الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

١٣ ـ مواقفه الوطنية والسياسية :

سجّل الفرطوسي مع الثائرين من أبناء أمته حضوراً فاعلاً وتواجداً حيّاً في ميادين النضال والكفاح الشعبي. ففي الوقت الذي حمل المجاهدون أسلحتهم للدفاع عن شعبهم ووطنهم راح الفرطوسي يؤجج لهيب الحماس في نفوس أبناء جلدته ويشعل جذوة الثورة في قلوبهم بقصائده الحماسية الرائعة وأشعاره الثورية الجياشة. وقد حدا بهذه الروح الحماسية العالية التي بثّها الفرطوسي في نفوس الناس أن راح الكثير منهم يطالبون في تظاهراتهم ومسيراتهم بقراءة قصائد الفرطوسي الثورية واعادتها مرات ومرات (١).

لقد كان الفرطوسي ، المجاهد الذي حمل قلمه ولسانه ذوداً عن وطنه ومبادئه ، وكان « الثائر الذي يتحسس (٢) مشاكل الظلم في الأمة فيما يتمثل في واقعها من حكم ظالم ، واستعمار غاشم ، وانحراف في دائرة التحرك السياسي ، لدى المحاور السياسية التي تتحرك في خط الإنحراف .. وكان يعبر عن ذلك بشعره الثائر الذي ينتهز كل فرصة جماهيرية ليخاطب الجماهير بآلامها ومشاكلها وليحتج على كل القوى التي تتحدى طموحاتها ، وتأكل حريتها وعزتها واستقلالها .. » (٣).

اهتم الفرطوسي بالأحداث السياسية التي كانت تحدث في العالم الاسلامي اهتماماً بليغاً. فكان يتابع عن كثب ما يجري في البلاد الاسلامية من تحولات

____________

١ ـ غالب الناهي : دراسات أدبية ، ج ١ ، ص ٧٣.

٢ ـ الصحيح : يحس بمشاكل الظلم وليس يتحسس لأن الأول بمعنى يشعر والثاني بمعنى يبحث.

٣ ـ محمد حسين فضل الله من كلمة له في تقديم الجزء الثامن من ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ص ٣ ، ٤.

٨١

وتغييرات ليشاطر أبناءها أحزانهم وآلامهم بشعره الحماسي وأدبه اليقظ. والشؤون السياسية التي تناولها الفرطوسي في شعره كثيرة ، منها : القضية الفلسطينية ، وقد انشد فيها قصائد كثيرة عبّر فيها عن مآسي الشعب الفلسطيني وما كابد من محن وويلات في صموده أمام المحتل الغاصب. وكذلك القضية الجزائرية ونضال الشعب الجزائري في مواجهته المستعمر الفرنسي (١). ومنها ايضاً العدوان الثلاثي على مصر سنة ١٩٥٦ م وتأميم قناة السويس بالإضافة الى العديد من القضايا السياسية الأخرى.

كان الفرطوسي يتحرك سياسياً على صُعُدٍ مختلفة ، وكانت له علاقات وثيقة بشخصيات سياسية بارزة لعبت دوراً هاماً في الحياة السياسية في العراق. ومن تلك الشخصيات عبد الوهاب مرجان رئيس الوزراء الأسبق الذي أوصى بأن يكون الشيخ أحد زواره القلائل في مرضه الذي توفي فيه. وكذلك الشيخ محمد رضا الشبيبي وزير المعارف الذي كان يلتقيه بمنزله ومقره في مجلس الأعيان (٢).

لقد حرص الفرطوسي من خلال نشاطه السياسي على تحقيق الحرية والاستقلال لأبناء وطنه ، فهو يرى « انّ مجد الاستقلال من أعزّ الأمجاد العالية التي تبذل في سبيل تحقيقها دماء أحرار البلاد الثمينة. والحرية عروس عذراء لا مهر لها الاّ الدم الحر والغرض من الاستقلال صيانة كيان الوطن وحفظ حقوقه وحرية التصرف بها وإنقاذه من براثن المستعمرين الطغاة فإن تحقق هذا الهدف السامي تحقق الاستقلال » (٣).

