مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٧٤

أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل مني يحكم بحكومة آل داود ولا يسأل بينة يعطي كل نفس حقها.

______________________________________________________

« رجل مني » أي من أولادي وهو القائم عليه‌السلام ، والمراد بآل داود أهل بيته فيشمل داود أيضا.

واعلم أن الظاهر من هذه الأخبار أن القائم عليه‌السلام إذا ظهر يحكم بما يعلم في الواقعة لا بالبينة ، وأما من تقدمه من الأئمة عليهم‌السلام فقد كانوا يحكمون بالظاهر ، وقد كانوا يظهرون ما كانوا يعلمون من باطن الأمر بالحيل ، كما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يفعله في كثير من الموارد ، وهذا الاختلاف في سيرهم عليهم‌السلام ليس من قبيل النسخ حتى يرد أن لا نسخ بعد نبينا ، بل إما باعتبار التقية في بعضها ، أو اختلاف الأوضاع والأحوال في الأزمان فإنه يمكن أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الإمام بالحكم بالواقع إذا لم يصر سببا لتفرق الناس ورجوعهم عن الحق وبالحكم بالظاهر إذا صار سببا لذلك ، أو يقال : أنه عليه‌السلام أمر بأمر الله سبحانه كل إمام بحكم يخصه كما مر في خبر الصحيفة النازلة من السماء فإذا كان جميع ذلك بأخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت واحد لم يكن نسخا ، وإنما النسخ تجدد حكم يوجب رفع حكم ظاهره الاستمرار.

قال الشيخ المفيد قدس‌سره في كتاب المسائل : للإمام عليه‌السلام أن يحكم بظاهر الشهادات ومتى عرف من المشهود عليه ضد ما تضمنته الشهادة أبطل بذلك شهادة من شهد عليه ، وحكم فيه بما أعلمه الله تعالى ، وقد يجوز عندي أن تغيب عنه بواطن الأمور فيحكم فيها بالظواهر وإن كانت على خلاف الحقيقة عند الله تعالى ، ويجوز أن يدله الله تعالى على الفرق بين الصادقين من الشهود وبين الكاذبين فلا تغيب عنه حقيقة الحال ، والأمور في هذا الباب متعلقة بالألطاف والمصالح التي لا يعلمها على حال إلا الله عز وجل.

ولأهل الإمامة في هذه المقالة ثلاثة أقوال : فمنهم من يزعم أن أحكام الأئمة على الظواهر دون ما يعلمونه على كل حال ، ومنهم من يزعم أن أحكامهم إنما هي

٣٠١

______________________________________________________

على البواطن دون الظواهر التي يجوز فيها الخلاف ، ومنهم من يذهب إلى ما اخترته أنا من المقال ، ولم أر لبني نوبخت رحمهم‌الله فيه ما أقطع على إضافته إليهم على يقين بغير ارتياب ، انتهى.

وقال الشيخ الجليل أمين الدين أبو علي الطبرسي طاب مرقده في كتاب إعلام الورى :

فإن قيل : إذا حصل الإجماع على أن لا نبي بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنتم قد زعمتم أن القائم عليه‌السلام إذا قام لم يقبل الجزية من أهل الكتاب وأنه يقتل من بلغ عشرين ولم يتفقه في الدين ، ويأمر بهدم المساجد والمشاهد ، وأنه يحكم بحكم داود لا يسأل بينة وأشباه ذلك مما ورد في آثاركم ، وهذا يكون نسخا في الشريعة وإبطالا لأحكامها فقد أثبتم معنى النبوة ، وإن لم تتلفظوا باسمها فما جوابكم عنها؟.

الجواب : إنا لم نعرف ما تضمنه السؤال من أنه عليه‌السلام لا يقبل الجزية من أهل الكتاب ، وأنه يقتل من بلغ العشرين ولم يتفقه في الدين ، فإن كان ورد بذلك خبر فهو غير مقطوع به ، فأما هدم المساجد والمشاهد فقد يجوز أن يختص بهدم ما بني من ذلك على غير تقوى الله تعالى وعلى خلاف ما أمر الله سبحانه به ، وهذا مشروع قد فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأما ما روي أنه يحكم بحكم آل داود ولا يسأل عن بينة فهذا أيضا غير مقطوع به ، وإن صح فتأويله أن يحكم بعلمه فيما يعلمه ، وإذا علم الإمام أو الحاكم أمرا من الأمور فعليه أن يحكم بعلمه ولا يسأل عنه وليس في هذا نسخ الشريعة على أن هذا الذي ذكروه من ترك قبول الجزية واستماع البينة إن صح لم يكن نسخا للشريعة لأن النسخ هو ما تأخر دليله عن الحكم المنسوخ ولم يكن مصطحبا فأما إذا اصطحب الدليلان فلا يكون ذلك ناسخا لصاحبه وإن كان مخالفه في المعنى ، ولهذا اتفقنا على أن الله سبحانه لو قال : ألزموا السبت إلى وقت كذا ثم لا تلزموه لا يكون نسخا لأن الدليل الرافع مصاحب للدليل الموجب ، وإذا صحت هذه الجملة

٣٠٢

٣ ـ محمد ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن عمار الساباطي قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بما تحكمون إذا حكمتم قال بحكم الله

______________________________________________________

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أعلمنا بأن القائم من ولده يجب اتباعه وقبول أحكامه ، فنحن إذا صرنا إلى ما يحكم فينا وإن خالف بعض الأحكام المتقدمة غير عاملين بالنسخ لأن النسخ لا يدخل فيما يصطحب الدليل.

