الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

السيد علي الحسيني الصدر

الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-978-002-7
الصفحات: ٤٧٢

إنسان لوضعه اضطراب ولم يستقم.

فأقبل غلام أسمر اللّون حسن الوجه ، فتناوله ووضعه في مكانه. فاستقام كأنّه لم يزل عنه ، وعلت لذلك الأصوات. فانصرف خارجاً من الباب.

فنهضت من مكاني أتبعه وأدفع الناس عنّي يميناً وشمالاً حتّى ظُنَّ بي الاختلاط في العقل ، والنّاس يفرجون لي وعيني لا تفارقه حتّى انقطع عن الناس ، فكنت أسرع الشدَّ خلفه وهو يمشي على تؤدة السير ولا اُدركه.

فلمّا حصل بحيث لا أحد يراه غيري ، وقف والتفت إليَّ فقال :

«هات ما معك.

فناولته الرُّقعة.

فقال من غير أن ينظر إليها : «قل له : لا خوف عليك في هذه العلّة ويكون ما لابدَّ منه بعد ثلاثين سنة».

قال : فوقع عليَّ الدَّمع حتّى لم أطق حراكاً ، وتركني وانصرف.

قال أبو القاسم : فأعلَمَني بهذه الجملة.

فلمّا كان سنة سبع وستّين ـ يعني في سنة ثلاثين بعد ذلك ـ ، اعتلَّ أبو القاسم وأخذ ينظر في أمره وتحصيل جهازه إلى قبره. فكتب وصيّته واستعمل الجدَّ في ذلك.

فقيل له : ما هذا الخوف؟ ونرجو أن يتفضّل اللّه بالسّلامة؛ ما عليك مخوفة.

فقال : هذه السنة الّتي خوِّفت فيها.

فمات في علّته» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٢ ص ٥٨ ب ١٨ ح ٤١.

٢٨١

٢ ـ تشرف العلامة الحلي اعلى اللّه مقامه ، فيما ذكر المحدث الفاضل الميثمي في كتابه دار السلام ، عن السيد السند السيد محمد صاحب المفاتيح ابن صاحب الرياض ، نقلاً عن خط آية اللّه العلامة في حاشية بعض كتبه ما ترجمته بالعربية :

انه خرج ذات ليلة من ليالي الجمعة من بلدة الحلة الى زيارة قبر ريحانة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابي عبداللّه الحسين عليه‌السلام ، وهو على حمار له وبيده سوط يسوق به دابته.

فعرض له في أثناء الطريق رجل في زي الاعراب ، فتصاحبا والرجل يمشي بين يديه. فافتتحا بالكلام وساق معه الكلام من كل مقام ، واذا به عالم خبير نحرير. فاختبره عن بعض المعضلات وما استصعب عليه علمها ، فما استتم عن كل من ذلك الا وكشف الحجاب عن وجهها وافتتح عن مغلقاتها.

الى ان انجر الكلام في مسألة أفتى به بخلاف ما عليه العلامة. فانكره عليه قائلاً ان هذه الفتوى خلاف الأصل والقاعدة ، ولابد لنا في خلافهما من دليل وارد عليهما مخصص لهما.

فقال العربي : الدليل عليه حديث ذكره الشيخ الطوسي في تهذيبه.

فقال العلامة : اني لم أعهد بهذا الحديث في التهذيب ، ولم يذكره الشيخ ولا غيره.

فقال العربي : ارجع الى نسخة التهذيب التي عندك الآن وعد منها اوراقاً كذا وسطوراً كذا فتجذه.

فلما سمع العلامة بذلك ورأى ان هذا اخبار عن المغيبات ، تحير في أمر الرجل تحيراً شديداً واندهش في معرفته وقال في نفسه : ولعل هذا الرجل الذي يمشي بين يديّ منذ كذا وأنا في ركوبي ، هو الذي بوجوده تدور رحي

٢٨٢

الموجودات وبه قيام الارضين والسماوات.

فبينما العلامة كذلك ، اذ وقع السوط من يده من شدة التفكر والتحير. فاخذ ليستخبر عن هذه المسألة استخبارا منه واستظهاراً عنه ، ان في زمن الغيبة الكبرى هل يمكن التشرف الى لقاء سيدنا ومولانا صاحب الزمان.

فهوى الرجل وأخذ السوط من الارض ووضعه في كفّ العلامة وقال :

«لم لا يمكن وكفه في كفك».

فاوقع العلامة نفسه من على الدابة منكباً على قدميه ، واغمي عليه من فرط الرغبة وشدة الاشتياق. فلما أفاق لم يجد احداً؛ فاهتم بذلك هما شديداً وتكدر.

ورجع الى أهله وتصفح عن نسخة تهذيبه ، فوجد الحديث المعلوم كما اخبره الامام عليه‌السلام في حاشية تلك النسخة ، فكتب بخطه الشريف في ذلك الموضع :

هذا حديث اخبرني به سيدي ومولاي في ورق كذا وسطر كذا.

ثم نقل الفاضل الميثمي عن السيد المزبور طاب ثراه ، انه قدر رأي تلك النسخة بخط العلامة في حاشيته (١).

٣ ـ تشرف ياقوت الدهان فيما نقله المحدث النوري ، قال :

«حدَّثني العالم الجليل ، والحبر النبيل ، مجمع الفضائل والفواضل ، الصفيُّ الوفيّ المولى عليّ الرشتي طاب ثراه ، وكان عالماً برّاً تقيّاً زاهداً حاوياً لأنواع العلم ، بصيراً ناقداً من تلامذة السيّد السّند الاُستاذ الأعظم دام ظلّه :

ولمّا طال شكوى أهل الأرض ، حدود فارس ومن والاه إليه من عدم

__________________

(١) الزام الناصب : ج ٢ ص ٣٢.