والرؤية السياسية للفرطوسي تمنح الشعب حقه في تقرير مصيره ، والسيادة

__________________

١ ـ عثمان سعدي : الثورة الجزائرية في الشعر العراقي ، ج ٢ ، ص ١٤٤.

٢ ـ مجلة الموسم : العددان ٢٣ ـ ٢٤ ( ١٩٩٥ م ) ، ص ٣٥٢.

٣ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٣٠.

٨٢

على أراضيه وحماية مصالحه ، لأنه « لا يضيع حق وراءه شعب ، ولا يقوم بناء على غير اساس العدل ، ولا يقرر مصير الشعب الاّ الشعب ، وإرادة الأمة من سطوة القضاء تمحو وتثبت ما تشاء » (١).

أمّا المواقف الوطنية التي وقفها الفرطوسي ضد الاستعمار الغاشم وحركاته الهدامة فهي أكثر من أن تعد. فمن تلك المواقف تصديه مع ثلة من علماء الدين في النجف للفكرة الاشتراكية التي ظهرت في الستينات في العراق كما يتضح من الوثيقة التالية : (٢)

بسم الله الرحمن الرحيم

بغداد

السيد رئيس الجمهورية

السيد رئيس الوزراء

السيد الحاكم العسكري العام

في هذا الوقت الذي تتطلع فيه الأمة الى أفضل وتنتظر من المسؤولين أن يقولوا كلمة الاسلام في حلّ المشاكل الاجتماعية ترى كارثة الانحراف عن الاسلام تشتد وتنمو ويطلع علينا وضع جديد تستقطب فيه مبادىء غريبة عن مباديء الاسلام تسمى بالاشتراكية.

والهيئة العلمية في النجف الأشرف إذ تستنكر هذا الوضع

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٩٧.

٢ ـ مجلة الموسم : العدد ١١ (١٩٩١ م) ، ص ٩٩٥.

٨٣

الجديد تلفت نظر الحكومة الى الوضع غير المستقر الذي تمرّ به البلاد ، وتطالب بإلغاء ما أسمته بقوانين التأميم ، والله من وراء القصد.

عن الهيئة العلمية في النجف الاشرف

محمد الحسيني الحلي ، محمد علي اليعقوبي ، عبد المهدي الدجيلي ، محمد علي الخمايسي ، محمد صادق الصدر ، محسن علي خان ، جعفر آل بحر العلوم ، عبد المنعم الفرطوسي ، محمد الشيخ عبد الله القرشي ، كاظم الشيخ حبيب ، محمد علي الشيخ عبد المهدي مظفر ، علي البكّاء ، عبد الهادي الصافي ، جواد شبر ، علاء الدين بحر العلوم ، باقر الظالمي ، عبد الحميد الصغير ، عز الدين بحر العلوم ، محمد باقر الحكيم ، عبد المحسن زاير دهام ، محمد سعيد محمد علي الحكيم.

النجف الاشرف ١٩ / ٣ / ١٣٨٤ هـ ـ ٢٩ / ٧ / ١٩٦٤ م

لقد وقف الفرطوسي مواقف جريئة في مواجهة حكام الجور وتحدى ظلمهم واضطهادهم. فكانت أشعاره الحماسية وقصائده الثورية توسعهم قرعاً وتجريحاً ، وتكيل لهم المثالب والهوان. وما أروع قول الشاعر جعفر الهلالي (١) حين عبر عن مواقف الفرطوسي السياسية قائلاً :

والساسـة العملاء كنت عليهم

سوطـاً تزيد عذابهـا وهوانها

ألمستهم من حرِّ قـولك جمره

مثل الصواعق أرسلت نيرانهـا

أنكرت ما قد أحدثوا من منكر

بفعالهم فـي كلِّ مـا قد شانها

وبذاك قد جاهدت شرّ عصابة

ورميت بالسهم المصيب جنانها

__________________

١ ـ جعفر الهلالي ولد في البصرة سنة ١٩٣٢ م. خطيب جليل وشاعر فاضل وكاتب متتبع من آثاره : « بحوث في تفسير القرآن » ، و « ديوان شعر ». ( معجم رجال الفكر والأدب في النجف ، ج ٣ ، ص ١٣٣٣ ).

