الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

السيد علي الحسيني الصدر

الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-978-002-7
الصفحات: ٤٧٢

وها انا ابين بقاء كل واحد منهم ، فلا يسع بعد هذا العاقل انكار جواز بقاء المهدي عليه‌السلام ....

واما بقاء المهدي عليه‌السلام فقد جاء في الكتاب والسنّة.

اما الكتاب ، فقد قال سعيد بن جبير في تفسير قوله عزّ وجلّ : (ليُظهرَه على الدينِ كلِّه ولو كرِهَ المشركون) ، قال : المهدي من عترة فاطمة عليها‌السلام.

واما السنّة فما تقدم في كتابنا من الأحاديث الصحيحة الصريحة ...» (١).

لذلك اعترف بطول عمره عليه‌السلام علماء العامة ، كما ترى احصاء ذكرهم مع كلامهم في كتاب المهدي (٢).

ذكر منهم : الشيخ عبدالوهاب الشعراني في كتاب اليواقيت والجواهر ، وخواجه محمد پارسا في كتاب فصل الخطاب ، وابن حجر العسقلاني في كتاب القول المختصر ، وشهاب الدين الهندي في كتاب هداية السعداء.

واما دليل الوجدان

فإن الوجدان السليم شاهد ببقاءه وطول عمره عليه‌السلام ، لتواتر رؤيته ، وتظافر مشاهدته من زمان غيبته الصغرى الى زماننا هذا في غيبته الكبرى ، من قِبَل المؤمنين الصادقين والعلماء المتقين ممن يوجب قولهم العلم واليقين؛ امثال السيد ابن طاووس ، والعلامة الحلّي ، والمقدّس الأردبيلي ، والسيد بحر العلوم ، وغيرهم من الأعلام الأوتاد والبالغين أعلى درجات الصدق والعدالة والسداد.

__________________

(١) عنه في الاحقاق : ج ١٩ ص ٦٩٨.

(٢) كتاب المهدي : ص ١٤٦.

١٨١

وقد تقدّم ذكر الكتب الناقلة لجملة منها فراجع.

والعيان يغني عن البرهان ، ووجوده يُحس بالوجدان.

فيتحصّل ان طول عمر الامام المهدي المنتظر سلام اللّه عليه وعلى آباءه ، ثابت بالحديث المتواتر العلمي ، ومنصورٌ بالقرآن الالهي ، ومدلولٌ للبرهان العقلي ، ومؤيد بالشاهد الوجداني.

هذا كلّه ، مع ما تقدم الإلفات اليه من أن الرمز المكنون في طول عمره المصون صلوات اللّه عليه هو طريق الاعجاز.

أعني ان الاعجاز الالهي والقدرة الربانيّة أوجبت طول عمره الشريف وبقاءه شاباً ، كما يستفاد من خلال بعض الأحاديث المتقدّمة ، مثل حديثي ابي سعيد ومحمد بن مسلم (١).

فان الاحتفاظ بشبابه صلوات اللّه عليه في طول عمره ، معجزة من اللّه تعالى وارادة منه ، واللّه على كل شيء قدير.

ومع بقاءه شاباً يبقي عمره طويلاً طبيعياً اعجازاً وكرامة من اللّه تعالى ، وحكمة في سلامته وبقاءه الى ان يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، وبهذا يتضح الحق ، ولا يبقى اشكال في الحقيقة.

وأنت ترى جلياً ان الاعجاز والارادة الالهية تدفع هذه الشبهة الواهية ، مضافاً الى أن عدم مألوفية طول العمر في زماننا هذا لا يعني استحالته او عدم امكانه ، كما يدعيه الجاحد.

وليس في النواميس الطبيعية البشرية او الاصول العلمية ما يمنع طول العُمر ، بل دلّ كلاهما على وقوعه ، والوقوع أدلّ دليل على الإمكان.

__________________

(١) كمال الدين : ص ٣١٦ ح ٢ ، وص ٣٢٧ ح ٧.

١٨٢

أمّا على صعيد الطبيعة البشريّة

فإنّ التاريخ البشري يثبت طول عُمر الانسان فهو مليءٌ بالمعمرين ، كما تلاحظ إحصاءهم في كتاب المعمّرون لأبي حاتم السجستاني ، مما يثبت كون طول عمر الانسان ليس ممكناً فقط بل طبيعيّاً أيضاً.