الحديث الثالث : موثق « بما تحكمون » قيل : إثبات ألف « بما » شاذ أو بإشباع الفتحة « إذا حكمتم » على بناء المجرد المعلوم أو على بناء التفعيل المجهول والمال واحد ، أي قدرتم على الحكم بين الناس وجعل الحكم إليكم « وحكم داود » أي الحكم بالواقع.

والذي يظهر من الأخبار هو أن داود عليه‌السلام لم يستمر على هذا بل حكم به في بعض الوقائع ، وسيأتي في كتاب القضاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إن داود عليه‌السلام قال : يا رب أرني الحق كما هو عندك حتى أقضي به ، قال : إنك لا تطيق ذلك فألح على ربه حتى فعل ، فجاء رجل يستدعي على رجل فقال : إن هذا أخذ مالي فأوحى الله عز وجل إلى داود أن هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله فأمر داود بالمستعدي فقتل وأخذ ماله ودفعه إلى المستعدى عليه ، قال : فعجب الناس وتحدثوا حتى بلغ داود عليه‌السلام ودخل عليه من ذلك ما كره ، فدعا ربه أن يرفع ذلك ففعل ، ثم أوحى الله عز وجل إليه أن احكم بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به.

وروى الراوندي (ره) في القصص بإسناده الصحيح إلى هشام بن سالم عن أبي عبد الله قال : كان على عهد داود عليه‌السلام سلسلة يتحاكم الناس إليها ، وإن رجلا أودع رجلا جوهرا فجحده فدعاه إلى السلسلة فذهب معه إليها وقد أدخل الجوهر في قناة (١) فلما أراد أن يتناول السلسلة قال له : أمسك هذه القناة حتى آخذ السلسلة فأمسكها ودنا الرجل من السلسلة فتناولها وأخذها وصارت في يده ، فأوحى الله إلى داود عليه‌السلام أن احكم بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به ورفعت السلسلة.

__________________

(١) القناة : العصا.

٣٠٣

وحكم داود فإذا ورد علينا الشيء الذي ليس عندنا تلقانا به روح القدس.

٤ ـ محمد بن أحمد ، عن محمد بن خالد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن عمران بن أعين ، عن جعيد الهمداني ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال سألته بأي حكم تحكمون قال حكم آل داود فإن أعيانا شيء تلقانا به روح القدس.

٥ ـ أحمد بن مهران رحمه‌الله ، عن محمد بن علي ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن عمار الساباطي قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما منزلة الأئمة قال كمنزلة ذي القرنين وكمنزلة يوشع وكمنزلة آصف صاحب سليمان قال فبما تحكمون قال بحكم الله وحكم آل داود وحكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويتلقانا به روح القدس.

______________________________________________________

« فإذا ورد علينا الشيء الذي ليس عندنا » أي من أصل الأحكام أو من خصوص الوقائع التي نحكم فيها.

الحديث الرابع : مجهول « فإن أعيانا شيء » أي أعجزنا حكم أو واقعة لا نعلم حقيقتها.

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور ، وقد مر مثل جزئه الأول في باب أن الأئمة عليهم‌السلام بمن يشبهون ، وكان فيه مكان يوشع وصاحب موسى ، أي في عدم النبوة وكونهم مؤيدين بروح القدس ملهمين معصومين ، فيدل على عدم نبوة يوشع وآصف لكن المشهور كون الأوصياء السابقين أنبياء فيمكن أن يكون التشبيه في محض متابعة نبي آخر وسماع الوحي ، أو يقال في زمان موسى وسليمان لم يكونا نبيين ، والتشبيه في تلك الحالة ، والحق أنه لم يثبت نبوتهما بل ظاهر أكثر الأخبار وصريح بعضها عدم نبوتهما ، إذ قد ورد في الأخبار الكثيرة الواردة في عدد الأنبياء وعدد الأوصياء مقابلتهما وظاهر المقابلة المغايرة.

وروي في البصائر بسند صحيح عن بريد عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : كصاحب موسى وذي القرنين ، كانا عالمين ولم يكونا نبيين.

« وحكم محمد » إنما نسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلا يتوهم أنهم يعملون بشريعة داود

٣٠٤

باب

أن مستقى العلم من بيت آل محمد عليهم‌السلام

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب قال حدثنا يحيى بن عبد الله أبي الحسن صاحب الديلم قال سمعت جعفر بن محمد عليهما‌السلام يقول وعنده أناس من أهل الكوفة عجبا للناس أنهم أخذوا علمهم كله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعملوا به واهتدوا ويرون أن أهل بيته لم يأخذوا علمه ونحن أهل بيته وذريته

______________________________________________________

بل إنما يحكمون بالواقع بحكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنسبة إلى داود على التشبيه ، أو في كيفية الحكم يحكمون بحكم داود وفي أصل الحكم بشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قد يحكمون بالواقع كداود ، وقد يحكمون بالظاهر كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باعتبار أن القائم عليه‌السلام يحكم بالواقع وسائرهم عليهم‌السلام غالبا بالظاهر ، أو يقال : أن القائم عليه‌السلام قد يحكم بالواقع وقد يحكم بالظاهر لكنه مخالف لظاهر أكثر الأخبار.

باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد عليهم‌السلام

أقول : الاستقاء إخراج الماء من البئر ونحوها ، أو طلب الماء للشرب والمستقي إما مصدر ميمي أو اسم مفعول ، وعلى الأول الإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول ، وعلى الثاني من إضافة الصفة إلى الموصوف والأول أظهر ، وعلى التقديرين مبني على تشبيه العلم بالماء في أن العلم حياة للأرواح كما أن الماء حياة للأجساد.

