الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

السيد علي الحسيني الصدر

الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-978-002-7
الصفحات: ٤٧٢

قال محمد بن عثمان رضي‌الله‌عنه : ورايته صلوات اللّه عليه متعلقاً بأستار الكعبة من المستجار وهو يقول :

اللهم إنتقم لي من أعدائك» (١).

ويكفي في منزلته وجلالة قدره ما في الأحاديث التالية :

١ ـ حديث احمد بن اسحاق المتقدم الذي ورد فيه :

«العمري وابنه ثقتان ...» (٢).

٢ ـ حديث محمد بن ابراهيم بن مهزيار الأهوازي ، أنه خرج اليه ـ من الناحية المقدّسة ـ بعد وفاة أبي عمرو عثمان بن سعيد :

«والإبن ـ وقاه اللّه ـ لم يزل ثقتنا في حياة الأب رضي‌الله‌عنه وأرضاه ونضّرَ وجهه. يجري عندنا مجراه ، ويسدّ مسدّه ، وعن أمرنا يأمر الإبن وبه يعمل ، تولاّه اللّه. فانتهِ الى قوله ، وغرّف معاملتنا ذلك» (٣).

٣ ـ حديث عبداللّه بن جعفر الحميري ، قال : خرج التوقيع الى الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمريّ في التعزية بأبيه رضي‌الله‌عنهما.

في فصلٍ من الكتاب :

«إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، تسليماً لأمره ورضاءاً بقضائه. عاش أبوك سعيداً ومات حميداً ، فرحمه اللّه وألحقه بأوليائه ومواليه عليهم‌السلام. فلم يزل مجتهداً في أمرهم ، ساعياً فيما يقرّ به إلى اللّه عزّ وجلّ وإليهم؛ نضّر اللّه وجهه وأقاله عثرته».

وفي فصلٍ آخر :

__________________

(١) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢٢١.

(٢) اصول الكافي : ج ٢ ص ٣٢٩ ح ١.

(٣) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢٢٠.

٢٠١

«أجزل اللّه لك الثواب وأحسن لك العزاء؛ رُزئت ورُزئنا ، وأوحشك فراقُه وأوحشنا. فسرّه اللّه في منقلبه.

وكان من كمال سعادته أن رزقه اللّه عزّ وجلّ ولداً مثلَك يخلفه من بعده ، ويقوم مقامه بأمره ، ويترحّم عليه ، وأقول : الحمد للّه. فإنَّ الأنفس طيّبة بمكانك وما جعله اللّه عزّ وجلّ فيك وعندك.

أعانك اللّه وقوّاك وعضدك ووفّقك ، وكان اللّه لك وليّاً وحافظاً وراعياً وكافياً ومُعيناً» (١).

٤ ـ حديث كمال الدين ، عن اسحاق بن يعقوب ، قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ.

فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام :

«أمّا ما سألت عنه أرشدك اللّه وثبّتك ـ إلى أن قال ـ : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فانّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه.

وأمّا محمد بن عثمان العمري فرضي‌الله‌عنه وعن أبيه من قبل ، فانّه ثقتي وكتابه كتابي».

ورواه الشيخ في كتاب (الغيبة) عن جماعة ، عن جعفر بن محمد بن قولويه وأبي غالب الزراري وغيرهما ، كلّهم عن محمد بن يعقوب.

ورواه الطبرسي في (الاحتجاج) مثله (٢).

٥ ـ حديث علي بن ابي جيد القمي قال : حدثنا علي بن أحمد الدلال القمي ، قال : دخلت على ابي جعفر محمد بن عثمان رضي‌الله‌عنه يوماً لاُسلم عليه ،

__________________

(١) كمال الدين ص ٥١٠ ح ٤١.

(٢) لا حظ الحديث مع أسانيد في الوسائل : ج ١٨ ص ١٠١ ب ١١ ح ٩.

٢٠٢

فوجدته وبين يديه ساجة ونقاش ينقش عليها ويكتب آياً من القرآن وأسماء الأئمّة عليهم‌السلام على حواشيها.

فقلت له : يا سيدي ، ما هذه الساجة؟

فقال لي : «هذه لقبري تكون فيه اُضع عليها ، أوقال : اسند إليها ، وقد عرفت منه ، وأنا في كل يوم انزل فيه فاقرأ جزء من القرآن فيه فاصعد ، واظنه (قال) : فاخذ بيدي وارانيه. فاذا كان يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا ، من سنة كذا وكذا صرت الى اللّه عزّ وجلّ ودفنت فيه وهذه الساجة معي».

فلما خرجت من عنده اثبّت ما ذكره ولم أزل مترقباً به ذلك. فما تأخر الأمر حتى اعتل ابو جعفر فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي قاله من السنة التي ذكرها ، ودفن فيه (١).

انتقل الى رحمة اللّه تعالى شريف النفس رفيع الرأس ، واخبر بان السفير بعده هو الحسين بن روح رضي‌الله‌عنه.

دفن محمد بن عثمان في بغداد ، قرب باب سلمان ، وقبره معروف يزار ويتبرّك به ، ويعرف عند اهل بغداد بالشيخ الخُلاّني.

النائب الثالث

أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي.

