الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

السيد علي الحسيني الصدر

الإمام المنتظر عليه السلام من ولادته إلى دولته

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 964-978-002-7
الصفحات: ٤٧٢

قلت : ممن؟

قال : ممن فلق الهام ، واطعم الطعام ، وصلى والناس نيام».

قال : فعلمت أنه علوي فاحببته على العلوية ، ثم افتقدته من بين يدي فلم ادر كيف مضى. فسألت القوم الذين كانوا حوله ، تعرفون هذا العلوي؟

قالوا : نعم ، يحج معنا في كل سنة ماشياً ، فقلت : سبحان اللّه ، واللّه ما أرى به أثر مشي.

قال : فانصرت الى المزدلفة كئيباً حزيناً على فراقه ، ونمت من ليلتي تلك فاذا أنا برسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا ابا احمد رأيت طلبتك.

فقلت : ومن ذاك يا سيدي؟

فقال : الذي رأيته في عشيتك وهو صاحب زمانك.

قال (اي الأنصاري) : فلما سمعنا ذلك منه (اي من المحمودي) عاتبناه أن لا يكون اعلمنا ذلك ، فذكر أنه كان ينسى أمره الى وقت ما حدثنا به (١).

١٠ ـ حديث رشيق صاحب المادري ، قال : بعث الينا المعتضد وأمرنا ان نركب ونحن ثلاثة نفر ، ونخرج مخفين السروج ، ونجنب اخرى ، وقال : الحقوا بسامراء واكبسوا دار الحسن بن علي فانه توفي ، ومن رأيتم في داره فأتوني برأسه.

فكبسنا الدار كما أمرَنا ، فوجدناها داراً سرية ، كأن الايدي رفعت عنها في ذلك الوقت.

فرفعنا الستر واذا سرداب في الدار الاخرى ، فدخلناها وكأن بحراً فيها وفي اقصاه حصير ، وقد علمنا انه على الماء ، وفوقه رجل من أحسن الناس

__________________

(١) الغيبة : ص ١٥٦ وكمال الدين : ص ٤٧٠ ب ٤٣ ح ٢٤ باختلاف يسير.

١٠١

هيئة ، قائم يصلي. فلم يلتفت الينا ولا الى شيء من أسبابنا.

فسبق أحمد بن عبداللّه ليخطى ، فغرق في الماء وما زال يضطرب ، حتى مددت يدي اليه فجلست فخلصته وأخرجته ، فغشى عليه وبقى ساعة.

وعاد صاحبي الثاني الى فِعلِ ذلك ، فناله مثل ذلك.

فبقيت مبهوتاً فقلت لصاحب البيت : المعذرة الى اللّه واليك ، فواللّه ما علمت كيف الخبر ، والى من نجيء ، وأنا تائب الى اللّه.

فما التفت اليَّ بشيء مما قلت.

فانصرفنا الى المعتضد ، فقال : اكتموه والا ضربت رقابكم (١).

وهناك جماعة آخرون ممن تشرفوا برؤية محيّاه الأسعد في هذه الفترة في الغيبة الصغرى ، من نوّابه ووكلاءه الكرام وغيرهم. فقد قال الشيخ الصدوق :

«حدثنا محمد بن محمد الخزاعي رضي‌الله‌عنه قال : حدثنا ابو على الأسدي ، عن أبيه عن محمد بن ابي عبداللّه الكوفي ، أنه ذكر عدد من انتهى اليه ممن وقف على معجزات صاحب الزمان عليه‌السلام ورآه.

من الوكلاء ببغداد : العمريّ وابنه ، وحاجز ، والبلالي.

ومن أهل قمّ : أحمد بن اسحاق.

ومن أهل همدان : محمد بن صالح.

ومن أهل الري : البسّامي ، والأسديُّ ـ يعني نفسه ـ.

ومن أهل آذربيجان : القاسم بن العلاء.

ومن أهل نيسابور : محمّد بن شاذان.

