أنه يسال عن ذلك الوقت ، قال : فقلت الدنيا عليه ضباب وغبرة ، فقال : ما سألتك عن هذا أنا سألتك عن حال الناس ، قال : فقلت : الناس طيبين مرخصين آمنين في أوطانهم وعلى أموالهم.

فقال : تمضي إلى ابن طاوس ، وتقول له كذا وكذا ، وذكر لي ما قال صلوات الله عليه ثم قال عنه عليه‌السلام : فالوقت قددنا ، فالوقت قد دنا ، قال عبدالمحسن فوقع في قلبي وعرفت نفسي أنه مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام فوقعت على وجهي

____________________

(١) الضباب : ندى كالغبار يغشى الارض وقيل سحاب رقيق كالدخان ، يقال له بالفارسية « مه ».

٢١٠

وبقيت كذلك مغشيا علي إلى أن طلع الصبح ، قلت له : فمن أين عرفت أنه قصد ابن طاوس عني؟ (١) قال : ما أعرف من بني طاوس إلا أنت ، وما في قلبي إلا انه قصد بالرسالة إليك ، قلت : أي شئ فهمت بقوله عليه‌السلام « فالوقت قددنا فالوقت قددنا » هل قصد وفاتي قددنا أم قددنا وقت ظهوره صلوات الله وسلامه عليه؟ فقال : بل قددنا وقت ظهوره صلوات الله عليه.

قال : فتوجهت ذلك الوقت (٢) إلى مشهد الحسين عليه‌السلام وعزمت أنني ألزم بيتي مدة حياتي أعبدالله تعالى ، وندمت كيف ما سألته صلوات الله عليه عن أشياء كنت أشتهي أسأله فيها.

قلت له : هل عرفت بذلك أحدا؟ قال : نعم ، عرفت بعض من كان عرف بخروجي من المعيدية ، وتوهموا أني قد ضللت وهلكت بتأخيري عنهم ، واشتغالي بالغشية التي وجدتها ، ولانهم كانوا يروني طول ذلك النهار يوم الخميس في أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه عليه‌السلام فوصيته أن لا يقول ذلك لاحد أبدا ، وعرضت عليه شيئا فقال : أنا مستغن عن الناس وبخير كثير.

فقمت أنا وهو فلما قام عني نفذت له غطاء وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلة ، فقمت وكنت أنا وهو في الروشن (٣) في خلوة ، فنزلت لانام فسألت الله زيادة كشف في المنام في تلك الليلة أراه أنا.

فرأيت كأن مولانا الصادق عليه‌السلام قد جاءني بهدية عظيمة ، وهي عندي وكأنني ما أعرف قدرها ، فاستيقظت وحمدت الله ، وصعدت الروشن لصلاة نافلة

____________________

(١) هكذا في النسخة والصحيح « قصدني عن ابن طاوس » منه رحمه‌الله ، أقول : قد عرفت أن ناقل الحكاية من أهل السواد ، فاذا عدى « عنى » و « قصد » بعن الجارة يضمنه معنى الكناية كانه قال « كنى بابن طاوس عنى » ومعناه على لغته ظاهر.

(٢) اليوم ، خ.

(٣) الروشن : أصلها فارسية ، قال الفيروز آبادي : « الروشن : الكوة » لكن المراد بقرينة ما بعده : الغرفة المشرفة.

٢١١

الليل ، وهي ليلة السبت ثامن عشر جمادي الآخرة فأصعد فتح (١) الابريق إلى عندي فمددت يدي فلزمت عروته لافرغ على كفي فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عني ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة ، فقلت : لعل الماء نجس فأراد الله أن يصوني عنه فإن لله عزوجل علي عوائد كثيرة أحدها مثل هذا وأعرفها.

فناديت إلى فتح ، وقلت : من أين ملات الابريق؟ فقال : من المصبة (٢) فقلت : هذا لعله نجس فاقلبه واطهره (٣) واملاه من الشط فمضى وقلبه وأنا أسمع صوت الابريق وشطفه وملاه من الشط ، وجاء به فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفي فأمسك ماسك فم الابريق وأداره عني ومنعني منه.