الحديث الأول : مجهول.

« صاحب الديلم » ، وهو يحيى بن عبد الله الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليهما‌السلام وقد أوردنا بعض أحواله في باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل ، ويقال له صاحب الديلم لالتجائه إليهم كما مر « عجبا للناس » أي عجبت عجبا أو هو بتقدير حرف النداء والمراد بالناس المخالفون « أنهم » بالفتح أي من أنهم ، وقيل : بدل لقوله عجبا « ويرون » الجملة حالية أي يظنون أن أهل بيته الذين هم أخص

٣٠٥

في منازلنا نزل الوحي ومن عندنا خرج العلم إليهم أفيرون أنهم علموا واهتدوا وجهلنا نحن وضللنا إن هذا لمحال.

______________________________________________________

الناس به وأشبههم خلقا وخلقا وطينة به ، وقد قال فيهم : إني مخلف فيكم الثقلين الخبر وغيره.

« لم يأخذوا علمه ونحن » أي أنا وآبائي وذريتي وهو مبتدأ خبره « أهل بيته ».

« في منازلنا » استئناف بياني والمقصود أنا أعلم بما نزل في منازلنا « أفيرون » استفهام توبيخي « لمحال » بضم الميم اسم مفعول من باب الأفعال أي لممتنع.

قال السيد بن طاوس رضي‌الله‌عنه في كتاب الطرائف : قال ابن الخطيب وهو أعلم علماء الأشعرية في كتاب الأربعين في بيان أن عليا عليه‌السلام أعلم الصحابة : أن عليا كان في أصل الخلقة في غاية الذكاء والفطنة والاستعداد للعلم ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الفضلاء وأعلم العلماء وكان علي عليه‌السلام في غاية الحرص في طلب العلم ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غاية الحرص في تربيته وإرشاده إلى اكتساب الفضائل.

ثم إن عليا عليه‌السلام ربي في صغره في حجر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كبره صار ختنا له وكان يدخل إليه في كل الأوقات ، ومن المعلوم أن التلميذ إذا كان في غاية الذكاء والحرص في التعلم وكان الأستاد في غاية الفضل وفي غاية الحرص على التعليم ، ثم اتفق لمثل هذا التلميذ أن يتصل بخدمة هذا الأستاد من زمان الصغر وكان ذلك الاتصال بخدمته حاصلا في كل الأوقات ، فإنه يبلغ ذلك التلميذ مبلغا عظيما وهذا بيان إجمالي في أن عليا عليه‌السلام كان أعلم الصحابة ، فأما أبو بكر فإنه إنما اتصل بخدمته في زمان الكبر ، وأيضا ما كان يصل إلى خدمته في اليوم والليلة إلا مرة واحدة زمانا يسيرا ، وأما علي فإنه اتصل بخدمته في زمان الصغر ، وقد قيل : العلم في الصغر كالنقش في الحجر ، والعلم في الكبر كالنقش في المدر ، فثبت لما ذكرنا أن عليا عليه‌السلام كان أعلم من أبي بكر ، انتهى.

٣٠٦

٢ ـ علي بن محمد بن عبد الله ، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر ، عن عبد الله بن حماد ، عن صباح المزني ، عن الحارث بن حصيرة ، عن الحكم بن عتيبة قال لقي رجل الحسين بن علي عليه‌السلام بالثعلبية وهو يريد كربلاء فدخل عليه فسلم عليه فقال له الحسين عليه‌السلام من أي البلاد أنت قال من أهل الكوفة قال أما والله يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل عليه‌السلام من دارنا ونزوله بالوحي على جدي يا أخا أهل الكوفة أفمستقى الناس العلم من عندنا فعلموا وجهلنا هذا ما لا يكون.

باب

أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة

عليهم‌السلام وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل

١ ـ علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن مسكان ، عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حق إلا ما خرج منا أهل البيت وإذا تشعبت

______________________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف ، والمزني : بضم الميم وفتح الراء نسبة إلى مزينة قبيلة.

وقال الجوهري : الثعلبية موضع بين الكوفة ومكة « أثر جبرئيل » أي الموضع الذي كان يقف فيه جبرئيل ويستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو معروف الآن ، ويقال للباب القريب منه باب جبرئيل ، أو كان في أصل الدار موضع معروف بأنه موضع جبرئيل ، أو كان بقي أثر منه كمقام إبراهيم « ونزوله » عطف على جبرئيل أي أثر نزوله.

باب أنه ليس شيء من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة عليهم‌السلام وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل

الحديث الأول : صحيح.

« إلا ما خرج » استثناء عن كل من الثلاثة المذكورة « وإذا تشعبت » أي

٣٠٧

بهم الأمور كان الخطأ منهم والصواب من علي عليه‌السلام.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نصر ، عن مثنى ، عن زرارة قال كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فقال له رجل من أهل الكوفة يسأله عن قول أمير المؤمنين عليه‌السلام سلوني عما شئتم فلا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به قال إنه ليس أحد عنده علم شيء إلا خرج من عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فليذهب الناس حيث شاءوا فو الله ليس الأمر إلا من هاهنا وأشار بيده إلى بيته.

______________________________________________________

تفرقت « بهم الأمور » الباء للتعدية والضمير للصحابة المعروفين وتابعيهم أي فرقتهم وو أبانتهم الأمور « من علي عليه‌السلام » وكذا أولاده المعصومين عليهم‌السلام ، وقد روت العامة بطرق كثيرة أن عليا عليه‌السلام مع الحق والحق مع علي حيثما دار ، واعترف ابن أبي الحديد وغيره بصحته ورووا بطرق مستفيضة : أقضاكم على.