ومن غير الوكلاء من أهل بغداد : أبو القاسم بن أبي حليس ، وأبو عبداللّه

__________________

(١) كشف الغمة في : الزام الناصب : ج ١ ص ٣٦٨.

١٠٢

الكندي ، وأبو عبداللّه الجنيدي ، وهارون القزّاز ، والنيليّ ، وأبو القاسم بن دبيس ، وأبو عبداللّه بن فرّوخ ، ومسرور الطباخ مولى أبي الحسن عليه‌السلام ، وأحمد ومحمد إبنا الحسن ، وإسحاق الكاتب من بني نيبخت ، وصاحب النواء ، وصاحب الصرّة المختومة.

ومن همدان : محمد بن كشمرد ، وجعفر بن حمدان ، ومحمد بن هارون بن عمران.

ومن الدُّينور : حسين بن هارون ، وأحمد بن اُخيّة ، وابو الحسن.

ومن اصفهان : ابن باذشالة.

ومن الصيمرة : زيدان.

ومن قم : الحسن بن النضر ، ومحمد بن محمد ، وعلي بن محمد بن اسحاق ، وأبوه ، والحسن بن يعقوب.

ومن أهل الري :

القاسم بن موسى وابنه ، وأبو محمد بن هارون ، وصاحب الحصاة ، وعليّ بن محمد ، ومحمد بن محمد الكليني ، وأبو جعفر الرفاء.

ومن قزوين : مرداس ، وعليّ بن أحمد ...

ومن شهر زور : ابن الخال.

ومن فارس : المحروج.

ومن مرو : صاحب الألف دينار ، وصاحب المال والرقعة البيضاء ، وأبو ثابت.

ومن نيسابور : محمد بن شعيب بن صالح.

ومن اليمن : الفضل بن يزيد ، والحسن ابنه ، والجعفريُّ ، وابن الاُعجميّ ، والشمشاطيُّ.

١٠٣

ومن مصر : صاحب المولودين ، وصاحب المال بمكّة ، وأبو رجاء.

ومن نصيبين : أبو محمد بن الوجناء.

ومن الأهواز : الحصيني» (١).

(٣) من رآه عليه‌السلام في الغيبة الكبرى

وهذا مما ثبت أيضاً بما فوق المتواتر ، وأعلى الإخبار المتكاثر ، من ثقات الأنام وكبار الأعلام.

وبلغ من الكثرة بحيث يصعب الاحصاء ، بل حتى استيعاب الأسماء ، وقد دُوّنت فيه الكتب المستقلة ، وذكرته المؤلفات المفصّلة مما يمكنك مراجعتها مثل :

١ ـ بحار الانوار ، للعلم المجلسي : ج ٥٢ ص ١ ـ ٩٠.

٢ ـ تبصرة الولي فيمن رأى المهدي عليه‌السلام ، للسيد الجليل البحراني.

٣ ـ النجم الثاقب ، وجنّة المأوى ، للمحدث النوري.

٤ ـ دار السلام فيمن فاز بسلام الامام عليه‌السلام ، للشيخ الميثمي العراقي.

٥ ـ بدائع الكلام فيمن اجتمع بالامام عليه‌السلام ، للسيد اليزدي الطباطبائي.

٦ ـ الزام الناصب في اثبات الحجة الغائب عليه‌السلام ، للشيخ الحائري اليزدي : ج ٢ ص ٣ ـ ١١٢.

٧ ـ البهجة فيمن فاز بلقاء الحجة عليه‌السلام ، للميرزا الألماسي.

٨ ـ العبقري الحسان في تواريخ صاحب الزمان عليه‌السلام ، للشيخ النهاوندي.

وغيرها مما له صلة بموضوعها.

__________________

(١) كمال الدين : ص ٤٤٢ ب ٤٣ ح ١٦.

١٠٤

قال في منتخب الأثر :

«ومن تصفح الكتب المدوّنة فيها هذه الحكايات التي لا ريب في صحّة كثير منها ، لقوّه اسناد ، وكون ناقليه من الخواص والرجال المعروفين بالصداقة والأمانة والعلم والتقوى ، يحصل له العلم القطعيّ الضروريّ بوجوده عليه‌السلام» (١).