٢٨٣

وجود عالم عامل كامل نافذ الحكم فيهم ، أرسله إليهم ، عاش فيهم سعيداً ومات هناك حميداً رحمه‌الله ، وقد صاحبتُه مدَّةً سفراً وحضراً ولم أجد في خلقه وفضله نظيراً إلّا يسيراً.

قال : رجعت مرَّة من زيارة أبي عبداللّه عليه‌السلام عازماً للنجف الأشرف من طريق الفرات. فلمّا ركبنا في بعض السّفن الصغار الّتي كانت بين كربلا وطويرج ، رأيت أهلها من أهل حلّة ، ومن طويرج تفترق طريق الحلّة والنجف.

واشتغل الجماعة باللّهو واللّعب والمزاح ، ورأيت واحداً منهم لا يدخل في عملهم. عليه آثار السكينة والوقار ، لا يمازح ولا يضاحك ، وكانوا يعيبون على مذهبه ويقدحون فيه ، ومع ذلك كان شريكاً في أكلهم وشربهم. فتعجّبت منه إلى أن وصلنا إلى محلّ كان الماء قليلاً ، فأخرَجَنا صاحب السفينة فكنّا نمشي على شاطئ النّهر.

فاتّفق اجتماعي مع هذا الرجل في الطريق ، فسألته عن سبب مجانبته عن أصحابه وذمّهم إيّاه وقدحهم فيه.

فقال : هؤلاء من أقاربي من أهل السنّة ، وأبي منهم واُمّي من أهل الايمان ، وكنت أيضاً منهم ، ولكنَّ اللّه منَّ عليَّ بالتشيّع ببركة الحجّة صاحب الزَّمان عليه‌السلام.

فسألت عن كيفيّة إيمانه ، فقال :

اسمي ياقوت وأنا أبيع الدُّهن عند جسر الحلّة. فخرجت في بعض السّنين لجلب الدهن ، من البراري خارج الحلّة. فبعدت عنها بمراحل ، إلى أن قضيت وطري من شراء ما كنت اُريده منه ، وحملته على حماري ورجعت مع جماعة من أهل الحلة ، ونزلنا في بعض المنازل ونمنا ، وانتبهت فما رأيت أحداً منهم وقد ذهبوا جميعاً وكان طريقنا في بريّة قفر ، ذات سباع كثيرة ، ليس في أطرافها معمورة إلّا بعد فراسخ كثيرة.

٢٨٤

فقمت وجعلت الحمل على الحمار ومشيت خلفهم ، فضلَّ عنّي الطريق ، وبقيت متحيّراً خائفاً من السباع والعطش في يومه.

فأخذت أستغيث بالخلفاء والمشايخ وأسألهم الاعانة وجعلتهم شفعاء عند اللّه تعالى وتضرَّعت كثيراً ، فلم يظهر منهم شيء.

فقلت في نفسي : إنّي سمعت من اُمّي أنّها كانت تقول : إنَّ لنا إماماً حيّاً يكنّى أبا صالح ، يرشد الضَّالَّ ويغيث الملهوف ويعين الضّعيف. فعاهدت اللّه تعالى إن استغثت به فأغاثني أن أدخل في دين اُمّي.

فناديته واستغثت به ، فإذا بشخص في جنبي ، وهو يمشي معي وعليه عمامة خضراء ....

ثمَّ دلَّني على الطريق ، وأمرني بالدُّخول في دين اُمّي ، وذكر كلمات نسيتها وقال : ستصل عن قريب إلى قرية أهلها جميعاً من الشيعة.

قال : فقلت : ياسيدي ، أنت لا تجيء معي إلى هذه القرية؟

فقال ما معناه : لا ، لأنّه استغاث بي الف نفس في أطراف البلاد ، اُريد أن اُغيثهم ، ثمَّ غاب عنّي.

فما مشيت إلّا قليلاً حتّى وصلت إلى القرية ، وكان في مسافة بعيدة ، ووصل الجماعة إليها بعدي بيوم.

فلمّا دخلت الحلّة ذهبت إلى سيّد الفقهاء السيّد مهدي القزويني طاب ثراه ، وذكرت له القصّة ، فعلّمني معالم ديني.

فسألت عنه عملاً أتوصّل به إلى لقائه عليه‌السلام مرَّة اُخرى فقال : زُر أبا عبد اللّه عليه‌السلام أربعين ليلة الجمعة.

قال : فكنت أزوره عليه‌السلام من الحلّة في ليالي الجُمع ، إلى أن بقي واحدة. فذهبت من الحلّة في يوم الخميس ، فلمّا وصلت إلى باب البلد ، فإذا جماعة من

٢٨٥

أعوان الظّلمة يطالبون الواردين التذكرة ، وما كان عندي تذكرة ولا قيمتها.

فبقيت متحيّراً والنّاس متزاحمون على الباب ، فأردت مراراً أن أتخفّى وأجوز عنهم فما تيسّر لي ، وإذا بصاحبي صاحب الأمر عليه‌السلام في زيّ لباس طلبة الأعاجم ، عليه عمامة بيضاء في داخل البلد. فلمّا رأيته استغثت به ، فخرج وأخذني معه ، وأدخلني من الباب فما رآني أحد.

فلمّا دخلت البلد افتقدته من بين النّاس ، وبقيت متحيّراً على فراقه عليه‌السلام» (١).

٤ ـ تشرف الشيخ النمازي ، فيما حكاه هو دام ظلّه. نقتطف منه معرّباً ما حاصله :

أفاد أنه في سنة ١٣٣٦ شمسية (المصادف لسنة ١٣٧٨ هجرية قمرية) ، تشرفنا الى بيت اللّه الحرام مع حملة صدر الأشراف من طهران ، وكنت أنا مرشد الحملة للمرة الرابعة عشرة.

