مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

دولة الباطل أو العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام منكم الظاهر فقال يا عمار الصدقة في السر والله أفضل من الصدقة في العلانية وكذلك والله عبادتكم في السر مع إمامكم المستتر في دولة الباطل وتخوفكم من عدوكم في دولة الباطل وحال الهدنة أفضل ممن يعبد الله عز وجل ذكره في ظهور الحق مع إمام الحق الظاهر في دولة الحق وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن في دولة الحق واعلموا

______________________________________________________

باسط اليد ، سواء كان ظاهرا أو غائبا وكون الصدقة في السر أفضل منها في العلانية إما مختص بالصدقة المندوبة كما هو مقتضى الجمع بين الأخبار وورد التفصيل في بعض الأخبار ، وظاهر أكثر الأصحاب أن السر مطلقا أفضل ، وقيل : السر أفضل إذا لم يتهم بترك الصدقات وإلا فالأفضل أن يعطيها علانية والأول أوجه ، والظاهر أن ذكر هاهنا للتنظير رفع الاستبعاد لأن القياس باطل.

ويمكن أن يقال : إنما لا يجوز لنا القياس لعدم علمنا بالعلة الواقعية ، فأما مع العلم بالعلة الواقعية ، فيرجع إلى القياس المنطقي ، لأنه إذا علم الإمام عليه‌السلام أن علة كون صدقة السر أفضل كونه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء أو كونه أشق وأصعب على النفس ، والعلة في العبادة في التقية وعدم غلبة الحق موجودة فيرتب قياس هكذا : الصدقة في السر أشق ، وكلما كان أشق فهو أفضل فالصدقة في السر أفضل ، والأول أظهر لأنهم عليهم‌السلام غير محتاجين إلى ذكر الدليل ، وقولهم في نفسه حجة.

« حال الهدنة » أي حال المصالحة مع أئمة الجور وترك معارضتهم والتقية منهم بأمر الله تعالى للمصلحة ، وفي القاموس : الهدنة بالضم المصالحة كالمهادنة ، والدعة والسكون « ممن يعبد الله » أي من عبادة من يعبد الله كقوله تعالى « وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى » (١) « وتخوفكم من عدوكم » كان فيه إشعارا بأن للخوف في نفسه أجرا وثوابا والعبادة إذا انضمت معه يتضاعف ثوابه أيضا ، فيكون قوله عليه‌السلام : وليست العبادة مع الخوف ، تأسيسا لا تأكيدا.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٩.

٢١

أن من صلى منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة مستتر بها من عدوه في وقتها فأتمها كتب الله له خمسين صلاة فريضة في جماعة ومن صلى منكم صلاة فريضة وحده مستترا بها من عدوه في وقتها فأتمها كتب الله عز وجل بها له خمسا وعشرين صلاة فريضة وحدانية ومن صلى منكم صلاة نافلة لوقتها فأتمها كتب الله له بها عشر صلوات نوافل ومن عمل منكم حسنة كتب الله عز وجل له بها عشرين حسنة ويضاعف الله عز وجل حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله ودان بالتقية على دينه وإمامه ونفسه وأمسك من لسانه أضعافا مضاعفة إن الله عز وجل كريم.

______________________________________________________

« أن من صلى منكم اليوم » أي زمانه عليه‌السلام ، فإنه كان زمان هدنة وتقية فيكون ذكره على التمثيل لا التخصيص ويكون اللام لما عهد سابقا من زمان الهدنة والتقية مطلقا « في وقتها » أي في وقت فضيلتها ، واللام ظرفية كقوله تعالى : « أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ (١) » « فأتمها » أي أدى شروطها وواجباتها بل مستحباتها « خمسين صلاة » أي في دولة الحق وكذا « خمسا وعشرين » ويدل على عدم سقوط الجماعة في زمان التقية إذا أمن الضرر وإن تضاعف ثوابها ضعف تضاعف ثواب الصلاة وحدانا.

« وحدانية » قيل : بضم الواو نسبة إلى جمع واحد أي صادرة عن واحد واحد ، فهي نعت خمسا وعشرين ، أو بفتح الواو نسبة إلى وحدة بزيادة الألف والنون للمبالغة ، فهي نعت صلاة.

« أمسك من لسانه » من للتبعيض أي سكت عما لا يعلم وعما ينافي التقية « أَضْعافاً مُضاعَفَةً » يعني أن ما ذكر قبل بيان لأقل مراتب الثواب ، وقد يكون أكثر منه بكثير بحسب مراتب قوة الإخلاص ورعاية الآداب ، وقيل : إذا قال رجل لفلان علي دراهم مضاعفة فعليه ستة دراهم ، فإن قال : أضعاف مضاعفة فله عليه ثمانية عشر ، لأن أضعاف الثلاثة ثلاثة ثلاث مرات ثم أضعفناها مرة أخرى لقوله : مضاعفة ، ثم

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٨.

٢٢

قلت جعلت فداك قد والله رغبتني في العمل وحثثتني عليه ولكن أحب أن أعلم كيف صرنا نحن اليوم أفضل أعمالا من أصحاب الإمام الظاهر منكم في دولة الحق ونحن على دين واحد فقال إنكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله عز وجل وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كل خير وفقه وإلى عبادة الله عز ذكره سرا من عدوكم مع إمامكم المستتر مطيعين له صابرين معه منتظرين لدولة الحق خائفين على إمامكم وأنفسكم من الملوك الظلمة تنتظرون إلى حق إمامكم وحقوقكم

______________________________________________________

اتسع فاستعمل لزيادة غير محصورة في عدد « إن الله » استيناف بياني والحث : الحض والتحريص.

