الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

الفَصْلُ الثَّالِثُ

الأَغراض الشعرية

عند الفرطوسي

٢٠١
٢٠٢

١ ـ شعر المديح :

لم يعد المديح في عصر الشيخ الفرطوسي أداة فخر وتفاضل ، أو وسيلة كسب ومنالة كما كان سائداً في العصورة السابقة. فقد طرأت عليه تغييرات حديثة ـ كما هو الحال في سائر أغراض الشعر ـ أخرجته من ماضيه المقيد والمحدود الى حاضره الفاعل والمتجدد.

فشعر المديح الذي كان يعج سابقاً بالصفات الشخصية الزائفة والألفاظ المتملقة الكاذبة أصبح اليوم متحلياً بصدق الشعور والعاطفة ، قريباً الى سمع المتلقي ، بعيداً عن الغلو والمبالغة ، حافلاً بمواهب الممدوح الكريمة ذات الصلة بماضي الأمة المجيد ، وتاريخها المشرق والعريق.

ومن هنا أصبح للمديح قيماً موضوعية جديدة ، اضافة الى قيمه الفنية الموروثة ، من خلال تناوله شؤوناً انسانية رفيعة ، وموضوعات اجتماعية هامة تتصل بواقع الانسان وبتراثه الحضاري الأصيل.

وقد دأب الشيخ الفرطوسي في ادخال العناصر الحضارية في شعر المديح رغبة منه في توظيف هذا اللون من الشعر لصالح الوضع العام والواقع المعاش. فهو يدخل في مديحه مواضيع اساسية ترتبط بواقع الأمة الحالي ليجعل منه ضرباً من الشعر الملتزم الذي يتوخى منه هدفاً واضحاً ومعيناً.

فها هو يشيد بالمشاعر القومية والأحاسيس الوطنية لدى ترحيبه بالدكتور

٢٠٣

زكي مبارك الذي زار النجف عام ١٩٣٧ م ، في الوقت الذي أمست الأمة بحاجة ماسة الى رص الصفوف ولمّ الشمل تجاه غزو المعتدين وأطماع المستعمرين والمحتلين :

يا نجل مصر ومن في كل مفخرة

اليه تنسب كأس السبق والغلـب

هـذا العـراق الى مصـر تحيتُه

تُزفُ محفوفةً بـالشوق والعتـب

فقل لمصر بمـا يطوي العراق ثقي

من صبوة بسوى الاخلاص لم تثب

ما فـرقت بيننـا للأجنبي يـد

لو كان قد جمعتنا وحـدةُ العرب

إنـي ليحزننـي والحر يحزنـه

أنّ العروبة ما لاقت سوى النصب

كل البلاد بهـا ساد الوئام سوى

جزيرة العرب لم تهـدأ بلا شغب

أخذت عليها سياساتٌ منـوعةٌ

قد جرعتها كؤوس الضيم والعطب

وعاقهـا عن مناها أنهـا مُنعت

أن تقتفي أيّ مجـرى سائغ عذب

يا أمة العرب هبـي للوفاق معي

واستقبلـي زمـر الآمال والأرب

لتصلحي كـلَّ امرٍ منك منشعب

بالاتفاق بـلا جهـد ولا تـعب

قولي معي بفم الإخلاص هـاتفة

بوحدة الصف تحيا أمة العرب (١)

وكثيراً ما تتجلى الصور الحضارية والرسوم التراثية في مدائح الفرطوسي ، وخاصة المدائح العامة التي لا تقتصر على شخص معين. فنلاحظ ذلك مثلاً في قصيدة الشاعر التي نظمها تكريماً للوفد العلمي المصري الذي زار النجف في ٢١/٢/١٩٤٣ م ، حيث قال في مطلعها :

أقصر يراعيَ لست بالخل الوفي

ان لم تعبر عـن هواي بما يفي

وجفوت حدك ان نبوت فلم تُجد

تكريم مـن وافى وانت به حفي

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ١٨٦.