فعدت وصبرت ، ودعوت بدعوات ، وعاودت الابريق وجرى مثل ذلك ، فعرفت أن هذا منع لي من صلاة الليل تلك الليلة ، وقلت في خاطري : لعل الله يريد أن يجري علي حكما وابتلاء غدا ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك ، وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك.

فنمت وأنا جالس ، وإذا برجل يقول لي : يعني عبدالمحسن الذي جاء بالرسالة كأنه ينبغي أن تمشي بين يديه ، فاستيقظت ووقع في خاطري أنني قد قصرت في احترامه وإكرامه ، فتبت إلى الله جل جلاله ، واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك ، وشرعت في الطهارة فلم يمسك أبدا [ فم ] الابريق وتركت على عادتي فتطهرت وصليت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل ، وفهمت أنني ما قمت بحق هذه الرسالة.

فنزلت إلى الشيخ عبدالمحسن ، وتلقيته وأكرمته ، وأخذت له من خاصتي

____________________

(١) فتح : اسم غلامه. منه رحمه‌الله.

(٢) في الاصل المطبوع : المسببة ، بالسين وهو تصحيف.

(٣) في نسخة الفاضل الهندي : « فاشطفه » وهو الاصح لغة ، وبقرينة ما يأتي ، منه رحمه‌الله. أقول : الشطف : الغسل ، وهي لغة سواد أهل العراق ، ليست بأصيلة.

٢١٢

ستانير (١) ومن غير خاصتي خمسة عشر دينارا مما كنت أحكم فيه كمالي (٢) وخلوت به في الروشن ، وعرضت ذلك عليه ، واعتذرت إليه ، فامتنع من قبول شئ اصلا ، وقال : إن معي نحو مائة دينار وما آخذ شيئا ، أعطه لمن هو فقير ، وامتنع غاية الامتناع.

فقلت : إن رسول مثله عليه الصلاة والسلام ، يعطى لاجل الاكرام لمن أرسله لا لاجل فقره وغناه ، فامتنع ، فقلت له « مبارك » أما الخمسة عشر ، فهي من غير خاصتي ، فلا أكرهك على قبولها ، وأما هذه الستة دنانير فهي من خاصتي فلا بد أن تتقبلها مني فكاد أن يؤيسني من قبولها ، فألزمته فأخذها ، وعاد تركها ، فألزمته فأخذها ، وتغديت أنا وهو ، ومشيت بين يديه كما أمرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان ، والحمد لله وصلى الله على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين.

الحكاية الثالثة

في آخر كتاب في التعازي عن آل محمد عليهم‌السلام ووفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تأليف الشريف الزاهد أبي عبدالله محمد بن علي بن الحسن بن عبدالرحمن العلوي الحسيني رضي‌الله‌عنه عن الاجل العالم الحافظ ، حجة الاسلام ، سعيد بن أحمد بن الرضي عن الشيخ الاجل المقرئ خطير الدين حمزة بن المسيب بن الحارث أنه حكى في داري بالظفرية بمدينة السلام في ثامن عشر شهر شعبان سنة أربع وأربعين وخمسمائة قال : حدثني شيخي العالم ابن أبي القاسم (٣) عثمان بن عبدالباقي بن احمد الدمشقي في سابع عشر جمادى الآخرة من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة قال : حدثني الاجل

____________________

(١) ستانير ، كذا في النسخ والظاهر انه مخفف « ستة دنانير » كذا بخط المؤلف رحمه الله ، أقول : بل هو مقطوع لما يأتي بعده من التصريح بذلك ، وهو مثل قولهم « ستى » مخفف « سيدتي ».

(٢) أي مثل مالي.

(٣) كذا في نسخة كشكول المحدث البحراني ، منه رحمه‌الله.

٢١٣

العالم الحجة كمال الدين أحمد بن محمد بن يحيى الانباري بداره بمدينة السلام ليلة عاشر شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة.

قال : كنا عند الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة في رمضان بالسنة المقدم ذكرها ، ونحن على طبقة ، وعنده جماعة ، فلما أفطر من كان حاضرا وتقوض (١) أكثر من حضر خاصرا ، (٢) أردنا الانصراف ، فأمرنا بالتمسي عنده ، فكان في مجلسه في تلك الليلة شخص لا أعرفه ، ولم أكن رأيته من قبل ، ورأيت الوزير يكثر إكرامه ، ويقرب مجلسه ، ويصغي إليه ، ويسمع قوله ، دون الحاضرين.