وبعد اكمال مراسم الحج وانتهاء الزيارة ، بنينا على المراجعة على طريق العراق ـ كما كان هو المقرر آنذاك في الرجوع من هناك ـ في قوافل منظّمة ، ومتشكلة كل قافلة من مأة سيارة ، مع دوريّة الشرطة ، وسيارة الحاجات الاحتياطية ، حسب قانون الدولة في ذلك الوقت.

وكان لسيارتنا سائقان باسم محمود واصغر يتعاونان في السياقة من طهران الى مكة.

لكن في الرجوع ، أصرّ الحاج أصغر على أن يسير متقدّماً على سيارات القافلة ، لانه كان في المجيء متأخراً عن السيارات ومعانياً للغبار والتراب

__________________

(١) جنّة المأوى : ص ٢٩٢.

٢٨٦

وعجاج الطريق.

لذلك أسرع الحاج أصغر في السير في طريق الرجوع حتى يتقدم على السيارات ، ثم يستريح برهةً من الزمان الى أن تلتحق به سيارات القافلة ، ثم يقطع الطريق بهذا الترتيب.

وبما اني كنت قد سافرت الى الحج كثيراً ، وكنت أعرف أن صحاري الحجاز واسعة ورملية ولا يمكن السير فيها بدون دليل ، أصررت على الحاج أصغر بأن لا يسبق القافلة بل يبقى معها ولا يفارقها ، حتى لا يصيبنا الضياع.

لكن للأسف لم يستجب لكلامي ، بل قال أن لنا من الماء والبنزين ما نسير كثيراً ثم نلتحق بالقافلة ، والحجاج الذين كانوا معنا أيضاً لم يآزروني على مطلبي.

فتجرّأ الحاج أصغر على السير السريع حتى جنَّ علينا الليل وقد ضيّعنا الطريق.

فصحنا به أنا والحجاج حتى يتوقف عن السير الى الصباح ولا يتوغّل في الضياع علّنا نرجع صباحاً في نور الشمس الى الطريق الأصيل.

فبقينا الى الصباح ، وعزمنا على الرجوع من الطريق الذي أتينا فيه ، لكن العواصف الرملية كانت قد غطّت ذلك الطريق فلم نستطع الرجوع منه.

وسرنا يميناً وشمالاً فراسخ دون جدوى ، وبدون ان نصل الى قافلتنا ، حتى صار الليل ونفد عندنا الماء والبنزين ، فأصبحنا ولم يبق لدينا منهما قطرة واحدة.

وما أوحشها من حالة مؤلمة ويأس من الحياة حين ارتفع النهار وعلت الشمس واحترّ الجوّ واصابنا العطش ، ونحن في تيه الصحراء. فلم أر بُدّاً إلا أن أجمع أصحابي وأقول لهم :

٢٨٧

انه كان من الأمر ما كان بالذنب الذي ارتكبه السائق حاج أصغر ، وجَعَلَنا في هذه المهلكة والمصيبة والمحنة.

ولا خلاص لنا الّا أن نتوسّل بمولانا وسيدنا الامام المهدي صلوات اللّه عليه. فان مَنّ علينا بالنجاة فهو المطلوب ، وإلّا فالأصلح لنا أن نحفر قبورنا الآن ما دام لم يستول علينا الضعف ، حتى إذا صَرَعنا العطش اضطجعنا فيها كي نموت هناك وتسترنا الرمال ، حذراً من أن نصير طعمة لوحوش الصحراء.

وقلت لهم أن ينذروا إنفاق جميع مالديهم من أموالهم في سبيل اللّه تعالى ان نجّاهم اللّه.

فاستجاب أصحابي لهذا الطلب وحفرنا قبورنا وتهيّأنا للموت ، لكن أملنا في امام العصر ليغيثنا في هذه الشدّة.

فتوسلنا بالمعصومين الأربعة عشر عليهم‌السلام واحداً بعد واحد الى الامام الحجة عليه‌السلام بكل بكاء وخشوع وتوجّه والحاح.

وناديناه : «يا فارس الحجاز ، يا أبا صالح المهدي أدركنا ، يا صاحب الزمان ادركنا».

وأخذتُ أنا جانباً من الصحراء ، وحَصَلَت لي حالة انقطاع كامل الى اللّه تعالى وتوسّل حقيقي بامام الزمان عليه‌السلام للنجاة من هذه المهلكة والرجوع الى وطننا بالسلامة.

وفي هذا الحال فوجئت براكبٍ في زيّ عربي مع جِمالٍ محمّلة ، تخيّلت انه جمّالٌ ، عابر للصحراء مسافر الى مقصدٍ له.

لكنّي رأيت أنه توجّه اليّ ، فقمت اليه واستقبلته بكل فرح وبشاشة واطمئنان قلب ، فسلّمت عليه ، فردّ عليّ السلام قائلاً :

عليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته.

٢٨٨

ثم قبّلت وجهه الكريم ، وكان ما اجمله وأنوره وأبهاه من وجهٍ.

فالتفت اليّ بكل لطف وقال : ضيّعتم الطريق.

قلت : نعم ضيّعنا الطريق.

قال : جئت لاُريكم الطريق .. تسلكون هذا الطريق المستقيم وتعبرون عن ذينك الجبلين ، فيظهر لكم جبلان آخران؛ تسلكون من وسطهما ، فتظهر لكم الجادة ـ طريق العراق ـ أمامكم ، فسيروا الى الطرف الأيسر تصلون الى الحدود العراقية الحجازية ، «جرية».

ثم قال : النذر الذي نذر تم ليس بصحيح ، لأنه مرجوح. فانكم اذا انفقتم جميع مالديكم ، لم يبق لديكم شيء وانتم باقون في العراق أربعين يوماً ، فتحتاجون الى السؤال والتگدّي ، وهو حرام.