٢٠٤

هـذا ربيع الفضل قـد أهدى الى

واديـك مـن نفحاته مـا يصطفي

فانشق عبير الفضل منها واقتطف

منـه ثمـار العلـم حتـى تكتفـي

وانشر لواءَ الفضل خفاقاً على هذي

النفـوس وبـالحيـاة لهـا اهـتفِ

الى أن يقول مخاطباً الوفد :

يـا سادة غمروا النفوس بـروعة

أضحت بهـا زمر العـواطف تحتفي

طوفوا على (وادي الحمى) وتصفحوا

مـا فيـه من أثـر يـروق المقتفي

فبهذه الـربوات أو أخــواتهــا

قام ( الخورنق ) كـاليفاع المشـرف

وهنا ( المنـاذرة ) المخلد ذكـرهم

بمـآثر بسـوى العلى لم تـوصف

عقـدوا بنـود النصـر فوق أجادل

لسوى الفخار عيونها لـم تطـرف

فغدت بهـم دنيـا المفاخر والعلـى

تختـال بيـن محلـق ومـرفـرف

هـذي بقـايا مجـدكم فتـزودوا

منهـا ومن وادي الغري الاشـرف

ومتـى نفـوسكم بـه قد آنسـت

قبسـاً يضيء شعـاعه للمسـدف

فقعـوا هنـالك خاشعين فـقبلكم

موسى الكليـم هوى لهـول الموقف

فهنـا الامام المـرتـضى فتـزودوا

منـه ومن عـرفانـه المستطرف(١)

ومن قصائد الشاعر التي سلك فيها المسلك ذاته قصيدة « وفد المعارف » التي ألقاها في جمعية الرابطة الأدبية في النجف إحتفاءً بوفد المعارف المؤلف من الأستاذ جوهر ورفقائه من الاساتذة المصريين وذلك عام ١٩٤٣ م :

حييت يـا خير وفد آهل شرفا

لولاه نـادي المعالي غير مأهول

وعشتم يا حماة الضاد من مضر

مـمنّعيـن بعز غيـر مفلـول

فـأنتم الـمثل السامي لنهضتنا

بمـا لكم مـن مقام غير مجهول

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٧٦ ـ ١٧٨.

٢٠٥

وكم لكم في نوادي الفضل من أثر

مخلـد الذكر مـن جيل الى جيل

أجللت فيكم مزايـاً عزّ مفـردها

عـن المثيل ولـم تخضع لتمثيل

من كل عاطرة غرّاء قـد عُقدت

علـى جبين المعالي خيـر اكليل

طابت بنفحتها الافاق مـذ عبقت

منهـا شمائل هـاتيك البهاليل(١)

وفي مجال المديح خاض الشاعر ضرباً مميزاً منه وهو مديح علماء الدين لارتباطه بالعاطفة الدينية والأخلاق الاسلامية. وقد استأثر هذا اللون من الشعر باهتمام الشاعر فنظم قصائد عديدة مدح فيها علماء الدين العاملين الذين دأبوا في العمل الأسلامي ووقفوا مواقف مشرفة في الذود عن مهد الدين وكرامة المسلمين.

ومن العلماء المجاهدين الذين خصهم الشاعر بمدحه الحجة الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء. فقط نظم قصيدة في مدحه عند مجيئه من المؤتمر الاسلامي في الباكستان عام ١٩٥١ م ، قال في مطلعها :

للفتـح آيات بوجهك تُعـرف

هـل أن طلعتك السعيدة مصحف

شعت على قسمات وجهك مثلما

شعت بقلبي مـن ولائك أحـرف

هـي أحرف ذهبية خُطت علـى

قلبـي وريشتهـا فـم مـتلهف

أبصـرت قلبـي ظلمة من يأسه

ورأيتهـا فجـر المنى اذ يكشف

أجللتهـا مـن أن تـمسَ قداسةً

واسم ( الحسين ) مقدس ومشرف

فغرستها فـي تربة ازكى ثـرىً

في الطهر من قلب الوليد وانظف

الى أن يقول :

أأبا الفضائل والفضائل بعضها

للبعـض اُلاّف وأنـت المألف

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٨٠ ، ١٨١.

