الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

السيد علي الحسيني الصدر

الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-978-002-7
الصفحات: ٤٧٢

الفضيلة الكبرى :

١ ـ ففي حديث أبي بصير ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام ، قال : قال لي :

«يا أبا محمد ، كأني أرى نزول القائم عليه‌السلام في مسجد السهلة بأهله وعياله.

قلت : يكون منزله جعلت فداك؟

قال : نعم ، كان فيه منزل إدريس ، وكان منزل إبراهيم خليل الرحمان ، وما بعث اللّه نبيّاً إلاّ وقد صلّى فيه ، وفيه مسكن الخضر ، والمقيم فيه كالمقيم في فسطاط رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما من مؤمن ولا مؤمنة إلاّ وقلبه يحنّ اليه ، وفيه صخرة فيها صورة كلّ نبي.

وما صلّى فيه أحد فدعا اللّه بنيّة صادقة إلاّ صرفه اللّه بقضاء حاجته.

وما من أحد استجاره الاّ أجاره اللّه مما يخاف.

قلت : هذا لهو الفضل.

قال : نزيدك؟

قلت : نعم.

قال : هو من البقاع التي احبّ اللّه أن يدعى فيها ، وما من يوم ولا ليلة إلاّ والملائكة تزور هذا المسجد ، يعبدون اللّه فيه. أما إنّي لو كنت بالقرب منكم ما صلّيت صلاة إلاّ فيه.

يا أبا محمد ، وما لم أصف أكثر.

قلت : جعلت فداك ، لا يزال القائم فيه أبداً؟

قال : نعم.

قلت : فمن بعده؟

٣٦١

قال : هكذا من بعده الى انقضاء الخلق (١).

٢ ـ وفي حديث العلاء ، قال : قال أبو عبداللّه عليه‌السلام :

«تصلّي في المسجد الذي عندكم الذي تسمّونه مسجد السهلة ، ونحن نسميه مسجد الشرى؟

قلت : إنّي لأصلي فيه جعلت فداك.

قال : ائته ، فانّه لم يأته مكروب إلاّ فرّج اللّه كربته ، أو قال : قضى حاجته ، وفيه زبر جدة فيها صورة كلّ نبيّ وكلّ وصي» (٢).

٣ ـ وفي حديث الحضرمي ، عن أبي عبداللّه عليه‌السلام او عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : أيُّ بقاع اللّه أفضل بعد حرم اللّه جلّ وعزّ وحرم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال : «الكوفة يا أبابكر. هي الزكيّة الطاهرة؛ فيها قبور النبيّين المرسلين وغير المرسلين والأوصياء الصادقين.

وفيها مسجد سهيل الذي لم يبعث اللّه نبيّاً إلاّ وقد صلّى فيه ، ومنه يظهر عدل اللّه ، وفيها يكون قائمه والقوّام من بعده ، وهي منازل النبيّين والأوصياء والصالحين» (٣).

وفي هذا المسجد المبارك دعا الامام الصادق عليه‌السلام لخلاص المرأة الصالحة في حديث بشار المكاري المعروف (٤).

وفي هذا المسجد حصلت التشرفات الشريفة للأولياء والمؤمنين ، وعباد اللّه الصالحين.

__________________

(١) بحار الانوار : ج ١٠٠ ص ٤٣٦ ب ٧ ح ٧.

(٢) بحار الانوار : ج ١٠٠ ص ٤٣٧ ب ٧ ح ٩.

(٣) بحار الانوار : ج ١٠٠ ص ٤٤٠ ب ٧ ح ١٧.

(٤) بحار الانوار : ج ٤٧ ص ٣٧٩ ب ١١ ح ١٠١.

٣٦٢

البحث الثامن

دولة الامام المهدي عليه‌السلام

٣٦٣
٣٦٤

هي هي دولة اللّه تعالى ، ودولة أهل البيت عليهم‌السلام ، والدولة الكريمة ، والدولة الشريفة ، ودولة الحق ، كما جاء تسميتها بها في الاحاديث المباركة.

ففي حديث الامام الصادق عليه‌السلام :

«فأين دولة اللّه؟ اما هو قائم واحد» (١).

وفي الحديث الآخر عنه عليه‌السلام :

«ودولتنا في آخر الدهر تظهر» (٢).