٨٤

ما أقعدتك لضعفهـا شيخوخـة

عـن وقفة فرض الاله مكانها (١)

ولعل كلمة الأديب ضياء موسى (٢) بحق الشيخ ومواقفه الوطنية والسياسية تكون مناسبة هنا حيث تصور وببيان أدبي رائع عمق الدور الذي لعبه الشيخ الفرطوسي في مجال العمل الوطني والنشاط السياسي في العراق : « الفرطوسي ينشد للشهداء ، يقول انهم سيورقون في الصباح ، سيتحولون إلى براعم تهتف للحياة ، تغرد عندها بلابل المستقبل ، كان يصنع من جليد الغربة لهيباً يتوقد ، يرمي ذرات السموم على حشرات الخريف ، الحشرات الملتصقة بأشجار النخيل ، الحشرات المتطفلة على سنابل قمح الرافدين ، الحشرات التي تعيش على امتصاص دم الشعوب ، على خيرات الشعوب » (٣).

١٤ ـ دوره الاصلاحي والاجتماعي :

اتجه الفرطوسي في نشاطه الاصلاحي والاجتماعي الى تحديد مواطن الفساد في مجتمعه والوقوف على مشاكله ومعضلاته وذلك عبر قصائده المعبرة والانتقادية ومن خلال تواجده الفاعل والمستمر في الاجتماعات والأندية المختلفة.

ومن المشاكل الاجتماعية التي عالجها الشاعر في عديد من قصائده مشكلة الدراسة والتعليم وما كان يواجهه الطالب في مسيرة دراسته من هزّات وأزمات بسبب الفقر وانعدام الضمان المالي التي تقوم عليه حياته العلمية. ولم

__________________

١ ـ ديوان الهلالي ، مخطوط. والقصيدة بكاملها في الملحق رقم (٣).

٢ ـ كاتب وصحفي عراقي ، له مشاركات هامة في حقول السياسة والفكر والأدب.

٣ ـ قرنفلة الصباح ، ص ٨١.

٨٥

يكن التعليم حينئذٍ عاماً ليشمل جميع شرائح المجتمع بل كان مقتصراً على أبناء الاقطاعيين ومن كانت له صلة بزعماء العشائر الذين انحسر عددهم وتقلص ظلهم بعد ان استبدلوا حياة القرية بالمدينة فأنستهم مغريات المدينة ومباهجها ، الاخلاق الكريمة والوشائج الاجتماعية القويمة التي كانوا عليها في القرية.

هذا ما كان عليه التعليم بشكل عام ، امّا التعليم الديني الذي انضمّ اليه الشاعر فكان ينوء تحت وطأة الانسياب والفوضى وانعدام النظم والمنهجية. وفي هذا الخصوص يشير علي الخاقاني الى موقف الفرطوسي من هذا الوضع قائلاً : « ولإرهاف حسه وقوة العقيدة الدينية فيه أصبح متألماً من الوضع الديني الحاضر وارتباك سير الدراسة والفوضوية الشاملة لها وتسيب الطلاب وعدم وجود زعيم ديني مسؤول عن معرفة الصحيح منهم لانعاشه والسقيم لاقصائه ، وشعر بقيده الاجتماعي فراح يناشد حرية الفكر المضاعة وأسلمه الزمان الى مصاحبة مجموعة من الاقطاعيين في لواء العمارة جرياً على عادة آبائه الذين كان لهم الأمر والنهي في تلك الربوع فأصبح وهو يشاهد الاستهتار والتبذل والاسراف والبذخ وامتصاص دماء الضعفاء واستغلال أقوات الفقراء من أبناء الريف ، وبهذا الحس أصبح لا يقوى على الجهر برأيه خوفاً من مغبة المصير الذي قد يصدمه به المتنفذون من زعماء الاقطاع هناك ، كما لا يقوى على السكوت وفي قلبه شعل ، وفي ضميره حياة (١) ».

ومن هذا المنطلق راح الفرطوسي وبلسانه الشاعري الفياض يهيب بمبرّات الخيّرين من أبناء جلدته ويستنهض هممهم العالية من أجل رفع مستوى الحياة في المجتمع ومعالجة مشاكله وقضاياه من خلال تأسيس المرافق الاجتماعية

__________________

١ ـ شعراء الغري ، ج ٦ ، ص ٦.