احسبوا أموالكم واعرفوا مقداره ، ثم حينما تصلون الى وطنكم انفقوا في سبيل اللّه تعالى بذلك المقدار.

ثم قال لي : اجمع رفاقك واركبوا السيارة وتحرّكوا حتى تصلون الجرية في اول المغرب.

فناديت أصحابي ، وجاؤوا واحداً واحداً ، سلّموا عليه وقبّلوا يده.

وقلت لهم : اركبوا ، فقد دلّاني على الطريق ، وذكر لي ان النذر الذي نذرتموه غير صحيح.

وأضاف هو قوله : أنا ادري أن الذي معكم يكفيكم ، وإلّا أنا أعطيكم.

ثم تقدّمتُ اليه أنا ـ حرصاً على أن لا نضيّع الطريق مرة أخرى ـ وأخرجتُ قرآناً كان في جيبي وأقسمت عليه : بحق هذا القرآن الكريم أن يكون معنا في السيارة ويوصلنا الى الجرية.

فقال : لِمَ أقسمتَ عليّ بالقرآن؟ والآن حيث أقسمت أجيء معكم.

٢٨٩

ثم قال : المقصّر أصغر ، محمود يسوق ، أنا أقعد في الوسط وأنت تقعد بصفّي.

كلّ هذا ، وأنا غير منتبه أبداً أنه كيف عرف نذرنا ، ومن اين علم ببقاءنا في العراق أربعين يوماً ، ومن اين عرف ان السائق اسمه اصغر وانه المقصّر في هذا الضياع ، وكيف عرف اننا نكون اول المغرب في الجرية؟

فان هذه الاشياء كانت من الغيب ، ولا يعرفها الّا من هو متصل بعلّام الغيوب. لكننا كنّا محجوبين عن معرفته سلام اللّه عليه.

ركبنا السيارة ، وجلس محمود في مكان السياقة.

فقال عليه‌السلام : قل له يسوق.

فقلت لمحمود يسوق السيارة.

فقام محمود بتشغيل السيارة ، من غير أن نلتفت الى ان السيارة لم تكن فيها قطرة من البنزين والماء. لكن تحركت السيارة وقطعت الطريق الرملي بكل سرعة ، حتى وصلنا الى وسط الجبلين.

فنظر عليه‌السلام الى السماء وقال : الآن أول الظهر ، قل له يتوقف. صلّوا وأنا أصلّي ، وبعد الصلاة نركب. مَلّوا قِرَبكم ، ومَلّوا سيارتكم.

فتوقفنا عن المسير ونزلنا في ذلك المكان.

وأشار عليه‌السلام في ذلك المكان القفر الى شجرة نابتة وبجنبها بئر ماءٍ زلال ، ماؤها قريب من سطح الارض على شبر ونصف؛ تصل اليد الى الماء بكل سهولة ، مع أن الماء في تلك الصحراء القاحلة لو وجد تحت الارض كان على عمق كبير عن سطح الارض.

فشربنا من ذلك الماء روياً ، وملأنا القرب والسيارة ، وتوضّأنا وصلّينا.

فجاءنا هو عليه‌السلام بعد أن اكمل صلاتيه الظهر والعصر ، وأمر بأن يتغدّى كل

٢٩٠

واحدٍ منّا بما عنده في داخل السيارة.

فركبنا وتحرّكت السيارة ، من غير أن يحس أحدٌ منا كيف تسير السيارة بدون البنزين.

وأكل كلّ واحد من الزوّار طعامه ، وأتيت أنا أيضاً بما عندي من الكرزات والخبز وقدّمت له منها ، فلم يقبل شيئاً من الكرزات وأخذ شيئاً من الخبز الذي كنت قد هيأته من بلدي شاهرود ، لكني لم أر أكله ذلك.

وكان الحديث دائراً بيننا مدة مسير الطريق ، وكنت اُبيّن له النعم الوافرة في ايران ورُخص الأسعار هناك ، فكان هو يقول : كلها من بركات الأئمة ، كلها من بركاتنا ، النعم وافرة في جميع ايران وكلها من بركاتنا أهل البيت.

وبالرغم من هذا البيان الصريح الذي يتضح من خلاله شخصيته عليه‌السلام ، لم أشعر أنا بأنه مولانا الامام المهدي عليه‌السلام.

واستمر هو عليه‌السلام في مدح بعض بلاد ايران وبعض علمائها وبعض علماء النجف الأشرف ، الى أن وصلنا الى الحدود العراقية «الجرية» في اول المغرب كما كان قد بيّنه هو عليه‌السلام.

وكان في كثير من وقته مشتغلاً بذكر اللّه تعالى ، الى أن نزلنا الى الحدود ، ونزل هو عليه‌السلام من السيارة.

وأوصانا أن نبيت الليل هنا في الجرية ولا نسير وحدنا ، وأنه ستصل يوم غد قافلة من مكة فسيروا معها الى العراق.

ثم قال عليه‌السلام : إني مفارقكم ، واودعكم اللّه تعالى.

وقد أصررت عليه كثيراً بأن يبقى معنا تلك الليلة ونتناول بخدمته طعام العشاء.

لكن قال لي : ياشيخ اسماعيل ، لي شغل كثير ويلزم عليّ أن أذهب ، وقد

٢٩١

أقسمتَ عليَّ بالقرآن الكريم فأجبتك.

ثم وادعني ، فالتفتُّ في آن واحد ، انّي لم أره وهو غائب عنّي. فشعرت آنذاك أنه كان مولانا الامام الحجة عليه‌السلام.

وبدأتُ بالبكاء والتحسّر وناديت أصحابي بأنّا قد كنّا متشرفين الى الآن بخدمة إمامنا الذي فرّج اللّه تعالى عنا ونجّانا ببركته ، وللأسف لم نحظَ بمعرفته.