وتلاحظ بيان جملة من المعمّرين مع مصادر ذكر مقدار عمرهم في الكتب المفصّلة ، وقد أحصى ١٤٢ شخص من المعمّرين (١) ، منهم :

١ ـ النبي آدم ، وعمره ٩٣٠ سنة.

٢ ـ النبي شيث بن آدم ، ٩١٢ سنة.

٣ ـ النبي ادريس ، ٩٦٥ سنة.

٤ ـ النبي نوح ، ٢٥٠٠ سنة.

٥ ـ ذو القرنين ، ٣٠٠٠ سنة.

٦ ـ لقمان ، ٣٥٠٠ سنة.

٧ ـ عوج بن عناق ، ٣٠٠٠ سنة.

٨ ـ الضحاك ، ١٠٠٠ سنة.

٩ ـ گشتاسب ، ٧٥٠ سنة.

١٠ ـ رستم ، ٦٠٠ سنة.

١١ ـ عزيز مصر ، ٧٠٠ سنة.

١٢ ـ ريّان والد عزيز مصر ، ١٧٠٠ سنة.

١٣ ـ دومغ والد الريان ، ٣٠٠ سنة.

__________________

(١) الزام الناصب : ج ١ ص ٢٨٨. إمامت ومهدويت : ج ٣ ص ٢١٤.

١٨٣

١٤ ـ فريدون ، ١٠٠٠ سنة.

لذلك قال شيخ الطائفة :

«واذا ثبتت هذه الجملة ، ثبت أن تطاول العمر ممكن غير مستحيل ، وقد دكرنا فيما تقدم عن جماعة أنهم لم يتغيروا مع تطاول أعمارهم وعلو سنهم.

وكيف ينكر ذلك من يقرّ بأن اللّه تعالى يخلّد المثابين في الجنة شباناً لا يبلون ، وانّما يمكن أن ينازع في ذلك من يجحد دلك ويسنده الى الطبيعة وتأثير الكواكب الذي قد دل الدليل على بطلان قولهم باتفاق منا وممن خالفنا في هذه المسألة من أهل الشرع ، فسقطت الشبهة من كل وجه» (١).

وقال ابو الصلاح الحلبي :

«اما استبعاده (اي طول عمر الامام الحجّة عليه‌السلام) فالمعلوم خلافه» (٢).

ثم ذكر الاجماع على طول عمر جماعة ، مثل نوح والخضر ولقمان ، بل غير الصالحين ايضاً ، ثم قال :

«واذا كان ما ذكرناه من أعمار هؤلاء معلوماً لكل سامع للاخبار وفيهم انبياء صالحون وكفار معاندون وفسّاق معلنون سقط دعوى خصومنا كون عمر الغائب خارقاً للعادة ، لثبوت أضعاف ما انتهى اليه من المدّة لأبرار وفجّار».

وقال ابو الفتح الكراجكي :

«اهل الملل كلها متفقون على جواز امتداد الأعمار وطولها» (٣).

وقال النعماني :

__________________

(١) كتاب الغيبة : ص ٨٧.

(٢) تقريب المعارف : ص ٤٤٩.

(٣) كنز الفوائد : ص ٢٤٥.

١٨٤

«ومنهم من يستبعد المدَّة ويستطيل الأمد ولا يرى أنَّ اللّه في قدرته ونافذ سلطانه وماضي أمره وتدبيره قادر على أن يمدَّ لوليّه في العمر ، كأفضل ما مدَّه ويمدُّه لأحد من أهل عصره وغير أهل عصره ، ويظهر بعد مضيِّ هذه المدَّة وأكثر منها.

فقد رأينا كثيراً من أهل زماننا ممّن عمّر مائة سنة وزيادة عليها ، وهو تامُّ القوَّة ، مجتمع العقل.

فكيف ينكر لحجّة اللّه أن يعمّره أكثر من ذلك ، وأن يجعل ذلك من أكبر آياته التي أفرده بها من بين أهله.