٨٦

الضرورية وبناء المؤسسات الخيرية. فكانت لا تقوم لمؤسسة خيرية قائمة الاّ وللفرطوسي فيها موقف وكلمة. ومن هذه المواقف قصيدته الرائعة التي ألقاها في مدينة الحلة عند افتتاح مستشفى آل مرجان سنة ١٣٧٦ هـ ( ١٩٥٧ م ) والتي قدمها بكلمة قال فيها : « الثروة كثيرة ولكن رجال الخير قليلون ، وتتكثر تلك القلة اذا وقع البر في مواقعه. وانّك اذا نظرت هذه المؤسسة الخيرية التي هي كلها اسعاف والطاف فهي تبني الحياة من رمق الحياة ، وتنقذ الصحة من براثن المرض وتستخلص السعادة من كدر الشقاء ، عرفت لمنشئها الفضل العميم على الانسانية المعذبة فان خير الناس من نفع الناس ، وان قيم الرجال توزن بالأعمال ، فسارعوا يا رجال الثروة على عمل الخير فان نقصانها في سبيل البر هي الثروة الكاملة (١) ».

١٥ ـ وفاته ومدفنه :

عانى الشيخ في أواخر عمره داءً عضالاً في صدره وتدهوراً في جهازه التنفسي. وقد أُدخل المستشفى الأميري في « أبو ظبي » بالأمارات العربية المتحدة ومكث فيها عدة أشهر حتى وافته المنية وذلك فى الرابع عشر من شهر صفر سنة ١٤٠٤ هـ المصادف الثامن عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٨٣ م عن عمر ناهز السبعين عاماً. وقد نقل جثمانه الى العراق ودفن في مدينة النجف الأشرف.

وكان لنبأ وفاته وقع اليم وأثر عميق في نفوس العلماء والادباء في العالم الاسلامي. فقد تقاطرت من كل حدب وصوب كلمات التأبين واشعار الرثاء التي

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ١٦٧.

٨٧

راحت تردد مناقب الفقيد وتشيد بمآثره الخالدة وما قدّمه من أعمال جليلة في خدمة الدين الاسلامي ومذهب أهل البيت عليهم‌السلام (١).

ومن هذه الكلمات كلمة السيد حسين الصدر الذي قال في تأبينه : « لقد انطوت شخصيته الفذة على أبعاد شامخة من العلم والعبادة ، والخشوع والزهادة والذود عن العقيدة والرسالة ، بلآليء البيان ، وكنوز البلاغة ، وباهر الألوان ، ورائق الافكار والمفاهيم ، ونقي المشاعر والعواطف ... ومن هنا كانت وفاته خسارة فادحة ، التاعت لها القلوب ، واهتزت لها الاعماق ، فسلام عليه في الخالدين (٢) ... ».

كما ونعته المحطة العربية بالاذاعة البريطانية على لسان الأديب حسن سعيد الكرمي الذي قال راثياً : « كانت ـ وفاة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي ـ عندي بمقام الكارثة لما عهدت فيه من خلال اشعاره من ايمان وعقيدة ورسوخ قدم بالادب والشعر والبلاغة ، وكنت قبل مدّة عازماً على ذكره بمناسبة الكلام عن الشعر والشعراء واصحاب الملحمات ، وقد عاجلني القدر اليه ولا حول ولا قوة الاّ بالله ، وكنت ايضاً عازماً على زيارة الخليج وعقدت النية على زيارة المرحوم وهو ممن يزار وتشد اليه الرحال وعاجلني القدر اليه في هذا ايضاً (٣) ... ».

وقد أرّخ الشاعر الشيخ عبد الغفار الأنصاري وفاة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي بمقطوعتين شعريتين ، الأولى :

قد قلت ( عبد المنعم ) المتقي

هـو الزكي الزاهـد الخيّـرُ

لقد جـزاه الله خيـر الجـزا

مع النبـي المصطفى يُحشـر

__________________

١ ـ ينظر الملحق رقم (٣).

٢ ـ مجلة الموسم : العددان ٢ ـ ٣ ( ١٩٨٩ م ) ، ص ٧٢٢.

٣ ـ المصدر السابق ، ص ٧٠٧.