وهو الثقة السعيد السديد الذي تشرف بالنيابة الخاصة بالتنصيص عليه.

كان فاضلاً موثوقاً لا يختلف في وثاقته اثنان ، ذا شخصية معروفة ، تطمئن اليه الشيعة بكل جدّ.

__________________

(١) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢٢٢.

٢٠٣

بل كان مشهوداً له بالرشد عند الموافق والمخالف ، وله كتاب التأديب.

يشهد بنيابته وجلالة قدره الأحاديث التالية :

١ ـ حديث جعفر بن احمد بن متيل ، قال :

«لما حَضَرت أبا جعفر محمد بن عثمان العمري قدس‌سره الوفاة ، كنت جالساً عند رأسه اسأله واحدثه ، وابو القاسم بن روح عند رجليه.

فالتفت الي ثم قال : اُمرتُ أن اُصي الى أبي القاسم الحسين بن روح.

قال : فقمت من عند رأسه ، وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني وتحولت الى عند رجليه» (١).

٢ ـ حديث محمد بن همام ، أن أبا جعفر محمد بن عثمان العمري قدّس اللّه روحه جمعنا قبل موته ـ وكان وجوه الشيعة وشيوخها ـ فقال لنا :

«إن حدث عليّ حدث الموت ، فالأمر الى أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي.

فقد أُمرتُ أن أجعله في موضعي بعدي؛ فارجعوا اليه وعولوا في اموركم عليه» (٢).

٣ ـ حديث جعفر بن أحمد النوبختي ، قال :

«قال لي أبي احمدُ بن ابراهيم ، وعمي ابو جعفر عبداللّه بن ابراهيم ، وجماعة من أهلنا (يعني بني نوبخت) :

إنّ ابا جعفر العمري لما اشتدت حاله ، اجتمع جماعة من وجوه الشيعة ، منهم : ابو علي بن همام ، وابو عبداللّه بن محمد الكاتب ، وابو عبداللّه الباقطاني ،

__________________

(١) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢٢٦.

(٢) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢٢٦.

٢٠٤

وابو سهل اسماعيل بن علي النوبختي ، وابو عبداللّه بن الوجناء ، وغيرهم من الوجوه والأكابر ، فدخلوا على أبي جعفر رضي‌الله‌عنه فقالوا له : إن حدث أمر فمن يكون مكانك؟

فقال لهم : هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن ابي بحر النوبختي القائم مقامي ، والسفير بينكم وبين صاحب الأمر عليه‌السلام ، والوكيل ، والثقة الأمين.

فارجعوا اليه في اموركم وعوّلوا عليه في مهماتكم. فبذلك اُمرتُ وقد بلّغت» (١).

وكانت مدّة نيابته الخاصة ٢١ او ٢٢ سنة وتوفي سنة ٣٢٦ هجرية.

وقبره مقام معروف ومزار شريف ، ببغداد في سوق الشورجة.

النائب الرابع

أبو الحسن علي بن محمد السمَري.

وهو الثقة الجليل والفاضل النبيل الذي أدرك صحبة الامام العسكري عليه‌السلام. ثم تولّي السفارة المقدّسة عن الامام المهدي عليه‌السلام بتنصيص النائب السابق عليه.

ففي الغيبة لشيخ الطائفة بسنده عن عتّاب قال :

«أوصى الشيخ ابو القاسم رضي‌الله‌عنه الى أبي الحسن علي بن محمد السمري رضي‌الله‌عنه فقام بما كان الى ابي القاسم» (٢).

روى أنه أخبر وهو من بغداد بموت علي بن بابويه ـ والد الشيخ الصدوق ـ وهو في الري. فقال لجمع من المشايخ عنده :

__________________

(١) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢٢٦.

(٢) الغيبة : ص ٢٤٢.

٢٠٥

«آجركم اللّه في علي بن الحسين فقد قُبض في هذه الساعة.

قالوا : فأثبتنا تاريخ الساعة واليوم والشهر. فلما كان بعد سبعة عشر او ثمانية عشر يوماً ، ورد الخبر أنه قُبض في تلك الساعة» (١).

تولّى النيابة الخاصة ثلاث سنوات تقريباً ، الى أن توفى سنة ٣٢٨ أو ٣٢٩ هجرية (٢).

وبوفاته رضوان اللّه تعالى عليه انتهت النيابة الخاصة والسفارة العالية التي دارت ما يقارب من ٧٠ سنة ، وبدأت الغيبة الكبرى.

وقد صدر توقيع مقدس من الامام المهدي عليه‌السلام الى السمري رضوان اللّه عليه قبل وفاته بستة أيام؛ ذكره شيخ الطائفة الطوسي بسنده ، عن أحمد بن الحسن المكتب ، قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ ابو الحسن علي بن محمد السمري قدس‌سره ، فحضرتُه قبل وفاته بأيام ، فاخرج الى الناس توقيعاً نسخته :

«بسم اللّه الرحمن الرحيم. يا علي بن محمد السمري! أعظم اللّه أجر إخوانك فيك؛ فانك ميت ما بينك وبين ستة أيام. فاجمع أمرك ، ولا توصِ الى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة.

فلا ظهور إلا بعد إذن اللّه تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد ، وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً.

وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة؛ ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العلي

__________________

(١) الكنى والألقاب : ج ٣ ص ٢٢٣.

(٢) تتمة المنتهى : ص ٤٢.

٢٠٦

العظيم».

(قال :) فنَسَخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده. فلما كان اليوم السادس عدنا اليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيك من بعدك؟

فقال : للّه أمر هو بالغة ، وقضى.

فهذا آخر كلام سمع منه ، رضي‌الله‌عنه وأرضاه (١).

ثم توفي رضوان اللّه تعالى عليه حميداً سعيداً ، وكانت وفاته في النصف من شعبان سنة ٣٢٩ هجرية.

ودفن في بغداد في مزاره المعروف اليوم ، قرب قبر الشيخ الكليني قدس‌سره الذي هو على شاطئ دجلة عند الجسر العتيق.

ولا يخفى أن قوله عليه‌السلام في هذا التوقيع الشريف : «ولا توص الى أحدٍ فيقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامّة» ، بيان إنتهاء النيابة الخاصة. فلا يصح دعواها من أحد ، ولا يحق إدّعاؤها لشخص بالغاً ما بلغ.

ثم ينبغي الإلفات هنا الى معنى قوله عليه‌السلام : «الا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر».

وكيف تستقيم التشرفات الكثيرة التي حصلت لكثير من الصلحاء الأخيار والعلماء الأبرار؟

الجواب : يحتمل في معنى الفقرة الشريفة معان :

١ ـ أن تكون المشاهدة ـ بقرينة وقوعها في توقيع نائبه رضوان اللّه عليه ـ بمعنى هكذا مشاهدة نيابيّة ، يعني المشاهدة مع النيابة الخاصة عنه والباب اليه عليه‌السلام؛ كما ادعاها زمرة من الأفراد حبّاً للرئاسة ومتابعةً للأهواء والأغراض

__________________

(١) الغيبة (لشيخ الطائفة) : ص ٢٤٢. كمال الدين : ص ٥١٦ ب ٤٥ ح ٤٤. الاحتجاج : ج ٢ ص ٢٩٧.

٢٠٧

الباطلة ، مثل حسن الشريعي ، ومحمد بن نصير النميري ، واحمد بن هلال الكرخي ، ومحمد بن علي بن بلال ، والحسين بن منصور الحلّاج ، ومحمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن ابي العراقر ، وابي دلف محمد بن المظفر الكاتب الأزدي ، ومحمد بن احمد البغدادي ، ممن شملهم حديث اللعن (١).

__________________

(١) تلاحظ ذلك في : الغيبة : ص ٢٤٤ باب الذين ادعوا البابية لعنهم الله. الاحتجاج : ج ٢ ص ٢٨٩. البحار ج ٥١ ص ٣٦٧.

جاء في الاحتجاج ما نصّه :

روى أصحابنا : ان أبا محمّد الحسن الشريعي كان من اصحاب أبي الحسن علي بن محمّد عليه‌السلام ، وهو أول من ادعي مقاماً لم يجعله الله فيه من قِبَل صاحب الزمان عليه‌السلام وكذب على الله وحججه عليهم‌السلام ، ونسب اليهم ما لا يليق بهم وما هم منه براء ، ثم ظهر منه القول بالكفر والالحاد.

وكذلك كان محمّد بن نصير النميري من اصحاب أبي محمّد الحسن عليه‌السلام ، فلما توفى ادعى البابية لصاحب الزمان ، ففضحه الله تعالى بما ظهر منه من الالحاد والغلو والتناسخ ، وكان يدعي انه رسول نبي ارسله علي بن محمّد عليه‌السلام ، ويقول بالاباحة للمحارم.

وكان أيضاً من جملة الغلاة احمد بن هلال الكرخي ، وقد كان من قبل في عدد أصحاب أبي محمّد عليه‌السلام ، ثم تغير عما كان عليه وأنكر بابية أبي جعفر محمّد بن عثمان ، فخرج التوقيع بلعنه من قبل صاحب الأمر والزمان والبراءة منه ، في جملة من لعن وتبرّء منه.

وكذا كان أبو طاهر محمّد بن علي بن بلال ، والحسين بن منصور الحلاج ، ومحمّد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر ، لعنهم الله ، فخرج التوقيع بلعنهم والبراءة منهم جميعاً ، على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رحمه‌الله ونسخته :

«عرِّف أطال الله بقاك! وعرّفَك الله الخير كله وختم به عملك ، من تثق بدينه وتسكن الى نيته من اخواننا أدام الله سعادتهم : بأن (محمّد بن علي المعروف بالشلمغاني) عجل الله له النقمة ولا أمهله ، قد ارتد عن الاسلام وفارقه ، والحد في دين الله وادعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى ، وافترى كذباً وزوراً ، وقال بهتاناً واثماً عظيماً ، كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً ، وخسروا خسراناً مبيناً.

وانا برئنا الى الله تعالى والى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته منه ، ولعنّاه عليه لعاين الله تترى ، في الظاهر منا والباطن ، في السرّ والجهر ، وفي كل وقت وعلى كل حال ، وعلى كل من شايعه

٢٠٨

فتكون هذه الفقرة سدّاً لباب هذه الادعاءات الباطلة ، وتكذيباً لهكذا أفراد مبطلين.