فتجارينا الحديث والمذاكرة ، حتى أمسينا وأردنا الانصراف ، فعرفنا بعض أصحاب الوزير أن الغيث ينزل ، وأنه يمنع من يريد الخروج ، فأشار الوزير أن نمسي عنده فأخذنا نتحادث ، فأفضى الحديث حتى تحادثنا في الاديان والمذاهب ورجعنا إلى دين الاسلام ، وتفرق المذاهب فيه.

فقال الوزير : أقل طائفة مذهب الشيعة ، وما يمكن أن يكون أكثر منهم في خطتنا هذه ، وهم الاقل من أهلها ، وأخذ يذم أحوالهم ، ويحمد الله على قتلهم في أقاصي الارض.

فالتفت الشخص الذي كان الوزير مقبلا عليه ، مصغيا إليه ، فقال له : أدام الله أيامك أحدث بما عندي فيما قد تفاوضتم فيه أو أعرض عنه ، فصمت الوزير ، ثم قال : قل : ما عندك.

فقال : خرجت مع والدي سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ، من مدينتنا وهي المعروفة بالباهية ، ولها الرستاق الذي يعرفه التجار ، وعدة ضياعها ألف ومائتا ضيعة ، في كل ضيعة من الخلق ما لا يحصي عددهم إلا الله ، وهم قوم نصارى ، وجميع

____________________

(١) يقال : تقوض الحلق والصفوف : انتقضت وتفرقت.

(٢) في الاصل المطبوع : « من حضر حاضرا » وهو تصحيف ، والصحيح ما في الصلب ومعناه أنه : قام أكثر أهل المجلس وكل منهم وضع يده على خاصرته ، من طول الجلوس وكسالته.

٢١٤

الجزائر التي كانت حولهم ، على دينهم ومذهبهم ، ومسير بلادهم وجزائرهم مدة شهرين ، وبينهم وبين البر مسير عشرين يوما وكل من في البر من الاعراب وغيرهم نصارى وتتصل بالحبشة والنوبة ، وكلهم نصارى ، ويتصل بالبربر ، وهم على دينهم فان حد هذا كان بقدر كل من في الارض ، ولم نضف إليهم الافرنج والروم.

وغير خفي عنكم من بالشام والعراق والحجاز من النصارى ، واتفق أننا سرنا في البحر ، وأوغلنا ، وتعدينا الجهات التي كنا نصل إليها ، ورغبنا في المكاسب ولم نزل على ذلك حتى صرنا إلى جزائر عظيمة كثيرة الاشجار ، مليحة الجدران فيها المدن الملدودة (١) والرساتيق.

وأول مدينة وصلنا إليها وأرسي المراكب بها ، وقد سألنا الناخداه أي شئ هذه الجزيرة؟ قال : والله إن هذه جزيرة لم أصل إليها ولا أعرفها ، وأنا وأنتم في معرفتها سواء.

فلما أرسينابها ، وصعد التجار إلى مشرعة تلك المدينة ، وسألنا ما اسمها؟ فقيل هي المباركة ، فسألنا عن سلطانهم وما اسمه؟ فقالوا : اسمه الطاهر ، فقلنا وأين سرير مملكته فقيل بالزاهرة ، فقلنا : وأين الزاهرة؟ فقالوا : بينكم وبينها مسيرة عشر ليال في البحر ، وخمسة وعشرين ليلة في البر ، وهم قوم مسلمون.

فقلنا : من يقبض زكاة ما في المركب لنشرع في البيع والابتياع؟ فقالوا : تحضرون عند نائب السلطان ، فقلنا : وأين أعوانه؟ فقالوا : لا أعوان له ، بل هو في داره وكل من عليه حق يحضر عنده ، فيسلمه إليه.

فتعجبنا من ذلك ، وقلنا : ألا تدلونا عليه؟ فقالوا : بلى ، وجاء معنا من أدخلنا داره ، فرأيناه رجلا صالحا عليه عباءة ، وتحته عباءة وهو مفترشها ، وبين يديه دواة يكتب منها من كتاب ينظر إليه ، فسلمنا عليه فرد علينا السلام وحيانا و قال : من أين أقبلتم؟ فقلنا : من أرض كذا وكذا ، فقال : كلكم؟ فقلنا : لا ، بل

____________________

(١) الملدودة : معناها أن تلك المدن قد جعلت فيها لديدة كثيرة : وهي الروضة الخضراء الزهراء.