٨٨

وآلـه الأطهـار أهـل العبا

مَن كــان في مدحهم يشعـر

في جنة الخلد لـه أرخـوا :

( بها المنى شرابه الكوثر ) (١)

٨ + ١٣١ + ٥٠٨ + ٧٥٧

= ١٤٠٤ هـ

والثانية :

لم يمض ( عبد المنعــم ) المتقي

وخِـدْنُ علمِ اللهِ في رحمهـا

وسـاد بالآداب فـي عصـره

مـن عجمها طُراً ومن عربهـا

وأمـة الخـيـر لـه سجلـت

أعمـاله بـالتبر فـي كتبها

وفي ( الجهات الست ) تأريخـه

( تراثه العلمي باقٍ بهـا ) (١)

٦+ ١١٠٦ + ١٨١ + ١٠٣ + ٨

= ١٤٠٤ هـ

رحم الله الفرطوسي الشاعر الولائي الذي ولد على الولاء ومات ولم يزل لسانه يلهج بذكر العترة الطاهرة ، وقلبه ينبض بحب اهل البيت عليهم‌السلام. حشره الله معهم بشهادة قوله :

ولدت على الولاء وسوف اطوى

واُنشر فهـو بدئـي والختام (٢)

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ص ٧١٠.

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ١٦٥.

٨٩

٩٠

الباب الثالث

الشـعـر

٩١

٩٢

الفَصْلُ الأَوَّلُ

شعر الفرطوسي وشاعريته

٩٣

٩٤

شاعرية الفرطوسي :

الشعر عند الفرطوسي طبيعة وسجية لا تكلف وصنعة. فهو لا يمارس النظم بل يجري النظم على لسانه بصورة عفوية وتلقائية حين تنطلق قريحته الوقادة لتصور المشاعر والأحاسيس والأخيلة التي لا تلتقط الاّ بعدسة الشاعر الفنية. فالشاعر كما يراه الفرطوسي : « مصور الخواطر النفسية الذي يلتقط الصور المعنوية من حياة المجتمع بريشة ذهنه المتوقد وخياله العبقري وإنّ الاضمامات المتنوعة التي يعرضها في حقله الشعري ليست هي الاّ تلك الصور الاجتماعية التي انتزعها من صميم المجتمع عندما تغلغل في أعماقه فوقف على آماله وآلامه ونعيمه وشقائه وهواجسه وخواطره (١) ».

وإذا كان الشاعر يرى مالا يراه الناس أو بعبارة اخرى ينظر الى أسرار الأشياء لا الى الأشياء ذاتها ، فهذا يعني أنّ طبيعة الشاعر تختلف اختلافاً واضحاً عن طبائع الناس بسبب قدارته المتميزة ، وخياله الخصب ، واستعداده الفطري ، ومواهبه الشعورية الفذة.

ومن الطبيعي أن تكون هذه العوامل أساساً لبلورة الشاعرية الاّ انّها غير قادرة بحد ذاتها على ترجمة الصور والاخيلة الى ألفاظ شعرية مالم تتوفر لدى

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٦.

٩٥

الشاعر آليّة بيانية تساعده على نقل الأفكار من عالم الذهن الى عالم اللفظ والكلمة. وإذا كانت العوامل السابقة حصيلة مواهب فطرية بحتة فانّ الآلية البيانية لا تحصل الاّ بصورة اكتسابية ومن خلال الثقافة الواعية والأحتكاك الدائم والمستمر بطبقات الأدباء والشعراء.

وقد تحققت هذه العوامل عند الفرطوسي بنبوغه الشعري المبكر ، ونشأته الأدبية في بيئة النجف الشعرية ، واتصاله الحثيث بمشاهير الشعراء وأعلام الفكر والأدب ، ومطالعاته ودراساته في حقول الشعر والأدب.

ولا يخفى ما لبيئة النجف الأدبية من أثر كبير في تكوين شاعرية الفرطوسي تلك البيئة التي خرّجت ولا تزال الفطاحل من الشعراء والنوابغ من الأدباء والمفكرين ممن تزخر العربية ببنات أفكارهم ونتاج عقولهم وآثارهم.