٢٠٦

لك كـل يوم نهضة جبـارة

منـها ميادين المفاخر ترجف

ومـواقف غـراء في أجوائها

للآن أصـداء الثنا بك تعصف

مـا غاب منها موقف إلاّ بدا

لك موقف هو للجهاد مشرف

كـسلاسل ذهبيـة موصولة

بسـلاسل أحداثها لا توصف

المسجد الأقصى يـردد ذكرها

والجامع الاموي فيهـا يهتف(١)

ويتابع الشاعر سرد أوصاف ممدوحه مبيناً خصائصه المميزة التي حقق من خلالها أهدافه السامية ومطالبه العالية والرفيعة :

إنّ الفصـاحة دولةٌ جبــارةٌ

تهوي العروش ومجدها لا ينسف

أنت المليك المستقل بعـرشها

والنصر اكليل عليك مرفـرف

ونـوافذ الكلم البليغ اجلّهـا

مـن أن يقال لها سهام تُرهف

تخطي السهام كما تصيب وانها

أبداً تـسدد كل ما تستهدف

ولسانـك الجبار لـولا اننـي

ظلما أجور عليه قلت المرهف

واذا استطلت على يراعك اعفني

قصـد اللسان فقلت فيه مثقف

وعصـاك ايتك الكريمة فـي يد

بيضـاء وهي لكل سحر تلقف

ويختم الشاعر قصيدته بقوله :

إنّـا لنبغـي للجهـاد قيـادة

يرتاعُ منها المستبد ويـرجف

ونريـد افئدةً علـى أضلاعهـا

تطغـى عزائمُها وحيناً تعصف

وأنـاملاً يهوي علـى تقبيلهـا

في حين تلطمه فـم مـتكلف

ونـروم اصلاحـاً لانظمـة بها

لعب الغريم وعاث فيها المجحف

ونـريـد أفكـارا مثقفة بهـا

نسمـو ومن عرفـانها نتثقف

__________________

١ ـ اشارة الى موقف الشيخ في الجامع الاموي والمسجد الاقصى عند ذهابه للشام وفلسطين.

٢٠٧

وعقـائـداً دينيـة ميمـونـة

في النشء يغرسها أب متعطف

إنا لننشـد مصلحين نفوسهم

عن حمل ما قد حُمّلوا لاتضعف(١)

وعلى هذا النحو يسير الشاعر في مدائحه لعلماء الدين المجاهدين الذين تحمّلوا اشد أنواع الظلم والاضطهاد من أجل اعلاء كلمة الله في الأرض ، وصيانة الدين الاسلامي من كيد المنحرفين والمبغضين.

٢ ـ شعر الرثاء :

أكثر الشيخ الفرطوسي من تناول شعر الرثاء بسبب الظروف العصيبة التي مرّ بها ، والمصائب والنوائب التي حلّت عليه طيلة حياته. وفي ديوانه حقل خاص بأشعار الرثاء دعاه « دموع » ، قال عنه : « يضم هذا الحقل الحزين باقة من العواطف نظمت سلسلة نشائدها من نثارة الدموع وجمرات الضلوع. غرستُ على ألواحها شقائق من قطعات قلبي وسقيتها من جداول دموعي ولاطفت أزهارها بلفحات من زفرات صدري ، وطارحتها من قيثار فمي بأهازيج من الحنين والأنين تستعرض مسرحها الكئيب فلاترى الاّ عيناً باكية ومهجة دامية وعاطفة ذاكية فهي صورة صادقة من خواطري ولوحة منحوتة من قلبي ، طبعت على صفحاتها آلامي وعواطفي ونشرت صحائف مطوية من ذكر يأتي (٢) ».

ومن أبرز مرثيات الشيخ قصائده في الرثاء الخاص التي عبّر فيها عن معاناة شخصية مؤلمة تفاقمت إثر فقده لأعز افراد اسرته ، من ابنيه « علي وعبدالرزاق » ، وأخويه « جبار وعبدالزهراء » وعمه « الشيخ علي الفرطوسي ».