« فقال إنكم سبقتموهم » يمكن إرجاع الوجوه التي أومأ عليه‌السلام إليها في تلك الفقرات إلى ثمانية أسباب :

الأول : سبقهم بالإيمان بالله وبرسوله ، والدخول في دين الله والإقرار به ، والسابقون أفضل من اللاحقين لقوله تعالى : « وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ » (١) « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ » (٢) وقال عليه‌السلام : لن تلحق أواخر هذه الأمة أوائلها ، وأيضا : لإيمانهم مدخل في أيمان اللاحقين وهم الحافظون للعلوم والآثار لهم.

الثاني : سبقهم إلى العمل بالأحكام مثل الصلاة والصوم والحج وغيرها من الخيرات على الوجوه المذكورة في الأول.

الثالث : عبادتهم سرا مع الإمام المستتر وطاعته لذلك خوفا من الأعداء.

الرابع : صبرهم مع الإمام المستتر في الشدائد.

الخامس : انتظارهم لظهور دولة الحق وهو عبادة.

السادس : خوفهم على إمامهم وأنفسهم من الملوك وخلفاء الجور وبغيهم وعداوتهم.

__________________

(١) سورة الواقعة : ١٠.

(٢) سورة التوبة : ١٠٠.

٢٣

في أيدي الظلمة قد منعوكم ذلك واضطروكم إلى حرث الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف مع عدوكم فبذلك ضاعف الله عز وجل لكم الأعمال فهنيئا لكم.

قلت جعلت فداك فما ترى إذا أن نكون من أصحاب القائم ويظهر الحق ونحن اليوم في إمامتك وطاعتك أفضل أعمالا من أصحاب دولة الحق والعدل فقال سبحان الله أما تحبون أن يظهر الله تبارك وتعالى الحق والعدل في البلاد ويجمع الله

______________________________________________________

السابع : نظرهم نظر تأسف وتحسر إلى حق إمامهم وهو الإمامة والفيء والخمس ، وحقوقهم وهي الزكاة والخراج وما غصبوا من الشيعة في أيدي الظلمة الغاصبين الذين منعوهم عن التصرف فيها وأحوجوهم إلى حرث الدنيا وكسبها وطلب المعاش من وجوه شاقة شديدة.

الثامن : صبرهم مع تلك البلايا والمصائب على دينهم وعبادتهم وطاعة إمامهم والخوف من عدوهم قتلا وأسرا ونهبا وعرضا ومالا وليس لأصحاب المهدي عليه‌السلام بعد ظهوره شيء من هذه الأمور ، وفي القاموس : الحرث : الكسب وجمع المال والزرع.

« فهنيئا » قيل : منصوب على الإغراء ، أي أدركوا هنيئا أو بتقدير حرف النداء والهنيء : ما لا كدورة فيه من وجوه النفع ، وأقول : يحتمل أن يكون منصوبا بعامل محذوف أي ليكن ثوابكم هنيئا لكم أو اطلبوا هنيئا لكم أو اطلبوا الثواب حالكونه هنيئا لكم ، ويقال لمن شرب الماء : هنيئا مريئا ، وقال تعالى : « فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً » (١) وكل ما يأتيك من غير تعب فهو هنيء.

« فما ترى » ما نافية ، وقيل : استفهامية ، وترى من الرأي بمعنى الترجيح أو التمني ، وقيل : يعني ليس من رأينا ولا نتمنى ، وفي رواية الصدوق فما نتمنى إذن وهو أظهر « إذا » أي حينئذ « أن نكون » أن مصدرية ، والمصدر مفعول ترى « ويظهر » عطف على نكون « ونحن » جملة حالية و « سبحان الله » للتعجب ويحتمل التنزيه وجمع

__________________

(١) سورة النساء : ٤.

٢٤

الكلمة ويؤلف الله بين قلوب مختلفة ولا يعصون الله عز وجل في أرضه وتقام حدوده في خلقه ويرد الله الحق إلى أهله فيظهر حتى لا يستخفي بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق أما والله يا عمار لا يموت منكم ميت على الحال التي أنتم عليها إلا كان أفضل عند الله من كثير من شهداء بدر وأحد فأبشروا.

٣ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن أبي أسامة ، عن هشام ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق قال حدثني الثقة من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام أنهم سمعوا أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول في خطبة له اللهم وإني لأعلم أن العلم لا يأرز كله

______________________________________________________

الكلمة عبارة عن اتفاق الخلق على الحق ظاهرا ، والتأليف بين القلوب بالاتفاق على الحق واقعا ، أو المراد التأليف بالمحبة « ولا يعصي الله في أرضه (١) » أي كثيرا « ويرد الله الحق » أي حق الإمامة « إلى أهله » أي أهل البيت عليهما‌السلام ، « فيظهر » أي الحق أو صاحبه « حتى لا يستخفي » على بناء المعلوم ، أي صاحب الحق أو المجهول فيشمله وغيره « فأبشروا » على بناء الأفعال أي كونوا مسرورين بتلك الفضيلة ، في القاموس : أبشر فرح ، ومنه أبشر بخير.

الحديث الثالث : مجهول.

« لا يأرز » أي لا يخفى ولا يخرج من بين الناس ، قال في النهاية : فيه أن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها أي ينضم إليها ، ويجتمع بعضه إلى بعض فيها ، ومنه كلام علي بن أبي طالب عليه‌السلام : حتى يأرز الأمر إلى غيركم « كله » فاعل أو تأكيد للمستتر ، والمراد بمواده إما الأئمة صلوات الله عليهم أو الأعم منهم ومن رواة أخبارهم ، وعلماء شيعتهم الذين يبثون علومهم في الناس عند غيبتهم أو أصوله من الآيات والأخبار التي يستنبط منها الفقهاء أحكام الدين في زمان غيبتهم.

__________________

(١) وفي المتن « ولا يعصون الله .... » بصيغة الجمع.