وبهذا ، ينتهي المبحث الأوّل والنقاط الثلاثة التي أثبتت الوجود الواقعي والفعلي للإمام المهدي ارواحنا فداه.

ووجوده المبارك باقٍ باذن اللّه تعالى وارادته المتعالية الى زمان الدولة الحقّة التي ثبتت بالآيات المباركة والروايات المتواترة ..

وأحاديث بقاء الحجّة في الأرض وعدم خلوّ الأرض من الخليفة ولولاه لساخت بأهلها ، تثبت ذلك. فلاحظ احاديثه ، مثل :

١ ـ حديث ابي بصير عن الامام الصادق عليه‌السلام قال :

«إن اللّه أجلّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير امام عادل».

٢ ـ حديث ابي حمزة قال : قلت لابي عبداللّه عليه‌السلام : أتبقى الأرض بغير إمام؟ قال : «لو بقيت الأرض بغير امام لساخت».

٣ ـ حديث ابي هراسة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

«لو أن الامام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها ، كما يموج البحر بأهله» (٢).

كل ذلك ، مضافاً الى الأحاديث المتواترة بين الفريقين ، المروية عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الناصّة على أن الأئمة بعدي اثنا عشر ، أولهم أمير المؤمنين علي

__________________

(١) منتخب الأثر : ص ٤٢٠.

(٢) اصول الكافي : ج ١ ص ١٧٨ ح ٦ ، ١٠ ، ١٢.

١٠٥

وآخرهم المهدي عليه‌السلام ، وأنهم لم يزالوا ما دام هذا الدين باقياً.

وتاتي الاشارة اليها والى مصادرها في المبحث الثالث ، وهي مفيدة لزوم بقاء الامام المهدي بعد إستشهاد الامام العسكري عليهما‌السلام ، حتى يتحقق بقائهم ما دام هذا الدين باقياً.

فهو عليه‌السلام حيٌّ موجود الى ظهوره المسعود.

١٠٦

البحث الثاني

غَيبَةُ الإمام المهدي عليه‌السلام

١٠٧
١٠٨

الغيبة في المقام مأخوذة من الغيب بمعنى الخفاء عن أعين الناظرين ، والتواري عن الناس ، مقابل الظهور.

لا بمعنى عدم الحضور فيهم أصلاً.

ويستفاد هذا المعنى من أحاديث الغيبة ، كما يناسبه معنى الغيبة في اللغة ، بالبيان التالي :

أمّا في الأحاديث :

١ ـ ففي التوقيع الشريف الى علي بن محمد السمري :

«... فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور الا بعد إذن اللّه تعالى ذكره ....

ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذّاب مفتر» (١).

حيث تلاحظ تفريع عدم الظهور على الغيبة لا عدم الحضور.

٢ ـ حديث عبيد بن زرارة عن الامام الصادق عليه‌السلام :

«يفقد الناس إمامهم فيشهدهم الموسم ، فيراهم ولا يرونه» (٢).

فتلاحظ ان الذي فرّعه عليه‌السلام على فقدان إمامهم ، هو أن الناس لا يرونه

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ١٥١ ب ٢٣ ح ١.

(٢) البحار : ج ٥٢ ص ١٥١ ب ٢٣ ح ٢.

١٠٩

بالرغم من شهوده وحضوره الموسم فيفيد الحديث خفائه لا عدم حضوره.

٣ ـ حديث محمد بن عثمان العمري قال : سمعته يقول :

«واللّه إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة؛ فيرى الناس ويعرفهم ، ويرونه ولا يعرفونه» (١).

فتلاحظ التصريح بحضوره عليه‌السلام في كل سنة موسم الحج.

٤ ـ حديث سدير الصيرفي قال : سمعت أبا عبداللّه الصادق عليه‌السلام يقول :

«... فما تنكر هذه الأمة أن يكون اللّه يفعل بحجته ما فعل بيوسف ، أن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقّه صاحب هذا الأمر ، يتردد بينهم ويمشي في أسواقهم ويطأ فرشهم ولا يعرفونه ، حتى يأذن اللّه له أن يعرّفهم نفسه ، كما أذن ليوسف حتى قال له أخوته : أءِنَّك لأنتَ يوسُف ، قال : أنا يوسُف» (٢).