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ١٥٣ ـ ١٥٩.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٣٥.

٢٠٨

وأول قصيدة تطالعنا في حقل المراثي قصيدة « قلب مظلم » التي نظمها الشاعر عام ١٣٦٩ هـ في رثاء ولده « علي » الذي مات إثر صدمة قاسية أصابت قلبه من بعض أترابه حين كان يمرح في ملعب الطفولة. يقول الشاعر في مطلع القصيدة :

شفتاك فـي علٍّ وفـي نهل

أشهى الى نفسي مـن العسل

يـاقوتتان عـلى فـم عذب

يفتر عن سمطين من خضل

قـد ذابتا صهراً على كبدي

وانبتَّ عقـدهما مـن الغلل

جرحان قـد حفّـا بـزنبقة

بيضاء كـالمراة في الصقل

فتحا لرشف النـور فانطبقا

وعليهمـا طبق مـن الظلل

قيثـارتان وقـد تحطمتـا

فـتحطمت دنياً مـن الزجل

قـارورة السلوى هما لفمي

وألـذُّ منهـا عنـده قُبلـي

ولطالمـا عاقـرت مرشفها

فتفجـرت مـن شهدة الأمل

سُكبت ومـا روّت سُلافتها

شفتيّ مـن عذب من النهل

وينتقل الشاعر الى تصوير عمق الفاجعة التي الّمت به بعد أن أسهب في الحديث عن أوصاف ولده الذي طالما آنسه في وحشته ، وأذهب عنه عناء الحياة وتعبها بابتساماته الجميلة وضحكاته الطفولية البريئة :

يـا زفرة في النفس عاصفةً

بزوابـع الآلام فـي زجـل

يـا صدمة للقلب قد هدمت

أركانه مـن حـادث جـلل

أنزلتِ صاعقة علـى كبدي

ونفذت سهماً قـط لـم يمل

قد كنت أحسب انـه جلـد

صلد على الأحداث كالجبل...

وارحمتـاه لبـائـس نـكدٍ

لأب شريد اللّـب منخـذل

٢٠٩

فكأنـه مـن سقمـه قفـص

متحطـم الأضلاع مـن خلل

عينـان مظلمتان فـوقهمـا

جفنـان مـنطبقان كـالظلل

شفتـان جامدتان فـوق فـم

متلثـم بـالصمت مشتمـل

عقـلٌ بلا رشـد يسير بـه

فقد الصواب فعـاد بـالزلل

فكـرٌ بلا وعـي يـحس بـه

فقد السـداد فـآب بالخطل

جسـدٌ بـلا قـلب ينـوء به

كمحمّـل ينزو علـى وحل

يـا منـزل السلوى بـرحمته

أنزل به السلوى على عجل (١)

وسوى هذه القصيدة قصائد اخرى في الرثاء الخاص ، منها قصيدة « يا شقيقي » التي نظمها الشاعر عند مصرع أخيه « جبار » الذي توفي وهو شاب إثر عملية جراحية فاشلة. وقد جاء في جانب من هذه القصيدة :

شقيق نفسي وكم في النفس من حُرق

موقودة عاد منها القلـب مضطرمـا

لو كان يجـدي الفدا أو يرتضى بدلاً

عنك الردى حينما في شخصك اصطدما

لكنت افديك فـي نفسي وما ملكت

كفـي واحسب انـي عدت مغتنمـا

أبكـي شبابك غضا مورقا قصفت

كف الردى عـوده الزاهـي وما رُحما

أرثيك فـي مدمع قـان قد امتزجت

سـوداء قلبـي به فـانهـل منسجما

أفديـك من مدنف والحزن يقلقـه

مروع القلب فـي أحشـائـه كلمـا

واهـي القـوى عاد مرهوناً بـعلته

قـد ضمدوا جرحه الدامي ومـا التئما

مضنى معنـىً من الآلام قد نسجت

لـه الحـوادث ثـوباً شـاحباً سقما

على سرير المنايا السـود مضطجـع

وهنـاً يصـارع جباراً بـه اصطدما

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٣٧ ـ ٢٤٢.