٢٥

ولا ينقطع مواده وأنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك ظاهر ليس بالمطاع أو خائف مغمور كيلا تبطل حججك.

______________________________________________________

« ظاهر ليس بمطاع » أي من الحسن إلى الحسن عليهما‌السلام ، فالمراد تقسيم الأئمة بعده عليه‌السلام ، ويحتمل شموله له عليه‌السلام أيضا لأنه لم يطع حق الإطاعة « أو خائف مغمور » أي مستور وهو القائم عليه‌السلام ، من غمرة الماء إذا علاه ، وفي نهج البلاغة في حديث كميل بن زياد : اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا ، لئلا تبطل حجج الله وبيناته.

فالخائف المغمور يحتمل شموله لسائر الأئمة عليهم‌السلام غير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ويحتمل دخول ما سوى القائم عليه‌السلام في الأول ، وقال الشيخ البهائي رحمه‌الله : ظاهر مشهور كمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في أيام خلافته الظاهرة أو مستتر مغمور أي مستتر غير متظاهر بالدعوة إلا للخواص كما كان من حاله عليه‌السلام في أيام خلافة من تقدم عليه ، وكما كان من حال الأئمة من ولده عليهم‌السلام وكما هو في هذا الزمان من حال مولانا المهدي عليه‌السلام ، انتهى.

« كيلا تبطل حجتك » إشارة إلى قوله تعالى : « لِئَلاَّ يَكُونَ ( لِلنَّاسِ ) عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » (١).

قال بعض المحققين : أن الإمامية رحمهم‌الله آووا إلى هذا الكلام ليدفعوا ما أورد مخالفوهم عليهم حيث قالوا : يجب نصب الإمام على الله تعالى لأنه إذا لم يكن لهم رئيس قاهر يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الواجبات كانوا معه أقرب إلى الطاعة وأبعد عن المعاصي منهم بدونه واللطف واجب على الله ، فاعترض عليهم مخالفوهم وقالوا : إنما يكون منفعة ولطفا واجبا إذا كان ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبائح ، قادرا على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء كلمة الإسلام ، وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف ، والذي هو لطف ليس بواجب ، فأجابوا : بأن وجود

__________________

(١) سورة النساء : ١٦٥.

٢٦

______________________________________________________

الإمام لطف سواء تصرف أو لم يتصرف كما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام من الكلام المذكور ، وتصرفه الظاهر لطف آخر.

وتوضيحه ما أورده الشيخ البهائي قدس‌سره في شرح الأربعين : حيث قال : استقامة ما دل عليه هذا الحديث من عدم خلو الأرض من إمام موصوف بتلك الصفات ، وكذا ما يفيده الحديث المتفق عليه بين الخاصة والعامة من قوله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، ظاهرة على ما ذهب إليه الإمامية من أن إمام زماننا هذا هو مولانا الإمام الحجة بن الحسن المهدي عليه‌السلام ، ومخالفوهم من أهل السنة يشنعون عليهم بأنه إذا لم يمكن التوصل إليه ولا أخذ المسائل الدينية عنه فأي ثمرة تترتب على مجرد معرفته حتى يكون من مات وليس عارفا به فقد مات ميتة جاهلية ، والإمامية يقولون : ليست الثمرة منحصرة في مشاهدته وأخذ المسائل عنه ، بل نفس التصديق بوجوده عليه‌السلام وأنه خليفة الله في الأرض أمر مطلوب لذاته ، وركن من أركان الإيمان كتصديق من كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوده ونبوته.

وقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر المهدي فقال : ذلك الذي يفتح الله عز وجل على يديه مشارق الأرض ومغاربها يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت فيها إلا من امتحن الله قلبه للإيمان ، قال جابر فقلت : يا رسول الله هل لشيعته انتفاع به في غيبته؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي والله الذي بعثني بالحق إنهم ليستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها السحاب.

ثم قالت الإمامية أن تشنيعكم علينا مقلوب عليكم ، لأنكم تذهبون إلى أن المراد بإمام الزمان في هذا الحديث صاحب الشوكة من ملوك الدنيا كائنا من كان ، عالما أو جاهلا عدلا أو فاسقا فأي ثمرة تترتب على معرفة الجاهل الفاسق ليكون من مات ولم يعرفه فقد مات ميتة جاهلية.

٢٧

ولا يضل أولياؤك بعد إذ هديتهم بل أين هم وكم أولئك الأقلون عددا والأعظمون عند الله جل ذكره قدرا المتبعون لقادة الدين الأئمة الهادين.

______________________________________________________

ولما استشعر هذا بعض مخالفيهم ذهب إلى أن المراد بالإمام في هذا الحديث الكتاب ، وقالت الإمامية : أن إضافة الإمام إلى زمان ذلك الشخص يشعر بتبدل الأئمة في الأزمنة ، والقرآن العزيز لا تبدل له بحمد الله على مر الأزمان.

وأيضا فما المراد بمعرفة الكتاب التي إذا لم تكن حاصلة للإنسان مات ميتة جاهلية؟ إن أريد بها معرفة ألفاظه أو الاطلاع على معانيه أشكل الأمر على كثير من الناس ، وإن أريد مجرد التصديق بوجوده فلا وجه للتشنيع علينا إذا قلنا بمثله ، انتهى.

وأقول : قد بسط الكلام في ذلك السيد رضي‌الله‌عنه في الشافي وغيره وليست هذه التعليقة محل إيراده فليرجع إلى مظانه.

« ولا يضل أولياؤك » إشارة إلى قوله سبحانه : « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ » (١) الآية كما مر آنفا. « بل أين هم وكم؟ » بل ، إضراب عما تتوهم من السابق من كثرة الأولياء « أين » استفهام لبيان الندرة جدا و « كم » بتقدير « هم » كذلك أيضا ، وما قيل : من أنه إشارة إلى قلة عدد الأئمة ومستوريتهم بسبب ظلم الأعادي فلا يخفى أنه لا يوافق ما بعده.