لأنّه حجّته الكبرى التي يظهر دينه على كلِّ الأديان ، ويغسل بها الأرجاس والأدران» (١).

هذا بحسب الطبيعة الانسانية في طول العمر.

وأمّا على صعيد الاصول العلمية

فان الدراسات العلمية والتحقيقات التجربية في العلم الحديث تؤيد وتثبت طول العمر والحياة الطويلة ، بحيث تصرّح بجزم وتذكر مقدورية البقاء الطويل بتوليد الانسجة الصناعية (٢).

ونكتفي في ذلك بمقال مجلة المقتطف المصرية : ج ٣ ص ٢٣٨ السنة ١٩٥٩ ، تحت عنوان «هل يخلد الانسان في الحياة؟».

جاء فيها ما نصّه :

__________________

(١) الغيبة : ص ١٥٧.

(٢) امامت ومهدويت : ص ١٩٠.

١٨٥

«كلّ حبّه حنطة جسم حي ، وقد كانت في سنبلة ، والسنبلة تنبت من حبة اخرى ، وهذه من سنبلة ، وهلم جرا بالتسلسل.

ويسهل استقصاء تاريخ ستة آلاف سنة او اكثر ، فقد وجدت حبوبه بين الآثار المصرية الآشورية القديمة ، دلالة على ان المصريين والاشوريين والاقدمين كانوا يزرعونه ويستغلونه ويصنعون خبزهم من دقيقة.

والقمح الموجود الآن لم يخلق من لا شيء ، بل هو متسلسل من ذلك القمح القديم ، فهو جزء حي من جزء حي من جزء حي ، وهلم جرا الى ستة آلاف سنة او سبعة بل الى مئات الالوف من السنين.

وحبوب القمح التي نراها ناشفة لا تتحرك ولا تنمو ، هي في الحقيقة حية مثل كل حي ، ولا ينقصها لظهور دلائل الحياة الا قليل من الماء ، فحياة القمح متصلة منذ الوف من السنين الى الآن.

وهذا الحكم يطلق على كل انواع النبات ذوات البذور وذوات الأثمار.

وما الحيوان بخارج عن هذه القاعدة ، فان كل واحد من الحشرات والاسماك والطيور والوحوش والذبابات ، حتى الانسان سيد المخلوقات كان جزءاً صغيراً من والديه ، فنما كما نميا وصار مثلهما وهما من والديهما وهلم جرا.

والانسان الذي يختلف نسلاً يكون نسله جزءاً حياً منه ، كما ان البذرة جزء من الشجرة ، وهذا الجزء الحي تكون فيه جراثيم صغيرة جداً ، مثل الجراثيم التي كونت اعضاء والديه ، فتكوّن اعضاؤه بالغذاء الذي تتناوله وتمثله.

فتصير نواة التمر نخلة ذات جذع وسعوف وعروق وتمر ، وبذره الزيتون شجرة ذات ساق واغصان وورق وثمر ، وقس على ذلك سائر انواع النبات ، وكذا بيوض الحشرات والاسماك والطيور والوحوش والذبابات حتى الانسان.

وهذا كله من الامور المعروفة التي لا يختلف فيها اثنان ، ولكن الشجرة

١٨٦

نفسها قد تعمر الف سنة او الفي سنة ، والانسان لا يعمر اكثر من سبعين او ثمانين سنة ، وفي النادر يبلغ مائة سنة.

فالجراثيم المعدة لإخلاف النسل تبقى حية وتنمو كما تقدم ، ولكن سائر اجزاء الجسم يموت كأن الموت مقدور عليه.

وقد مرت القرون والناس يحاولون التخلص من الموت او اطالة الاجل ، ولا سيما في هذا العصر ، عصر مقاومة الامراض والآفات بالدواء والوقاية ، ولم يثبت على التحقيق ان احداً عاش فيه (١٢٠) سنة مثلاً.

لكن العلماء الموثوق بعلمهم يقولون : ان كل الانسجة الرئيسية من جسم الحيوان تقبل البقاء الى ما لا نهاية له ، وانه في الامكان ان يبقى الانسان حياً اُلوفاً من السنين ، اذا لم تعرض عليه عوارض تصرم حبل حياته.