٢١٥

فينا المسلم واليهودي والنصراني ، فقال : يزن اليهودي جزيته والنصراني جزيته. ويناظر المسلم عن مذهبه.

فوزن والدي عن خمس نفر نصارى : عنه وعني وعن ثلاثة نفر كانوا معنا ثم وزن تسعة نفر كانوا يهودا وقال للباقين : هاتوا مذاهبكم ، فشرعوا معه في مذاهبهم.

فقال : لستم مسلمين وإنما أنتم خوارج وأموالكم محل للمسلم المؤمن ، وليس بمسلم من لم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر وبالوصي والاوصياء من ذريته حتى مولانا صاحب الزمان صلوات الله عليهم.

فضاقت بهم الارض ولم يبق إلا أخذ أموالهم.

ثم قال لنا : يا أهل الكتاب لا معارضة لكم فيما معكم ، حيث أخذت الجزية منكم ، فلما عرف أولئك أن أموالهم معرضة للنهب ، سألوه أن يحتملهم إلى سلطانهم فأجاب سؤالهم ، وتلا : « ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ».

فقلنا للناخداه والربان (١) وهو الدليل : هؤلاء قوم قد عاشرناهم وصاروا رفقة ، وما يحسن لنا أن نتخلف عنهم أينما يكونوا نكون معهم ، حتى نعلم ما يستقر حالهم عليه؟ فقال الربان : والله ما أعلم هذا البحر أين المسير فيه ، فاستاجرنا ربانا ورجالا ، وقلعنا القلع (٢) وسرنا ثلاثة عشر يوما بلياليها حتى كان قبل طلوع الفجر ، فكبر الربان فقال : هذه والله أعلام الزاهرة ومنائرها وجدرها إنها قد بانت ، فسرنا حتى تضاحى النهار.

فقدمنا إلى مدينة لم تر العيون أحسن منها ولا أحق (٣) على القلب ، ولا أرق من نسيمها ولا أطيب من هوائها ، ولا أعذب من مائها ، وهي راكبة البحر ، على جبل من صخر أبيض ، كأنه لون الفضة وعليها سور إلى ما يلي البحر ، والبحر يحوط الذي يليه منها ، والانهار منحرفة في وسطها يشرب منها أهل الدور والاسواق

____________________

(١) الناخدا ، مأخوذ من الفارسية ومعناه معروف والاربان كرمان : رئيس الملاحين.

(٢) القلع : شراع السفينة ، وقلعنا : أي رفعنا وأصلحنا الشراع لتسير السفينة.

(٣) أخف ، خ.

٢١٦

وتأخذ منها الاحمامات وفواضل الانهار ترمى في البحر ، ومدى الانهار فرسخ ونصف ، وفي تحت ذلك الجبل بساتين المدينة وأشجارها ، ومزارعها عند العيون وأثمار تلك الاشجار لا يرى أطيب منها ولا أعذب ، ويرعى الذئب والنعجة عيانا ولو قصد قاصد لتخلية دابة في زرع غيره لمارعته ، ولا قطعت قطعة حمله ولقد شاهدت السباع والهوام رابضة في غيض تلك المدينة ، وبنو آدم يمرون عليها فلا تؤذيهم.

فلما قدمنا المدينة وارسى المركب فيها ، وما كان صحبنا من الشوابي و الذوابيح من المباركة بشريعة الزاهرة ، صعدنا فرأينا مدينة عظيمة عيناء كثيرة الخلق ، وسيعة الربقة ، وفيها الاسواق الكثيرة ، والمعاش العظيم ، وترد إليها الخلق من البر والبحر ، وأهلها على أحسن قاعدة ، لا يكون على وجه الارض من الامم والاديان مثلهم وأمانتهم ، حتى أن المتعيش بسوق يرده إليه من يبتاع منه حاجة إما بالوزن أو بالذراع فيبايعه عليها ثم يقول : أيا هذا زن لنفسك واذرع لنفسك.