٢١٠

حيران في سكرة للموت مرهبة

وغمرة تستزل العزم والهمما (١)

والى جانب الرثاء الخاص تناول الشيخ الفرطوسي رثاء علماء الدين وكبار المصلحين ممن حازوا رهان السبق في الاصلاح الاجتماعي والتوعية الدينية ، من أمثال الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء ، والشيخ محمد رضا الشبيبي ، وآخرين من اعلام الفكر والدين.

ومن روائع مرثيات الشيخ لعلماء الدين ، قصيدته التي ألقاها في الحفلة التأبينية التي اقيمت في مسجد براثا ببغداد بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الشيخ محمد رضا الشبيبي عام ١٣٨٥ هـ ، حيث قال في مطلعها :

طُويت وأنت المصلح الـمتحرر

بـك للبـلاد رسالـة ومحـرر

أفهكذا تئـد الطـلائع حفـرةٌ

منهـا فيُطوى للفتوح معسكـر

ويُلف فـي أفق الجهاد لـواؤه

والنصر يخفـق حينما هـو ينشر

ويصاب قلب الشعب بين ضلوعه

والوعي ينبض والعـواطف تسعر

ويحف مـن عين الـرجاء معينها

في حين قلب اليأس أو شك يثمر

ويموت لحن المجـد ساعـة خلقه

ألماً على شفـة الخلـود فيقبـر

وتحطم الكأس التـي يـروى بها

ظمـأ الحياة ونبعهـا يتفجـر

رزئت بفقـدك في القيادة امـة

أنت اللسان لهـا وأنت المـزبر

وتـلفعت باليتم مـن نهضـاتها

بكرٌ تـدور بهـا وانت المحـور

والقصيدة طويلة احصى الشاعر من خلالها فضائل الشيخ الشبيبي ومآثره العظيمة التي انجزها طيلة عمله السياسي ونشاطه الوطني. وقد سلط الشاعر الضوء على جانب منها حين قال :

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٤٦ ، ٢٤٧.

٢١١

عـالجت أوضاع البلاد بخبرة

وتجـارب فيها يقـاس المخبر

وعرضت حـلاّ للمشاكل نافعاً

بمـداه أبعـاد السياسـة تسبر

أرشدت فيه الحاكمين لرشدهم

نصحاً ومثلك بـالنصيحة يجدر

ونقدت بنـاءً بنقـدك لافظـمٌ

يزري ولا قلـم يشيد فيؤجـر

فعـرضت مشكلة البلاد وحلها

في حين لـو بقيت تميت وتُفقر

وأبنت أنّ من الضرائب ماغدا

عبثاً تنوء بـه البـلاد وتـوقر

وفسـاد اصلاح الزراعـة آفةٌ

منهـا يموت الاقتصـاد ويقبر

والبرلمـان هـو الضمان لامةٍ

مـن سلطـة فـردية تتحـرر

حاولت تضميد الجـروح ببلسم

يوسى بـه قلب البـلاد ويجبر

وأردت تصحيحـاً لأخطاء بها

تـزري وأنظمـة بهـا تتقهقر

وسيـاسة الاصلاح تجبر كلما

بسياسة الارهاب أضحى يُكسر

ثم يختم الشاعر قصيدته مشيداً بمواقف الشيخ الشبيبي البطولية التي قاوم بها قوى الاحتلال الغاشمة بكل حزم وصلابة :

لك فـي الجهاد مواقف جبـارة

بـك تستطيـل وكل مجد يقصر

هدرت لتحرير البلاد شقـاشق

منهـا وأشداق البطولـة تهـدر

والاحتـلال وقد تزلزل بـطشه

بصـواعـق من بطشها تتفجـر

جبت القفار على متون عزائـم

هـي كالبحار بها المخاطر تكثر

لم يلو عزمك ما يريع وأنت في

لجج المهالك والمفاوز تصحر...(١)

ولم تقتصر مراثي الشيخ على علماء الدين فقط بل شملت ايضاً السياسيين والزعماء الوطنيين ممن دأبوا في تحقيق مصالح الشعب وتلبية مطالبه على قدر

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٣١٠ ـ ٣١٦.

