مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٧

باب

التفويض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الأئمة عليهم‌السلام

في أمر الدين

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن أبي زاهر ، عن علي بن إسماعيل ، عن صفوان بن يحيى ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي إسحاق النحوي قال دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسمعته يقول إن الله عز وجل أدب نبيه على محبته فقال « وَإِنَّكَ لَعَلى

______________________________________________________

باب التفويض إلى رسول الله وإلى الأئمة عليهم‌السلام في أمر الدين

أقول : لعل مراده إثبات التفويض للتقييد بالدين احترازا عن التفويض في الخلق.

الحديث الأول : مجهول بالسند الأول صحيح بالثاني.

والتأديب تعليم الأدب وهو ما يدعو إلى المحامد من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، قال في المصباح المنير : أدبته أدبا من باب ضرب علمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق ، وأدبته تأديبا مبالغة وتكثيرا ، ومنه قيل : أدبته تأديبا مبالغة وتكثيرا ، ومنه قيل : أدبته تأديبا إذا عاقبته على إساءته ، لأنه سبب يدعو إلى حقيقة الأدب ، انتهى.

« على محبته » أي على النحو الذي أحب وأراد ، فيكون قائما مقام المفعول المطلق ، أو متعلق بأدب ، و « على » للتعليل أي لمحبة الله ، أو لأن يصير محبا له أو علمه طريق المحبة أو حال عن فاعل أدب أو مفعوله ، أي كائنا على محبته ، وعلى بعض الوجوه الضمير راجع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل : يعني علمه وفهمه ما يوجب تأدبه بأدب الله ، وتخلقه بأخلاق الله لحبه إياه ، أو حالكونه محبا له وهذا مثل قوله سبحانه : « وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ » (١) أو علمه ما يوجب محبة الله له أو محبة لله التي هي سبب لسعة

__________________

(١) سورة الإنسان : ٨.

١٤١

خُلُقٍ عَظِيمٍ » (١) ثم فوض إليه فقال عز وجل : « وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » (٢) وقال عز وجل : « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ » (٣) قال ثم قال وإن نبي الله فوض إلى علي وائتمنه فسلمتم وجحد الناس فو الله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن تصمتوا إذا صمتنا ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل ما جعل الله لأحد خيرا في خلاف أمرنا.

عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي إسحاق قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ثم ذكر نحوه.

______________________________________________________

الخلق وعظم الحلم ، انتهى.

والخلق بالضم وبضمتين : السجية والطبع ، والمراد هنا استجماع كمال العلم وكمال العمل.

« ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ » أي ما أمركم به أو إباحة لكم فاقبلوه واعملوا به « وَما نَهاكُمْ عَنْهُ » أي تحريما أو الأعم منه ومن التنزيه « فَانْتَهُوا » أي فاتركوه وجوبا أو الأعم.

وقال الطبرسي (ره) أي ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وارضوا به وما أمركم به فافعلوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، فإنه لا يأمر ولا ينهى إلا عن أمر الله ، وهذا عام في كل ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهى عنه ، وإن نزل في آية الفيء ، انتهى.

« نحن فيما بينكم وبين الله » أي لا واسطة بينكم وبينه تعالى إلا نحن ولا يقبل منكم الأقوال والأفعال إلا بمتابعتنا.

ثم اعلم أن التفويض يطلق على معان بعضها منفي عنهم عليهم‌السلام ، وبعضها مثبت لهم.

فالأول التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والإحياء فإن قوما قالوا

__________________

(١) سورة القلم : ٤.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة النساء : ٨٠.

١٤٢

______________________________________________________

إن الله تعالى خلقهم وفوض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويحيون ويميتون وهذا يحتمل وجهين :

« أحدهما » أن يقال : إنهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون لها حقيقة فهذا كفر صريح ، دلت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية ، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيها : أن الله تعالى يفعلها مقارنا لإرادتهم كشق القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حية وغير ذلك من المعجزات ، فإن جميعها إنما تقع بقدرته سبحانه مقارنا لإرادتهم لظهور صدقهم فلا يأبى العقل من أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم ، ثم خلق كل شيء مقارنا لإرادتهم ومشيتهم ، وهذا وإن كان العقل لا يعارضه كفاحا (١) لكن الأخبار الكثيرة مما أوردناها في كتاب بحار الأنوار يمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهرا بل صريحا ، مع أن القول به قول بما لا يعلم ، إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما نعلم ، وما ورد من الأخبار الدالة على ذلك كخطبة البيان وأمثالها فلم توجد إلا في كتب الغلاة وأشباههم ، مع أنه يمكن حملها على أن المراد بها كونهم علة غائبة لإيجاد جميع المكنونات (٢) وأنه تعالى جعلهم مطاعا في الأرضين والسماوات ، ويطيعهم بإذن الله تعالى كل شيء حتى الجمادات ، وأنهم إذا شاءوا أمرا لا يرد الله مشيتهم ، لكنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله.