وفي دعاء الافتتاح الشريف كما في الحديث أيضاً :

«اللهم انا نرغب اليك في دولة كريمة» (٣).

وفي الزيارة المباركة للامام المهدي عليه‌السلام :

«السلام عليك ايها المؤمّل لاحياء الدولة الشريفة» (٤).

وفي حديث توصيف أصحابه عليه‌السلام :

«منتظرون لدولة الحق» (٥).

وبدراستها تعرف أنها دولة السماء في الأرض ، وأفضل دول العالم منذ خلق اللّه تعالى آدم عليه‌السلام.

في هذه الدولة يتبدل الخوف الى الأمن ، والفقر الى الغنى ، والحزن الى

__________________

(١) البحار : ج ٥١ ص ٥٤ ب ٥ ح ٣٨.

(٢) البحار : ج ٥١ ص ١٤٣ ب ٦ ح ٣.

(٣) البحار : ج ٩١ ص ٦ ب ٢ ح ٢.

(٤) البحارج ١٠٢ ص ٨٦ ب ٧ ح ١.

(٥) البحار : ج ٥٢ ص ١٢٦ ب ٢٢ ح ٢٠.

٣٦٥

السرور ، والجحيم الى النعيم ، والظلم الى العدل ، والجهل الى العلم ، والفساد الى الصلاح ، والضعف الى القوّة ، والذبول الى النضارة ، ويكون فيها كل الخيرات والخيرات كلها.

وما أجمل ما جاء من وصفها في الحديث :

«وفي أيام دولته تطيب الدنيا واهلها» (١).

طيباً لا كدر فيه ، وصلاحاً لا فساد فيه ، وسَعداً لا نحس فيه.

فهي الحَريّة بأن يكون عصرها أفضل العصور ، عصر النور ، عصر العلم ، عصر القدرة ، عصر السعادة ، عصر السلامة ، عصر المعجزات ، عصر الخير وخير عصر.

وفي الحديث :

«يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ونوراً» (٢).

كل ذلك ببركة دولة الامام المهدي عليه‌السلام في قيادته الالهية الحكيمة. تلك القيادة التي يهيمن بها من عاصمته العصماء على جميع الاماكن والأرجاء؛ هيمنةً تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته.

ففي حديث أبي بصير ، قال : قال أبو عبداللّه عليه‌السلام :

«إنه إذا تناهت الاُمور إلى صاحب هذا الأمر ، رفع اللّه تبارك وتعالى له كلَّ منخفض من الأرض ، وخفّض له كلَّ مرتفع حتّى تكون الدُّنيا عنده بمنزلة راحته ، فأيّكم لو كانت في راحته شعرة لم يبصرها» (٣).

__________________

(١) المهدي : ص ٢٢٦.

(٢) الغيبة (للنعماني) : ص ٢٣٧.

(٣) البحار : ج ٥٢ ص ٣٢٨ ب ٢٧ ح ٤٦.

٣٦٦

وفي الحديث الآخر :

«إن الدنيا تمتثل للامام مثل فلقة الجوز فلا يعزب عنه منها شيء ، وانه يتناولها من اطرافها كما يتناول احدكم من فوق مائدته ما يشاء» (١).

وفي الحديث العلوي قال :

«قد أعطانا ربّنا عزّ وجلّ علمنا للاسم الأعظم الّذي لو شئنا خرقت السماوات والأرض والجنّة والنّار ، ونعرج به إلى السماء ونهبط به الأرض ، ونغرّب ونشرّق ، وننتهي به إلى العرش فنجلس (٢) عليه بين يدي اللّه عزّ وجلّ ، ويطيعنا كلّ شيء ، حتّى السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدّوابّ والبحار والجنّة والنار؛ أعطانا اللّه ذلك كلّه بالاسم الاعظم الّذي علّمنا وخصّنا به.

ومع هذا كلّه نأكل ونشرب ونمشي في الأسواق ، ونعمل هذه الاشياء بأمر ربّنا ، ونحن عباد اللّه المكرمون الّذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون» (٣).

فقيادة هذه الدولة ، يمدها رب الأرض والسماء بأفضل ما كان يمدّ به الاولياء في ولايتهم التكوينية وقدرتهم الربّانية.

ولا شك أن اللّه تعالى قادر على كل شيء ، وتنفذ قدرته في كل شيء.