٢١٢

استطاعتهم وفي مدار صلاحياتهم المحدودة.

ومن هؤلاء الزعيم الوطني سعد صالح (١) الذي عرف بمواقفه السياسية الجريئة ومطالباته الاستقلالية المتكررة في عهد الاحتلال البريطاني. وقد رثاه الشيخ الفرطوسي بقصيدة طويلة ، جاء في مطلعها :

أعرني جَنان الليث والمقول الحرا

وخذ من رثائي جمرة تلهب الذكرى

وماذا الذي يجدي الرثاء وان أكن

نظمت الدراري فـي نشائده شعرا

فلست كمن يُرثـى فيفخر بالثنا

وأنت الـذي يسمو الثناء به فخرا

ولكن مجد الرافدين «لسعـده»

تداعى فاذكى كل عاطفة جمرا (٢)

٣ ـ شعر الوصف :

من الأغراض الشعرية التي تناولها الشيخ الفرطوسي في شعره كثيراً الوصف. ولا يخفى ما للوصف من قيمة فنية في العمل الأدبي وخاصة في الشعر. فمن خلال الوصف يمكن تمثيل الحقيقة على هيئة صور ليلتقطها الحس بلا قطتيه الفاعلتين؛ السمع والبصر. ومن خلال الوصف يمكن تجسيد الواقع المستتر واللامرئي بحيث يسهل ادراكه عن طريق الحس الباطني ان لم يكن ميسراً عن طريق الحس الظاهري.

وقد حرص الشيخ على توظيف الوصف توظيفاً فاعلاً باعتباره أداة مؤثرة في نفس المتلقي ، تأخذه الى عالم من المناظر والمرئيات لا يدركها إلاّ من خلال

__________________

١ ـ سعد صالح ( ١٣١٤ ـ ١٣٦٨ هـ ). سياسي محنك ، وزعيم مستقيم. شغل مناصب ادارية ووزارية وبرلمانية عدة. عرف بصرامة الرأي وجدية الموقف. ( شعراء الغري ، ج ٤ ، ص ١٢٤ ).

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٣٢٣.

٢١٣

حس الشاعر المرهف الذي يستطيع بريشته الفنية أن يعبر عن غرضه الأسمى والأهم بواسطة الوصف والتصوير.

ومن هنا أصبح بإمكان المتلقي أن يرصد أهداف الشاعر وأغراضه الأساسية في نهاية قصائده الوصفية ، باعتبار انّ الوصف ليس غاية الشاعر المنشودة وانما وسيلة يصل بها الى المضامين الرفيعة التي توخاها الشاعر من قصيدته.

فنجد مثلاً قصيدة « بنت الريف » التي صور فيها الشاعر الطبيعة أجمل تصوير تبدأ بالتصاوير التقليدية والأوصاف المألوفة التي حرص الشعراء على تصويرها في أشعارهم الوصفية :

طف بالقـرى واهبط بدنيا الريف

واستجل سر جمالها الـمكشوف

تجـد الطبيعة عنـدهـا مجلـوّةً

حيث الطبيعة من بنات الـريف

والحسن سطـرٌ والربوع صحائف

خطت بها الألطاف خير حروف

أنّى التفت وجـدت في جنباتهـا

مرأىً يروق لقلبـك المشغـوف

في الروض وهو منـسقٌ ومـؤلف

في أبدع التنسيـق والـتألـيف

في الشاطيء الزاهي وقد صفت على

حـافـاته أزهـاره كصفوف

فـي النهر وهو يجيش فـي طغيانه

متـدفقـاً يجري بغير وقـوف

فـي نغمة الشادي وقد مالت به

نفحات أعطاف الغصـون الهيف

فـي كل شيءٍ منه أسفر ضاحكاً

وجه الطبيعة من ربى وطفوف (١)

ثم يواصل الشاعر وصف مظاهر الطبيعة في الريف ، مفصلاً جمالها الخلاّب وصفاءها الرائع لكي يصل في النهاية الى مقصوده الحقيقي من وصفه وهو تصوير

__________________

١ ـ الطفوف جمع طف : الشاطيء. ( لسان العرب ، ج ٨ ، ص ١٧٢ ).