الحديث الثاني : حسن.

« سلوني عما شئتم » هذا مقام لم يقم فيه أحد غيره عليه‌السلام إلا افتضح كما اعترف به المخالف والمؤالف ، وقد روى ابن عبد البر في الاستيعاب عن جماعة من الرواة والمحدثين قالوا : لم يقل أحد من الصحابة : سلوني ، إلا علي بن أبي طالب.

وقال ابن أبي الحديد روى شيخنا أبو جعفر الإسكافي في كتاب نقض العثمانية عن علي بن الجعد عن ابن شبرمة قال : ليس لأحد من الناس أن يقول على المنبر سلوني إلا علي بن أبي طالب.

وقال السيد (ره) : في الطرائف روى أحمد بن حنبل في مسنده عن سعيد قال : لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : سلوني إلا علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

« عنده علم » قيل : أي بمتشابه القرآن ونحوه من المسائل المختلف فيها بين الصحابة « فليذهب » أمر على التهديد نحو « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ » (١).

« ليس الأمر » أي العلم الحق الذي لا ريب فيه « إلى بيته » المراد بيت النبوة لا خصوص البيت.

__________________

(١) سورة فصّلت : ٤٠.

٣٠٨

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الوشاء ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن أبي مريم قال قال أبو جعفر عليه‌السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة شرقا وغربا فلا تجدان علما صحيحا إلا شيئا خرج من عندنا أهل البيت.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن معلى بن عثمان ، عن أبي بصير قال قال لي إن الحكم بن عتيبة ممن قال الله « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » فليشرق الحكم وليغرب أما والله لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل.

______________________________________________________

الحديث الثالث : صحيح.

وسلمة كان زيديا بُتريّا (١) ، وكذا الحكم ، وكانا من فقهاء العامة وقد ورد لعنهما وذمهما في أخبار كثيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام « شرقا وغربا » على بناء التفعيل أمران للتهديد كما مر ، والتشريق والتغريب كنايتان عن الخروج عن الطريقة الوسطى والصراط المستقيم ، أو هما على المثال ، والمراد اذهبا حيث شئتما ، وأهل البيت منصوب على الاختصاص ، والمقصود إبطال طريقة فقهاء العامة والزيدية الموافقين لهم في أكثر الفروع والأصول ، وذكر الشهرستاني أن زيدا طلب العلم من عند وأصل بن عطاء رئيس المعتزلة.

الحديث الرابع : صحيح.

وضمير « قال » لأبي جعفر عليه‌السلام ، لما رواه الكشي عن أبي بصير قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إن الحكم بن عتيبة وكثير النواء وأبا المقدام والتمار يعني سالما أضلوا كثيرا ممن ضل هؤلاء وإنهم ممن قال الله عز وجل : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

__________________

(١) قال الطريحي (ره) : البُترية ـ بضم الموحدة فالسكون ـ فرق من الزيدية ، قيل : نسبوا إلى المغيرة بن سعد ولقبه الأبتر ، وقيل البُترية هم أصحاب كثير النواء الحسن بن أبي صالح والحكم بن عتبة وسلمة بن كهيل وأبو المقدام ثابت الحدّاد وهم الذين دعوا إلى ولاية عليّ عليه‌السلام فخلطوها بولاية أبي بكر وعمر ، ويثبتون لهم الإمامة ويبغضون عثمان وطلحة وزبير وعايشة ويرون الخروج مع ولد عليّ عليه‌السلام.

٣٠٩

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي بصير قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام ـ عن شهادة ولد الزنا تجوز فقال لا فقلت إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز فقال اللهم لا تغفر ذنبه ما قال الله للحكم « إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » (١) فليذهب الحكم يمينا وشمالا فو الله لا يؤخذ العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه‌السلام.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن الحسين بن الحسن بن يزيد ، عن بدر ، عن أبيه قال حدثني سلام أبو علي الخراساني ، عن سلام بن سعيد المخزومي قال بينا أنا جالس عند أبي عبد الله عليه‌السلام إذ دخل عليه عباد بن كثير عابد أهل البصرة وابن شريح فقيه أهل مكة وعند أبي عبد الله عليه‌السلام ميمون القداح مولى أبي جعفر عليه‌السلام فسأله عباد بن كثير فقال يا أبا عبد الله في كم ثوب كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وثوب حبرة وكان في البرد قلة فكأنما ازور عباد بن كثير من

______________________________________________________

يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » (٢).

الحديث الخامس : مجهول.

« ما قال الله » ما نافية « للحكم » أي لأجل أن يدخل الحكم في المراد من قومك وضمير « إِنَّهُ » للقرآن والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لَذِكْرٌ لَكَ » أي مفيد للعلم بكل ما تحتاج إليه « وَلِقَوْمِكَ » أي أوصيائه عليهم‌السلام.

الحديث السادس : مجهول.

« وابن شريح » قيل : اسمه محمد أو معاوية أو ثابت ، والقداح بالتشديد من يبري القداح أي السهام ، قال في النهاية : فيه كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثوبين صحاريين صحار بالضم قرية باليمن نسب الثوب إليها ، وقيل : هو من الصحرة بالضم والسكون وهي حمرة خفية كالغبرة ، يقال : ثوب أصحر وصحاري ، انتهى.

والحبرة كعنبة ضرب من برود اليمن ذكره الفيروزآبادي ، وقال : البرد

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣.

(٢) سورة البقرة : ٨.