وما ورد من الأخبار في نزول الملائكة والروح لكل أمر إليهم ، وأنه لا ينزل من السماء ملك لأمر إلا بدأ بهم فليس لمدخليتهم في تلك الأمور ، ولا للاستشارة بهم فيها ، بل له الخلق والأمر تعالى شأنه ، وليس ذلك إلا لتشريفهم وإكرامهم وإظهار رفعة مقامهم.

وقد روى الطبرسي (ره) في الاحتجاج عن علي بن أحمد القمي قال : اختلف

__________________

(١) أي مواجهة.

(٢) في نسخة « الممكنات » وهو الظاهر.

١٤٣

______________________________________________________

جماعة من الشيعة في أن الله عز وجل فوض إلى الأئمة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا ، فقال قوم : هذا محال لا يجوز على الله ، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عز وجل ، وقال آخرون : بل الله عز وجل أقدر الأئمة على ذلك وفوض إليهم فخلقوا ورزقوا ، وتنازعوا في ذلك تنازعا شديدا ، فقال قائل : ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمد بن عثمان فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحق فيه ، فإنه الطريق إلى صاحب الأمر عليه‌السلام ، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلمت وأجابت إلى قوله ، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه ، فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته : أن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فأما الأئمة عليهم‌السلام فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ، ويسألونه فيرزق إيجابا لمسألتهم ، وإعظاما لحقهم.

وروى الصدوق في العيون عن الرضا عليه‌السلام في معنى قول الصادق عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ، قال : من زعم أن الله تعالى يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض ، والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، الخبر.

الثاني : التفويض في أمر الدين ، وهذا أيضا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون الله تعالى فوض إلى النبي والأئمة صلوات الله عليهم عموما أن يحلوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا من غير وحي وإلهام ، أو يغيروا ما أوحى إليهم بآرائهم وهذا باطل لا يقول به عاقل ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينتظر الوحي أياما كثيرة لجواب سائل ولا يجيبه من عنده ، وقد قال تعالى : « وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى » (١).

وثانيهما : أنه تعالى لما أكمل نبيه بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئا إلا ما يوافق الحق والصواب ، ولا يحل بباله ما يخالف مشيته سبحانه في كل باب ، فوض إليه

__________________

(١) سورة النجم : ٤.

١٤٤

______________________________________________________

تعيين بعض الأمور كالزيادة في ركعات الفرائض وتعيين النوافل من الصلاة والصيام ، وطعمة الجد ، وغير ذلك مما سيأتي بعضها في هذا الكتاب إظهارا لشرفه وكرامته عنده ، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحي ، ولا الاختيار إلا بالإلهام ، ثم كان يؤكد ما اختاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوحي ، ولا فساد في ذلك عقلا ، وقد دلت النصوص المستفيضة عليه ، وظاهر الكليني وأكثر المحدثين القول به ، والصدوق (ره) وإن أوهم كلامه نفي ذلك يمكن تأويله بما يرجع إلى نفي المعنى الأول ، لأنه قد أورد في كتبه أكثر الأخبار الدالة على المعنى الثاني ، لا سيما في كتاب علل الشرائع ، ولم يردها ولم يتعرض لتأويلها وقال في الفقيه : وقد فوض الله عز وجل إلى نبيه أمر دينه ولم يفوض إليه تعدى حدوده.

الثالث : تفويض أمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما لم يعلموا وهو المراد بهذا الخبر ، وهذا معنى حق دلت عليه الآيات والأخبار وأدلة العقل.

الرابع : تفويض بيان العلوم والأحكام إليهم بما أرادوا ورأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم وإفهامهم ، أو بسبب التقية فيفتون بعض الناس بالأحكام الواقعية ، وبعضهم بالتقية ، ويسكتون عن جواب بعضهم للمصلحة ، ويجيبون في تفسير الآيات وتأويلها وبيان الحكم والمعارف بحسب ما يحتمله عقل كل سائل (١) كما سيأتي ، ولهم أن يجيبوا ولهم أن يسكتوا كما ورد في أخبار كثيرة : عليكم المسألة وليس علينا الجواب ، كل ذلك بحسب ما يريهم الله من مصالح الوقت كما سيأتي في خبر ابن أشيم وغيره.

ولعل تخصيصه بالنبي والأئمة صلوات الله عليه وعليهم لعدم تيسر هذه التوسعة لسائر الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، بل كانوا مكلفين بعدم التقية في بعض الموارد وإن أصابهم الضرر ، وإن كانوا مكلفين بأن يكلموا الناس على قدر عقولهم ، والتفويض بهذا المعنى أيضا حق ثابت بالأخبار المستفيضة ، وتشهد له الأدلة العقلية أيضا.