٢١٤

حياة البؤس والشقاء التي كان يعانيها الفلاح آنذاك في ظل نظام الاقطاع الجائر :

وهنـاك شمَّـر كادح عـن ساعد

كحسامـه ماضي الغرار رهيف

... يروي الحقول بمقلة تُسقى بها

عن مدمع شبه العهاد وكـوف

وبـأختهـا يـرعـى فـراخـاً

جوعاً جرداً كأنهم غصون خريف

يتضـورون ويكتفـون قنـاعـةً

ان اطعمـوا فـي كسرة ورغيف

إلى أن يقول :

حتـى اذا وافـى الحصاد وأقبلت

معـه الجباة السـود شبه حتوف

فـاذا الزروع وغيرهـا ما سددت

ديـن الغريـم ولاوفت بـطفيف

واذا بهـم يتضـرعـون لربـهم

عـن كـل قلب موجـع ملهوف

أفنعدم الستـر الـبسيطَ لعـورة

منّـا تصان بـه عـن التكشيف

أو بـرقعاً فيـه العـذارى تتقـي

نظـر المـريب اذا رنا لـصليف

وتـرى سوانـا رافـلاً متبختـراً

بـمطارف بـراقـة وشفـوف

أفهكـذا الانصاف أصبح حاكماً

ان يلهم الاجحاف كل ضعيف (١)

والقصيدة مليئة بمثل هذه الصور الأليمة والمناظر المريعة والحزينة. وقد حرص الشاعر على تجسيدها في شعره رغبة منه في توظيف الوصف لصالح الأهداف والمطالب الاجتماعية.

ولم يكن هذا المسلك قاصراً على وصف الطبيعة فقط. فقد شمل أيضاً وصف الأماكن التي عاش فيها الشاعر أو مرّ بها من خلال أسفاره ورحلاته.

فها هو ينظم قصيدة في وصف « طاق كسرى » لا لمجرد الوصف فقط بل لنيل العبر والدروس :

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٣٠٣ ـ ٣٠٧.

٢١٥

قف بالمدائن واستنطق بها العبرا

عن ألف جيل وجيل فوقها عبرا

واستعرض الدهر أشكالاً مصورة

فيها لتعرف مـن أحوالها صورا

واستخبر الرسم عنها حين تقرأه

فسوف يعطيك من تأريخها خبرا

فالرسم سفرٌ بليغ فيه قـد رسمت

لنا الحوادث مـن أخبارها سيرا

والعين ان تك قـد فاتتك رؤيتها

فلن يفوتك منهـا أن ترى الأثرا

ثم يبدأ الشاعر وصف مشاهداته قائلاً :

وقفت فيهـا فلم أنظر بها أثـراً

الاّ وروعته تستـوقف النظـرا

كأن روعة رب التاج قد خلعت

حتى على الرسم منها مطرفاً نظرا (١)

فاعجب لمرأى تهز النفسَ روعته

ولم تجد منـه إلاّ الرسم والعفرا (٢)

فكيف لو شاهدتـه زاهياً ورأت

« كسرى » وايوانه بالزهو قد عمرا

وابصرت منه دنياً ملؤها صـورٌ

فتانةٌ تسحـر الالباب والفكــرا

وتتقارن المعاني الشعرية مع الأوصاف دون انفصال وانقطاع مما يجعل الوصف جزءاً من المعاني التي توخاها الشاعر في قصيدته :

أنشـودةٌ أنت للأجيـال خالدة

لذاك أضحى فـم الدنيا لها وترا

وآيةٌ طأطأ الـدهر الخطيـر لها

لما تسامت على عليائه خطـرا

وفكرةٌ فـي دماغ الفن زاولهـا

قرناً فقـرناً ليبديها فما اقتـدرا

حتى اذا نضجت أفكاره ولدت

نتيجة ترهب الأجيال والعصرا

فأنت معجـزةٌ للفـن خالـدة

بها وجدنا نتـاجَ الفن مزدهـرا

وان للفـنّ اعجازاً يصــوره

لنا الخلود وقد شمنابك الصورا (٣)

__________________

١ ـ المُطْرَف : رداء من خز. ( لسان العرب ، ج ٨ ، ص ١٤٩ ).