وَهَب يسيراً من قدرته لسليمان بن داود عليهما‌السلام ، فسخّر بها المخلوقات.

وأعطى حرفاً من إسمه الأعظم لآصف بن برخياء فأتى بعرش بلقيس من سبأ بلمح البصر.

__________________

(١) الاختصاص : ص ٢١٧.

(٢) هذا كناية عن شدة قربهم المعنوي وعظم منزلتهم عند الله ، أو كناية عن احاطتهم العلمية بامور السماوات والارضين بافاضة الله تعالى اياهم أو قدرتهم بها ومطاعيتهم عندها.

(٣) البحار : ج ٢٦ ص ٧ ب ١٣ ح ١.

٣٦٧

والامام المهدي عليه‌السلام منحه اللّه تعالى ما فوق ذلك ، وخصّه بأعظم ما هنالك. متّعنا اللّه تعالى بدولته ، وأقرّ عيوننا بطلعته.

فلنشر الى غيضٍ من فيض سِمات تلك الدولة السامية في الصحائف الآتية :

١ ـ نظام الدولة

نظام دولة الامام المهدي عليه‌السلام نظام فريدٌ في نوعه ، قِمّةٌ في سموّه ، موفّق في جميع المجالات ، متقنٌ في كافّة المهمات.

نظام يقوده إمام معصوم ، لا زلل فيه ولا خطل ، متصلٌ بربّ السماء ، ومُلهم بأصح الآراء ، يؤيّده روح القدس والروح الأمين ، ويُرافقه ملائكة اللّه المقرّبين.

نظامٌ لا مثيل له ، بل هو خلافة اللّه في أرضه ، وحكومة اللّه في خلقه ، عظيمٌ كعظمة السماء ، وثابت كثُبات الأرض ، في أتمّ التقدير وأكمل التدبير.

وذلك لأنه النظام الالهي الأمثل الذي نظّمه له اللّه الحكيم الذي أتقن كل شيء صُنعَه ، وعرف ما يُصلح خلقَه ، ورسمه له اللّه الخبير الذي أحاط بكل شيء علماً ، ونفذ في كل شيء قدرةً وحُكما.

ويكفيك دليلاً على إتقان هذا النظام وصدوره من اللّه العلّام ، أحاديث ربّانيّة علم الامام وبيان مارسمه اللّه له من المهام ، وروايات دولته ، ونصوص الوصية الواصلة اليه من جدّه ، مثل : حديث الامام الصادق عليه‌السلام قال :

«إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاباً قبل وفاته ، فقال : يا محمّد! هذه وصيّتك إلى النجبة من أهلك.

قال : وما النجبة يا جبرئيل؟

فقال : عليّ بن أبي طالب وولده عليهم‌السلام ، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب.

٣٦٨

فدفعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمره أن يفكَّ خاتماً منه ويعمل بما فيه.

ففكَّ أمير المؤمنين عليه‌السلام خاتماً وعمل بما فيه.

ثمَّ دفعه إلى ابنه الحسن عليه‌السلام ، ففكَّ خاتماً وعمل بما فيه.

ثمَّ دفعه إلى الحسين عليه‌السلام ، ففكّ خاتماً (١) فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة ، فلا شهادة لهم إلّا معك وإشرِ نفسك (أي بعها) للّه عزّ وجلّ ، ففعل.

ثمَّ دفعه إلى عليّ بن الحسين عليه‌السلام ، ففكَّ خاتماً فوجد فيه أن اطرق واصمت وألزم منزلك واعبد ربّك حتى يأتيك اليقين ، ففعل.

ثمَّ دفعه إلى محمّد بن عليّ عليه‌السلام ، ففكَّ خاتماً فوجد فيه : حدِّث الناس وافتهم ولا تخافنَّ إلّا اللّه عزَّ وجلَّ ، فإنَّه لا سبيل لأحد عليك [ففعل].

ثمَّ دفعه إلى ابنه جعفر ، ففكَّ خاتماً فوجد فيه : حدِّث الناس وافتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدِّق آبائك الصالحين ولا تخافنَّ إلّا اللّه عزَّ وجلَّ وأنت في حرز وأمان ، ففعل.

ثمَّ دفعه إلى ابنه موسى ، وكذلك يدفعه موسى إلى الذي بعده ، ثمَّ كذلك إلى قيام المهدي صلّى اللّه عليه» (٢).