فاجتمعنا في الخيمة بالبكاء والعويل ، حتى سمع صوتنا شرطة الحدود فأسرعوا الينا وقالوا : منو ميّت ، منو ميّت؟

قلنا : لم يمت أحد ، ولكنا كنا قد ضيعنا الطريق ، فبكينا الآن حين وجدناه.

وفي هذا الحال سمعنا صوت المؤذن بأذان المغرب ، وحمدنا اللّه عز وجل على نعمة ملاقاة وليّ النعم ، والسلامة وحسن العاقبة بلطف اللّه ذي الجود والكرم ، والحمد للّه رب العالمين وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين (١).

٥ ـ تشرف الشيخ الكعبي طاب ثراه ، فيما حكاه الثقات الاجلاء ونقله الشيخ الغروي دام بقاه في كتابه ، وحاصله :

ان المرحوم الحاج الشيخ عبد الزهراء الكعبي قدس‌سره الذي كان من كبار خطباء المنبر الحسيني الشريف ـ المتوفى سنة ١٣٩٥ هجريّة ـ ، ذكر ان في عصر بعض الأيام دخلت صحن الامام الحسين عليه‌السلام ، وكان في احدى حجرات الصحن المقدس على جهة باب القبلة الشيخ مهدي والد الشيخ هادي الكتبي ، وكان لي معه صحبة قديمة.

فلما أبصرني ناداني وقال لي : عندي كتاب صغير لعله ينفعك ، وفيه أشعار المرحوم ابن العرندس الحلي وهي قصيدته الرائية ، وثمن هذا الكتاب هو أن تقرأ

__________________

(١) مجالس حضرت مهدي عليه‌السلام : ص ٣٠٨.

٢٩٢

عليّ هذه الاشعار مرة واحدة.

علماً بأن ابن العرندس هو الشيخ الجليل صالح بن عبد الوهاب الحلي ، من أعلام الشيعة في القرن التاسع ، ومن مؤلفي علمائها في الفقه والأصول ، ومن مُجيدي شعرها المقبول ، الذي قال عنه العلامة الأميني اعلى اللّه مقامه :

«ومن شعر شيخنا الصالح رائيّة ، اشتهر بين الأصحاب أنّها لم تُقرأ في مجلس الّا وحضره الامام الحجة المنتظر عجل اللّه تعالى فرجه» (١).

قال الشيخ الكعبي رحمه اللّه تعالى : فتوجهت الى جانب الضريح الحسيني المبارك ومعي الشيخ مهدي ، وجلسنا في الصحن مقابل الضريح ، وشرعت بقراءة رائية ابن العرندس التي طال ما كنت اطلبها منذ زمن بعيد.

فاذا بسيد بهيئة السادة الأعراب الذي يسكنون خارج البلد ، وقف بجنبي ينصت للقراءة ويبكي ، فلما وصلت الى قوله :

ايُقتل ضمآناً حسينٌ بكربلا

وفي كلّ عضوٍ من أنامِله بحرُ

اشتدّ بكاؤه ، وقام يضرب بيده على رجله متوجهاً نحو ضريح جده الامام الحسين عليه‌السلام ويكرّر البيت :

أيُقتل؟! أيُقتل؟!

وبعد ما انتهيت عن آخر القصيدة ، نظرتُ اطلب السيد فلم أجده بالرغم من إتساع ذلك الصحن الشريف وعدم ازدحامه آنذاك ، وخرجت خارج الصحن فلم أره ، وكلما حاولت رؤيته لم اظفر به وكأنه غاب عن ساعته ، وعلمت أنه الحجة المنتظر أرواحنا فداه.

ولهذه المزية الفائقة والمحل الرفيع ، احببنا بمناسبة مبحث التشرّف ايراد

__________________

(١) الغدير : ج ٧ ص ١٤.

٢٩٣

هذه القصيدة في هذا الكتاب ليحظى بقراءتها المؤمنون الاطياب ، وهي مطابقةً لكتاب المختار (١) كما يلي :

طوايا نظامي في الزمان لها نشرُ (٢)

يعطِّرها من طيب ذكراكم نَشرُ

قصائدُ ما خابت لهنَّ مقاصدُ

بواطنُها حمدٌ ظواهرُها شُكرُ

مطالعُها تحكي النجومَ طوالِعاً

فأخلاقُها زُهرٌ وأنوارُها زَهرُ

عرائسُ تجلى حين تُجلي قلوبنا

أكاليلها دُرٌّ وتيجانُها تبرُ

حِسانٌ لها حَسّانُ بالفضل شاهدٌ

على وجهها تِبرّ يُزان بها التبرُ

اُنظّمها نظم اللآلي وأسهر الليا

لي ليُحيى لي بها وبكم ذِكرُ

فيا ساكني أرضَ الطفوفِ عليكم

سلامُ محبٍّ مالَهُ عنكُم صَبرُ

نشرتُ دواوين الثنا بعدَ طيِّها

وفي كلّ طرس من مديحي لكم سَطرُ

فطابَقَ شِعرِي فيكُمُ دَمعَ ناظِري

فَمُبيَضُّ ذا نظمٌ ومُحمَرُّ ذا نَثرُ

فلا تَتهموني بالسلُوّ فإنّما

مواعيد سلواني وَحقِّكُم حَشرُ

فَذُلّي بكم عِزُّ وفَقري بِكم غنىً

وعسري بكم يُسرٌ وكَسري بكم جَبرُ

تَرقّ بروق السُحب لي من ديارِكُم

فينهلّ من دمعي لبارِقه القَطرُ

فعيناي كالخنساء (٣) تجري دموعها

وقلبي شديدٌ في محبّتِكم صخرُ

وقفتُ على الدار الّتي كنتُم بها

فمغناكُمُ من بَعد معناكُم قَفرُ (٤)

وقد دَرَسَت منها الدروسُ وطالما

بها دُرِسَ العِلمُ الإلهي والذكرُ

وسالت عليها من دموعي سحائبٌ

إلى أن تروّى البان بالدمع والسِّدرُ

__________________

(١) المختار من كلمات الامام المهدي عليه‌السلام : ج ١ ص ٤٢١.