وفي ظل هذه الظروف ترعرعت شاعرية الفرطوسي ، وأخذت طريقها الى السمو والتألق ، وأخذ صوت الشاعر يجلجل في كل حفل ومناسبة ، يطرب الأسماع بروائع انشوداته ، ويملأ النفس بجلائل أفكاره وآرائه. حتى أصبح في المجتمع الأدبي « الشاعر المبدع الذي تهتز المنابر لموقفه وتنطلق الحناجر بالاستحسان والاستعادة ، في المحافل لروعة شعره الذي كان يتميز بالابداع ، في اللفتة واللمحة والكلمة ، والعمق والوضوح .. وكان إلقاؤه المميّز يدفع بالجماهير ألى أن تفهم معنى شعره ، من خلال نبرات صوته ، ونبضات ملامحه وتعابير وجهه .. وبذلك كانت هناك علاقة حبّ وتفاعل بينه وبين جمهوره (١) ».

وهكذا أخذ الشاعر مكانته في الأوساط الأدبية ، واحتل منزلة شامخة ومرموقة بين المشاهير من شعراء وادباء عصره. فكانت المحافل الأدبية.

__________________

١ ـ محمد حسين فضل الله ، من كلمة له في تقديم الجزء الثامن من ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ص ٣.

٩٦

والمهرجانات الشعرية تعج بالوافدين لسماع قصائده والتزود من معين أدبه. ويكفيه منزلة أنّه أنشد ذات يوم قصيدة في محضر الامام محمد الحسين آل كاشف الغطاء (٢٢) فآلى الامام على نفسه أن لا يسمعها الاّ وهو واقف تكريماً لقوتها ومتانة اسلوبها ، والشيخ الامام أعرف الناس بالشعر وأخبرهم بقيمته (٢).

وعن شاعرية الشيخ عبد المنعم يتحدث الأديب علي الخاقاني عن بعض جوانبها ويقول : « الفرطوسي في شعره لا يحتاج الى ثناء كثير فقد حاز على اعجاب كل من سمعه وما أكثر من سمعه ، فقد نحا فيه منا حي قربت الى الواقع ، وعالجت كثيراً من المشاكل الأجتماعية التي ينشدها كل مصلح تسرب حب وطنه له فشعر بضرورة الاصلاح ، وشاعريته ينبوعاً ثراً ومعيناً لم يعتره النضوب ولا أحس بعطل في الانتاج. قوي اللفظ جزله ، مليح المعنى رقيقة ، حسن السبك والايقاع ، قد تخللت عناصر الحياة فيه فأوجدت منه نغماً ملذاً ، ونبضاً حياً ، ومشاعر حساسة مشفوعة بحسن العرض والمران وقد طرق فيه كثيراً من الأنواع والفنون (٣) ».

والمطالع لديوان الفرطوسي يقف عند روائع وغرر تفصح عن شاعرية فذة ، ومنزلة أدبية رفيعة تدل على نضج في التفكير ، وسلامة في الرأي ، وقوة في الأداء ، وانتقاء مميز للّفظ ، وسمو للقصد رصين.

ولكي تظهر شاعرية الفرطوسي واضحة المعالم ناصعة الشكل والصورة كان لابد من دراسة الموارد التالية من شعره :

__________________

١ ـ محمد الحسين آل كاشف الغطاء ( ١٢٩٤ ـ ١٣٧٣ هـ ). من أعلام علماء الامامية ، والمراجع التي كانت تدور عليهم رحى الفتيا والتقليد. وهو من أئمة القريض والنابغين في النظم له شعر رقيق حسن الديباجة ، سهل اللفظ ، عميق المعنى. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ٣ ، ص ١٨٣ ).

٢ ـ غالب الناهي : دراسات أدبية ، ج ١ ، ص ٧٤.

٣ ـ شعراء الغري ، ج ٦ ، ص ٧.