وقولهم هذا ليس مجرّد ظن ، بل هو نتيجة عملية مؤيدة بالامتحان.

فقد تمكّن احد الجراحين من قطع جزء من حيوان وابقائه حياً أكثر من السنين التي يحياها ذلك الحيوان عادة ، اي صارت حياة ذلك الجزء مرتبطة بالغذاء الذي يُقدم لها بعد السنين التي يحياها ، فصار في الامكان ان يعيش الى الابد ما دام الغذاء اللازم موفوراً له.

وهذا الجراح هو الدكتور الكسي كارل ، من المشتغلين في معهد روكفلر بنيويورك.

وقد امتحن ذلك في قطعة من جنين الدجاج ، فبقيت تلك القطعة حية نامية اكثر من ثماني سنوات.

وهو وغيره امتحنوا قطعا من اعضاء جسم الانسان من اعضائه وعضلاته وقلبه وجلده وكليته ، فكانت تبقى حية نامية ما دام الغذاء اللازم موفوراً لها.

حتى قال الاستاذ ديمند وبرل من اساتذة جامعة جونس هبكنس : ان كل

١٨٧

الاجزاء الخلوية الرئيسية من جسم الانسان ، قد ثبت اما ان خلودها بالقوة صار امراً مثبتاً بالامتحان ، او مرجحاً ترجيحاً تاماً لطول ما عاشته حتى الآن.

وهذا القول غاية في الصراحة والأهميّه على ما فيه من التحرس العلمي.

والظاهر ان اول من امتحن ذلك في اجزاء من جسم الحيوان هو الدكتور جاك لوب ، وهو من المشتغلين في معهد روكفلر ايضاً.

فانه كان يمتحن توليد الضفادع من بيضها ، اذا كان غير ملقح. فرأي ان بعض البيض يعيش زماناً طويلاً وبعضها يموت سريعاً. فقاده ذلك الى امتحان اجزاء من جسم الضفدع ، فتمكن من ابقاء هذه الاجزاء حيّة زماناً طويلاً.

ثم اثبت الدكتور ورن لويس وزوجته انه يمكن وضع اجزاء خلوية من جسم جنين الطائر في سائل ملحي فتبقى حية ، واذا اضيفت اليه قليل من بعض المواد الآلية جعلت تلك الاجزاء تنمو وتتكاثر.

وتوالت التجارب فظهر ان الاجزاء الخَلَوية ـ من اي حيوان كان ـ يمكن ان تعيش وتنمو في سائل فيه ما يغذيها ، ولكن لم يثبت ما ينفي موتها اذا شاخت.

فقام الدكتور كارل وجرّب التجارب المشار اليها آنفاً. فاثبت منها ان هذه الاجزاء لا تشيخ في الحيوان الذي اُخذت منه ، بل تعيش اكثر مما يعيش هو عادة.

وقد شرع في التجارب المذكورة في شهر يناير سنة ١٩١٢ ، ولقي عقبات كثيرة في سبيله ، فتغلب عليها هو ومساعدوه وثبت له :

اولا : ان هذه الاجزاء الخلوية تبقى حية ، ما لم يعرض لها عارض يميتها ، اما من قلة الغذاء او من دخول بعض المكروبات.

وثانياً : انهالا تكتفي بالبقاء حية ، بل تنمو خلاياها وتتكاثر ، كما لو كانت باقية في جسم الحيوان.

١٨٨

ثالثاً : انه يمكن قياس نمودها وتكاثرها ومعرفة ارتباطها بالغذاء الذي يُقدم لها.

ورابعاً : ان لا تأثير للزمن عليها اي أنها لا تشيخ ولا تضعف بمرور الزمن ، بل لا يبدو عليها اقل اثر للشيخوخة ، بل تنمو وتتكاثر هذه السنة كما كانت تنمو وتتكاثر في السنة الماضية وما قبلها من السنين.

وتدلّ الظواهر كلها على أنها ستبقى حية نامية ، ما دام الباحثون صابرين على مراقبتها وتقديم الغذاء الكافي لها.

فشيخوخة الاحياء ليست سبباً بل هي نتيجة.