(٢) هكذا في : الغدير ، لكن في : المنتخب : ج ٢ ص ٣٥٢ : نثر.

(٣) الخنساء بنت عمرو بن الحارث ، له رثاء لأخيها من أبيها صخر ، وقد قتله بنو أسد.

(٤) صححت كما في : المنتخب : ٣٥٢ ، وفي الأصل : فقر.

٢٩٤

فَراقَ فِراقُ الروحِ مِن بَعدِ بُعدِكم

ودارَ برسمِ الداِر في خاطِريَ الفِكرُ

وقد أقلَعَت عنها السحابُ ولم يُجِد

ولا دَرَّ مِن بعدِ الحسين لها دَرُّ

إمامُ الهُدى سِبطُ النبوّةِ والدُ الأئمّـ

ـةِ رَبُّ النَهي مَولىً له الأمرُ

إمامٌ أبوه المرتضى عَلَم الهدى

وصيُّ رسول اللّه والصَّنوُ والصِّهرُ

إمامٌ بكتهُ الانسُ والجنُّ والسما

ووحشُ الفَلا والطيرُ والبرُّ والبحرُ

له القبّةُ البيضاء (١) بالطفِّ لم تزل

تطوفُ بها طوعاً ملائكةٌ غرُّ

وفيه رسولُ اللّه قال وقولهُ

صحيحٌ صريحٌ ليس في ذلكم نُكرُ

حُبي بثلاث ما أحاط بمِثلها

وليٌّ فمَن زيدٌ هناك ومَن عَمرُو؟

له تربةٌ فيها الشفاءُ وقبّةٌ

يجاب بها الداعي إذا مسّه الضرُّ

وذريّةٌ درِّيّةٌ منه تسعةٌ

أئمّة حقٍّ لا ثمانٍ ولا عشرُ

أيُقتلُ ظمآناً حسينٌ بكربلا؟!

وفي كلّ عضوٍ من أنامله بَحرُ

ووالدُه الساقي على الحوضِ في غدٍ

وفاطمةُ ماءُ الفراتِ لها مَهرُ

فوالهفَ نفسي للحسين وما جنى

عليه غداهَ الطفِّ في حربه الشّمرُ

رماهُ بجيش كالظلام قِسِيُّهُ الأ

هِلّةِ والخرصانُ أنجُمه الزُهرُ

لراياتِهم نَصبٌ وأسيافِهم جزمٌ

وللنقعِ رَفعٌ والرماح لها جَرُّ

تجمّعَ فيها من طغاة اُميّةٍ

عصابةُ غَدرٍ لا يقوم لها عُذرُ

وأرسلها الطاغي يزيدُ ليملك الـ

ـعراقَ وما أغنَتهُ شامٌ ولا مِصرُ

وَشَدّ لَهُم أزراً سليلُ زيادِها

فحلَّ بهِ من شدِّ أزرِهِم الوِزرُ

وأمَّرَ فيهم نجلَ سَعدٍ لنَحسِهِ

فما طالَ في الريِّ اللعينِ له عُمرُ

فلمّا التقى الجمعانِ في أرضِ كربلا

تباعدَ فعلُ الخيرِ واقتربَ الشَّرُّ

__________________

(١) كانت في تلك القرون بيضاء ، وأمّا اليوم فصفراء بصحائف الذهب تسرّ القلب.

٢٩٥

فحاطوا به في عَشرِ شهرِ مُحرّمٍ

وبيضُ المواضي في الأكُفّ لها شَمرُ

فقامَ الفتى لَمّا تشاجَرتِ القَنا

وصال وقد أودى بمهجتِهِ الحَرُّ

وجالَ بطرفٍ في الجمالِ كأنّه

دُجى الليل في لألاء غُرَّتِهِ الفَجرُ

له أربعٌ للريح فيهنَّ أربعُ (١)

لقد زانَه كَّرٌّ وما شانَهُ الفَرُّ

ففرَّقَ جمعَ القومِ حتّى كأنّهم

طيورُ بغاث (٢) شتّ شَملَهُم الصَقرُ

فَأَذكَرَهُم لَيلَ الهريرِ فأجمع الكلا

بَ على الليثِ الهَزِبرِ وقد هَرّوا (٣)

هناك فَدَتهُ الصالحونَ بأنفسٍ

يضاعَفُ في يوم الحِسابِ لها الأجرُ

وحادُوا عن الكُفّارِ طوعاً لِنَصرهِ

وجادَ لَهُ بالنفسِ مِن سعدهِ حُرُّ (٤)

ومدّوا إليه ذُبّلاً سمهريّة (٥)

لطول حياة السِّبطِ في مدِّها جَزرُ

فغادَرَهُ في مارِقِ الحَربِ مارقٌ

بسهمٍ لنحر السبطِ من وقعه نَحرُ

فمال عن الطِرفِ الجوادِ أخو الندى

الجوادُ قتيلاً حولَه يصهلُ المُهرُ (٦)

سِنانُ سِنانٍ خارقٌ منه في الجشا

وصارمُ شِمر في الوريدِ له شَمرُ (٧)

تَجُرُّ عليه العاصفاتُ ذيولَها

ومن نسج أيدي الصافنات له طِمرُ (٨)

__________________

(١) يحتمل أن يكون المراد بالأربع : الصبا والدبور والشمال والجنوب.

(٢) «البغاث» طائر أبغث أصغر من الرخم ، بطيء الطيران ؛ جمع بغثان. هامش الغدير : ج ٧ ص ١٦.