وأضاف في الحديث الرابع من الباب :

فقلت لأبي الحسن عليه‌السلام : بأبي أنت وامّي ، ألا تذكرُ ما كان في الوصية؟

فقال :

__________________

(١) لعل الخواتيم كانت متفرقة في مطاوي الكتاب ، بحيث كلما نشرت طائفة من مطاويه انتهى النشر الى خاتم يمنع من نشر ما بعدها من المطاوي إلّا أن يفض الخاتم ، كما في هامش الكافي.

(٢) اصول الكافي : ج ١ ص ٢٨٠ ح ٢.

٣٦٩

«سنن اللّه وسنن رسوله.

فقلت : أكان في الوصيّة توثبهم (١) وخلافهم على أمير المؤمنين عليه‌السلام؟

فقال : نعم ، واللّه شيئاً شيئاً وحرفاً حرفاً.

أما سمعت قول اللّه عزَّ وجلَّ : (إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين) (٢)؟» (٣).

وهذا كتاب دستوري كامل للامام المعصوم في أعماله وأقواله وافعاله وسيرته وفي نظام دولته.

مضافاً الى عمود النور الالهي الذي به يسمع الامام عليه‌السلام ويرى ما يحتاج اليه من أمور عوالمه ، مما تلاحظه في أحاديثه مثل أحاديث البصائر :

١ ـ اسحاق الحريري (٤) ، قال كنت عند أبي عبداللّه عليه‌السلام ، فسمعته وهو يقول :

«انّ للّه عموداً من نور ، حجبه اللّه عن جميع الخلايق. طرفه عند اللّه وطرفه الاخر في اذن الامام ، فاذا اراد اللّه شيئاً اوحاه في اذن الامام».

٢ ـ الحسن بن العبّاس بن جريش عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : قال ابو عبداللّه عليه‌السلام :

«... نور كهيئة العين على راس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاوصياء ، لا يريد احد منّا علم امر من امر الارض او امر من امر السّماء الى الحجب الّتي بين اللّه وبين العرش الّا رفع طرفه الى ذلك النّور ، فراى تفسير الّذي أراد فيه مكتوباً».

__________________

(١) «التوثب» ، الاستيلاء على الشيء ظلماً.

(٢) سورة يس : الآية ١٢.

(٣) اصول الكافي : ج ١ ص ٢٨٣ ح ٤.

(٤) الجريري ، هكذا في البحار.

٣٧٠

٣ ـ اسحاق القمّي ، قال : قلت لابي جعفر عليه‌السلام : جعلت فداك ، ما قدر الامام؟

قال : «يسمع في بطن امّه ، فاذا وصل الى الارض كان على منكبه الايمن مكتوباً : (وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته وهو السّميع العليم) (١).

ثمّ يبعث ايضاً له عموداً من نور تحت بطنان العرش الى الارض ، يرى فيه اعمال الخلايق كلّها.

ثمّ يتشعّب له عمود آخر من عند اللّه الى اذن الامام كلّما احتاج الى مزيد افرغ فيه افراغاً» (٢).

وعليه فالقانون الأساسي والنظام الحكومي لدولة الامام المهدي عليه‌السلام ، قانون ونظام الهي حكيم خالص ، في جميع أرجاء الكون ومجالات الحياة.

وقد عرفت من آيات البشائر المتقدمة أنه مبنيٌ على عظيم النعم والتمكّن الأتم ، حيث قال عز اسمه : (ونُريد أن نَمُنَّ ...) (٣).

وقال عز من قائل : (ولَيمكننَّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم ...) (٤).

فتكون الحياة في دولته الشريفة هي الحياة الطيبة ، حياة الجنّة وعيشة السعادة ، بنظام اللّه وتدبيره ، وببركة قيادة الامام المهدي عليه‌السلام الذي وجوده لطفٌ وتصرفه لطف آخر.

ولا عجب في ذلك فإنّ أهل البيت عليهم‌السلام «مساكن بركة اللّه» ، كما في الزيارة

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١١٥.

(٢) بصائر الدرجات : ص ٤٣٩ ب ١٢ ح ١ ، ٥ ، ٦.

(٣) سورة القصص : الآية ٥.

(٤) سورة النور : الآية ٥٦.