فتلاحظ حضورة وتردده بين الناس مع عدم معرفتهم له عليه‌السلام.

٥ ـ ما في البيان العلوي المبارك لحذيفة بن اليمان :

«حتى اذا غاب المتغيّب من وُلدي عن عيون الناس ....

فوربّ عليّ ، إن حجّتَها عليها قائمة ماشية في طرقها ، داخلة في دُورها وقصورها ، جوّالة في شرق الأرض وغربها .... تَرى ولا تُرى الى الوقت والوعد» (٣).

حيث تلاحظ فيه صراحة الغيبة عن العيون ، لا عدم الحضور.

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ١٥٢ ب ٢٣ ح ٤.

(٢) البحار : ج ٥٢ ص ١٥٤ ب ٢٣ ح ٩.

(٣) الغيبة (للنعماني) : ص ١٤٣ ح ٣.

١١٠

وأمّا في اللغة :

ففي مجمع البحرين (١) :

«قوله تعالى : (وألقُوهُ في غَيابَتِ الجُبّ) بفتح الغين ، اي في قعره. سمى به لغيبوبته عن أعين الناظرين ، وكل شيء غيب عنك فهو غيابة ... ، وما من غائبة اي ما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء ...».

وفي لسان العرب (٢) :

«والغيب أيضاً ما غاب عن العيون وإن كان محصلاً في القلوب ، ويقال : سمعت صوتاً من وراء الغيب : أي من موضع لا أراه ... ، وقد تكرر في الحديث ذكر الغيب ، وهو كل ما غاب عن العيون».

ومن الحقائق الثابتة أن الامام المهدي عليه‌السلام غائب عن العيون وخفيّ عن الأبصار مع كونه موجوداً بيننا ، بل محوراً لوجود عالمنا ، ومتصرفاً في شؤوننا.

وقد عرفت في البحث السابق الأخبار والاخبارات العلمية بغيابه ، والأدلّة الوجدانية على وجوده مع غيبته.

والسؤال المطروح بدواً هنا هو أنه لماذا غاب الامام عليه‌السلام هذه القرون الطويلة؟

الجواب : أن لغيبته عليه‌السلام أسباباً وحكماً تدعوا اليها وتوجب حصولها ، وسيأتي ذكرها ، حِكَم خمسة كاملة.

لكن لابد من بيان مقدّمة في هذا المجال بدواً ، تفيدنا على صعيد معرفة

__________________

(١) مجمع البحرين ص ١٣٠.

(٢) لسان العرب : ج ١ ص ٦٥٤ ، وقريب منه في : النهاية الأثيرية : ج ٣ ص ٣٩٩ وتاج العروس : ج ١ ص ٤١٦.

١١١

فلسفة الافعال الالهيّة والحقائق الكونيّه ، فنقول :

من الاُصول المسلّمة التي لا شك فيها إطلاقاً ، أن اللّه تعالى حكيم لا يفعل شيئاً الا عن مصلحة واقعية؛ مصلحة ترجع الى نفس المكلفين ، لا الى ذاته المقدّسة الغنيّة.

ومن المعلومات الأوّليّة والمشاهدات الوجدانيّة في الأرض والسماء والكون والفضاء ، تدبير اللّه تعالى وتقديره في خلائقه وصنايعه التي ملأت الدنيا برمّتها ، وعمّت الوجود في أسرارها.

وعلى أصل الحكمة وفعل الحكيم ، لا بد وأن تكون تلك المخلوقات والموجودات والتدابير والتقديرات مبتنية على سرٍّ في الخلقه ، ومصلحةٍ في التكوين وعلةٍ في الصنع؛ سواء أعرفنا تلك الأسرار والمصالح والعلل ، أم لم نعرفها ، اذ الحكيم لا يفعل عبثاً ولا يصنع شططاً.