٣١٠

ذلك فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إن نخلة مريم عليها‌السلام إنما كانت عجوة ونزلت من السماء فما نبت من أصلها كان عجوة وما كان من لقاط فهو لون فلما خرجوا من عنده قال عباد بن كثير لابن شريح والله ما أدري ما هذا المثل الذي ضربه لي أبو عبد الله فقال

______________________________________________________

بالضم ثوب مخطط وكان المراد بالبرد هنا الحبرة وهو اعتذار عن عدم جعل الجميع حبرة فإنها أفضل ، أو أنه مع قلتها كفن فيها لاستحبابها.

وقال الجوهري : الازورار عن الشيء العدول عنه ، وقد أزور عنه ازورارا وازوار عنه تزاورا بمعنى عدل عنه وانحرف ، وازورار الملعون لا يعلم وجهه ، مع أنهم أيضا رووا هذا الخبر في كتبهم كما ذكره الجزري والزمخشري وغيرهما ، إلا أن يكون لما يفهم من كلامه عليه‌السلام من أن عدم جعل الجميع حبرة لقلتها.

وقيل : لما روي في طرقهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفن في ثلاثة أثواب سحولية وهو ضعيف ، ويمكن أن يكون عدم إذعانه لعدم صحة هذه الرواية عنده ، وأنه كان يزعم أن الأثواب كانت أكثر من ذلك كما يومئ إليه بعض الأخبار.

« إنما كانت عجوة » في النهاية : العجوة نوع من تمر المدينة أكبر من الصيحاني ، يضرب إلى السواد من غرس النبي ، وفي الصحاح ضرب من أجواد التمر بالمدينة ونخلتها تسمى لينة ، انتهى.

وقيل : اللقاط بالكسر جمع لقط بالتحريك وهو ما يلتقط من هيهنا وهيهنا من النوى ونحوه ، وبالضم الساقط الرديء ، وفي القاموس : لقطه أخذه من الأرض ، واللقاطة بالضم ما كان ساقطا مما لا قيمة له وكسحاب : السنبل الذي تخطئه المناجل (١) والألقاط الأوباش.

وقال : اللون النوع والدقل من النخل ، وهو جماعة واحدتها لونة بالضم ولينة بالكسر ، وقال : الدقل محركة أردء التمر وفي المصباح المنير : اللون جنس من التمر وقال بعضهم : أهل المدينة يسمون كله الألوان ما خلا البرني والعجوة.

__________________

(١) المناجل جمع المنجل : ما يحصد به الزرع ، وبالفارسية « داس ».

٣١١

ابن شريح هذا الغلام يخبرك فإنه منهم يعني ميمون فسأله فقال ميمون أما تعلم ما قال لك قال لا والله قال إنه ضرب لك مثل نفسه فأخبرك أنه ولد من ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلم رسول الله عندهم فما جاء من عندهم فهو صواب وما جاء من عند غيرهم فهو لقاط.

باب

فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب

١ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن سنان ، عن عمار بن مروان ، عن جابر قال قال أبو جعفر عليه‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان

______________________________________________________

وميمون القداح هو المكي وقال الشيخ في الرجال : إنه مولى بني هاشم ، وقال ابن داود : هو ملعون ولا عبرة به ، وهذا الخبر يدل على مدحه وأنه كان من العارفين بفضلهم عليهم‌السلام.

وقوله : فإنه منهم ، أي من مواليهم وموالي القوم منهم ، أو من خواصهم العارفين بأسرارهم.

باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب

الحديث الأول : ضعيف على المشهور معتبر عندي.

« صعب مستصعب » : الصعب بالفتح العسر الآبي ، والمستصعب بكسر العين ، أو بفتحها مبالغة في الصعب ، أو الصعب ما يكون صعبا في نفسه ، والمستصعب ما يعده الناس صعبا ، قال الفيروزآبادي : الصعب العسر والآبي ، واستصعب الأمر صار صعبا ، والشيء وجده صعبا لازم متعد.

وقال في بصائر الدرجات قال عمير الكوفي : معنى حديثنا صعب لا يحتمله ملك مقرب أو نبي مرسل ، فهو ما رويتم أن الله تبارك وتعالى لا يوصف ، ورسوله لا يوصف ،

٣١٢

فما ورد عليكم من حديث آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل

______________________________________________________

والمؤمن لا يوصف ، فمن احتمل حديثهم فقد حدهم ، ومن حدهم فقد وصفهم ، ومن وصفهم بكمالهم فقد أحاط بهم وهو أعلم منهم ، وقال : نقطع عمن دونه فنكتفي بهم لأنه قال صعب على كل أحد حيث قال صعب ، فالصعب لا يركب ولا يحمل عليه ، لأنه إذا ركب وحمل عليه فليس بصعب.

وقال المفضل قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن حديثنا صعب مستصعب ذكوان أجود (١) لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، أما الصعب فهو الذي لم يركب بعد ، وأما المستصعب فهو الذي يهرب منه إذا رأى ، وأما الذكوان فهو ذكاء المؤمنين وأما الأجود فهو الذي لا يتعلق به شيء من بين يديه ولا من خلفه ، هو قول الله : « نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ » فأحسن الحديث حديثنا ، لا يحتمل أحد من الخلائق أمره بكماله حتى يحده ، لأن من حد شيئا فهو أكبر منه ، وقد شرحنا الخبر في كتابنا الكبير.

وهذه الأحاديث أكثرها في غرائب شؤونهم ونوادر أحوالهم ومعجزاتهم ، وبعضها في غوامض علوم المبدأ والمعاد وعويصات مسائل القضاء والقدر وأمثال ذلك مما تعجز عن إدراكها العقول.