وفي النهج : وكم وذا وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلون عددا والأعظمون قدرا ، بهم يحفظ الله حججه وبيناته حتى يودعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم ، إلخ ، فقوله عليه‌السلام : وكم وذا إشارة إلى طول مدة الغيبة وتبرم من امتداد دولة الباطل ، وعلى هذه الرواية ، الظاهر أن أولئك راجع إلى الأئمة عليهم‌السلام أو إليهم وإلى خواص أصحابهم.

« المتبعون لقادة الدين » القادة جمع القائد أي القائدين في الدين ، الذين

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٥.

٢٨

الذين يتأدبون بآدابهم وينهجون نهجهم فعند ذلك يهجم بهم العلم على حقيقة الإيمان

______________________________________________________

يقودون أتباعهم إلى الغاية القصوى من الكمال ، و « الأئمة » بدل أو بيان للقادة « الذين » نعت « المتبعون » وضمير آدابهم للقادة ، والتأدب قبول الأدب ، أي المتخلقون بأخلاقهم ، ولعل الاتباع في الأصول والتأدب في الأخلاق ، والنهج والمنهج الطريق الواضح ، يقال : نهجت الطريق أي سلكته ويقال أيضا نهجت الطريق أبنته وأوضحته ، وما هنا يحتملهما وإن كان الأول أظهر.

« فعند ذلك يهجم بهم العلم » يقال : هجم عليه كنصر أي دخل عليه بغتة ، وقيل : أي دخل عليه بغير إذن وهجم به وأهجمه أي أدخله ، والمعنى أطلعهم العلم بالأصول الدينية « على حقيقة الإيمان » أي الإيمان اليقيني الواقعي الثابت الذي لا يتغير ، أو ما يحق أن يسمى إيمانا ، وقيل : أي محضة بدون شائبة شك ، ويحتمل أن يراد بحقيقة الإيمان الدلائل التي يتحقق بها الإيمان والتصديق ، أو الأعمال والأفعال التي تدل على حصول الإيمان كما سيأتي في قوله عليه‌السلام : لكل شيء حقيقة فما حقيقة يقينك؟

ويمكن أن يقال : التعبير بالهجوم لأن علومهم إلهامية أو حدسية ليس فيها من التدريج والتراخي ما في علوم غيرهم.

وقيل : الباء في « بهم » بمعنى على ، أي يدخل عليهم العلم على حقائق الإيمان.

أقول : على هذا يحتمل أن يكون على بمعنى الباء صلة للعلم ، أو تعليلية أو يكون حالا أي كائنين علي حقيقة الإيمان وقيل : أي يرد عليهم العلم ورودا من حيث لا يشعرون ، وفي النهج : هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى ، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه ، آه آه شوقا إلى رؤيتهم.

وبرواية الصدوق : هجم بهم العلم على حقائق الأمور ، وقال الشيخ البهائي

٢٩

فتستجيب أرواحهم لقادة العلم ويستلينون من حديثهم ما استوعر على غيرهم

______________________________________________________

(ره) : أي أطلعهم العلم اللدني على حقائق الأشياء ، محسوساتها ومعقولاتها ، وانكشفت لهم حجبها وأستارها ، فعرفوها بعين اليقين على ما هي عليه في نفس الأمر من غير وصمة ريب أو شائبة شك فاطمأنت بها قلوبهم ، واستراحت بها أرواحهم ، وهذه هي الحكمة الحقيقة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا ، وقيل على نسخة النهج : الكلام على القلب ، أي هجمت بهم عقولهم على حقيقة العلم ، والمباشرة في الأصل الملامسة بالبشرة والروح بالفتح : الراحة ونسيم الريح والمراد به وصولهم إلى اليقين حق الوصول وإدراكهم لذته.

« فتستجيبها أرواحهم » استجابة الأرواح لقادة العلم عبارة عن التسليم لهم في كل صغير وكبير ، والإقرار بفضلهم وقبول كل ما سمعوا منهم « يستلينون » أي يعدون لينا « من حديثهم » من للتبعيض « ما استوعر » مفعول يستلينون وفي القاموس : الوعر ضد السهل ، وقد وعر المكان ككرم ووعد وولع وتوعر صار وعرا وأوعر به الطريق وعر عليه ، واستوعروا طريقهم : رأوه وعرا كأوعره ، انتهى.

فاستوعر هنا بمعنى وعر كاستقر بمعنى قر وما في النهج أظهر أي يسهل عليهم قبول ما صدر عنهم قولا وفعلا ، مما يصعب على غيرهم قبوله من العلوم الغامضة والأسرار الخفية والأعمال الشاقة وإنما خص المترفين كما في النهج والخصال لأنهم كما يشق عليهم الأعمال الصعبة لنشوءهم في الرفاهية كذلك يشق عليهم قبول الغوامض والأسرار لبعدهم عن فهمها لعدم سعيهم في كسب العلوم والكمالات ، قال الشيخ البهائي (ره) : المترف المنعم من الترفه بالضم وهي النعمة ، أي استسهلوا ما استصعبه المتنعمون من رفض الشهوات البدنية وقطع التعلقات الدنيوية وملازمة الصمت والسهر والجوع والمراقبة ، والاحتراز من صرف ساعة من العمر فيما لا يوجب زيادة القرب منه تعالى جل شأنه وأمثال ذلك.