ولكن لماذا يموت الانسان ولماذا نرى سنيَّة محدودة لا تتجاوز المائة الا نادراً جداً ، وغايتها العادية سبعون او ثمانون؟

والجواب : ان اعضاء جسم الحيوان كثيرة مختلفة وهي مرتبطة بعضها ببعض ، ارتباطاً محكماً حتى ان حياة بعضها تتوقف على حياة البعض الآخر. فاذا ضعف بعضها ومات لسبب من الأسباب مات بموته سائر الأعضاء.

ناهيك بفتك الأمراض المكروبيّة المختلفة ، وهذا مما يجعل متوسط العمر اقل جداً من السبعين والثمانين ، لا سيما وان كثيرين يموتون اطفالاً.

وغاية ما ثبت الآن من التجارب المذكورة ان الانسان لا يموت لانه عمَّر كذا من السنين سبعين او ثمانين او مائة او اكثر ، بل لان العوارض تنتاب بعض اعضائه فتتلفها ، ولإرتباط اعضائه بعضها ببعض تموت كلها.

فاذا استطاع العلم ان يزيل هذه العوارض او يمنع فعلها ، لم يبق مانع يمنع استمرار الحياة مئات من السنين ، كما يحيا بعض انواع الأشجار.

وقلما ينتظر ان تبلغ العلوم الطبيّة والوسائل الصحية هذه الغاية القصوى ، ولكن لا يبعد ان تدانيها فيتضاعف متوسط العمر او يزيد ضعفين او ثلاثة» ،

١٨٩

انتهى (١).

هذا ما صرّح به العلم الحديث ، وأثبتته التجارب العلمية.

وعلى الجملة تندفع شبهة استحالة او استبعاد طول عمره عليه‌السلام بدليل القرآن الكريم ، ثم الاحاديث المتفق عليها بين الفريقين عياناً ، ثم تواتر الرؤية والإخبار المتواتر الموجب للعلم لطول عمره وجداناً.

كل ذلك مؤيّداً بتحقق طول عمر الانسان في النواميس الطبيعيّة ، ثم قابلية البقاء اُلوفاً من السنين في الاصول العلمية.

هذا ، بالاضافة الى ما عرفت أن الرمز المكنون في طول عمره رعاه اللّه تعالى ، هو الإعجاز الالهي بابقاءه شاباً مصوناً عن عوارض الشيب ، واللّه هو القادر على كل شيء ، والحافظ لوليّه بلا ريب.

ذلك اللّه الذي حفظ ابراهيم من نار نمرود؛

وحفظ موسى من كيد فرعون؛

وحفظ الرسول الأعظم من كيد المشركين.

هو حافظ لوليّه الهادي وخليفته المهدي عليه‌السلام من عوارض الدهر وانواع الشر ، ان شاء اللّه تعالى.

وقد وعد فيه الحفظ ، كما في حديث الحسين بن حمدان ، عن الامام العسكري عليه‌السلام في الضمان القدسي :

«فانه في ضماني وكنفي وبعيني ، الى أن أحق به الحقّ وأزهق به الباطل» (٢).

__________________

(١) الامام المهدي من الى المهد الى الظهور : ص ٣٥١. المهدي : ص ١٤٠ ، نقلاً عن مجلة المقتطف المصرية : العدد ٣ السنة ١٩٥٩ م ص ٢٣٨.

(٢) البحار : ج ٥١ ص ٢٧.

١٩٠

البحث الرابع

سُفراء الإمام المهدي عليه‌السلام

١٩١
١٩٢

السفير ، وجمعه سَفَرة وسُفراء ، مأخوذ من السَّفارة بمعنى الرسالة ، فالسفير هو الرسول (١).

أو مأخوذ من السِّفارة بمعنى الإصلاح ، فالسفير هو المصلح (٢).

فالسفير يجمع كلا المعنيين ، ويكون بمعنى : الرسول بين القوم ، المصلح بينهم (٣).

وفي زيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الغدير المبارك :

«السلام عليك يا سفير اللّه في خلقه».

هذه هي السفارة المقدّسة بعنوانها الشريف ، وقد أطلقت على الأعلام الاتقياء والصلحاء الأجلاء النواب الأربعة رضوان اللّه عليهم ، الذين كانوا الأبواب المحمودين لمولانا الامام المهدي عليه‌السلام.