« فما ورد عليكم » من كلام أبي جعفر عليه‌السلام ، وقال الجوهري : اشمأز انقبض واقشعر « فردوه » أي قولوا الله ورسوله والعالم من آل محمد يعلمون معناه وما أرادوا به ، ولا يبلغ فهمنا إليه أو المعنى سلوا معناه عنهم حتى تفهموا وتلين له قلوبكم إشارة إلى قوله تعالى : « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ » (٢).

__________________

(١) سيأتي تفسيره.

(٢) سورة النساء : ٧٣.

٣١٣

محمد وإنما الهالك أن يحدث أحدكم بشيء منه لا يحتمله فيقول والله ما كان هذا والله ما كان هذا والإنكار هو الكفر.

______________________________________________________

« وأنما الهالك » أي هلاك الهالك ، وفي بعض النسخ إنما الهلاك ، وهو أصوب ، وفي البصائر بسند آخر فإن الشقي الهالك الذي يقول والله ما كان هذا.

« أن يحدث » على بناء المجهول من التفعيل قوله : والإنكار هو الكفر ، أي إنكاره مع العلم بأنه من المعصوم عليه‌السلام أو المراد بالكفر ما يقابل كمال الإيمان وهو التسليم التام ، وعلى التقادير لعله محمول على ما إذا لم يعلم قطعا بطلانه وعدم صدوره عنهم عليهم‌السلام.

كما روي في البصائر بإسناده عن سفيان بن السمط قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك إن الرجل ليأتينا من قبلك فيخبرنا عنك بالعظيم من الأمر فيضيق بذلك صدورنا حتى نكذبه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أليس عني يحدثكم؟ قال : قلت : بلى ، قال : فيقول : لليل أنه نهار ولنهار أنه ليل؟ قال : فقلت له : لا ، قال : رده إلينا فإنك إن كذبت فإنما تكذبنا.

وروى الصدوق في العلل بإسناده الصحيح عن أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام قال : لا تكذبوا بحديث أتاكم به مرجىء ولا قدري ولا خارجي نسبه إلينا ، فإنكم لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبوا الله عز وجل فوق عرشه.

ويؤيد التأويل الثاني ما رواه الصدوق رحمه‌الله في معاني الأخبار بإسناده عن عبد الغفار الجازي قال حدثني من سأله يعني الصادق عليه‌السلام هل يكون كفر لا يبلغ الشرك؟ قال : إن الكفر هو الشرك ثم قام فدخل المسجد فالتفت إلى وقال : نعم الرجل يحمل الحديث إلى صاحبه فلا يعرفه فيرده عليه فهي نعمة كفرها ولم يبلغ الشرك.

ويحتمل أن يكون المراد بالخبر التكذيب الذي يكون بمحض الرأي من غير أن يعرضه على الآيات والأخبار المتواترة ، وأيضا فرق بين عدم رد الخبر وتكذيبه

٣١٤

٢ ـ أحمد بن إدريس ، عن عمران بن موسى ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ذكرت التقية يوما عند علي بن الحسين عليه‌السلام فقال والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ولقد آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________________________________

وبين قبوله والعمل به ، كما روى الصدوق رحمه‌الله في معاني الأخبار بإسناده عن إبراهيم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا هل عسى رجل يكذبني وهو على حشاياه (١) متكئ قالوا : يا رسول الله ومن الذي يكذبك؟ قال : الذي يبلغه الحديث فيقول : ما قال هذا رسول الله قط ، فما جاءكم عني من حديث موافق للحق فأنا قلته ، وما أتاكم عني من حديث لا يوافق الحق فلم أقله ولن أقول إلا الحق.

وروى الصفار في البصائر بإسناده عن أبي عبيدة قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : من سمع من رجل أمرا لم يحط به علما فكذب به ومن أمره الرضا بنا والتسليم لنا ، فإن ذلك لا يكفره.

ولعل المعنى أنه إذا كان تكذيبه للمعنى الذي فهمه وعلم أنه مخالف لما علم صدوره عنا وكان في مقام الرضا والتسليم ويقر بأنه بأي معنى صدر من المعصوم فهو الحق فذاك لا يصير سببا لكفره.

الحديث الثاني : ضعيف.

« ذكرت » على بناء المجهول « ما في قلب سلمان » أي من مراتب معرفة الله ومعرفة النبي والأئمة صلوات الله عليهم وغيرها مما ذكرنا سابقا فلو كان أظهر سلمان له شيئا من ذلك كان لا يحتمله ويحمله على الكذب والارتداد ، أو العلوم والأعمال الغريبة التي لو أظهرها له لحملها على السحر فقتله ، أو كان يفشيه فيصير سببا لقتل سلمان ، وقيل : الضمير المرفوع راجع إلى العلم والمنصوب إلى أبي ذر أي لقتل ذلك العلم أبا ذر أي كان لا يتحمله عقله فيكفر بذلك ، أو المعنى لو ألقى إليه تلك الأسرار وأمر بكتمانها لمات من شدة الصبر عليها ، أو لا يتحمل سره وصيانته فيظهره للناس

__________________

(١) الحشايا ـ جمع الحشية ـ الفراش المحشوّ أي المملوّ قطنا أو نحوه.

٣١٥

بينهما فما ظنكم بسائر الخلق إن علم العلماء صعب مستصعب لا يحتمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان فقال وإنما صار سلمان

______________________________________________________

فيقتلونه.