٢ ـ أن تكون المشاهدة بمعنى المشاهدة مع المعرفة ، كما هو المتعارف فيما يشاهده الانسان في حياته ، فانه يشاهده مع معرفة أنه من هو وما هو ولا يُحجب عن معرفته.

ومن المعلوم أن الغالب فيمن حصل لهم التشرف أنهم لم يعرفوا الامام المهدي عليه‌السلام في حينه ، ولم ينتبهوا الى شخصيته المباركة في وقته ، بل التفتوا الى ذلك بعد مفارقته؛ فلم تكن مشاهدة بعرفان ، ورؤيةً ببيان. فتكون تشرّفات الصلحاء غير مشمولة لتلك الفقرة العلياء.

٣ ـ ان تكون هذه الفقرة الشريفة ناظرة الى تكذيب إدّعاء المشاهدة لا اصل الرؤية والمشاهدة ، لظاهر قوله : «فمن ادعى المشاهدة».

فان الصلحاء الذين شاهدوا الامام المهدي عليه‌السلام حقّاً وصدقاً ، ستروا ذلك ولم يذكروه لأحد ، ولم يُظهروه الا أن تظهر هي بنفسها قهراً؛ كما في قضية المقدس الأردبيلي المعروفة.

أو كان يلزم إظهارها لضرورة ، مثل بيان حقّانية الامامة ، كما في قضية محمد بن عيسى البحراني المشهورة ، ونحو ذلك.

مضافاً الى خصوصيّة التعبير بالادعاء فانّ «الادّعاء» انما تكون بالنسبة الى من يكون كلامه محتملاً للصدق والكذب فيلزمه إثباته بالدليل شأن

__________________

وبلغه هذا القول منا فأقام على تولاه معه.

أعلِمهم تولاك الله! اننا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كنا عليه ممن تقدمه من نظرائه ، من : (الشريعي ، والنميري ، والهلالي ، والبلالي) وغيرهم. وعادة الله جلّ ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة ، وبه نثق واياه نستعين ، وهو حسبنا في كل امورنا ونعم الوكيل».

٢٠٩

الدعاوى المتعارفة.

واما مثل كلام أعلامنا كالمقدس الأردبيلي والسيد بحر العلوم وأمثالهم ، فلا يحتمل فيهم الكذب ابداً حتى يكون كلامهم ادعاء ، لما كان فيهم من التحرّز الشديد والورع الأكيد ، بل كان بعض تشرفات أخيارنا من الإخبارات التي دليلها معها ، كقضية اسماعيل الهر قلي المشهورة.

هذا تمام الكلام في اشارة الذكر في السفراء العظام الذين تشرفوا بالنيابة الخاصة عن مولانا الامام المهدي أرواحنا فداه.

وقد كان في زمان هؤلاء النواب المخلصين ، وكلاء محمودون ترد عليهم التوقيعات المباركة من قبل السفراء ، كما أشرنا اليه في أول البحث.

وكان هؤلاء الوكلاء يراجعون السفراء في القضايا والمسائل ، وتارة يراسلون الامام المهدي عليه‌السلام.

وهؤلاء الوكلاء جماعة طيبة ، دكرهم الشيخ الصدوق ، وشيخ الطائفة ، والسيد ابن طاووس (١) ، وهم :

١ ـ أحمد بن إسحاق الأشعري ، من قمّ.

٢ ـ أبو هاشم الجعفري داود بن القاسم بن إسحاق بن عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام.

٣ ـ محمد بن جعفر الأسدي العربي الرازي ، من ري.

٤ ـ حاجز بن يزيد الملقّب بالوشّاء ، من بغداد.

٥ ـ أبو إسحاق إبراهيم بن مهزيار الأهوازي.

__________________

(١) جُمع ذكرهم في : تنقيح المقال : ج ١ ص ٢٠٠. الزام الناصب : ج ١ ص ٤٢٧. ذكرناهم في : الفوائد الرجالية : ص ١٢٨.

٢١٠

٦ ـ محمد بن إبراهيم بن مهزيار ، من أهواز.

٧ ـ القاسم بن العلاء ، من أهل آذربايجان.

٨ ـ ولده الحسن بن القاسم بن العلاء ، كما يستفاد من التوقيع الوارد له بعد وفاة أبيه.

٩ ـ محمد بن شاذان النعيمي ، من أهل نيسابور.

١٠ ـ أحمد بن حمزة بن اليسع.

١١ ـ محمد بن صالح بن محمد الهمداني الدهقان ، من أهل همدان.

١٢ ـ العاصمي ، من الكوفة ، وهو عيسى بن جعفر بن عاصم ، كما هو المستظهر.

١٣ ـ إبراهيم بن محمد الهمداني.

١٤ ـ العطّار ، من بغداد ، كما عدّه الشيخ الصدوق ولم يذكر اسمه.

١٥ ـ الشامي ، من ري ، وفي نسخةٍ البسّامي ، كما عدّه الصدوق أيضاً في العنوان المتقدّم بدون ذكر إسمه.

١٦ ـ أبو محمّد الوجناتي.