٣٠

ويأنسون بما استوحش منه المكذبون وأباه المسرفون أولئك أتباع العلماء صحبوا أهل الدنيا بطاعة الله تبارك وتعالى وأوليائه ودانوا بالتقية عن دينهم والخوف من

______________________________________________________

« ويأنسون » قولا وفعلا كما مر « بما استوحش منه المكذبون » من أحاديث أرباب العصمة عليهم‌السلام ، والمكذبون المخالفون الذين لا يصدقون بأئمة الدين ، والمسرفون : المتنعمون أو المجرمون الذين أسرفوا على أنفسهم « أولئك أتباع العلماء » والعلماء : الأئمة عليهم‌السلام ، وتعريف المسند إليه باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بالخير لأجل الصفات المذكورة كما قالوا في قوله تعالى : « أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ » (١) وكذا « أولئك » بعد ذلك.

« صحبوا » خبر بعد خبر أو جملة استينافية « أهل الدنيا » أي المخالفين أو الأعم منهم ومن سائر المغترين بها الراكنين إليها « بطاعة الله » أي بسبب طاعة الله ، لأن الله أمرهم بذلك لهدايتهم أو للتقية منهم ، أو الباء للملابسة والظرف حال عن فاعل صحبوا ، أي لم يدخلوا في باطل أهل الدنيا ولم تشغلهم تلك المصاحبة عن طاعة ربهم « ولأوليائه (٢) » أي بالطاعة لأوليائه واللام زائدة ، وقيل : عطف على « بطاعة » أي لحفظ أوليائه أو الباء واللام كلاهما للسببية أي صحبوهم لطاعة الله ولطاعة أوليائه ، والظاهر أن اللام زيد من النساخ ، وقيل : المعنى مشاركتهم معهم إنما هي في طاعة الله وطاعة أوليائه ظاهرا وأما في الاعتقاد فهم في واد وأولئك في واد.

« ودانوا » أي عملوا أو عبدوا الله « بالتقية عن دينهم » التعدية لتضمين معنى الدفع ، وقيل : أي مصروفين عن دينهم بحسب الظاهر « والخوف » عطف على التقية أي بمقتضى الخوف أو ذلوا بالتقية والخوف.

وفي القاموس : الدين بالكسر : الجزاء والعادة والعبادة والطاعة والذل والداء والحساب والقهر والغلبة والاستعلاء والحكم والسيرة والتدبير واسم لجميع ما يتعبد الله

__________________

(١) سورة البقرة : ٥.

(٢) وفي المتن « وأوليائه » وهو الصحيح كما صرّح به الشارح (ره).

٣١

عدوهم فأرواحهم معلقة بالمحل الأعلى فعلماؤهم وأتباعهم خرس صمت في دولة الباطل منتظرون لدولة الحق وس « يُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ » ويمحق الباطل ها ، ها ،

______________________________________________________

عز وجل به.

أقول : أكثر المعاني مناسبة هنا ، وفي بعض النسخ : وذابوا بالذال المعجمة والباء وهو أظهر.

« وأرواحهم معلقة بالمحل الأعلى » أي متوجهة إلى عالم القدس ، قال الشيخ البهائي رحمه‌الله في قوله عليه‌السلام في رواية الصدوق (ره) : صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أي نفضوا عن أذيال قلوبهم غبار التعلق بهذه الخربة الموحشة الدنية ، وتوجهت أرواحهم إلى مشاهدة جمال حضرة الربوبية ، فهم مصاحبون بأشباحهم لأهل هذه الدار وبأرواحهم للملائكة المقربين الأبرار ، وحسن أولئك رفيقا.

« فعلماؤهم » أي الأئمة عليهما‌السلام « وأتباعهم » من العلماء التابعين لهم ويكن تعميم الأول ليشمل خواص أصحابهم أيضا ، والثاني بحيث يشمل سائر الشيعة التابعين لعلماء الدين ، والخرس بالضم : جمع الأخرس كالصمت جمع الأصمت ، والثاني تفسير للأول والمعنى أنهم يعملون بالتقية ولا يظهرون الحق في غير محله « وسيحق الله الحق » السين للتقريب أو للتحقيق ، وإحقاق الحق إثباته وجعله غالبا (١) على الباطل ، وقد مر تأويل الكلمات بالأئمة عليهم‌السلام ، وفسرها المفسرون بالآيات القرآنية ، أو بتقدير الله تعالى ، وهذا تضمين لقوله سبحانه : « وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ » (٢).

« ها » قيل : حرف تنبيه ينبه به المخاطب على ما يساق إليه من الكلام ، وتكريرها للتأكيد وقيل : ها ، ها ، حكاية البكاء بصوت عال.

أقول : ويحتمل أن يكون كناية عن التنفس العالي ليوافق نسخ النهج وغيره

__________________

(١) عاليا ، خ ل.

(٢) سورة الأنفال : ٨.

٣٢

طوبى لهم على صبرهم على دينهم في حال هدنتهم ويا شوقاه إلى رؤيتهم في حال ظهور دولتهم وسيجمعنا الله وإياهم في جنات عدن « وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ».

باب في الغيبة

١ ـ محمد بن يحيى والحسن بن محمد جميعا ، عن جعفر بن محمد الكوفي ، عن الحسن بن محمد الصيرفي ، عن صالح بن خالد ، عن يمان التمار قال كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام جلوسا فقال لنا إن لصاحب هذا الأمر غيبة المتمسك فيها بدينه كالخارط للقتاد

______________________________________________________

« وطوبى » مؤنث أطيب منصوب بتقدير حرف النداء ، أو مرفوع بالابتدائية ، وسيأتي أنها اسم شجرة في الجنة.

« ويا شوقاه » الهاء للاستغاثة كأنه طلب من شوقه الإغاثة ، والعدن : الإقامة ، إشارة إلى قوله تعالى : « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) » قوله « وَمَنْ صَلَحَ » ، هنا عطف على آبائهم.

باب في الغيبة

الحديث الأول : مجهول أو ضعيف على المشهور ، بناء على أن جعفر بن محمد هو ابن مالك.