(٣) ليلة الهرير من ليالي صفّين ، قتل فيها ما يقرب من سبعين ألف قتيل ، ولأمير المؤمنين عليه‌السلام موقف شجاعة يذكر مع الأبد ، والهرير من هرير الكلب سمّيت به صوته دون نباحه ، لأجل البرد. هامش الغدير : ج ٧ ص ١٦ ، مختصراً.

(٤) الحرّ بن يزيد الرياحي التميمي ، كان شريف قومه جاهلية وإسلاماً ، فاز بالشهادة يوم كربلاء رحمه‌الله.

(٥) واحد «الذُبّل» ، الذابل : الرقيق ، و «السمهري» ، الرمح الصلب.

(٦) «الطِرف» من الخيل : كريم الطرفين ، و «المُهر» ولد الفرس.

(٧) «شَمَرَ» مرّ مسرعاً ، وأشمره بالسيف : أدرجه.

(٨) «العاصفات» الرياح الشديدة ، الصافنات من الخيل الصافن : القائم على ثلاث قوائم ، مطرقاً حافر

٢٩٦

فَرُجَّت له السَبعُ الطِباقُ وَزُلزِلَت

رواسي جبال الأَرضِ والتطم البحرُ

فيالكَ مقتولاً بكتهُ السما دماً

فَمُغبَرّ وجه الأرضِ بالدمِ مُحمَرُّ

ملابسُه في الحرب حمرٌ من الدما

وَهُنّ غداةَ الحشرِ من سُندسٍ خُضرُ

ولَهفي لزينِ العابدينَ وقد سرى

أسيراً عليلاً لا يُفَكُّ له أسرُ

وآلُ رسولِ اللّهِ تُسبى نساؤهم

ومن حولهنَّ السترُ يُهتكُ والخِدرُ

سبايا بأكوارِ المطايا حواسراً

يُلاحِظُهُنَّ العبدُ في الناس والحُرُّ

ورملةُ (١) في ظلِّ القصور مصونة

يناطُ على أقراطِها الدُرُّ والتِّبرُ

فويلُ يزيدٍ من عذاب جهنّم

إذا أقبلت في الحشرِ فاطمةُ الطُهرُ

ملابُسها ثوبٌ من السُمّ أسودٌ

وآخرُ قانٍ من دم السّبطِ مُحمَرُّ

تنادي وأبصار الأنام شواخصٌ

وفي كلِّ قلبٍ من مهابتِها ذُعرُ

وتشكو إلى اللّه العليّ وصوتُها

عليٌّ ومولانا عَلِيٌّ لها ظَهرُ

فلا ينطقُ الطاغي يزيدُ بما جنى

وأنَّى له عُذرٌ ومَن شَأنه الغَدرُ

فيؤخذُ منه بالقصاص فيُحرمَ النَـ

ـعيمَ ويُخلى في الجحيمِ له قَصرُ

ويشدُو له الشادي فيطر به الغنا

ويسكب في الكأس النُضار (٢) له خمرُ

فذاك الغِنا في البعثِ تصحيفهُ العَنا

وتَصحيفُ ذاك الخَمر في قَلبِهِ الجَمرُ

أيُقرعُ جهلاً ثغرُ سِبطِ محمّدٍ؟!

وصاحب ذاك الثغرِ يُحمى به الثَغرُ

__________________

الرابعة ، و «الطِمر» ، الثوب البالي. الغدير ج ٧ ص ٥ ، ١٦.

(١) رملة بنت معاوية ، شبّب بها عبد الرحمن بن حسّان بأبيات أوّلها :

رملُ هل تذكرين يوم غزالٍ

إذ قطعنا مسيرنا بالتمنّي

ولهذا التشبيب قصّة توجد في معاجم التراجم. هامش الغدير ج ٧ ص ١٧.

(٢) «النُضار» ، الذهب والفضّة ، وقد غلّب على الذهب. لسان العرب : ج ٥ ص ٢١٣ «نضر».