٣٧١

الجامعة ، أي محل استقرار البركة التي هي كثرة النعمة والخير والكرم ، وزيادة التشريف والكرامة والنماء والسعادة.

وفي حديث الامام الصادق عليه‌السلام :

«نحن أهل بيت الرحمة ، وبيت النعمة ، وبيت البركة» (١).

بارك اللّه تعالى في كل ما يخصهم ويختص بهم ، والشواهد ظاهرة باهرة.

٢ ـ قضاء الدولة

قضاء دولة الامام المهدي عليه‌السلام ، قضاءٌ عادل حق ، ومصيبٌ كبد الحقيقة. فانه عليه‌السلام يقضي ويحكم بعلم الامامة وبما يلهمه اللّه تعالى ، المطلع على الحقائق والضمائر ، والواقف على جميع الافعال في الظواهر والسرائر.

ومن الثابت انه عليه‌السلام يقضي بعلمه الالهي وتوسّمه الربّاني. فيعطي كلَّ نفسٍ حقها من غير حاجة الى إنتظار شهادة الشهود أو وسائل الاثبات.

ومن الواضح في حكمة الحُكم ، أنه عليه‌السلام حيث يريد أن يملأ الارض قسطاً وعدلاً ، ويقضي على كل ظلم وجور ، ويأخذ حق المظلوم من الظالم لا يُتوقّع منه ، بل لا يناسبه أن ينتظر حتى يرفع المظلوم اليه شكواه ويقدم له دعواه ، أو يأتي الشهود ليشهدوا بحقٍ مجحود ، ولعل هناك من لا يستطيع إثبات حقه أو يعجز عن ردّ ظالمه.

بل من تمام الحكمة أن يحكم هو بما أراه اللّه تعالى بإلهامه ونوّره بعلمه ، ليطهّر جميع البلاد من لوث الظلم والفساد.

وقد أمدّه اللّه القدير بكفايته ، وتولّاه برعايته ، وأوضح له الحقّ الباهر كالصبح الزاهر ، بل أوضح ذلك ببركته عليه‌السلام لولاته والقضاة المبعوثين من قِبَله

__________________

(١) البحار : ج ٢٦ ص ٢٥٤ ب ٤ ح ٢٧.

٣٧٢

ايضاً ، كما يستفاد ذلك من الأحاديث المباركة.

ففي تفسير قوله تعالى : (إنّ في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين) (١) ، المفسّر بأهل البيت عليهم‌السلام (٢) ، قد جاء في أحاديث تفسيره كيفية حكم الامام المهدي عليه‌السلام.

ففي حديث الامام الصادق عليه‌السلام :

«اذا قام قائم آل محمّد عليه‌السلام ، حكم بين النّاس بحكم داود ، لا يحتاج إلى بيّنة. يلهمه اللّه تعالى فيحكم بعلمه ، ويخبر كلّ قوم ما استنبطوه ، ويعرف وليّه من عدوّه بالتوسّم. قال اللّه عزّ وجلّ : (إنّ في ذلك لآياتٍ للمتوسّمين وإنّها لبسبيلٍ مقيم) (٣).

وفي حديثه الآخر :

«اذا قام القائم عليه‌السلام ، لم يقم بين يديه أحد من خلق الرّحمن إلّا عرفه ، صالح هو أو (٤) طالح ، و [لأنّ] (٥) فيه آية للمتوسّمين ، وهي السّبيل (٦) المقيم» (٧).

وفي النهج الشريف :

«فيريكم كيف عدل السيرة ، ويحي ميّت الكتاب والسنّة» (٨) (٩). وفي الحديث الآخر :

__________________

(١) سورة الحجر : الآية ٧٥.

(٢) اُصول الكافي : ج ١ ص ٢١٨ ح ١.

(٣) كنز الدقائق : ج ٧ ص ١٥٠.

(٤) في المصدر : «أم».

(٥) من المصدر.

(٦) في المصدر : «بسبيل».

(٧) كنز الدقائق : ج ٧ ص ١٥١.

(٨) نهج البلاغة : الخطبة ١٣٨.

(٩) منهاج البراعة : ج ٨ ص ٣٤٦.

٣٧٣

«لا يذهب الدنيا حتى يخرج رجل منّي ، يحكم بحكومة آل داود؛ لا يسأل عن بيّنة ، يعطى كل نفس حكمها» (١).