وهم أصحاب المنقبة العظمى ، والنيابة الخاصة الكبرى عن سيدنا صاحب الزمان أرواحنا فداه.

وهم الاُمناء والأتقياء ، الذين أجمعت الشيعة على أمانتهم وعدالتهم ورفعة مقامهم وعلوّ درجتهم.

__________________

(١) ترتيب العين : ج ٢ ص ٨٢٨.

(٢) مجمع البحرين : ص ٣٦٦.

(٣) المحيط في اللغة : ج ٨ ص ٣١٠.

١٩٣

وهم الذين سعدوا بوظائف دينهم وخدمة إمامهم ، ومضوا على منهاج أهل بيت نبيهم صلوات اللّه عليهم.

فلزم معرفتهم لمحبتهم التي هي من محض الاسلام وشيمة الكرام.

فلاحظ الحديث الرضوي المبارك في شرائع الدين (١) ، حيث جاء فيه أن ممن يتولاهم وتلزم ولايتهم هم :

«الذين مضوا على منهاج نبيهم ولم يغيروا ولم يبدّلوا ... ، والولاية لأتباعهم وأشياعهم والمهتدين بهداهم والسالكين منهاجهم رضوان اللّه عليهم».

ولا شك أن منهم النواب الكرام ، عليهم التحية والسلام.

وعنوان السفارة على نواب الأربعة رضي‌الله‌عنهم ، أطلقه شيخ الطائفة الطوسي قدس‌سره في كتاب الغيبة ، تبعاً لما ورد في تنصيص النائب الثاني محمد بن عثمان العمري على النائب الثالث الحسين بن روح. جاء فيه ما نصه :

«هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن ابي بحر النوبختي القائم مقامي ، والسفير بينكم وبين صاحب الأمر عليه‌السلام» (٢).

وقد دلّ الدليل القطعي على أنهم الأبواب المرضيون ، والسفراء الممدوحون لمولانا الامام المهدي عليه‌السلام ، كما يتضح مما يأتي عند ذكرهم من الاحاديث الآتية المبيّنة لجلالة قدرهم ، ومن البراهين الظاهرة على أيديهم.

قال في الاحتجاج بعد ذكرهم :

«ولم يقم أحدٌ منهم بذلك إلا بنصٍ عليه من قَبل صاحب الأمر عليه‌السلام ، ونَصبِ صاحبه الذي تقدم عليه.

__________________

(١) عيون الأخبار : ج ٢ ص ١٢٥.

(٢) الغيبة : ص ٢٢٧.

١٩٤

ولم تقبل الشيعة قولهم إلا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل واحدٍ منهم من قِبَل صاحب الأمر عليه‌السلام ، تدل على صدق مقالتهم وصحة بابيّتهم» (١).

وعليه فيدل على سفارتهم :

أولاً : الاجماع.

ثانياً : التنصيص عليهم.

ثالثاً : ظهور المعجزة من قبل الامام المهدي عليه‌السلام على يدهم.

هذا ، وزيارتهم المنسوبة اليهم تؤيد سفارتهم وأداؤهم وعلوّ منزلتهم :  «أشهد انك باب المولى ، أدّيت عنه وأديت اليه. ما خالفته ولا خالفت عليه؛ والسلام عليك من سفيرٍ ما آمنك ، ومن ثقةٍ ما امكنك» (٢).

وسيأتي ذكر السفراء النواب الأربعة في ترجمة حياتهم الرائعة ، علماً بأنه كان لهؤلاء السفراء وكلاء أتقياء منتشرون في البلاد الاسلاميّة التي يوجد فيها الشيعة الأبرار ، وترد عليهم توقيعات السفراء كما أفاده شيخ الطائفة بقوله :

«وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ، ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل» (٣).

والفرق بين السفراء والوكلاء رضوان اللّه عليهم ، قد بيّنه بعض الأعلام بقوله :

«والفارق بين السفراء الأربعة وبين الوكلاء الآخرين يمكن تلخيصه في أمرين رئيسيين :

__________________

(١) الاحتجاج : ج ٢ ص ٢٩٦.