١٧ ـ عمرو الأهوازي.

وهناك رجال آخرون استُظهر وكالتهم عن الناحية المقدّسة ، وهم :

١٨ ـ أبو عبداللّه الحسين بن علي البزوفري ، في قم.

١٩ ـ أيّوب بن نوح بن درّاج.

٢٠ ـ أبو جعفر محمّد بن أحمد ، في بغداد.

وتلاحظ أن في هؤلاء الوكلاء ، الرواة الطيبين والاجلاّء المحمودين ، ممن حُفّوا بجلالة القدر ومعالي الذكر.

ومن جملتهم القاسم بن العلاء من أهل آذربايجان ، الذي كان مقيماً بمدينة

٢١١

أران (١) ، ويظهر من حديثه أنه أدرك خمسة من الأئمة الميامين ، من الامام الرضا الى الامام المهدي عليهم‌السلام.

جاء في حديث الشيخ الطوسي ، عن الشيخ المفيد ، عن الصفواني (٢) قال :

«رأيت القاسم بن العلاء وقد عمّر مائة سنة وسبع عشرة سنة؛ منها ثمانون سنة صحيح العينين. لقي مولانا ابا الحسن وأبا محمد العسكريين عليهما‌السلام ، وحُجب (٣) بعد الثمانين ، ورُدّت عليه عيناه قبل وفاته بسبعة أيام ، وذلك اني كنت مقيماً عنده بمدينة الران من أرض آذربايجان ، وكان لا تنقطع توقيعات مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام على يد أبي جعفر محمد بن عثمان العمري وبعده على أبي القاسم بن روح قدس اللّه روحهما.

فانقطعت عنه المكاتبة نحواً من شهرين ، فقلق رحمه‌الله لذلك. فبينا نحن عنده نأكل ، إذ دخل البواب مستبشراً ، فقال له : فيج العراق (٤) ، لا يسمى بغيره.

فاستبشر القاسم وحول وجهه الى القبلة ، فسجد ودخل كهل قصير يُرى أثر الفيوج عليه ، وعليه جبة مصرية ، وفي رجله نعل محاملي ، وعلى كتفه مخلاة. فقام القاسم فعانقه ووضع المخلاة عن عنقه ، ودعا بطشت وماء فغسل يده وأجلسه الى جانبه ، فاكلنا وغسلنا أيدينا.

__________________

(١) «ران» و «أرّان» بلدة واحدة ، وهي مدينة بين مراغة وزنجان في ايران ؛ فيها نهر ماء شرب منه أمن الحصاة أبداً كما في : معجم البلدان : ج ٣ ص ١٨.

(٢) الغيبة : ص ١٨٨ : أخبرني محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيدالله ، عن محمد بن احمد الصفواني رحمه‌الله.

(٣) اي حجب عن الرؤية للعمى.

(٤) «الفيج بافتح فالسكون معرب پيك ، بمعني القاصد والبريد.

قوله «لا يسمى بغيره إما ببناء المفعول ، اي كان هذا الرسول لا يسمى ولا يعرف باسم غير فيج العراق ، وإما ببناء الفاعل أي لم يسمه البواب المبشر بغير فيج العراق جاء ملخصة في البحار.

٢١٢

فقام الرجل فأخرج كتاباً افضل (١) من النصف المدرج فناوله القاسم. فاخذه وقبّله ودفعه الى كاتب له يقال له ابن أبي سلمة.

فاخذه أبو عبداللّه ففضّه وقرأه حتى احس القاسم بنكاية (٢) ، فقال : يا ابا عبداللّه ، خير.

فقال : خير.

فقال : ويحك! خرج فيّ شيء؟

فقال ابو عبداللّه : ما تكره فلا.

قال القاسم : فما هو؟

قال : نعى الشيخ الى نفسه بعد ورود هذا الكتاب باربعين يوماً ، وقد حمل اليه سبعة اثواب.

فقال القاسم : في سلامة من ديني؟

فقال : في سلامة من دينك.

فضحك رحمه‌الله فقال : ما اؤمل بعد هذا العمر.

فقام الرجل الوارد فاخرج من مخلاته ثلاثة ازر وحبرة يمانية حمراء وعمامة وثوبين ومنديلاً ، فاخذه القاسم.

وكان عنده قميص خلعه عليه مولانا الرضا أبو الحسن عليه‌السلام.

وكان له صديق يقال له : عبدالرحمن بن محمد البدري ، وكان شديد النصب ، وكان بينه وبين القاسم ـ نضر اللّه وجهه ـ مودة في امور الدنيا شديدة ،

__________________

(١) قوله : «افضل من النصف» الخ ، يصف كبره ، أي كان اكبر من نصف. «ورق مدرج» اي مطوي. قاله في البحار.

(٢) كذا في النسخة الايرانية ، وفي : كتاب فرج المهموم لابن طاووس : «ببكائه» ، ولعله الصحيح ، فراجع.

٢١٣

وكان القاسم يوده ، وقد كان عبدالرحمن وافى الى الدار لاصلاح بين أبي جعفر بن حمدون الهمداني وبين ختنة ابن القاسم.