__________________

(١) وفي بعض النسخ « بحسب ما يحتمله عقلهم ».

١٤٥

______________________________________________________

الخامس : الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة أو بعلمهم وبما يلهمهم الله تعالى من الواقع ومخ الحق في كل واقعة ، وهو أحد محامل خبر ابن سنان الآتي ، ودل عليه غيره من الأخبار.

السادس : التفويض في الإعطاء والمنع ، فإن الله تعالى خلق لهم الأرض وما فيها ، وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا وغيرها ، فلهم عليهم‌السلام أن يعطوا من شاءوا وأن يمنعوا من شاءوا ، وهذا المعنى أيضا حق يظهر من كثير من الأخبار.

فإذا أحطت خبرا بما ذكرنا من معاني التفويض سهل عليك فهم أخبار هذا الباب ، وعرفت ضعف قول من نفي التفويض مطلقا ، ولما يحط بمعانيه.

قال الصدوق رضي‌الله‌عنه في رسالة العقائد : اعتقادنا في الغلاة والمفوضة أنهم كفار بالله جل جلاله ، وأنهم شر من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والحرورية ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلة ، وأنه ما صغر الله جل جلاله تصغيرهم شيء ، إلى قوله رحمه‌الله : وكان الرضا عليه‌السلام يقول في دعائه : اللهم إني بريء إليك من الحول والقوة ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم إني أبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق ، اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا ، اللهم لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين ، اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين ، اللهم لا تليق الربوبية إلا بك ، ولا تصلح الإلهية إلا لك فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك ، والعن المضاهئين لقولهم من بريتك اللهم إنا عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، اللهم من زعم أنا أرباب فنحن منه براء ، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق فنحن منه براء كبراءة عيسى بن مريم عليهما‌السلام من النصارى ، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون فلا تؤاخذنا بما يقولون ، واغفر لنا ما يدعون ولا تدع على الأرض منهم ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا.

وروي عن زرارة أنه قال : قلت للصادق عليه‌السلام : إن رجلا من ولد عبد الله بن

١٤٦

______________________________________________________

سنان يقول بالتفويض ، فقال : وما التفويض؟ قلت : إن الله تبارك وتعالى خلق محمدا وعليا صلوات الله عليهما ففوض إليهما فخلقا ورزقا وأماتا وأحييا؟ فقال عليه‌السلام : كذب عدو الله إذا انصرفت إليه فاتل عليه هذه الآية في سورة الرعد : « أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ » (١) فانصرفت إلى الرجل فأخبرته فكأني ألقمته حجرا أو قال : فكأنما خرس.

وقد فوض الله عز وجل إلى نبيه أمر دينه ، فقال عز وجل : « وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » (٢) وقد فوض ذلك إلى الأئمة عليهم‌السلام ، وعلامة المفوضة والغلاة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلماءهم إلى القول بالتقصير ، وعلامة الحلاجية من الغلاة دعوى التجلي مع العبادة ، مع تركهم الصلاة وجميع الفرائض ، ودعوى المعرفة بأسماء الله العظمى ، ودعوى انطباع الحق لهم ، وأن الولي إذا خلص وعرف مذهبهم فهو عندهم أفضل من الأنبياء عليهم‌السلام ، ومن علامتهم دعوى علم الكيمياء ولم يعلموا منه إلا الدغل ونفيف الشبه والرصاص على المسلمين ، انتهى.

وقال الشيخ المفيد قدس الله روحه في شرح هذا الكلام : الغلو في اللغة هو تجاوز الحد والخروج عن القصد ، قال الله تعالى : « يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَ » (٣) الآية فنهى عن تجاوز الحد في المسيح وحذر من الخروج عن القصد في القول ، وجعل ما ادعته النصارى فيه غلوا لتعدية الحد على ما بيناه ، والغلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم‌السلام إلى الإلهية والنبوة ، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا عن القصد ، وهم ضلال كفار ، حكم فيهم أمير المؤمنين صلوات ـ الله عليه بالقتل والتحريق بالنار وقضت الأئمة عليهم‌السلام فيهم بالإكفار والخروج عن الإسلام.

والمفوضة صنف من الغلاة ، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة ،

__________________

(١) الآية : ١٦.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة النساء : ١٧١.

١٤٧

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن يحيى بن أبي عمران ، عن يونس ، عن بكار بن بكر ، عن موسى بن أشيم قال كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله عز وجل فأخبره بها ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأول فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبي يشرح بالسكاكين فقلت في نفسي تركت أبا قتادة بالشام لا يخطئ في الواو وشبهه وجئت إلى هذا يخطئ هذا الخطأ كله فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي فسكنت نفسي فعلمت

______________________________________________________

اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ، ونفي القدم عنهم ، وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم ، ودعواهم أن الله تعالى تفرد بخلقهم خاصة ، وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال.