والعقل يحكم بعد الاستقصاء والدقة بأن فعاله تعالى فعال الحكمة.

والشرع يقضي بذلك أيضاً في مثل قوله تعالى : (أفحسبتُم أنما خلقناكُم عَبثاً وأنّكم الينا لا تُرجعون) (١).

(وله المَثلُ الأعلى في السماواتِ والأرضِ وهو العزيزُ الحكيم) (٢).

(عالمُ الغيبِ والشهادةِ وهو الحكيمُ الخبير) (٣).

والنتيجة البديهيّة بعد هذا أنّ :

كل ما صنعه اللّه وكل فعل قدّره اللّه ، جارٍ على وفق المصلحة والحكمة.

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآية ١١٥.

(٢) سورة الروم : الآية ٢٧.

(٣) سورة الأنعام : الآية ٧٣

١١٢

وهذه القاعدة الكليّة العلمية الأصيلة مسلّمة عند جميع أهل الايمان ، بل عند كل إنسان.

وهي ترشدنا وتوجب يقيننا في جميع الآثار الالهيّة الكونيّة ، أن لها أسرار ومصالح وحكم واقعية ، حتى إن لم نعرفها ولم نتوصل اليها.

وما أكثر الأسرار التي لم يصل اليها البشر ، وبقيت مجهولة لديه على طول الدهر ، ثم عُرفت الحكمة فيها بمقدار توصل العقل البشري اليها.

ويدرك الانسان هذا الأمر وجداناً ، بتقدم العلوم والاكتشافات وجهود المراكز العلمية والمختبرات ، والمعالم الكونية التي تجعله يتصاغر امام عظمة الخلقة وعظيم القدرة. ثم يقرّ بأن ما يعرفه من الأسرار هو اللاشيء بالنسبة الى ما يجهله.

قال تعالى : (ولو أنَّ ما في الأرضِ من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُدّه من بعدهِ سبعةُ أبحُر ما نَفِدت كلماتُ اللّه إنّ اللّهَ عزيزٌ حكيم) (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك ، وما أصغر عِظَمهُ في جنب قدرتك ، وما أهول ما نرى من ملوكتك ، وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك» (٢).

اذا عرفت هذه المقدمة الأساسيّة ، قلنا :

إن من أهم تلك التدبيرات الالهيّة في العالم ، شؤون الإمام ، ومنها غيبة الامام المهدي عليه‌السلام الذي هو قطب رحى عالم الامكان ، وخليفة اللّه الرحمن.

فلابدّ وأن تكون هي أيضاً جارية على وفق الحكمة المقتضية والمصلحة

__________________

(١) سورة لقمان : الآية ٢٧.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٠٥.

١١٣

المُلزمة ، وإن لم نعرفها ، أو لم يمكن التوصل إليها ، أو لم تنكشف لنا.

كما يدلّنا على ذلك آخر حديث عبداللّه بن الفضل الهاشمي قال : سمعت الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام يقول : «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابدَّ منها ، يرتاب فيها كلُّ مبطل.

فقلت له : ولم جعلت فداك؟

قال : لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم.

قلت : فما وجه الحكمة في غيبته؟

فقال : وجه الحكمة في غيبته ، وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج اللّه تعالى ذكره.

إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره ، كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر عليه‌السلام من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ، لموسى عليه‌السلام إلاّ وقت افتراقهما.

يا بن الفضل ، إنَّ هذا الأمر أمرٌ من أمر اللّه وسرٌّ من سرّ اللّه وغيب من غيب اللّه.

ومتى علمنا أنّه عزّ وجلّ حكيم ، صدّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة ، وإن كان وجهها غير منكشف لنا» (١).

علماً بأن هذه الغيبة لا تمنع عن ألطاف الامامة ، وسيأتي في هذا الباب أنه عليه‌السلام كالشمس المجلّلة بالسحاب ، ينتفع بها وإن لم يُرَ شخصها.