والجلوس جمع جالس « المتمسك فيها » الجملة استئناف أو نعت ، والخارط : من يضرب يده على الغصن ثم يمدها إلى الأسفل ليسقط ورقه ، والقتاد كسحاب : شجر صلب شوكة كالإبر ، وخرط القتاد ، مثل في ارتكاب صعاب الأمور ، قال الجوهري : وفي المثل ومن دونه خرط القتاد « ثم قال : هكذا بيده » أي أشار بيده تمثيلا لخرط القتاد ، بأن يأخذ يده الأخرى أو إصبعه بيده ومده من الأعلى إلى الأسفل

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨.

٣٣

ثم قال هكذا بيده فأيكم يمسك شوك القتاد بيده ثم أطرق مليا ثم قال إن لصاحب هذا الأمر غيبة فليتق الله عبد وليتمسك بدينه.

٢ ـ علي بن محمد ، عن الحسن بن عيسى بن محمد بن علي بن جعفر ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم ـ لا يزيلكم عنها أحد يا بني إنه لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به إنما هي محنة من الله عز وجل امتحن بها خلقه لو علم آباؤكم وأجدادكم دينا أصح من هذا

______________________________________________________

« ثم أطرق » أي سكت ونظر إلى الأرض « مليا » أي زمانا طويلا كمن يتفكر في أمر ثم أعاد عليه‌السلام الكلام تأكيدا.

الحديث الثاني : مجهول.

« إذا فقد » على بناء المجهول ، أي غاب ، والسابع هو نفسه عليه‌السلام ، والخامس من ولده المهدي عليه‌السلام ، ولعله عليه‌السلام إنما عبر هكذا تعريضا بالواقفية فإنهم يزعمون أن المهدي صاحب الغيبة هو السابع مع أنه الخامس من ولده « فالله » منصوب على التحذير بتقدير اتقوا ، والتكرار للتأكيد نحو : الأسد ، الأسد ، والجمع في « أديانكم » باعتبار تعدد المخاطبين أو باعتبار أجزاء الدين « يا بني » بضم الباء وفتح النون ، وسماه ابنا على وجه اللطف والشفقة ، والأخ الصغير كالابن ، وقد يقرأ بفتح الباء وكسر النون بأن يكون الخطاب لأولاده فقط أو لهم مع علي تغليبا والأول أظهر ، والمحنة بالكسر : الاسم من امتحنه إذا اختبره ونسبته إلى الله مجازا « آبائكم » أي رسول الله وأوصياؤه عليهم‌السلام « وأجدادكم » أي الأنبياء المتقدمين من أجدادهم ، أو المراد بالآباء الأب مع الأجداد القريبة ، وبالأجداد الأجداد البعيدة كالرسول وأمير المؤمنين والحسنين عليهم‌السلام فإن الحسن عليه‌السلام أيضا من أجدادهم من قبل الأم والخطاب إلى علي وأضرابه وإن لم يكونوا حاضر بن تغليبا ، وربما يؤيد

٣٤

لاتبعوه قال فقلت يا سيدي من الخامس من ولد السابع فقال يا بني عقولكم تصغر عن هذا وأحلامكم تضيق عن حمله ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نجران ، عن محمد بن المساور ، عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إياكم والتنويه أما والله ليغيبن إمامكم سنينا من دهركم ولتمحصن حتى يقال مات قتل هلك بأي واد

______________________________________________________

الوجه الثاني بهذا.

« أصح من هذا » أي القول بوجوب الحجة في كل زمان أو كون عدد الأئمة عليهما‌السلام اثنا عشر « من الخامس » لعل المراد السؤال عن كيفية غيبته وخصوصياتها وامتدادها ولذا لم يجب عليه‌السلام ، فإنها مزلة للعقول والأحلام ، وكانوا لا يصبرون على كتمانها ، وإذاعتها مما يضر بالإمام بل بأكثر الأنام من الخواص والعوام ، وما قيل : أن المراد السؤال عن درجات الإمام وصفاته ومنازله فهو بعيد « فسوف تدركونه » أي زمانه أو نفسه عليه‌السلام قبل الغيبة لكونهم من الخواص والأول أظهر ، ولا استبعاد في إدراك بعض المقصودين بالخطاب ذلك الزمان ، مع أن صدق الشرطية لا يستلزم وقوع المقدم ولا إمكانه.

الحديث الثالث : مجهول ، وقيل ضعيف.

والتنويه : الرفع والتشهير ، أي تنويه أمر الإمام الثاني عشر وذكر غيبته وخصوصيات أمره عند المخالفين فيصير سببا لكثرة إصرارهم على إضرار أئمة الدين وشيعتهم وقيل : كأنه يعني لا تشهروا أنفسكم أو لا تدعوا الناس إلى دينكم.

أقول : وفي غيبة النعماني : إياكم والتنويه يعني باسم القائم عليه‌السلام.

« سنينا من دهركم » سنين ظرف زمان وتنوينه على لغة بني عامر قال الأزهري في التصريح شرح التوضيح وبعضهم يجري بنين وباب سنين وإن لم يكن علما مجرى غسلين في لزوم الياء والحركات على النون منونة غالبا على لغة بني عامر ، انتهى.

وفي بعض الروايات « سبتا » والسبت : الدهر « ولتمحصن » في بعض النسخ بصيغة الخطاب المجهول مؤكدا بنون الثقيلة من التمحيص وهو الابتلاء والاختبار ،

٣٥

سلك ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ولتكفؤن كما تكفأ السفن في أمواج البحر فلا ينجو إلا من أخذ الله ميثاقه وكتب في قلبه الإيمان وأيده « بِرُوحٍ مِنْهُ » (١) ولترفعن

______________________________________________________

فإن الغيبة امتحان للشيعة وشدة للتكليف عليهم ، وفي بعض النسخ بصيغة الواحد الغائب المجهول مع النون ، وفي بعضها بدونها ، وعلى التقديرين نسبة الاختبار إليه عليه‌السلام مجاز ، ويحتمل أن يكون على بناء المعلوم من محص الصبي كمنع : عدا ومحص مني هرب ذكرهما الفيروزآبادي ، وفي النعماني : وليخملن ، من قولهم خمل ذكره وصوته خمولا : خفي ، وهو أظهر.