فقال القاسم لشيخين من مشايخنا المقيمين معه ـ أحدهما يقال له : أبو حامد بن عمران المفلس ، والآخر : أبو علي بن جحدر ان ـ أقرِئا هذا الكتاب عبدالرحمن بن محمد ، فاني أحب هدايته وارجو يهديه اللّه بقراءة هذا الكتاب.

فقالا له اللّه اللّه اللّه ، فان هذا الكتاب لا يحتمل ما فيه خلق من الشيعة ، فكيف عبدالرحمن بن محمد.

فقال : أنا اعلم أني مفش لسر لا يجوز لي اعلانه ، لكن من محبتي لعبدالرحمن بن محمد وشهوتي أن يهديه اللّه عزّ وجلّ لهذا الأمر هوذا ، أقرئه الكتاب.

فلما مر ذلك اليوم ـ وكان يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من رجب ـ دخل عبدالرحمن بن محمد وسلم عليه. فاخرج القاسم الكتاب فقال له : اقرأ هذا الكتاب وانظر لنفسك.

فقرأ عبدالرحمن الكتاب ، فلما بلغ الى موضع النعي ، رمي الكتاب عن يده وقال للقاسم : يا ابا محمد ، اتق اللّه! فانك رجل فاضل في دينك متمكن من عقلك ، واللّه عزّ وجلّ يقول : (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي ارض تموت) وقال : (عالم الغيب لا يظهر على غيبة احداً).

فضحك القاسم وقال له : أتمّ الآية (إلا من ارتضى من رسول) ، ومولاي عليه‌السلام هو الرضا من الرسول.

وقال : قد علمتُ أنك تقول هذا ، ولكن أرّخ اليوم فان أنا عشت بعد هذا اليوم المؤرَّخ في هذا الكتاب ، فاعلم أني لست على شيء ، وإن انا مِتُّ فانظر لنفسك.

٢١٤

فورّخ عبدالرحمن اليوم وافترقوا ، وحمّ القاسم يوم السابع من ورود الكتاب ، واشتدت به في ذلك اليوم العلة ، واستند في فراشه الى الحائط.

وكان ابنه الحسن بن القاسم مدمناً على شرب الخمر ، وكان متزوجاً الى أبي عبداللّه بن حمدون الهمداني ، وكان جالساً ورداؤه مستور على وجهه في ناحية من الدار ، وأبو حامد في ناحية ، وابو جعفر بن جحدر وانا وجماعة من اهل البلد نبكي.

إذ اتكى القاسم على يديه الى خلف وجعل يقول : يا محمّد ، يا علي ، يا حسن ، ياحسين ، يا موالي ، كونوا شفعائي الى اللّه عزّ وجلّ ، وقالها الثانية. وقالها الثالثة.

فلما بلغ في الثالثة يا موسى يا علي ، تفرقعت أجفان عينيه ، كما يفرقع الصبيان شقائق النعمان ، وانتفخت حدقته ، وجعل يمسح بكمه عينيه ، وخرج من عينيه شبيه بماء اللحم. مدّ طرفه الى ابنه ، فقال : ياحسن اليّ ، يا ابا حامد يا ابا علي اليّ.

فاجتمعنا حوله ونظرنا الى الحديقتين صحيحتين ، فقال له ابو حامد : تراني؟ وجعل يده على كل واحد منا.

وشاع الخبر في الناس والعامة ، وانتابه الناس من العوام ينظرون اليه ، وركب القاضي اليه ـ وهو ابو السائب عتبة بن عبداللّه المسعودي وهو قاضي القضاة ببغداد ـ.

فدخل عليه فقال له : يا ابا محمد! ما هذا الذي بيدي؟ وأراه خاتماً فصه فيروزج ، فقرّبه منه.

فقال : عليه ثلاثة اسطر. فتناوله القاسم رحمه‌الله ، فلم يمكنه قراءته وخرج الناس متعجبين يتحدثون بخبره.

٢١٥

والتفت القاسم الى ابنه الحسن ، فقال له : إن اللّه منزلك منزلة ومرتبك مرتبة ، فاقبلها بشكر.

فقال له الحسن : يا أبه ، قد قبلتها.

قال القاسم : على ماذا؟

قال : على ما تأمرني به يا أبه.

قال : على أن ترجع عما أنت عليه من شرب الخمر.

قال الحسن : يا أبه ، وحق من أنت في ذكره لأرجعن عن شرب الخمر ومع الخمر اشياء لا تعرفها.

فرفع القاسم يده الى السماء وقال : اللهم ألهم الحسن طاعتك ، وجنبه معصيتك ـ ثلاث مرات ـ.

ثم دعا بدرج فكتب وصيته بيده رحمه‌الله ، وكانت الضياع التي في يده لمولانا وقف وقفه أبوه.

وكان فيما أوصى الحسن أن قال : يا بني ، إن اهلت لهذا الأمر ـ يعني الوكالة لمولانا ـ. فيكون قوتك من نصف ضيعتي المعروفة بفرجيذه ، وسائرها ملك لمولاي ، وإن لم تؤهل له فاطلب خيرك من حيث يتقبل اللّه.

وقبل الحسن وصيته على ذلك ، فلما كان في يوم الأربعين وقد طلع الفجر ، مات القاسم رحمه‌الله.