٢٩٧

فليسَ لأخذِ الثارِ إلّا خليفةٌ

يكون لِكَسر الدين مِن عَدلِهِ جَبرُ

تَحُفُّ به الأملاكُ من كلّ جانبٍ

ويَقدِمُهُ الإقبالُ والعِزّ والنَصرُ

عوامِلُهُ في الدارِ عينَ شوارعٌ

وحاجبُهُ عيسى وناظِرُهُ الخِضرُ

تُظَلِّلُهُ حَقّاً عمامَةُ جَدِّهِ

إذا ما ملوكُ الصِّيدِ ظَلَّلَها الجَبرُ

محيطٌ على عِلم النبوّةِ صَدرُهُ

فطوبى لعلمٍ ضمَّهُ ذلكَ الصَدرُ

هو ابن الإمام العسكريّ محمّد التـ

ـقيّ النقيّ الطاهِرُ العَلمُ الحَبرُ

سليلُ علي الهادي ونجلُ محمّد الجـ

ـواد وَمَن في أرض طُوسٍ له قَبرُ

عليّ الرضا وهو ابن موسى الذي قضى

ففاحَ على بغداد مِن نَشرِهِ عِطرُ

وصادقُ وعدٍ إنّه نجلُ صادقٍ

إمامٌ به في العِلمِ يفتخرُ الفَخرُ

وبهجةُ مولانا الإمام محمدٍ

إمامٌ لِعِلمِ الأنبياء لَهُ بَقرُ

سلالةُ زينِ العابدين الذي بكى

فمِن دَمعهِ يُبسُ الأعاشِبِ مخضَرُّ

سليلُ حسينِ الفاطمي وحيدر الـ

ـوصيِّ فمِن طُهرٍ نمى ذلكَ الطُهرُ

له الحسن المسمومُ عَمٌّ فَحَبِّذا الإ

مامَ الذي عَمَّ الوَرى جُودُهُ الغَمرُ

سَمِيُّ رسولِ اللّه وارثُ علمِهِ

إمامٌ على آبائِهِ نَزَل الذِكرُ

هُم النّورُ نورُ اللّه جلّ جلالُهُ

هُم التّينُ والزيتونُ والشَفعُ والوِترُ

مهابِطُ وحي اللّه خُزّانُ علمِهِ

ميامينٌ في أبياتهم نَزَل الذِكرُ

وأسماؤهم مكتوبةٌ فوق عَرشِهِ

ومكنونَةٌ مِن قَبلِ أن يُخلَقَ الذَرُّ

ولولاهُمُ لم يَخلقِ اللّه آدماً

ولا كان زَيدٌ في الأنامِ ولا عَمرُو

ولا سُطِحَت أرضٌ ولا رُفِعَت سَما

ولا طَلَعَت شَمسٌ ولا أشرقَ البدرُ

ونُوحٌ به في الفُلكِ لَمّا دَعا نَجا

وَغِيضَ به طُوفانُه وقُضِيَ الأمرُ

ولولاهُمُ نارُ الخليل لَما غَدَت

سلاماً وبَرداً وانطفى ذلك الجَمرُ

ولولاهُمُ يعقوبُ ما زالَ حُزنُهُ

ولا كانَ عَن أيُّوبَ ينكشفُ الضُرُ

٢٩٨

وَلانَ لداودَ الحديدُ بسرِّهِم

فَقدَّرَ في سَردِ يَحيرُ به الفِكرُ

وَلَمّا سُليمانُ البساطُ به سرى

أُسِيلت لَهُ عينٌ يفيضُ له القِطرُ

وَسُخِّرَتِ الرِّيحُ الرُّخاءُ بأمرهِ

فَغَدوَتُها شَهرٌ ورَوحَتُها شَهرُ

وَهُم سِرّ موسى والعصا عندما عصى

أوامِرَهُ فرعونُ والتَقَفَ السِّحرُ

ولولاهُمُ ما كان عيسى بن مريمَ

لِعازِرَ من طيّ اللّحودِ له نَشرُ

علابِهمُ قَدري وفخري بهم غلا

ولولاهم ما كان في الناس لي ذِكرُ

مُصابكُمُ يا آل طه مُصيبةٌ

ورزءٌ على الإسلام أحدثَهُ الكُفرُ

سأندُبُكم يا عُدَّتي عند شدّتي

وأبكيكُمُ بعدي المراثي والشعرُ

عرائسُ فِكرِ الصالحِ بن ِعَرَندسٍ

قبولُكُمُ يا آلَ طه لَها مَهرُ

وكيفَ يحيط الواصفون بمدحكم

وفي مدح آيات الكتابِ لكم ذكرُ

ومَولِدُكُم بطحاء مَكّةَ والصَّفا

وزمزمُ والبيت المحرّم والحِجرُ

جعلتُكُمُ يوم المعادِ وَسيلتي

فطُوبى لِمَن أمسى وأنتم لَهُ ذُخرُ

سَيُبلي الجديدانِ الجديدَ وحُبُّكم

جديدٌ بقلبي ليس يُخلِقُهُ الدَهرُ

عليكم سلامُ اللّه ما لاحَ بارِقٌ

وَحَلَّت عُقودُ المُزنٍ وانتشَرَ القَطرُ

هذا تمام القصيدة ذات الشرف ، التي يؤمل بقرائتها التشرف.

والسؤال المطروح في المقام هو أنه كيف تُدرَك هذه السعادة العظمى والفضيلة الكبرى؟

مع العلم بأن الحكمة البالغة تقتضي غيبة الامام عليه‌السلام ، والّا لم يغب. فالبناء على الغيبة لا على الرؤية أساساً.

لذلك لم يكن عدم تشرف المؤمن بخدمته عليه‌السلام كاشفاً عن عدم كونه انساناً صالحاً ، بل لعله من أجل عدم كون المصلحة مقتضيه.

الا أن تشرفه توفيق وفيض حقيق ، ونعمة عظيمة بالتحقيق.

٢٩٩

لذلك اُمرنا أن ندعوا بأن يرزقنا اللّه تعالى ذلك ، والرزق يكون في النعم.

ففي الدعاء الشريف من حرز الامام زين العابدين عليه‌السلام : «وارزقني رؤية قائم آل محمد» (١).

والطريق الى نعمة التشرف ورؤية صاحب الشرف الامام الحجة عليه‌السلام ، هو الطريق الذي بيّنه هو وأرشد اليه سلام اللّه عليه في توقيعه المبارك الى شيخ الشيعة المفيد اعلى اللّه مقامه في حديث الاحتجاج (٢) في قوله :

«ولو أن أشياعنا ـ وفقهم اللّه لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم ، لما تأخّر عنهم الُيمن بلقائنا ، ولتعجلت لهم السعادة بمشاهدتنا ، على حق المعرفة وصدقها منهم بنا.

فما يحبسنا عنهم الا ما يتصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم ...».

ويظهر من هذا التوقيع الشريف بوضوح بكلمة واحدة أن طريق التشرف بخدمته ورؤيته ، ووصول المؤمنين اليه هو الوفاء بعهد اللّه علينا ، والعزم على ذلك بقلوبنا.

فما هو هذا الوفاء؟

الجواب : أن الوفاء بعهد اللّه تعالى يلزم أن يستفاد من أدلة الوفاء المذكورة في لسان الشرع ، في مثل :

قوله تعالى : (الذينَ ينقُضُونَ عهدَ اللّهِ من بعدِ ميثاقِهِ) (٣).

قوله تعالى : (وأوفُوا بعهدي اُوفِ بعهدِكم) (٤).

__________________

(١) مهج الدعوات : ص ٢٤.

(٢) الاحتجاج : ح ٢ ص ٣٢٥.

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٧.

(٤) سورة البقرة : الآية ٤١.

٣٠٠