والحلاجية ضرب من أصحاب التصوف وهم أصحاب الإباحة والقول بالحلول ، وكان الحلاج يتخصص بإظهار التشيع وإن كان ظاهر أمره التصوف ، وهم قوم ملاحدة وزنادقة يموهون بمظاهرة كل فرقة بدينهم ، ويدعون للحلاج الأباطيل ويجرون في ذلك مجرى المجوس في دعواهم لزرادشت المعجزات ، ومجرى النصارى في دعواهم لرهبانهم الآيات والبينات ، والمجوس والنصارى أقرب إلى العمل بالعبادات منهم ، وهم أبعد من الشرائع والعمل بها من النصارى والمجوس.

الحديث الثاني : ضعيف.

« حتى كان قلبي » في البصائر : حتى كاد قلبي ، والشرح : القطع ، قال الجوهري : الشرح : الكشف ومنه تشريح اللحم. وأبو قتادة العدوي بفتح القاف من التابعين من علماء المخالفين اسمه تميم بن نذير « بخلاف ما أخبرني » كأنه كان شريكا للسائل الأول فيما أخبره به في الاستماع والتوجه ، ولذا نسبه إلى نفسه أو يكون السائل أيضا سأل عن الآية أولا فأخبره ، فيكون « صاحبي » بتشديد الياء على التثنية.

ولعل فيه سقطا أو تصحيفا فإنه روى الصفار بسند آخر عن موسى بن أشيم

١٤٨

أن ذلك منه تقية قال ثم التفت إلي فقال لي يا ابن أشيم إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود فقال « هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ » (١) وفوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » (٢) فما فوض إلى

______________________________________________________

هكذا : قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فسألته عن مسألة فأجابني ، فبينا أنا جالس إذ جاءه رجل فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء آخر فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، ففزعت من ذلك وعظم علي ، إلى آخر الخبر.

وبسند آخر عن أديم بن الحر قال : سأله موسى بن أشيم يعني أبا عبد الله عليه‌السلام عن آية من كتاب الله فخبر بها فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك الآية بعينها فأخبره بخلاف ما أخبره ، قال ابن أشيم : فدخلني من ذلك ما شاء الله إلى قوله : فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية بعينها فأخبره بخلاف ما أخبرني والذي سأله ، الخبر.

قوله : إن ذلك منه تقية ، في بعض النسخ بالتاء المثناة الفوقانية وهو ظاهر وفي بعضها بالباء الموحدة أي إبقاء وشفقة على الناس كما قال تعالى : « أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ » (٣) والإبقاء إما لئلا يتضرروا من المخالفين بأخبارهم بخلاف قولهم ، أو لعدم قابليتهم لفهم بعض المعاني فكلمهم على قدر عقلهم ، وفي البصائر في هذه الرواية « منه تعمد » وفي رواية أخرى « تعمد منه » وهو أصوب.

« هذا عَطاؤُنا » قال الطبرسي : أي الذي تقدم ذكره من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعدك « فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ » أي فأعط من الناس من شئت وامنع من شئت « بِغَيْرِ حِسابٍ » أي لا تحاسب يوم القيامة على ما تعطي وتمنع ، فيكون أهنأ لك ، وقيل : بغير جزاء أي أعطيناه تفضلا لا مجازاة ، انتهى.

__________________

(١) سورة ص : ٣٩.

(٢) سورة الحشر : ٧.

(٣) سورة هود : ١١٦.

١٤٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوضه إلينا.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحجال ، عن ثعلبة ، عن زرارة قال سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله عليه‌السلام يقولان إن الله عز وجل فوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلا هذه الآية : « ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ».

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن فضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال : « إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ

______________________________________________________

وأقول : التشبيه في أصل التفويض لا في نوعه ، فإن ما فوض إلى سليمان إعطاء الأمور الدنيوية ومنعها ، وما فوض إليهم عليهم‌السلام بذل العلوم والمعارف والأمور الدينية ومنعها بحسب المصالح ، وبالجملة التفويض الوارد في هذا الخبر هو المعنى الرابع من المعاني المتقدمة.

الحديث الثالث صحيح والحجال بياع الحجل وهو الخلخال « لينظر كيف طاعتهم » أي لله أو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو أظهر ، والمراد بالتفويض هنا الوجه الثاني من المعنى الثاني ، لأن قبول ما كان بتعيين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصعب على الخلق فكان التكليف فيه أشد والثواب أعظم ، أو الوجه الثالث لأن طاعة بني نوع واحد بعضهم لبعض مما يكبر في الصدور ، وتشمئز منه النفوس ، وإذا تحقق ذلك كما ينبغي دل عليه إخلاص النية في الطاعة لله عز وجل.