فهذه صورة مبايعاتهم ، ولا يسمع بينهم لغو المقال ، ولا السفه ولا النميمة ، ولا يسب بعضهم بعضا ، وإذا نادى المؤذن الاذان ، لا يتخلف منهم متخلف ذكرا كان أو أنثى. إلا ويسعى إلى الصلاة ، حتى إذا قضيت الصلاة للوقت المفروض ، رجع كل منهم إلى بيته حتى يكون وقت الصلاة الاخرى فيكون الحال كما كانت.

فلما وصلنا المدينة ، وأرسينا بمشرعتها ، أمرونا بالحضور إلى عند السلطان فحضرنا داره ، ودخلنا إليه إلى بستان صور في وسطه قبة من فصب ، والسلطان في تلك القبة ، وعنده جماعة وفي باب القبة ساقية تجري.

فوافينا القبة ، وقد أفام المؤذن الصلاة ، فلم يكن أسرع من أن امتلا البستان بالناس ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بهم جماعة ، فلا والله لم تنظر عيني أخضع منه لله ، ولا ألين جانبا لرعيته ، فصلى من صلى مأموما.

فلما قضيت الصلاة التفت إلينا وقال : هؤلاء القادمون؟ قلنا : نعم ، وكانت تحية الناس له أو مخاطبتهم له « يا ابن صاحب الامر » فقال : على خير مقدم.

٢١٧

ثم قال : أنتم تجار أو ضياف؟ فقلنا : تجار ، فقال : من منكم المسلم ، ومن منكم اهل الكتاب؟ فعرفناه ذلك؟ فقال : إن الاسلام تفرق شعبا فمن اي قبيل أنتم؟ وكان معنا شخص يعرف بالمقري ابن دربهان بن أحمد (١) الاهوازي ، يزعم أنه على مذهب الشافعي ، فقال له : أنا رجل شافعي قال : فمن على مذهبك من الجماعة؟ قال : كلنا إلا هذا حسان بن غيث فانه رجل مالكي.

فقال : أنت تقول بالاجماع؟ قال : نعم ، قال : إذا تعمل بالقياس ، ثم قال : بالله يا شافعي تلوت ما أنزل الله يوم المباهلة؟ قال : نعم ، قال : ما هو؟ قال قوله تعالى : « قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين » (٢).

فقال : بالله عليك من أبناء الرسول ومن نساؤه ومن نفسه يابن دربهان؟ فأمسك ، فقال : بالله هل بلغك أن غير الرسول والوصي والبتول والسبطين دخل تحت الكساء؟ قال : لا ، فقال : والله لم تنزل هذه الآية إلا فيهم ، ولا خص بها سواهم.

ثم قال : بالله عليك يا شافعي ما تقول فيمن طهره الله بالدليل القاطع ، هل ينجسه المختلفون؟ قال : لا ، قال : بالله عليك هل تلوت « إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا » (٣) قال : نعم ، قال : بالله عليك من يعني بذلك؟ فأمسك ، فقال : والله ما عنى بها إلا أهلها.

ثم بسط لسانه وتحدث بحديث أمضى من السهام ، وأقطع من الحسام فقطع الشافعي ووافقه فقام عند ذلك فقال : عفوا يا ابن صاحب الامر انسب إلي نسبك ، فقال : أنا طاهر بن محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي الذي أنزل الله فيه : « وكل شئ

____________________

(١) اسمه دربهان بن أحمد ، كذا في كشكول الشيخ يوسف البحريني ، منه رحمه‌الله (٢) آل عمران : ٦١.

(٣) الاحزاب : ٣٣.

٢١٨

أحصيناه في إمام مبين » (١) هو والله الامام المبين ، ونحن الذين أنزل الله في حقنا « ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم » (٢).

يا شافعي نحن أهل البيت نحن ذرية الرسول ، ونحن أولو الامر ، فخر الشافعي مغشيا عليه ، لما سمع منه ، ثم أفاق من غشيته ، وآمن به ، وقال : الحمد لله الذي منحني بالاسلام ، ونقلني من التقليد إلى اليقين.