وعلى الجملة ، فغيبة مولانا الامام المنتظر عليه‌السلام حكمة بالغة وحقيقة حكيمة ، حتى إذا لم نعرف حكمتها.

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ٩١ ب ٢٠ ح ٤.

١١٤

كيف وإن بعض حِكَمِها مبيّنٌ في الأحاديث ، ومستفاد من بعض الأدلّة ، ويؤيّدها البرهان والوجدان؛ نذكرها فيما يلي :

الحكمة الاُولى :

أن حياته عليه‌السلام مهدّدة بالقتل فلابدّ من التحذّر وحفظ النفس بالغيبة

فان الظالمين كانوا ولم يزالوا يبذلون أقصى جهودهم للقضاء عليه ، حيث علموا بالبشارات الصادقة انه هو الذي يقوّض عروشهم ويدمّر كيانهم ويزيل دولتهم.

كما علم فرعون انهدام صرح طغيانه بواسطة النبي موسى عليه‌السلام ، فجمع كيده

وبذل جُهده لقتل موسى وإفناءه.

فالامام المهدي عليه‌السلام تحذراً من خطر القتل وإبقاء لنفسه الشريفة لأجل إظهار الدين الذي كتبه له ربُّ العالمين ، اعتزل عنهم بالغيبة والاستتار.

وتستفاد حكمة التحذر والخوف من بعض الأحاديث الشريفة مثل :

١ ـ حديث أبان عن الامام الصادق عليه‌السلام قال :

«قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لابد للغلام من غيبة.

فقيل له : ولِمَ يا رسول اللّه؟

قال : يخاف القتل» (١).

٢ ـ حديث زرارة عن الامام الصادق عليه‌السلام قال :

«للغلام غيبة قبل قيامه.

قلت : ولِمَ؟

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ٩٠ ب ٢٠ ح ١.

١١٥

قال : يخاف على نفسه الذبح» (١).

علماً بأن الخوف هذا هو خوف تحذّر الذي هو من الحزم ، لا خوف جُبن الذي هو من الضعف.

فانه ـ مضافاً الى كون الامام اشجع الناس ـ هو من أهل بيت الشجاعة الهاشمية ، ومن سلالة البطولة العلويّة الذين فاقوا الأقران ، وغلبوا الشجعان.

فهو ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي اليه ينتهي كل شجاع ، وباسمه ينادي كل بطل (٢) ، وهو الذي ما فرّ ولا ارتاع من كتيبة أبدا ، ولا بارز أحداً الا قتله ، ولا ضرب ضربةً تحتاج الى ثانية. فأنسى من كان قبلَه ومحا اسم من يأتي بعده.

وقال عنه ابن دأب : «لم يكعّ (اي لم يجبُن) عن أحد قط ، ولم يضرب أحداً في الطول الا قدّه ، ولم يضرب أحداً في العرض الا قطعه ، وذكروا أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمله على فرس فقال : «بابي وأمي مالي وللخيل ، وأنا لا أتبع أحداً ولا أفرّ من أحد»» (٣).

فليس في قاموس أهل البيت عليهم‌السلام الجُبن ، حتى يكون خوف أحدهم للجبن. خصوصاً الامام المهدي عليه‌السلام الذي قدّر اللّه تعالى له الاستيلاء على الأرض كلها ، فلابد وأن يكون خوفه تحذراً.

وقد تمسك بهذا الوجه في حكمة الغيبة ، فخر الشيعة الشيخ المفيد في الفصول العشرة ، فقال :

__________________

(١) البحار : ج ٥٢ ص ٢٠ ح ١٨.

(٢) لا حظ ما ذكره من شجاعته عليه‌السلام في : شرح نهج البلاغة (للمعتزلي) : ج ١ ص ٢٠.

(٣) الاختصاص : ص ١٤٩.

١١٦

«... ، إنّ ملوك الزمان إذ ذاك كانوا يعرفون من رأي الأئمة عليهم‌السلام التقية ، وتحريم الخروج بالسيف على الولاة ، وعيبَ من فعل ذلك من بني عمّهم ولومهم عليه ، وأنه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتى تركد الشمس عند زوالها ، ويسمع نداء من السماء باسم رجل بعينه ، ويخسف بالبيداء ، ويقوم آخر أئمة الحق بالسيف ليزيل دولة الباطل.