الحديث الرابع : حسن.

وقد تقدم أن قيسا تعلم الكلام من علي بن الحسين عليهما‌السلام وأنه كان فيمن ناظر الشامي عند الصادق عليه‌السلام ، والسياسة الإرشاد بالأمر والنهي والتأديب والزجر ، قال الجوهري : سست الرعية سياسة ، وسوس الرجل أمور الناس على ما لم يسم فاعله إذا ملك أمرهم.

١٥٠

عَظِيمٍ » (١) ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده فقال عز وجل : « ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مسددا موفقا مؤيدا بروح القدس لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق فتأدب بآداب الله ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة ـ لا يجوز تركهن إلا في سفر وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك كله فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ثم سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله النوافل أربعا وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالسا تعد بركعة مكان الوتر وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صوم شعبان وثلاثة أيام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل له ذلك وحرم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسكر من كل شراب فأجاز الله له ذلك كله وعاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : تعد بركعة ، ضمير تعد راجع إلى الركعتين باعتبار أنهما في حكم ركعة ، أو بتأويل الصلاة ، وقال الفاضل الأسترآبادي رحمه‌الله : توضيح المقام أنه وقع التصريح في الأحاديث المذكورة في كتاب العلل وغيره بأن الله تعالى لاهتمامه بصلاة الوتر وضع الوتيرة لتكون بدلا عن الوتر في حق من يفوته الوتر بنوم أو غيره ، وبأنه ما صلى النبي الوتيرة أصلا لعلمه بأنه لا تفوته أصلا ، وبأنها لا تسقط في السفر لأنها ليست من نوافل صلاة العشاء وبأنها في أصل وضعها كانت ركعتين من جلوس لتعد بركعة قائما ، وتوافق المبدل في كونه وترا ، ثم رخص الله تعالى في الإتيان بها قائما ، انتهى.

ويدل الخبر على أن الخمر هو المأخوذ من عصير العنب فقط.

وقال الجوهري : عاف الرجل الطعام والشراب يعافه عيافا أي كرهه فلم يشربه فهو عاف ، انتهى.

__________________

(١) سورة القلم : ٤.

١٥١

أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجبا على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ولم يرخص لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد ولم يرخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل بل ألزمهم ذلك إلزاما واجبا لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلا للمسافر وليس لأحد أن يرخص شيئا ما لم يرخصه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فوافق أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الله عز وجل ونهيه نهي الله عز وجل ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى.

______________________________________________________

« نهي إعافة » لما كان أعاف أيضا بمعنى عاف أتى بالمصدر هكذا ، وفي بعض النسخ عافة وكأنه تصحيف عيافة ، أو جاء مصدر المجرد هكذا أيضا.

قوله عليه‌السلام : فصار الأخذ برخصه يدل على أن الأخذ بالمكروه والمندوب من حيث أنه مكروه أو مندوب أي قبول حكمهما والانقياد له واجب « فكثير المسكر » أي عدد كثير من أفراد المسكر يعني سوى الخمر من المسكرات ، لأن الخمر حرمت بتحريم الله تعالى لا بتحريم الرسول ، وقال بعض الأفاضل : يستفاد من فحوى هذا الكلام أن القليل من الأشربة ليس بحرام ، وإنما تحريم القليل مختص بالخمر بعينها وفيه إشكال لما سيأتي أن قليلها وكثيرها حرام كالخمر ، ولعله عليه‌السلام اكتفى بذكر الكثير ، لأن المخاطب لا يحتمل حرمة القليل ، لأنه كان من المخالفين الذين يحلون القليل منه الذي لا يسكر ، انتهى.

وعلى ما ذكره لا حاجة إلى هذه التكلفات وهذا الخبر صريح في الوجه الثاني من المعنى الثاني كما لا يخفى.

١٥٢

٥ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن زرارة أنه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله عليه‌السلام يقولان إن الله تبارك وتعالى فوض إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلا هذه الآية : « ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ».

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحجال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن زرارة مثله.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله تبارك وتعالى أدب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما انتهى به إلى ما أراد قال له « إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ففوض إليه دينه فقال « وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » وإن الله عز وجل فرض الفرائض ولم يقسم للجد شيئا وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أطعمه السدس فأجاز الله جل ذكره له ذلك وذلك قول الله عز وجل ـ « هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ » (١)

______________________________________________________

الحديث الخامس : موثق كالصحيح ، وقد تقدم باختلاف في أول السند ، وسنده الثاني صحيح ومطابق لما مر إلا أن فيما مر مكان محمد بن يحيى العدة ، فإن كان أحمد ، ابن محمد بن عيسى كما هو الظاهر فمحمد بن يحيى داخل في عدته ، فلا وجه لا عادة السند ناقصا بعد إيراده كاملا ، وإن كان ابن محمد بن خالد ، فيحصل اختلاف أيضا في أول السند لكنه بعيد.