ويأبى عنه ما رواه الكشي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : دخل أبو ذر على سلمان وهو يطبخ قدرا له ، فبينا هما يتحدثان إذا انكبت القدر على وجهها على الأرض فلم يسقط من مرقها ولا من ودكها فعجب من ذلك أبو ذر عجبا شديدا وأخذ سلمان القدر فوضعها على حالها الأول على النار ثانية ، وأقبلا يتحدثان فبينا هما يتحدثان إذا انكبت القدر على وجهها فلم يسقط منها شيء من مرقها ولا ودكها (١) ، قال : فخرج أبو ذر وهو مذعور من عند سلمان ، فبينما هو متفكر إذ لقي أمير المؤمنين عليه‌السلام على الباب فلما أن بصر به أمير المؤمنين قال له : يا با ذر ما الذي أخرجك من عند سلمان؟ وما الذي ذعرك؟ فقال أبو ذر : يا أمير المؤمنين رأيت سلمان صنع كذا وكذا فعجبت من ذلك! فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا أبا ذر إن سلمان لو حدثك بما يعلم لقلت رحم الله قاتل سلمان ، إن سلمان باب الله في الأرض : من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ، وإن سلمان منا أهل البيت.

وروى خطبة لسلمان رضي‌الله‌عنه قال فيها : فقد أوتيت العلم كثيرا ، ولو أخبرتكم بكل ما أعلم لقالت طائفة لمجنون ، وقالت طائفة أخرى اللهم اغفر لقاتل سلمان.

أقول : فظهر أن المعنى هو ما ذكرنا أولا ، وقد قيل : وذلك لأن مكنون العلم عزيز المنال دقيق المدرك ، صعب الوصول يقصر عن وصوله الفحول من العلماء ، فضلا عن الضعفاء ، ولهذا إنما يخاطب الجمهور بظواهر الشرع ومجملاته دون إسراره وأغواره لقصور إفهامهم عن إدراكها ، وضيق حواصلهم عن احتمالها ، إذ لا يسعهم الجمع بين الظاهر والباطن ، فيظنون تخالفهما وتنافيهما ، فينكرون فيقتلون ، انتهى.

وأقول : بل الظاهر أن كلا من الخلق لا سيما المقربين يحتمل علما لا يحتمله

__________________

(١) الودك : الدسم والشحم.

٣١٦

من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبته إلى العلماء.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن البرقي ، عن ابن سنان أو غيره رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا صدور منيرة أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة إن الله أخذ من شيعتنا الميثاق كما أخذ على بني آدم

______________________________________________________

الآخر ، كما روى الكشي بإسناده عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سلمان لو عرض علمك على مقداد لكفر ، يا مقداد لو عرض علمك على سلمان لكفر.

قوله : من العلماء ، أي الكاملين الربانيين أو علماء أهل البيت عليهم‌السلام لأنه أمر منا لفرط اختصاصه بنا وانقطاعه إلينا واقتباسه من أنوارنا ، ولذلك نسبته بصيغة المتكلم أو المصدر ، فتدبر.

الحديث الثالث : ضعيف « إلا صدور منيرة » بأنوار القابلية والهداية ، والكمال « أو قلوب سليمة » من الشك والشرك والحقد والنفاق ، كما قال تعالى : « إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » (١) « أو أخلاق حسنة » أي ذوو أخلاق ، ولعل أو هنا للتخيير في التعبير ، نحو « أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ » (٢) ويؤيده أن في بعض الروايات بالواو ، ويحتمل أن يكون المراد بالأول الملائكة وبالثاني الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وبالثالث العبد المؤمن الذي امتحن الله قلبه للإيمان ، على سياق سائر الأخبار ، أو بالأول الأنبياء والأوصياء ، وبالثاني الكمل من المؤمنين ، وبالثالث سائر الشيعة بأن يكون المراد بالحديث الولاية ومعرفتهم على الكمال في الجملة.

« إن الله أخذ من شيعتنا » أي ممن يمكن أن يكون منهم أو التخصيص بهم باعتبار أنهم المنتفعون به ليصح التقسيم المذكور بعد ذلك ، وللأخبار الدالة على أن ميثاق الولاية مأخوذ عن الجميع ، وقيل : يعني أخذ من شيعتنا الميثاق بولايتنا ، واحتمال حديثنا بالقبول والكتمان ، كما أخذ على سائر بني آدم الميثاق بربوبيته.

__________________

(١) سورة الشعراء : ٨٩.

(٢) سورة البقرة : ١٩.

٣١٧

« أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » فمن وفى لنا وفى الله له بالجنة ومن أبغضنا ولم يؤد إلينا حقنا ففي النار خالدا مخلدا.

٤ ـ محمد بن يحيى وغيره ، عن محمد بن أحمد ، عن بعض أصحابنا قال كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام جعلت فداك ما معنى قول الصادق عليه‌السلام حديثنا لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان فجاء الجواب إنما معنى قول الصادق عليه‌السلام أي لا يحتمله ملك ولا نبي ولا مؤمن إن

______________________________________________________

وقال المحدث الأسترآبادي قدس‌سره : أقول : قد وقع التصريح في كلامهم عليهم‌السلام بأن فعل الأرواح في عالم الأبدان موافق لفعلهم يوم الميثاق ، فالمراد : من وفى لنا في عالم الأرواح وعالم الأبدان بما كلفهم الله من التسليم لنا ، انتهى.

« ومن أبغضنا » الظاهر أن المراد بالبغض عدم أداء حقهم وعدم الإقرار بإمامتهم ، فالعطف في قوله : « ولم يؤد » للتفسير ، أو الواو بمعنى أو فيدل على خلود المخالفين في النار ، وقوله : مخلدا تأكيد.