(٢) لاحظ زيارتهم في : التهذيب : ج ٦ ص ١١٨. ومصباح الزائر : ص ٥١٤.

(٣) الغيبة : ص ٢٥٧.

١٩٥

أحدهما : أن السفير يواجه الامام شخصياً ويراه مباشرة ويسلمه الكتب والحوائج والأموال وغيرها ويتسلم منه الأجوبة والتعليمات الخاصة والعامة ، بينما الوكيل ليس كذلك ، بل هو على اتصال بالامام عليه‌السلام بواسطة السفير.

فالوكيل همزة وصل بين الشيعة وبين السفير غالباً.

ثانيهما : أن مسؤولية السفير في الحفاظ على الدين وعلى الشيعة عامة لا تخص بلداً أو قطراً معيناً ، بينما الوكيل مسؤوليته محدودة بمنطقته ، أو بلده.

والمصلحة الأساسية والظاهرة من تعيين وكلاء آخرين يمكن استنباطها في عدّة اُمور :

الاول : الاسهام في تسهيل مهمات السفراء وأعمالهم.

إذ من الصعب جداً للشخص الواحد أن يتصل بشرق البلاد وغربها ، ويكون المركز الوحيد للأحكام والحوائج والرسائل والأمانات وغيرها ، خاصة في ظروف التكتّم ، وملاحقة السلطات الظالمة القائمة للسفراء.

الثاني : تسهيل الأمر على الناس وأصحاب الرسل والحوائج ، وتوسيع الأمر عليهم حتى لا يتقيد من في ايران أو الحجاز أو غيرهما من الاتصال مباشرة بالسفراء القاطنين في بغداد.

الثالث : المساهمة في اخفاء السفراء الأربعة وكتمان اسمائهم وخصوصياتهم ، لكي لا يعرفوا فيؤخذوا برقابهم ، ويزج بهم في السجون أو يقتلون.

ويظهر من نصوص عديدة أن السفراء كانوا مهددين بذلك من سلطات زمانهم» (١).

__________________

(١) كلمة الامام المهدي عليه‌السلام : ص ١١٢.

١٩٦

ويحسن أن نبدأ بذكر النواب الأربعة الذين هم السفراء الأزكياء ، ثم نتبعه ببيان الوكلاء السعداء :

النوّاب الأربعة

النائب الأول

أبو عمر وعثمان بن سعيد العَمري السّمان الزياّت الأسدي.

بدأ حياته السعيدة بخدمة الامام الهادي عليه‌السلام وله من العمر احدى عشرة سنة.

ثم بقي وفيّاً بخدمة الامام العسكري عليه‌السلام الى حين شهادته ، حتى حضر تغسيل الامام العسكري عليه‌السلام وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.

ثم عيّنه الامام المهدي عليه‌السلام نائباً عنه وأبقاه على نيابته.

كان شيخاً جليلاً ورعاً تقياً أميناً مغموراً بالسعادة والشرف.

ويكفيك في جلالة قدره ما ورد في الأحاديث في شأنه ، مثل :

١ ـ حديث عبداللّه بن جعفر الحميري قال : أخبرني أبو علي أحمد بن اسحاق ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال :

سألته وقلت : من اُعامل وعمَّن آخذ وقول من أقبل؟

فقال له : «العمري ثقتي ، فما أدَّى إليك عني فعنِّي يؤدِّي ، وما قال لك عني فعنِّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنَّه الثقة المأمون.

وأخبرني أبو عليّ أنَّه سأل أبا محمد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال له :

العمريُّ وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عني فعني يؤدِّيان وما قالا لك فعني

١٩٧

يقولان. فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان» (١).

وأضاف في حديث آخر قول الامام العسكري عليه‌السلام :

«هذا أبو عمرو الثقة الأمين؛ ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات» (٢).

٢ ـ حديث اسحاق بن اسماعيل النيسابوري عن الامام العسكري عليه‌السلام في توقيعه :

«يا اسحاق بن اسماعيل ، سترنا اللّه واياك بستره ، وتولاك في جميع امورك بصنعه.