الحديث السادس : ضعيف على المشهور ، معتبر عندي.

« فلما انتهى به إلى ما أراد » الباء للتعدية أي أوصله إلى ما أراد من الدرجات العالية والكمالات الإنسانية « ولم يقسم للجد » أي مع الأبوين ، وسيأتي تفصيله في كتاب المواريث.

« وذلك قول الله » أي نظيره إن حملنا هذا عطاؤنا على الأمور الدنيوية كما مر وإن عممناه فالاختلاف بمحض المخاطب لا الخطاب ، وهذا الخبر أيضا صريح في الوجه الثاني من المعنى الثاني.

__________________

(١) سورة ص : ٣٩.

١٥٣

٧ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دية العين ودية النفس وحرم النبيذ وكل مسكر فقال له رجل وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من غير أن يكون جاء فيه شيء قال نعم ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسن قال وجدت في نوادر محمد بن سنان ، عن عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الأئمة قال عز وجل : « إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ » (١) وهي جارية في الأوصياء عليهم‌السلام.

______________________________________________________

الحديث السابع : ضعيف على المشهور.

« من غير أن يكون جاء فيه شيء » أي على الخصوص فلا ينافي الوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في أصل الوضع مجملا.

« من يطع الرسول » أي إطاعة كاملة « ممن يعصيه » من للتميز كما في قوله تعالى « وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ » (٢) على ما قاله ابن مالك ، وهذا الخبر أيضا في الدلالة مثل السابق.

الحديث الثامن : ضعيف على المشهور.

« بِما أَراكَ اللهُ » ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به بما عرفك الله وأوحى إليك ، ومنهم من زعم أنه يدل جواز الاجتهاد عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يخفى وهنه ، وظاهر الخبر أنه عليه‌السلام فسر الإرادة بالإلهام ، وما يلقي الله في قلوبهم من الأحكام ، فيدل على التفويض إما بالمعنى الخامس ، أو بالثاني من الثاني ، لكن جريانه في الأوصياء محتاج إلى تكلف ، أو بالمعنى الثالث وإن كان بعيدا ، فيكون المعنى : ما فوض الله إلى أحد الحكم بين الناس ورجوع الناس إليه في جميع الأحكام ، وتطبيق الآية عليه غير خفي بعد التأمل.

__________________

(١) سورة النساء : ١٦٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٠.

١٥٤

٩ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسن ، عن يعقوب بن يزيد ، عن الحسن بن زياد ، عن محمد بن الحسن الميثمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول إن الله عز وجل أدب رسوله حتى قومه على ما أراد ثم فوض إليه فقال عز ذكره « ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » فما فوض الله إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوضه إلينا.

١٠ ـ علي بن محمد ، عن بعض أصحابنا ، عن الحسين بن عبد الرحمن ، عن صندل الخياط ، عن زيد الشحام قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : « هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ » قال أعطى سليمان ملكا عظيما ثم جرت هذه الآية في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكان له أن يعطي ما شاء من شاء ويمنع من شاء وأعطاه الله أفضل مما أعطى سليمان لقوله « ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ».

______________________________________________________

الحديث التاسع : مجهول ، وهو مثل السابق في الاحتمالات.

الحديث العاشر : مجهول.

« وأعطاه الله أفضل » إلخ ، وجه الأفضلية أن ما أعطي سليمان كان في الرئاسة الدنيوية وأضيف إلى ذلك تفويض الأمور الدينية أيضا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأخير وحده أفضل ، لأنه متعلق بالأمور الباقية الأخروية ، والأول بالأمور الفانية الدنيوية ، واجتمع له صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا الأفضل مع الأول ، وهذا أظهر ففيه دلالة على التفويض بالمعنى السادس ، والثاني من الثاني أو الرابع أو الخامس.

ثم اعلم أن بعض من أنكر التفويض في الأحكام مطلقا حمل الأخبار المتقدمة الدالة عليه على أن التفويض عبارة عن استنباط الأحكام من بطون القرآن ، أي ما يظهر بالدلالات الالتزامية دون ظواهرها التي هي المدلولات المطابقية والتضمنية ، وقد علمت أنه لا داعي إلى ارتكاب هذه التكلفات ، والله يعلم درجات أوليائه ومراتبهم.

١٥٥

باب

في أن الأئمة بمن يشبهون ممن مضى وكراهية القول

فيهم بالنبوة

١ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن حمران بن أعين قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ما موضع العلماء قال مثل ذي القرنين وصاحب سليمان وصاحب موسى عليهم‌السلام.

______________________________________________________

باب في أن الأئمة عليهم‌السلام بمن يشبهون ممن مضى وكراهية القول فيهم بالنبوة.

أقول : المراد بالكراهية هنا الحرمة بل هو موجب الكفر قطعا.