ثم أمر لنا باقامة الضيافة ، فبقينا على ذلك ثمانية أيام ، ولم يبق في المدينة إلا من جاء إلينا ، وحادثنا ، فلما انقضت الايام الثمانية سأله أهل المدينة أن يقوموا لنا بالضيافة ، ففتح لهم في ذلك ، فكثرت علينا الاطعمة والفواكه ، وعملت لنا الولائم ، ولبثنا في تلك المدينة سنة كاملة.

فعلمنا وتحققنا أن تلك المدينة مسيرة شهرين كاملة برا وبحرا ، وبعدها مدينة اسمها الرائقة ، سلطانها القاسم بن صاحب الامر عليه‌السلام مسيرة ملكها شهرين وهي على تلك القاعدة ولها دخل عظيم ، وبعدها مدينة اسمها الصافية ، سلطانها إبراهيم بن صاحب الامر عليه‌السلام بالحكام وبعدها مدينة أخرى اسمها ظلوم سلطانها عبدالرحمان بن صاحب الامر عليه‌السلام ، مسيرة رستاقها وضياعها شهران ، وبعدها مدينة أخرى اسمها عناطيس ، سلطانها هاشم بن صاحب الامر عليه‌السلام وهي أعظم المدن كلها وأكبرها وأعظم دخلا ، ومسيرة ملكها اربعة أشهر.

فيكون مسيرة المدن الخمس والمملكة مقدار سنة لا يوجد في أهل تلك الخطط والمدن والضياع والجزائر غير المؤمن الشيعي الموحد القائل بالبراءة والولاية الذي يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، سلاطينهم أولاد إمامهم ، يحكمون بالعدل وبه يأمرون ، وليس على وجه الارض مثلهم ، ولو جمع أهل الدنيا ، لكانوا أكثر عددا منهم على اختلاف الاديان والمذاهب.

ولقد أقمنا عندهم سنة كاملة نترقب ورود صاحب الامر إليهم ، لانهم زعموا

____________________

(١) يس : ١٢.

(٢) آل عمران : ٣٤.

٢١٩

أنها سنة وروده ، فلم يوفقنا الله تعالى للنظر إليه ، فأما ابن دربهان وحسان فانهما أقاما بالزاهرة يرقبان رؤيته ، وقد كنا لما استكثرنا هذه المدن وأهلها ، سألنا عنها فقيل : إنها عمارة صاحب الامر عليه‌السلام واستخراجه.

فلما سمع عون الدين ذلك ، نهض ودخل حجرة لطيفة ، وقد تقضى الليل فأمر باحضارنا واحدا واحدا ، وقال : إياكم إعادة ما سمعتم أو إجراءه على ألفاظكم وشدده وتأكد علينا ، فخرجنا من عنده ولم يعد أع حد منا مما سمعه حرفا واحدا حتى هلك.

وكنا إذا حضرنا موضعا واجتمع واحدنا بصاحبه ، قال : أتذكر شهر رمضان فيقول : نعم ، سترا لحال الشرط.

فهذا ما سمعته ورويته ، والاحمد له وحده ، وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطاهرين ، والحمد لله رب العالمين.

قلت : وروى هذه الحكاية مختصرا الشيخ زين الدين علي بن يونس العاملي البياضي في الفصل الخامس عشر من الباب الحادي عشر من كتاب « الصراط المستقيم » وهو أحسن كتاب صنف في الامامة عن كمال الدين الانباري الخ وهو صاحب رسالة « الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح » التي نقلها العلامة المجلسي بتمامها في السماء والعالم.

وقال السيد الاجل علي بن طاوس ، في أواخر كتاب جمال الاسبوع ، وهو الجزء الرابع من السمات والمهمات بعد سوقه الصلوات المهدوية المعروفة التي أولها : اللهم صل على محمد المنتجب في الميثاق ، وفي آخرها : وصل على وليك وولاة عهدك والائمة من ولده ، وزد في أعمارهم ، وزد في آجالهم ، وبلغهم أقصى آمالهم دينا ودنيا وآخرة الخ.

والدعاء الآخر مروي عن الرضا عليه‌السلام يدعى به في الغيبة أوله « اللهم ادفع عن وليك » وفي آخره « اللهم صل على ولاة عهدك في الائمة من بعده » الخ.

قال بعد كلام له في شرح هذه الفقرة ما لفظه : ووجدت رواية متصلة الاسناد

٢٢٠