٩٧

اولاً : البدايات

يقول الفرطوسي في هذا الخصوص : « أول نظمي قطعات من الشعر في الحب والروض موشحة وغير موشحة ، منها :

سلمى الى الشاطي معي

فيـه تروق لنـا الحياة

حيث الطبيعة أودعـت

أسرارها بين النبـات

لنعـش مـا بين الحقول

في رغدة العيش الجميل

* * *

شـفّ قلبـي الشغـف

إدركيـه لقــد تلـف

لـك أشكو مـن الهوى

فخذي منك لي النصف

لـك قلبـي نصبتــه

في سبيل الهوى هـدف

***

كل صبـري لـم يكـن

في بحر حبي غير قطره

ويح قلبـي مـن معنى

قـابـل الطـود بـذره

***

ها هي الشمس عن الكون توارت

في الجبال

من وراء الأفق الصافي تراءت

كالخيـال

***

فانظري كيف استحالت لشحوب

واصفـرار

وانظري كيف كساها الليل ثوب

الاستتــار

وانظري كيف تلاشى بعدها ضوء

ضوء النهار

٩٨

هكذا كالنور تفنى

كل أحلامك لبنى

فخذي حظك من دنياك قبل الارتحال (١)

وهكذا كانت بدايات الشاعر. أشعار عاطفية وأبيات في الوجد والحب تفصح عن شعور صادق ، أحاسيس جياشة تبثها نفس الشاعر الشاب في فترة هي من أجمل فترات العمر المفعمة بالحركة والنشاط والحيوية.

وبدأ الوعي الفكري ينمو في شعور الشاعر ، وأخذت الأفكار تستحوذ على أدبه ، فبدأ ينظم قصائد رصينة المعنى ، محكمة البناء ، قويمة المحتوى والمضمون وهو في سن التاسعة عشرة من عمره. وتستوقفنا أربع قصائد نظمها الشاعر في هذه السن ، الاولى : قصيدة « التقاليد » التي قال في مطلعها :

تقـاليدٌ تجرّ لك الشجـونا

واوضاع تجرعك المنونا (٢)

وقد نقد الشاعر في هذه القصيدة التقاليد السقيمة التي كانت تجور على نظم الاصلاح الدينية والاجتماعية وتحول دون تقدم المجتمع ورقيّه.

أمّا القصيدة الثانية فهي قصيدة « وادي السلام » ، وفيها وصف رائع ودقيق لمقبرة النجف الشهيرة. وتعد هذه القصيدة من أروع قصائد الشاعر التي قالها وهو في هذه السن لما تحمل من أوصاف رائعة وأفكار فلسفية تفصح عن نضج فكري مبكر تمتع به الشاعر ولما يزل في نضارة العمر. ومن أبيات هذه القصيدة :

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٩ ، ٢٠.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

٩٩

على الذكوت البيض من جانب الوادي

قفا ساعةً واستنطقا الأثَـر البادي

فكم فيـه معنىً لا يفي ببيانـه

لسان فصيح أو يراعةُ نُقّـاد

وكم عبرة خرسا بها نطـق البلى

فأفصح تبياناً على غير معتاد

الى ان يقول :

فيا صفحة الوادي وأنت سجله

أتدرين كم مرّت قرون على الوادي

وكم قد تلاشت في ثراه مفـارق

وكم طويت فيه أكاليـل أسيـاد

وكم صولجـان قد تداعـى كيانه

بـه وعروش دكها الزمـن العادي

ورب لسـان مفصـح عاد أخرساً

وخانتــهُ للتعبيـر قـوّة ايجـاد

وكان محالاً عنده الصمت فاغتدى

لسلطانه الجبـار أطوع منقــاد

فهل طويت منه الفصاحة في الثرى

وهل أخمدت في أثرها روعة النادي(١)

والقصيدة الثالثة قصيدة « العقل » وهي كسابقتها من حيث متانة الأفكار ، وقوة المعاني والمضامين. يقول الشاعر في بعض أبياته :

وازِن بعقلك فـالحجى ميـزان

وزنـت به عـرفانهـا الأذهـان

وانهج علـى منهاجه كيما ترى

حججـاً عليها ينهض الـوجدان

فيه فلاسفـةُ الوجود تمكنـوا

مـن حـد مالا يـدركُ الأنسان

عرفـوا بـه كنه الأثير فحللوا

ذّراتـه فـي ذاتهـا وأبـانـوا

واستخرجـوا روح النبات وماله

من جـوهر ينمـو بـه الحيوان

حتى أرونـا للـذوات حقائقـاً

كشف الغطا عن نورها البرهان (٢)

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٩٧ ، ٢٩٨.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨٤.

١٠٠