الحديث الأول : حسن.

« موضع العلماء » أي علماء أهل البيت عليهم‌السلام والتشبيه في عدم كونهم أنبياء مع وفور علمهم ووجوب طاعتهم ، وإن كان في المشبه أقوى.

والمراد بصاحب موسى إما يوشع عليه‌السلام كما صرح به في بعض الأخبار أو الخضر عليه‌السلام كما يدل عليه بعضها ، فيدل على عدم نبوة واحد منهما ، ويمكن أن يكون المراد عدم نبوته في تلك الحال ، فلا ينافي نبوته بعد في الأول ، وقيل في الثاني ، ويحتمل أن يكون التشبيه في محض متابعة نبي آخر وسماع الوحي لكن التخصيص يأبى ذلك كما لا يخفى.

ومما يدل على كون المراد بصاحب موسى الخضر عليه‌السلام ما رواه الصفار بإسناده عن الثمالي قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام أي شيء المحدث؟ فقال : ينكت في أذنه فيسمع طنينا كطنين الطست ، أو يقرع على قلبه فيسمع وقعا كوقع السلسلة علي الطست ، فقلت : نبي؟ قال : لا مثل الخضر ، ومثل ذي القرنين ، وسيأتي التصريح بيوشع في بعض الأخبار الآتية.

١٥٦

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسين بن أبي العلاء قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إنما الوقوف علينا في الحلال والحرام فأما النبوة فلا.

٣ ـ محمد بن يحيى الأشعري ، عن أحمد بن محمد ، عن البرقي ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن أيوب بن الحر قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن الله عز ذكره ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبدا وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبدا وأنزل فيه تبيان كل شيء وخلقكم وخلق السماوات والأرض ونبأ ما قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما بعدكم وأمر الجنة والنار وما أنتم صائرون إليه.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن الحارث بن المغيرة قال قال أبو جعفر عليه‌السلام

______________________________________________________

الحديث الثاني حسن.

« إنما الوقوف علينا » أي إنما يجب عليكم أن تقوموا عندنا وتعكفوا على أبوابنا و [ لا ] تكونوا معنا لاستعلام الحلال والحرام ، لا أن تقولوا بنبوتنا ، أو إنما لكم أن تقفوا لنا وتقتصروا على الحكم بإثبات علم الحلال والحرام لنا ، وإنا نواب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيان ذلك لكم ، ولا تتجاوزوا بنا إلى إثبات النبوة.

الحديث الثالث صحيح.

« وخلقكم » بسكون اللام إما منصوب بالعطف على تبيان أو مجرور بالعطف على كل شيء « ونبأ ما قبلكم » أي من الأمم والأنبياء وما أنزل إليهم « وفصل ما بينكم » من الشرائع والأحكام أو الأعم منهما ومن سائر الأمور الدينية والدنيوية والمسائل الغامضة « وخبر ما بعدكم من الأمم » وما يحدث في السماوات والأرض وما أنتم صائرون إليه في الدنيا والآخرة من أحوال البرزخ والبعث والنشور ، ومن يصير إلى الجنة أو إلى النار.

الحديث الرابع موثق

١٥٧

إن عليا عليه‌السلام كان محدثا فقلت فتقول نبي قال فحرك بيده هكذا ثم قال أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسى أو كذي القرنين أوما بلغكم أنه قال وفيكم مثله.

______________________________________________________

« فحرك بيده هكذا » الباء لتقوية التعدية ، والراوي حرك يده إلى فوق حكاية لفعله عليه‌السلام فقال هكذا أي أشار عليه‌السلام بيده هكذا ، مبالغة لنفي النبوة « ثم قال أو كصاحب سليمان » وكلمة « أو » بمعنى بل كما قيل في قوله تعالى : « مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ » (١) أو المعنى لا تقل إنه نبي بل قل : محدث أو كصاحب سليمان ، أو المعنى أن تحديث الملك قد يكون للنبي وقد يكون لغيره كصاحب سليمان « أوما بلغكم » بهمزة الاستفهام وواو العطف على مقدر ، وهذا إشارة إلى ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه سئل عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ فقال : لا نبيا ولا ملكا ، عبد أحب الله فأحبه الله ونصح الله فنصح له ، فبعثه إلى قومه فضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم ما شاء الله أن يغيب ، ثم بعثه الثانية فضربوه على قرنه الأيسر فغاب عنهم ما شاء الله أن يغيب ، ثم بعثه الثالثة فمكن الله له في الأرض ، وفيكم مثله يعني نفسه ، وروى مثله الزمخشري في الكشاف.

ويحتمل إرجاع الضمير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونه معلوما لرواية مثله عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن عليا ذو قرني هذه الأمة.