وفي الحديث الآخر :

«وانما سمي المهدي مهديّاً لأنّه يهدي إلى أمر خفيّ.

ويستخرج التوراة وسائر كتب اللّه عزَّ وجلَّ من غار بأنطاكية (٢).

ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الانجيل بالانجيل وبين أهل الزَّبور بالزَّبور وبين أهل القرآن بالقرآن.

وتجمع إليه أموال الدُّنيا من بطن الأرض وظهرها.

فيقول للنّاس : تعالوا إلى ماقطعتم فيه الأرحام ، وسفكتم فيه الدِّماء الحرام ، وركبتم فيه ما حرَّم اللّه عزَّ وجلَّ.

فيعطي شيئاً لم يعطه أحدٌ كان قبله ، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً ، كما ملئت ظلماً وجوراً وشراً (٣).

وفي الحديث الآخر : «اذا قام القائم ، بعث في أقاليم الأرض ، في كل إقليم رجلاً يقول : عهدك في كفّك ، فاذا ورد عليك أمر لا تفهمه ولا تعرف القضاء فيه ، فانظر الى كفّك واعمل بما فيها» (٤).

ولا يخفى أنه لا تخالف بين هذا القضاء وبين قضاء الاسلام ، لأنه من القضاء بالعلم الذي هو من صميم الدين ومن الحكم بالحق.

قال تعالى : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ٣٢٠ ب ٢٧ ح ٢٢.

(٢) في بعض النسخ : «اخوانك المسلمين».

(٣) الغيبة (للنعماني) : ص ٢٣٧ ح ٢٦.

(٤) الغيبة (للنعماني) : ص ٣١٩ ح ٨.

٣٧٤

بالحق) (١).

فيكون قضاءه عليه‌السلام على هُدى سنّة اللّه تعالى وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لذلك أفاد في الجواهر بعد الاستدلال له بالكتاب والسنة :

«أن للامام عليه‌السلام أن يقضي بعلمه مطلقاً ، في حق اللّه ، وحق الناس ، بالاجماع.

بل للقاضي ذلك في حق الناس قطعاً ، وفي حق اللّه على الأصح ، بل الاجماع» (٢).

وقال أمين الاسلام الطبرسي :

«واذا علم الامام أو الحاكم أمراً من الأمور ، فعليه أن يحكم بعلمه ولا يسأل البيّنة ، وليس في هذا نسخٌ للشريعة ... ، لأن النسخ هو ما تأخر دليله على حكم المنسوخ ولم يكن مصاحباً له ، واما إذا اصطحب الدليلان ، فلا يكون أحدهما ناسخاً لصاحبه ...» (٣).

ويوضح لنا ذلك حديث الامام العسكري عليه‌السلام :

«فاذا قام يقضي بين الناس بعلمه ، كقضاء داود عليه‌السلام» (٤).

٣ ـ ثقافة الدولة

من الواضح أن أسمى إزدهار ايّ دولة وايّ اُمة ، انما يكون بثقافتها وعلمها ، وأعظم الحضارات في المجتمعات ، هي الحضارة العلمية. فبالعلم حياتها وقوّتها ، وبالحكمة ازدهارها ورقيّها.

__________________

(١) سورة ص : الآية ٢٦.

(٢) الجواهر : ج ٤٠ ص ٨٦.

(٣) إعلام الورى : ص ٤٧٧.

(٤) البحار : ح ٥٢ ص ٣٢٠ ب ٢٧ ح ٢٥.

٣٧٥

وهذه الحضارة العلمية والكيان الثقافي تبلغ القمة وتصل الى أعلى مرتبة في دولة الامام المهدي عليه‌السلام ، حتى تكمل عقول العباد ويُبلغ معالي السداد.

ففي الحديث الباقري عليه‌السلام :

«اذا قام قائمنا ، وضع يده على رؤوس العباد ، فجمع بها عقولهم ، وكملت بها أحلامهم» (١).

وفي الحديث الشريف الآخر :

«وتؤتَون الحكمة في زمانه ، حتى أن المرأة لتقضى في بيتها بكتاب اللّه تعالى وسنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٢).

وما أعظمها من فضيلة وما اعلاها من مرتبة. إيتاء الحكمة ، ثم عموم الحكمة حتى الى المخدرات في بيوتها.