« حتى يقال » القائل الشيعة القائلون به عند امتداد الغيبة وغلبة اليأس « مات » الأفعال كلها بتقدير الاستفهام « ولتكفأن » على بناء المجهول من المخاطب أو الغائب من قولهم : كفأت الإناء إذا كببته وقلبته كناية عن اضطرابهم وتزلزلهم في الدين لشدة الفتن ، ولعل المراد بأخذ الميثاق قبوله يوم أخذ الله ميثاق ربوبيته ونبوة رسوله وإمامة أهل بيته كما ورد في الأخبار.

« وكتب في قلبه الإيمان » إشارة إلى قوله تعالى : « لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ ( أَبْناءَهُمْ أَوْ ) إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » وقد مر في باب الأرواح التي فيهم عليهم‌السلام : وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله ، وكتابة الإيمان ، قيل : كناية عن تثبيت الإيمان في قلوبهم بما فعل بهم من الألطاف فصار كالمكتوب ، وقيل : كتب في قلوبهم علامة الإيمان سمة لمن شاهدهم من الملائكة على أنهم مؤمنون « وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ » قيل : أي قواهم بنور الإيمان ، وقيل : بنور الحجج والبرهان ، وقيل : بالقرآن الذي هو حياة القلوب ، وقيل : بجبرئيل في كثير من المواطن وقد مر ما في الخبر وهو أظهر.

« مشتبهة » أي على الخلق لا يدرون أهي حق أم باطل أو متشابهة يشبه بعضها بعضا ظاهرا ، « حتى لا يدري » على بناء المجهول ، أي مرفوع به أي لا يدري « أي » منها حق متميزا « من أي » منها وهو باطل ، أي لا يتميز الحق منها من الباطل

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٢.

٣٦

اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدرى أي من أي قال فبكيت ثم قلت فكيف نصنع قال فنظر إلى شمس داخلة في الصفة فقال يا أبا عبد الله ترى هذه الشمس قلت نعم فقال والله لأمرنا أبين من هذه الشمس.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن الحسين ، عن ابن أبي نجران ، عن فضالة بن أيوب ، عن سدير الصيرفي قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن في صاحب هذا الأمر شبها من يوسف عليه‌السلام قال قلت له كأنك تذكره حياته أو غيبته قال :

______________________________________________________

فهو تفسير لقوله : مشتبهة ، وقيل : أي مبتدأ ، ومن أي خبره ، يعني كل راية منها لا يعرف كونه من أي جهة من جهة الحق أو من جهة الباطل وقيل : أي حتى لا يدري أي رجل من أي راية لتبدو النظام فيهم ، أو لا يدري أي رأيه من أي رجل ، ولا يخفى أن ما ذكرنا أولا أظهر.

« قلت : كيف نصنع » على صيغة المتكلم أو صيغة الغائب المجهول ، أي مع اشتباه الحق بالباطل كيف يصنع الناس؟ فأجاب عليه‌السلام بأن علامات الحق واضحة ظاهرة لا يشتبه على من طلبه ، لتأيد القائم عليه‌السلام بالآيات الباهرات والمعجزات القاهرات وغير ذلك من علومه وأخلاقه وكمالاته ، فالاشتباه في بادئ النظر وعند من لا يطلب الحق ويريد الشبهة في الدين ، وفي النعماني وإكمال الدين : قال : فبكيت قال : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قلت : وكيف لا أبكي وأنت تقول : ترفع اثنتا عشرة رأيه لا يدري أي من أي فكيف نصنع؟ قال : فنظر. وأبو عبد الله كنية المفضل.

أقول : وروى الشيخ في كتاب الغيبة والمفيد في الإرشاد بإسنادهما عن أبي خديجة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا يخرج القائم حتى يخرج اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه.

الحديث الرابع : حسن.

« والشبه » بالكسر وبالتحريك المشابهة والمماثلة « كأنك تذكر حياته ، أو غيبته »

٣٧

فقال لي وما ينكر من ذلك هذه الأمة أشباه الخنازيرإن إخوة يوسف عليه‌السلام كانوا أسباطا أولاد الأنبياء تاجروا يوسف وبايعوه وخاطبوه وهم إخوته وهو أخوهم فلم يعرفوه حتى قال « أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي » فما تنكر هذه الأمة الملعونة

______________________________________________________

أي حياته مع دعوى الخصوم هلاكه ، أو غيبته عن وطنه على سبيل منع الخلو ، وفي النعماني : فكأنك تخبرنا بغيبته أو حيرة ، وفي إكمال الدين : كأنك تذكر غيبة أو حيرة ، فالظاهر أنه كان حيرته بدل حياته أي تحيره في أمره ، وانغلاق الأمور عليه حتى فرج الله عنه ، وما للاستفهام التعجبي ومفعول تنكر و « أشباه » مرفوع نعت لهذه الأمة ، أو منصوب على الذم نحو « حمّالة الحطب » (١) والأسباط جمع السبط بالكسر وهو ولد الولد أي كانوا أولاد أولاد الأنبياء ، وولد النبي أيضا ، والسبط أيضا الأمة أي كانوا جماعة كثيرة من أولاد الأنبياء وذوي العقول والأحلام الرزينة اشتبه عليهم أمر أخيهم بقدرة الله تعالى قال في النهاية : فيه : الحسين سبط من الأسباط ، أي أمة من الأمم ، في الخبر : والأسباط في أولاد إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه‌السلام بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل واحدهم سبط فهو واقع على الأمة والأمة واقعة عليه ، وقيل : الأسباط خاصة الأولاد ، وقيل : أولاد الأولاد ، وقيل : أولاد البنات ، انتهى.