قال النهاية فيه إنه قال لعلي عليه‌السلام : إن لك بيتا في الجنة ، وإنك ذو قرنيها أي طرفي الجنة وجانبيها ، قال أبو عبيد : وأنا أحسب أنه أراد ذو قرني الأمة فأضمر ، وقيل : أراد الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ومنه حديث علي عليه‌السلام وذكر قصة ذي القرنين ، ثم قال : وفيكم مثله ، فنرى أنه عنى نفسه لأنه ضرب على رأسه ضربتين إحداهما يوم الخندق ، والأخرى ضربة ابن ملجم ، وذو القرنين هو الإسكندر سمي بذلك لأنه ملك الشرق والغرب ، وقيل : لأنه كان في رأسه شبه قرنين ، وقيل : رأى في النوم أنه أخذ بقرني الشمس ، انتهى.

__________________

(١) سورة الصافات : ١٤٧.

١٥٨

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن بريد بن معاوية ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له ما منزلتكم ومن تشبهون ممن مضى قال صاحب موسى وذو القرنين كانا عالمين ولم يكونا نبيين.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن البرقي ، عن أبي طالب ، عن سدير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن قوما يزعمون أنكم آلهة ـ يتلون بذلك علينا قرآنا « وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ » (١) فقال يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء وبرئ الله منهم ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم قال قلت :

______________________________________________________

وأقول : قيل لأنه عاش قرنين ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام عاش قرنين قرنا في حياة النبي وقرنا بعد وفاته ، والذي يظهر من الخبر السابق أن التشبيه باعتبار الضربتين والرجوع إلى الدنيا واستيلائه على شرق الأرض وغربها.

الحديث الخامس حسن.

« صاحب موسى » أي تشبه صاحب موسى « كانا عالمين » استيناف لبيان وجه الشبه ، أي التشبيه في أنها كانا عالمين بالعلوم الدينية وكاملين في صنوف العلم ، ولم يكونا نبيين فلا ينافي كونهم أفضل منهما ومن سائر الأنبياء ، ولا يلزم في كل تشبيه كون المشبه به أفضل من المشبه ، بل يكفي كونه أشهر وأعرف عند المخاطب.

الحديث السادس حسن.

« يتلون علينا » قد مر الكلام فيه في كتاب التوحيد ، وأن هؤلاء الزنادقة زعموا أن إله السماء غير إله الأرض ، وأن الله سبحانه إله السماء وكل إمام إله الأرض وجعلوا قوله : « وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ » جملة مستقبلة معطوفة على حملة الضمير والموصول ، مع أن الآية مسوقة لتأكيد التوحيد ، والظرف في الموضعين متعلق بإله ، لكونه بمعنى المعبود ، « وإله » خبر مبتدإ محذوف هو ضمير الموصول ، والتقدير وهو

__________________

(١) سورة الزخرف : ٨٣.

١٥٩

وعندنا قوم يزعمون أنكم رسل يقرءون علينا بذلك قرآنا ـ « يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ » (١) فقال يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء وبرئ الله منهم ورسوله ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي والله لا يجمعني الله وإياهم ـ يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم قال قلت فما أنتم قال نحن خزان علم الله نحن تراجمة أمر الله نحن قوم معصومون أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا نحن الحجة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض.

______________________________________________________

الذي هو إله في السماء وإله في الأرض ، أي مستحق لأن يعبد فيهما أو الإله بمعنى الخالق ، أي هو الخالق فيهما.

قوله : يقرءون علينا بذلك قرآنا ، لعل مناط استدلالهم بها توهم أن المراد بالرسل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام بناء على زعمهم أن هذا الخطاب كسائر الخطابات القرآنية متوجه إلى الموجودين ، وإلى من سيوجد تبعا ، والجواب أنه يمكن أن يكون الخطاب متوجها إلى الموجود وإلى من مضى تبعا بل على زعمهم يمكن أن يكون إطلاق الرسل عليهم على التغليب الشائع ، وذكر المفسرون أنه نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعة لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة ، بل على معنى أن كلا منهم خوطب به في زمانه ، وفيه تنبيه على أن الأمر بأكل الطيبات لم يكن له خاصة ، بل كان لجميع الأنبياء ، وحجة على رفض أكلها تقربا إلى الله تعالى ، وقيل : النداء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجمع للتعظيم ، والطيبات يحتمل المستلذات أو المحللات ، فإنهم لا يرتكبون المحرمات والشبهات ، ولذا ورد أن الحلال قوت المصطفين.

والتراجمة بفتح التاء وكسر الجيم جمع الترجمان ، أي المفسرون لأوامر الله النازلة في القرآن أو الأعم.

« نحن الحجة البالغة » أي الكاملة ، إشارة إلى قوله تعالى « فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ». (٢)

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥١.

(٢) سورة الأنعام : ١٤٩.

١٦٠