وقد فسرت الحكمة في اللغة بانها هي :

«العلم الذي يرفع الانسان ويمنعه عن فعل القبيح» (٣).

وعرفت من كلمات علماءنا بانها هي :

«العلوم الحقيقية الالهية» (٤).

(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً).

تلك الحكمة التي آتاها اللّه صفوة عباده الصالحين.

فقال عز اسمه فيما اقتص عن اولياءه المقربين :

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ٣٢٨ ب ٢٧ ح ٤٧.

(٢) الغيبة (للنعماني) : ص ٢٣٩ ح ٣٠.

(٣) مجمع البحرين : ص ٥١١.

(٤) الانوار اللامعة : ص ٧٧.

٣٧٦

(فقد آتينا آلَ ابراهيمَ الكتابَ والحكمة) (١)؛

(ولقد آتينا لقمانَ الحكمة) (٢).

وقال تعالى عن النبي سليمان عليه‌السلام :

(وشددنا مُلكَه وآتيناهُ الحكمةَ وفصلَ الخطاب) (٣).

فتمتاز دولة الإمام المهدي عليه‌السلام على الصعيد الثقافي بمنح فضيلة الحكمة لجميع أفراد الاُمّة. والقرآن الكريم الذي مصدر النور والهدى تعرفه الأمة الاسلامية آنذاك حق المعرفة وبالمعرفة الحقّة.

ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«كأنّي أنظر الى شيعتنا بمسجد الكوفة ، قد ضربوا الفساطيط ، يعلّمون الناس القران كما اُنزل» (٤).

وفي ظلّ الامام المهدي عليه‌السلام يستضيء المؤمنون بنور العلم الأكمل ، ويُعطون العرفان الأفضل.

ففي حديث الامام الصادق عليه‌السلام :

«العلم سبعة وعشرون حرفاً. فجميع ما جاءت به الرُّسل حرفان ، فلم يعرف الناس حتّى اليوم غير الحرفين.

فاذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفاً فبثّها في الناس ، وضمَّ إليها الحرفين. حتّى يبثّها سبعة وعشرين حرفاً» (٥).

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٤.

(٢) سورة لقمان : الآية ١٢.

(٣) سورة ص : الآية ٣٤.

(٤) الغيبة (للنعماني) : ص ٣١٨ ح ٣.

(٥) البحار : ج ٥٢ ص ٣٣٦ ب ٢٧ ح ٧٣.

٣٧٧

وهذا أرقى مستوى العلم يكون في دولته الكريمة وقيادته الحكيمة ، ولا غرو في ذلك بعد تلك القابلية العقلية والكمال العقلي.

فيقذف ويُلقى نور العلم في قلوب المؤمنين ، كما تلاحظه في خطبة المخزون لأمير المؤمنين عليه‌السلام التي جاء فيها :

«ويسير الصدِّيق الأكبر براية الهدى ، والسيف ذي الفقار ، والِمخصرة (١) حتّى ينزل أرض الهجرة مرَّتين وهي الكوفة.

فتستبشر الأرض بالعدل ، وتعطي السماء قطرها ، والشجر ثمرها ، والأرض نباتها وتتزيّن لأهلها ، وتأمن الوحوش حتّى ترتعي في طرق الأرض كأنعامهم ، ويُقذف في قلوب المؤمنين العلم فلا يحتاج مؤمن إلى ما عند أخيه من علم.

فيومئذ تأويل هذه الآية : (يُغنِ اللّه كلّاً من سعته) (٢)» (٣).

ولا عجب في هذا القذف العلمي من أهل البيت عليهم‌السلام الذين هم مظاهر القدرة الالهيّة والكرامة الربّانيّة ، كما تلاحظ نظائره في موارده.

مثل القذف والالقاء ، في قضية زاذان ابو عمرو الفارسي في حديث سعد الخفاف ، عن زاذان أبي عمرو ، قلت له : يا زاذان ، إنّك لتقرأ القرآن فتحسن قراءته؛ فعلى من قرأت؟

قال : فتبسّم ثمّ قال : إنّ أمير المؤمنين مرَّ بي وأنا أنشد الشعر ، وكان لي خلق حسن. فأعجبه صوتي ، فقال : فقال :

__________________

(١) «المحضرة» ، شيء كالسوط ، وما يتوكأ عليه كالعصاء ، وما يأخذ الملك بيده يشير به اذا خاطب والخطيب إذا خطب.