فيحتمل أن يكون أولاد الأنبياء بيانا للأسباط ، وفي النعماني : فما ينكر هذا الخلق الملعون أشباه الخنازير من ذلك أن إخوة يوسف كانوا عقلاء ألباء أسباطا أولاد الأنبياء دخلوا عليه فكلموه وخاطبوه وتأجروه ورادوه وكانوا إخوته ، وهو أخوهم لم يعرفوه حتى عرفهم نفسه وقال لهم قوله.

« وبايعوه » تأكيد لقوله : تأجروه ، وقيل : إشارة إلى معاهدتهم معه في أن يأتوا بأخيه من أمه وأبيه « وهم إخوته » جملة حالية « فما تنكر » في إكمال الدين : فما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يكون الله عز وجل في وقت من الأوقات يريد أن يستر حجته لقد كان

__________________

(١) سورة تبت : ٤.

٣٨

أن يفعل الله عز وجل بحجته في وقت من الأوقات كما فعل بيوسف إن يوسف عليه‌السلام كان إليه ملك مصر وكان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوما فلو أراد أن يعلمه لقدر على ذلك لقد سار يعقوب عليه‌السلام وولده عند البشارة تسعة أيام من بدوهم إلى مصر فما تنكر هذه الأمة أن يفعل الله جل وعز بحجته كما فعل بيوسف أن يمشي في أسواقهم ويطأ بسطهم حتى يأذن الله في ذلك له كما أذن ليوسف قالوا « أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ ».

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن الحسن بن موسى الخشاب ، عن عبد الله بن موسى ، عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن للغلام غيبة قبل أن يقوم قال قلت ولم قال يخاف وأومأ بيده إلى بطنه ثم قال يا زرارة وهو المنتظر وهو الذي يشك في ولادته منهم من يقول مات أبوه بلا خلف

______________________________________________________

يوسف إليه ملك مصر « كما فعل » الكاف اسم بمعنى مثل ، « وما » موصولة وكذا فيما سيأتي « كان إليه » أي مفوضا إليه وهو خبر كان « من بدوهم » أي من طريق البادية غير المعمورة ، والثمانية عشر كان من الطريق المعمور « أن يمشي » بيان « كما فعل ».

« كما أذن » الكاف حرف تشبيه و « ما » مصدرية ، وفي الإكمال : فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله يفعل بحجته ما فعل بيوسف أن يكون يسير في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه حتى يأذن الله عز وجل أن يعرفهم نفسه كما أذن ليوسف حين قال : « هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ » إلى قوله : « وَهذا أَخِي » (١).

الحديث الخامس : مجهول « وأومأ بيده إلى بطنه » أي لو ظهر لشق بطنه ، وقيل : إلى بطنه يعني جسده أي يخاف قتل نفسه ، وهو المنتظر على بناء المفعول ، أي ينتظره المؤمنون « ومنهم من يقول حمل » أي عند موت أبيه حمل لم يولد بعد ، كما روي أن الخليفة وكل القوابل على نساء أبي محمد عليه‌السلام وإمائه بعد وفاته ليفتشهن

__________________

(١) سورة يوسف : ٨٩ ـ ٩٠.

٣٩

ومنهم من يقول حمل ومنهم من يقول إنه ولد قبل موت أبيه بسنتين وهو المنتظر غير أن الله عز وجل يحب أن يمتحن الشيعة فعند ذلك يرتاب المبطلون يا زرارة قال قلت جعلت فداك إن أدركت ذلك الزمان أي شيء أعمل قال يا زرارة إذا أدركت هذا الزمان فادع بهذا الدعاء اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف

______________________________________________________

« بسنتين » أي هذا أيضا باطل كما ستعرف من تاريخه عليه‌السلام أنه ولد قبل ذلك بأكثر. « وهو المنتظر » من تتمة كلام القائل لئلا يكون تكرارا أو من كلامه عليه‌السلام تأكيدا وتوطئة لما بعده وهذا أظهر « فعند ذلك » أي الغيبة أو امتدادها يرتاب المبطلون أي التابعون للشبهات الواهية الذين لم يتمسكوا في الدين بعرى وثيقة.

« لم أعرف نبيك » إنما يتوقف معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على معرفة الله لأن من لم يعرف الله بأنه يجب عليه ما هو لطف للعباد ، وأنه عالم بجميع الأمور ، وأنه يقبح الإغراء بالقبيح ولا يصدر منه سبحانه القبيح ، فلا يظهر المعجز على يد الكاذب لم يعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصدق به ، ومن لم يعرف الله بأنه لا يفعل بأنه لا يفعل العبث وما لا حكمة فيه ، وخلق العباد من غير تكليف وأمر ونهي وثواب وعقاب عبث ، ومع ذلك الأمور لا بد من آمر وناه ومؤدب ومعلم من قبله تعالى لم يصدق بالنبي ، أو يقال : عظمة الرسول تابع لعظمة المرسل ، فكلما كان المرسل ، أعلى شأنا كان رسوله أرفع مكانا ، وأيضا من لم يصدق بوجود الصانع تعالى كيف يصدق برسوله ، وقيل : لأن من لم يعرف الله بأنه لا ينال ولا يرى لم يعرف أنه لا بد أن يكون بينه وبين الله واسطة مبلغ.

وتوقف معرفة الحجة على معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه إنما تعلم حجيته بنص الرسول عليه ، أو أن عظم الخليفة إنما يعرف بعظم المستخلف فإنه نائبه والقائم مقامه ، والحاصل أن من عرف جهة الحاجة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو احتياج الخلق

٤٠