وكانوا لا يُكبرون بوجود من يوجد منهم ، ولا بظهور شخصه ، ولا بدعوة من يدعو إلى إمام ، لأمانهم مع ذلك من فتق يكون عليهم به ....

فلما جاز وقت وجود المترقب لذلك ، المخوف منه القيام بالسيف ، ووجدنا الشيعة الامامية مطبقة على تحقيق أمره وتعيينه والاشارة اليه دون غيره ، بعثهم ذلك على طلبه وسفك دمه ....

وانّ ابن الحسن عليهما‌السلام لو يظهر لسفك القوم دمه ، ولم تقتض الحكمة التخلية بينهم وبينه ...» (١).

وأضاف قدس‌سره في رسالة الغيبة :

«... أنه لم يكن أحد من آبائه عليهم‌السلام كُلّف القيام بالسيف مع ظهوره ، ولا اُلزم بترك التقية ، ولا اُلزم الدعاء الى نفسه حسبما كلّفه إمام زماننا ....

ولما كان إمام هذا الزمان ، هو المشار اليه بسلّ السيف من أوّل الدهر من تقادم الأيام المذكورة ، والجهاد لأعداء اللّه عند ظهوره ، ورفع التقية عن أوليائه ، والزامه لهم بالجهاد ، وانه المهدي الذي يُظهر اللّه به الحق ، ويُبيد بسيفه الضلال .... لزمته التقية ، ووجب فرضها عليه كما فُرضت على آبائه عليهم‌السلام.

لأنّه لو ظهر بغير اعوان لألقى بيده الى التهلكة.

__________________

(١) الفصول العشرة : ص ٧٤.

١١٧

ولو أبدى شخصه للأعداء لم يألوا جهداً في إيقاع الضرر به ، واستئصال شيعته ، وإراقة دمائهم على الاستحلال. فيكون في ذلك اعظم الفساد في الدين والدنيا ....

ولما ثبت عصمته ، وجب إستتاره حتى يعلم يقيناً ـ لا شك فيه ـ حضور الأعوان له ، واجتماع الأنصار ، وتكون المصلحة العامة في ظهوره بالسيف ، ويعلم تمكنه من إقامة الحدود ، وتنفيذ الأحكام ...» (١).

هذا ، وليس حفظ النفس لهذا الخوف بأمرٍ جديد ، أو عملٍ غير سديد ، بل هو السبب الذي دعى الأنبياء والرسل من ذي قبل الى الاعتزال والاستتار ..

كما تلاحظه في إختفاء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار خوفاً من المشركين ، واعتزاله في شِعب أبي طالب طيلة ثلاث سنوات وشهور ....

وقبل ذلك فرار النبي موسى عليه‌السلام من مصر خوفاً ، ووروده على النبي شعيب عليه‌السلام في مَديَن ، فيما حكاه اللّه العظيم في كتابه الكريم بقوله عزّ من قائل :

(وجاءَ رجلٌ من أقصى المدينةِ يَسعى قال يا مُوسى إنَّ الملأَ يأتمرونَ بِكَ ليقتلوكَ فاخرُج إنّي لكَ من الناصحين * فخَرَجَ منها خائفاً يترقّبُ قالَ ربِّ نجّني من القومِ الظالمين * ولمّا توجّه تِلقاءَ مَديَنَ قالَ عسى ربّي أن يهدِيَني سَواءَ السّبيل) (٢).

وقوله تعالى حكاية عنه : (فَفَررتُ منكم لمّا خفتُكم فوَهَبَ لي ربّي حُكماً وجعلني من المرسَلين) (٣).

__________________

(١) رسالة الغيبة : رقم ٤ ص ١٢.

(٢) سورة القصص : الآية ٢٠ ـ ٢٢.

(٣) سورة الشعراء : الآية ٢١.