فوافاه عبدالرحمن يعدو في الأسواق حافياً حاسراً وهو يصيح : وا سيداه.

فاستعظم الناس ذلك منه وجعل الناس يقولون : ما الذي تفعل بنفسك؟

فقال : اسكنوا ، فقد رأيت ما لم تروه ، وتشيّع ورجع عما كان عليه ، ووقف الكثير من ضياعه.

وتولّى ابو علي بن جحدر غسل القاسم ، وابو حامد يصب عليه الماء ،

٢١٦

وكفن في ثمانية اثواب ، على بدنه قميص مولاه ابي الحسن عليه‌السلام ، وما يليه السبعة الأثواب التي جاءته من العراق.

فلما كان بعد مدة يسيرة ورد كتاب تعزية على الحسن من مولانا عليه‌السلام في آخره دعاء : «الهمك اللّه طاعته وجنبك معصيته» ، وهو الدعاء الذي كان دعا به أبوه ، وكان آخره : «قد جعلنا أباك إماماً لك وفعاله لك مثالاً»».

ثم اعلم أن هؤلاء السفراء والوكلاء ، وردت بواسطتهم عن الناحية المقدسة أحاديث شريفة تتصف بكمال الصحة ، وتوقيعات مباركة ـ اي ما يوقع في الكتاب من أجوبة المسائل ـ تتسم بعلوّ المنزلة كسائر الأحاديث المباركة ، وهي تشتمل على مختلف الاحكام الشرعية والأدعية السنيّة والفضائل الراقية.

نقل منها ٥٢ توقيع في باب التوقيعات من كتاب كمال الدين.

وجاء كثير منها في كتاب كلمة الامام المهدي عليه‌السلام.

وجاءت مجموعة غنية منها في كتاب المختار من كلمات الامام المهدي عليه‌السلام.

ونحن نتبرّك بذكر نبذةٍ منها ، وباقةٍ من أزاهيرها ، فيما يلي من التوقيعات المختارة التالية :

التوقيع الاول (١)

النائب الجليل ، الشيخ الموثوق به ، عثمان بن سعيد العمري ، قال : تشاجر

__________________

(١) جاء هذا التوقيع الشريف في : كتاب الغيبة (لشيخ الطائفة) ص ١٧٢ ، والاحتجاج (للطبرسي) : ج ٢ ص ٢٧٧ ، وبحار الأنوار : ج ٥٣ ص ١٧٨ ب ٣١ ح ٩.

وراوي التوقيع هو الشيخ الاجل والنائب الاول ، عثمان بن سعيد العَمْري الذي حررنا له ترجمة خاصة في مبحث نواب وسفراء الامام المهدي عليه‌السلام ، فلاحظ.

٢١٧

ابن أبي غانم القزويني وجماعة من الشيعة في الخَلَف؛ فذكر ابن ابي غانم أن أبا محمد عليه‌السلام مضى ولا خَلَف له.

ثم إنهم كتبوا في ذلك كتاباً وأنفذوه الى الناحية ، وأعلموه بما تشاجروا فيه.

فورد جواب كتابهم بخطّه عليه وعلى آبائه السلام :

«بسم اللّه الرحمن الرحيم

عافانا اللّه وإياكم من الضلالة والفتن ، ووهب لنا ولكم روح اليقين ، وأجارنا واياكم من سوء المنقلب (١) ، أنه أنهي الى ارتياب جماعة منكم في الدين وما دخلهم من الشك والحيرة في ولاة امورهم ، فغمّنا ذلك لكم لا لنا وساءنا فيكم لا فينا ، لأن اللّه معنا ولا فاقة بنا الى غيره ، والحق معنا فلن يوحشنا من قعد عنا ، ونحن صنائع ربنا والخلق بَعدُ صنائعنا (٢).

__________________

(١) دعاء بالعافية عما يسلب سلامة الدين كالضلالة والفتنة ، وإعطاء روح اليقين وراحته ، والإجارة من سوء العاقبة.

وهو دعاءٌ لنا ونعم الدعاء ، وأما من المعصوم عليه‌السلام فهو بنحو «إياك أعني واسمعي يا جارة». فقد صيغت نفوسهم المقدسة من معدن القدس والجلال ، وخلقوا من نور الله تعالى الذي لم يطفأ ولا يطفأُ أبداً ، وجُعلوا أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً فلا سبيل للضلالة وسوء المنقلب فيهم أبداً.

(٢) جاء قريبٌ من هذا التعبير الشريف في كلام جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام في : نهج البلاغة : قسم الكتب  ، الكتاب رقم ٢٨ ، الذي هو من المحاسن الكتب جاء فيه : «فانّا صنائعُ ربِّنا ، والناسُ بعدُ صنائعُ لنا».

قال عنه ابن ابي الحديد في : شرح النهج : ج ١٥ ص ١٩٤ : «هذا كلام عظيم ، عالٍ على الكلام ، ومعناه عالٍ على المعاني».

الصنع والصنيع والصنعة واحد وهو الاحسان (مجمع البحرين : ص ٣٨٤).

واصطنعتك لنفسي اي اصطفيتك لمحبتي ورسالتي وكلامي (كنز الدقائق : ج ٨ ص ٣١٥).