(٢) سورة النساء : الآية ١٣٠.

(٣) البحار : ج ٥٣ ص ٨٦ ب ٢٩ ح ٨٦.

٣٧٨

«يازاذان! فهلّا بالقرآن؟

قلت : يا أمير المؤمنين ، وكيف لي بالقرآن؟ فو اللّه ما أقرأ منه إلّا بقدر ما اُصلّي به.

قال : فادنُ منّي.

فدنوت منه ، فتكلّم في اُذني بكلام ما عرفته ولا علمت ما يقول.

ثمّ قال : افتح فاك ، فتفل في فيَّ ، فو اللّه ما زالت قدميّ من عنده حتّى حفظت القرآن باعرابه وهمزه ، وما احتجت أن أسأل عنه أحداً بعد موقفي ذلك.

قال سعد : فقصصت قصّة زاذان على أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : صدق زاذان؛ إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام دعا لزاذان بالإسم الأعظم الّذي لا يردّ» (١).

فالقرآن الكريم ومعالم أهل البيت عليهم‌السلام الطيّبين تقسمان تلك الدولة الحقّة بالعلم والحكمة.

٤ ـ إقتصاد الدولة

لا شك أن من أهم العروق الحيوية للتعايش ، هو الجانب الاقتصادي بجميع انحاءه من التجارة والصناعة والمصادر المالية.

وهي بمعناها الصحيح ومستواها الرفيع ومحتواها الخالي عن المشاكل والمستجمع للفضائل ، لا تكون الا في دولة الامام المهدي عليه‌السلام ، كما تُفصح عنها الأحاديث الشريفة.

ففي حديث ابي سعيد الخدري ، عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

«اُبشركم بالمهدي يُبعَثُ فِي اُمَّتِي عَلَى اختِلافٍ مِنَ النَّاس وزِلزَالٍ ، فَيَملَأُ الأَرضَ قِسطاً وعَدلاً كَمَا مَلِئَت جَوراً وظُلماً. يَرضَى عَنهُ ساكِنُ السَّمَاءِ وسَاكِنُ

__________________

(١) البحار : ج ٤١ ص ١٩٥ ب ح ٦.

٣٧٩

الأَرضِ. يَقسِمُ المَالَ صِحَاحاً.

فقال له رجلٌ : ما صِحَاحاً؟

قال : بالسَّوِيَّةِ بين النَّاسِ ، قال :

«ويَملاُ اللّهُ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ غنًى ويَسَعُهُم عَدلُهُ ، حَتَّى يَأمُرَ مُنَادِياًَ ، فَيُنَادِي فَيَقُولُ : مَن لَهُ في المَالِ حاجَةٌ؟

فَمَا يَقُومُ مِنَ النَّاسِ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَيَقُولُ : أَنَا.

فَيُقَالُ لَهُ : إِيتِ السَّادِن (يَعنِي الخَازِنَ) فَقُل لَهُ : إنَّ المَهدِيَّ يَأمُرُكَ أن تُعطِيَني مَالاً.

فَيقُولُ لَهُ : احثُ. فَيَحثِي ، حَتَّى إذَا جَعله في حِجره وأبرزه في حجره ندم ، فيقول : كنتُ أجشع اُمة محمد نفساً ، أوَ عجز عنّي ما وسعهم ، فيردّه فلا يُقبل منه.

فيقال له : انا لا نأخذ شيئاً أعطيناه.

وفي حديثه الآخر : ويُطاف بالمال في أهل الحِواء (أي البيوت المجتمعة من الناس) ، فلا يوجد أحدٌ يقبله» (١).

وهذه الأحاديث الشريفة ترشدنا الى أعظم غناءٍ اقتصادي رشيد في ذلك المجتمع البشري السعيد.

٥ ـ زراعة الدولة

لا ريب في أن من أعظم اركان الحياة في كل ذي روح وحياة ، هي أقواته ومآكله في غذاءه ودواءه ، في سفره وحضره ، وفي صغره وكبره.

ومن المعلوم أنها لا تحصل الا من الحقل الزراعي والنماء الأرضي الذي يشكّل أعظم جانبٍ من غذاء الانسان ورخاءه ، الى جانب مصادر مالِه وثروته.

__________________

(١) عقد الدرر : ص ٢١٩.

٣٨٠