الحديث الرابع : مرسل.

« لا يحتمله » أي لا يصبر ولا يطيق كتمانه لشدة حبه لهم وحرصه على ذكر فضائلهم ، حتى ينقله إلى آخر فيحدثه به والحاصل أن هذا الاحتمال غير الاحتمال الوارد في الأخبار المتضمنة للاستثناء ، فلا تنافي بينهما ، ويمكن أن يكون منشأ السؤال توهم التنافي أو استبعاد أن يكون هؤلاء غير قابلين لحمله وفهمه ، ويمكن أن يكون هذا الحديث أيضا من العلوم التي لا تحتملها عقول أكثر الخلق ، فلذا أوله عليه‌السلام بما ترى لئلا يصير سببا لإنكارهم ونفورهم.

وروى الصدوق رضي‌الله‌عنه في معاني الأخبار بإسناده عن سدير قال : سألت أبا عبد الله عن قول أمير المؤمنين عليه‌السلام إن أمرنا صعب مستصعب لا يقر به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان؟ فقال : إن في الملائكة مقربين وغير مقربين ، ومن الأنبياء مرسلين وغير مرسلين ، ومن المؤمنين ممتحنين وغير

٣١٨

الملك لا يحتمله حتى يخرجه إلى ملك غيره والنبي لا يحتمله حتى يخرجه إلى نبي غيره والمؤمن لا يحتمله حتى يخرجه إلى مؤمن غيره فهذا معنى قول جدي عليه‌السلام.

٥ ـ أحمد بن محمد ، عن محمد بن الحسين ، عن منصور بن العباس ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الله بن مسكان ، عن محمد بن عبد الخالق وأبي بصير قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام يا أبا محمد إن عندنا والله سرا من سر الله وعلما من علم الله والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان والله ما كلف الله ذلك أحدا غيرنا ولا استعبد بذلك أحدا غيرنا وإن عندنا سرا من سر الله وعلما من علم الله أمرنا الله بتبليغه فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه فلم نجد له موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقواما خلقوا من طينة خلق منها

______________________________________________________

ممتحنين ، فعرض أمركم هذا على الملائكة فلم يقر به إلا المقربون ، وعرض على الأنبياء فلم يقر به إلا المرسلون ، وعرض على المؤمنين فلم يقر به إلا الممتحنون ، فلعل المراد به الإقرار التام الذي يكون عن معرفة تامة بعلو قدرهم وغرائب شأنهم ، فلا ينافي عدم إقرار بعض الملائكة والأنبياء هذا النوع من الإقرار عصمتهم وطهارتهم ، وكذا القول في الخبر الآتي.

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور.

« ولا استعبد » تأكيد « فبلغناه عن الله » كذا في أكثر النسخ ، فقوله : ما أمرنا ، بدل من الضمير ، وفي بعض النسخ كما في غيره من الكتب بدون الضمير ، وفي بعض الكتب ليس ما أمرنا بتبليغه « فلم نجد » أي حين أردنا تبليغه « موضعا ولا أهلا ولا حمالة » بفتح الحاء وشد الميم جمع الحامل ، ويحتمل أن يكون التاء للمبالغة ، وفي كتاب رياض الجنان ولا حملة والكل بمعنى واحد على التأكيد ، أو المراد بالموضع القابل وبالأهل المستعد للقبول ، وبالحمالة طائفة يحفظون الألفاظ بلا زيادة ونقصان لمحض الرواية لغيرهم ، بدون إيمان بمعناه ، ولا استعداد للإيمان به كما سيأتي ، فرب حامل فقه غير فقيه.

٣١٩

محمد وآله وذريته عليهم‌السلام ومن نور خلق الله منه محمدا وذريته وصنعهم بفضل رحمته التي صنع منها محمدا وذريته فبلغنا عن الله ما أمرنا بتبليغه فقبلوه واحتملوا ذلك فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا وحديثنا فلو لا أنهم خلقوا من هذا لما كانوا كذلك لا والله ما احتملوه ثم قال إن الله خلق أقواما لجهنم والنار فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه وكذبوا به وقالوا « ساحِرٌ كَذَّابٌ فطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ».

______________________________________________________

وقيل هذا الكلام إخبار عما وقع متصلا بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من انحراف جميع الناس من الحق إلى الباطل إلا نادرا كالمعدوم « وأقواما » عبارة عن الشيعة الذين آمنوا بأهل البيت عليهم‌السلام بعد قتل عثمان وكثروا.

وأقول : يمكن أن يقول ضمير عندنا للأئمة عليهم‌السلام ، والأربعة الذين كانوا مؤمنين ولم يرتدوا كانوا من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والكاملون من أصحاب أمير المؤمنين وسائر الأئمة عليهم‌السلام خلقوا بعد ذلك.

قوله عليه‌السلام فبلغهم ذلك عنا ، أي بواسطة الرواة الثقات كما في البعداء في زمان حضور الإمام ، وكما في جميع الشيعة في زمان غيبته ، وقيل : هو مطاوع بلغنا ذكر للتأكيد.

« لا والله ما احتملوه » تأكيد لقوله : ما كانوا كذلك « لجهنم » اللام للعاقبة كما قالوا في قوله تعالى : « وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ » (١).

« كما بلغناهم » أي كما بلغنا الأولين لم يكن تفاوت بينهما ، وقيل : الضمير لأهل جهنم أي لم تقصر في التبليغ المأمور به وهو بعيد ، وفي الكلام حذف يعني فبلغناهم فما قبلوه.

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٩.

٣٢٠