١١٨

قال شيخ الطائفة قدس‌سره :

«مما يُقطع على أنه سببٌ لغيبة الامام ، هو خوفه على نفسه بالقتل ، باخافة الطالمين إيّاه ، ومنعهم اياه من التصرّف فيما جُعل اليه التدبير والتصرف فيه ....

واذا خاف على نفسه ، وجبت غيبته ولزم استتاره ، كما استتر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تارة في الشعب ، واُخرى في الغار ، ولا وجه لذلك الا الخوف من المضار الواصلة اليه» (١).

وعليه فحفظ النفس بالإستتار أمرٌ عرفيّ عقلي ، بل هو عملٌ مرغوب شرعي ، يدعو اليه العقل والعقلاء حتى لمن عَلِمَ من نفسه قوّة البقاء.

وحصيلة البحث في المقام :

أنه لا مناص من حفظ النفس بالاستتار ، في سبيل إقامة الدين الأكمل في وقته الأمثل.

فغاب الامام عليه‌السلام ليظهر في الوقت المناسب يداً إلهيّة ، تعلو فلا تُطال؛ وكلمةً حقّة تدوي فلا تُردّ.

ثم إنه قد تُطرح في المقام تساؤلات فيحسن الاجابة عنها ، من ذلك :

سؤال ١ : هلاّ منع اللّه تعالى من قتله وحال بينه وبين اعدائه ، ليبقى ظاهراً باقياً الى زمان دولته؟

الجواب : إن أمر اللّه تعالى له بالاستتار ، نوع من المنع عن قتله. فانه ليس كل المنع عنه هو تعجيز الظالمين بالقهر والغلبة عن قتله.

بل إن الحيلولة بينهم وبينه قهراً ، ينافي التكليف ، ويضاد الاختيار ، ويُبطل الثواب والعقاب ، ولا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين الأمرين وهو الاختيار.

__________________

(١) الغيبة : ص ٦١.

١١٩

فيكون المناسب للاختيار هو دفع الأخطار بالاستتار.

سؤال ٢ : لماذا لم يبق عليه‌السلام ظاهراً كظهور آبائه الطاهرين مع التقية ، فيدفع خوف الاعداء بالاتّقاء؟

الجواب : ان منهج الامام المهدي عليه‌السلام هو القيام بالسيف ، ونشر لواء الاسلام في أرجاء الكون ، وإظهار الدين جهراً وعلانية ، وهذا لا يجتمع مع التقية كما هو واضح.

مضافاً الى أن آباءه الكرام ، كان هناك من يقوم مقامهم من نسلهم ، ويصلح للامامة من بعدهم حين استشهادهم؛ بينما الامام المهدي عليه‌السلام هو خاتم الأئمة ، وليس بعده وقبل قيامه من يقوم مقامه حتى يكون شأنه شأن آباءه.

سؤال ٣ : لماذا لم يبق عليه‌السلام ظاهراً فيفوز بأحد الأمرين وإحدى الحُسنيين : اما الظّفر والغلبة ، واما الشهادة؟

الجواب : انه عليه‌السلام إدّخره اللّه تعالى لا تمام نوره ، وتطبيق دينه ، وإظهار رسالة نبيّه على الكرة الأرضية بسعتها ، في جميع رباعها واصقاعها وهذا عزمٌ لا تخلف فيه.

ومن الواضح أن هذا لا يتحقق الا إذا كان النصر والظفر حتمياً جزميّاً ، لا إحتمالياً أو مردّداً كما فرض.

سؤال ٤ : إذا كان سبب الغيبة هو التحذر والخوف من الأعداء ، فلماذا غاب عن الأولياء أيضاً؟

الجواب : انه اذا فتح طريق اللقاء وسبيل الزيارة لجميع الأولياء ، كان من المعلوم عادة ظهور أثره ومعرفة خبره تدريجاً ، وهو نقض لغرض غيبته.

واذا كان الطريق لبعض الأولياء ممن له سعادة اللقاء ، فهو المأمول لشيعته وحظى به بعض من فاز منهم برؤيته.

١٢٠