٢١٨

يا هؤلاء ، مالكم في الريب تترددون وفي الحيرة تنعكسون. أو ما سمعتم اللّه عز وجل يقول : (يا أيُّها الذينَ آمنوا اطيعوُا اللّهَ واطيعوُا الرَّسولَ واُولي الأمرِ منكُم) (١)؟

أوَما علمتم ما جاءت به الآثار مما يكون ويحدث في أئمتكم عن الماضين والباقين منهم عليهم‌السلام؟

أوَما رأيتم كيف جعل اللّه لكم معاقل تأوون اليها وأعلاماً تهتدون بها ، من لدن آدم عليه‌السلام الى ان ظهر الماضي عليه‌السلام (٢). كلما غاب عَلَمٌ بدا عَلَم ، واذا أفل نجم طلع نجم.

فلما قبضه اللّه اليه ظننتم أن اللّه تعالى أبطل دينه وقطع السبب بينه وبين خلقه (٣)؟

كلّا! ما كان ذلك ولا يكون حتى تقوم الساعة ويظهر أمر اللّه سبحانه وهم كارهون ، وإن الماضي عليه‌السلام مضى سعيداً فقيداً على منهاج آبائه عليهم‌السلام حذو النعل

__________________

ولعل معنى الجملة الشريفة :

(نحن صنائعُ ربنا) اي نحن الذين اختارنا الله تعالى واصطفانا ، فنحن مستغنون بالله عمن سواه.

(والناس بعدُ صنائعنا) اي ان الناس مختارون لنا فنحن الواسطة بينهم وبين ربهم ، وهم المحتاجون إلينا ، فلا يستغني الخلق عنهم عليهم‌السلام بل يلزمهم الرجوع إليهم.

قال في : منهاج البراعة : ج ١٩ ص ١١٧ : «وأفاد عليه‌السلام بكلامه : «والناس صنائع لنا» أنهم عليهم‌السلام وسائط فيض الله تعالى بين الله المتعال وبين عباده ، وبقوله : «إنا صنائع ربّنا» أنه لا واسطة بينهم وبين الله تعالى».

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) هو الامام الحسن العسكري عليه‌السلام.

(٣) اي فلما استشهد الامام العسكري عليه‌السلام ظننتم انه بطل دين الله بانقطاع حججه وانقطاع سلسلة أوصياء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظننتم أنه انقطع السبب بين الله وبين خلقه. فالامام هو السبب المتصل بين الأرض وبين السماء.

٢١٩

بالنعل ، وفينا وصيته وعلمه ، ومن هو خَلَفُه ومن هو يسد مسدّه. لا ينازعنا موضعه الا ظالم آثم ، ولا يدعيه دوننا إلّا جاحد كافر (١).

ولولا أن أمر اللّه تعالى لا يُغلب ، وسره لا يظهر ولا يعلن ، لظهر لكم من حقنا ما تبين (٢) منه عقولكم ، ويزيل شكوككم ، لكنه ما شاء اللّه كان ، ولكل أجل كتاب.

فاتقوا اللّه وسلّموا لنا ورُدّوا الأمر الينا. فعلينا الاصدار كما كان منا الايراد ، ولا تحاولوا كشف ما غطي عنكم ولا تميلوا عن اليمين وتعدلوا الى الشمال (٣) ، واجعلوا قصدكم الينا بالمودة على السنة الواضحة.

فقد نصحت لكم واللّه شاهد عليَّ وعليكم.

__________________

(١) أي ولا يدعي موضع الامام غير أهل البيت عليهم‌السلام الا جاحِدٌ كافر ، فإن إمامتهم الكبرى وولايتهم العظمى ثابتةٌ من الله ومن رسوله. فمن أنكرها أو ادعاها لغيرهم كان ذلك رداً غلى الله ورسوله ، وهو كفر وجحود. وقد تظاهرت في ذلك الروايات المعتبرة مثل :

١ ـ حديث الفضيل بن يسار عن الامام الصادق عليه‌السلام ، قال :

«من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر». (اصول الكافي : ج ١ ص ٣٧٢ ح ٢).

٢ ـ حديث عبدالله بن ابي يعفور عن الامام الصادق عليه‌السلام ، انه قال :

«ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكّيهم ، ولهم عذاب أليم : من إدّعى امامةً من الله ليست له ، ومن جحد إماماً من الله ، ومن زعم أنّ لهما ـ اي للغاصبَين ـ في الإسلام نصيب». (اصول الكافي : ج ١ ص ٣٧٣ ح ٤).

٣ ـ حديث يحيى بن القاسم ، عن الامام الصادق ، عن آباءه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

«الأئمة بعدي إثنا عشر ؛ أولهم علي بن أبي طالب ، وآخرهم القائم .... المقرّ بهم مؤمن والمنكر لهم كافر». (الوسائل : ج ١٨ ص ٥٦٢ ب ١٠ ح ٢٧).

(٢) في الاحتجاج : «ما تبهر منه».

(٣) ففي الخطبة العلوية المباركة : «والطريق الوسطى هي الجادّة ، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة ، ومنها منفذ السُنّة ، واليها مصير العاقبة» (نهج البلاغة : الخطبة ١٥ ص ٤٦ ، من الطبعة المصرية).

٢٢٠