قد فهمت كتابك يرحمك اللّه ونحن ـ بحمد اللّه ونعمته ـ اهل بيت نرق على موالينا ، ونسر بتتابع احسان اللّه اليهم وفضله لديهم ، ونعتد بكل نعمة انعمها اللّه عزّ وجلّ عليهم. فأتم اللّه عليكم بالحق ومن كان مثلك ممن قد رحمه اللّه وبصّره بصيرتك ....

فلا تخرجن من البلد حتى تلقى العمري رضي‌الله‌عنه برضائي عنه ، فتسلم عليه وتعرفه ويعرفك؛ فانه الطاهر الامين العفيف القريب منا والينا.

فكل ما يحمله الينا من شيء من النواحي ، فاليه يصير آخر امره ليوصل ذلك الينا.

والحمد للّه كثيراً. سترنا اللّه واياكم يا اسحاق بستره وتولاك في جميع امورك بصنعه.

والسلام عليك وعلى جميع موالي ورحمة اللّه وبركاته ، وصلى اللّه على

__________________

(١) اصول الكافي : ج ١ ص ٣٢٩ ح ١.

(٢) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢١٥.

١٩٨

سيدنا محمد النبي وآله وسلم كثيراً» (١).

٣ ـ حديث جعفر بن محمد بن مالك الفزاري البزاز ، عن جماعة من الشيعة منهم علي بن بلال ، واحمد بن هلال ، ومحمد بن معاوية بن حكيم ، والحسن بن أيوب بن نوح (في خبر طويل مشهور) قالوا جميعاً :

اجتمعنا إلى أبي محمد الحسن بن علي عليهما‌السلام نسأله عن الحجّة من بعده ، وفي مجلسه عليه‌السلام أربعون رجلاً.

فقام اليه عثمان بن سعيد بن عمرو العمري فقال له : يابن رسول اللّه اُريد أن اسألك عن أمر أنت أعلم به مني.

فقال له :

«اجلس يا عثمان ، فقام مغضباً ليخرج.

فقال : لا يخرجن أحد.

فلم يخرج منا أحد الى أن كان بعد ساعة. فصاح عليه‌السلام بعثمان ، فقام على قدميه.

فقال : أخبركم بما جئتم؟

قالوا : نعم يابن رسول اللّه.

(قال :) جئتم تسألوني عن الحجّة من بعدي.

قالوا : نعم.

فاذا غلام كأنه قطع قمر ، أشبه الناس بأبي محمد عليه‌السلام ، فقال : هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم ، أطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في أديانكم. ألا وإنكم لا ترونه من بعد يومكم هذا حتى يتم له عمر.

__________________

(١) رجال الكشي : ص ٤٨٥.

١٩٩

فاقبلوا من عثمان ما يقوله ، وانتهوا الى أمره ، واقبلوا قوله ، فهو خليفة إمامكم والأمر اليه» (١).

توفي عن عُمرِ مبارك خدم فيه الدين وأهله من الطفولة الى الشيخوخة ، فعاش سعيداً ومضى حميداً.

وكان المنصوب للسفارة بعده ولده محمد بن عثمان الذي حظى أيضاً بشرف النيابة عن الناحية المقدّسة.

دفن عثمان بن سعيد في الجانب الغربي ببغداد في شارع الميدان ، وله مقام معروف يزار فيه.

النائب الثاني

أبو جعفر محمد بن عثمان العمري الأسدي الزيّات.

وهو الورع التقي الأمين الذي حلَّ محل أبيه ، ونال سعادة خدمة الإمامين العسكري والمهدي عليهما‌السلام نحواً من خمسين سنة ، تخرج فيها اليه التوقيعات الشريفة في أمر الدين والدنيا.

ويعلم اللّه ما كان من مقدار سعادة تشرفاته بخدمة الامام المهدي عليه‌السلام سفراً وحضراً.

وفي حديث عبداللّه بن جعفر الحميري : سألت محمد بن عثمان رضي‌الله‌عنه فقلت له : رأيتَ صاحب هذا الأمر؟

قال : نعم ، وآخر عهدي به عند بيت اللّه الحرام ، وهو عليه‌السلام يقول :

«اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني.

__________________

(١) الغيبة (للشيخ الطوسي) : ص ٢١٧.

٢٠٠