٢ ـ العَفَر : ظاهر التراب. ( لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٢٨٢ ).

٣ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٩١ ، ٢٩٢.

٢١٦

والجدير ذكره ان الشاعر نهج المسلك ذاته في وصف الأشياء أيضاً. فهو عندما يصف قلمه مثلاً يخاطبه وكأنه كائن ذو روح يتوخى منه الخير والصلاح ، ويضع على عاتقه مهمة البناء والاصلاح :

يا رسول البيـان كم ذا أرتنا

معجزات البيان مـنك رسولا

تتلقى مواهبَ الـروح وحيـا

فتعـي كـل لحظـة انـجيلا

كم معان كشفت عنها غطـاءً

للخفا كان فـوقهـا مسـدولا

ورمـوز حللتها بـوضـوح

فأجدت الايضـاح والتحليـلا

أنـت سلك يمده العقل نـوراً

حين يُهـدى فيذهـبُ التضليلا

... أنت تبنـي دنياً وتهدم دنياً

حين تُفني جيـلاً وتخلـق جيلا

أنـت أقوى من العفرنى جَناناً

حيـن تسطـو وان بدوت عليلا

أنت أشجـى من الحمامة لحناً

حين يغدو منـك الصرير هديلا

أنـت امضـى من المهند حدّاً

حين تنضو غرارك المصقولا (١)

٤ ـ شعر الغزل :

تناول الشيخ الفرطوسي الغزل باعتباره غرضاً من أغراض الشعر التقليدية وليس تعبيراً عن تجربة حب واقعية أو تبادل عاطفي حقيقي. ففي بيئة متشددة كالنجف حيث القيود الصارمة المفروضة على اختلاط الجنسين ، والأعراف التقليدية المتزمتة على المرأة ، لا مجال لبلورة مثل هذه الظواهر الاجتماعية على الاطلاق.

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٦٠ ، ٢٦١.

٢١٧

ومن هنا أصبح التغزل الحسي شائعاً لدى الشعراء ، يكثرون من إبراز المحاسن الجسدية للمرأة في محاولة منهم لمحاكاة شعراء السلف ، والتعبير عن لواعج النفس التي طالما عانت كبت الغرائز الفطرية ، والحرمان النفسي والعاطفي.

ولم يكن الفرطوسي بمنأى عن أترابه الشعراء. فقد تطرق هو الآخر الى الغزل الحسي ، والتغني بمرئيات الجمال النسوي دون أن يظهر فيه مجون أو نزول الى حضيض الشهوات :

علـى خديـك أجمل وردتين

قطافهمـا الشهـيُّ بقُبلتيـن

وفـي عينيك للعشـاق سحرٌ

ومبعثـه سـواد المقلتيــن

وفـي شفتيك للشفقين لـون

يخضب منـه فجر المبسمين

يمـوج الحسن بينهما شعاعاً

فيجلى منه ليل الخصلتين (١)

ولكن ظاهره الغزل الحسي ظهرت متأخرة في شعر الفرطوسي وتحديداً عند خروجه من العراق وإقامته مدة في « سويسرا » و « لبنان ». ففي مثل هذا المحيط المتحرر استطاع الشاعر أن يصف مشاهداته العينية بكل حرية وبدون قيد أو شرط :

جُرح قلب المشوق من مقلتيك

قبلـة وقّعـت علـى شفتيـك

ورحيق الـرضاب منك شهيّا

هو خمري والكأس من مبسميك

انا أهوى سـود العيون لسحر

هـو معنى السواد فـي مقلتيك

الى أن يقول :

أعشق الورد لون خديك فيـه

ورقيـق الأديـم مـن وجنتيك

تعشق العين مـن جبينك شمساً

حين تهوى الهلال من حاجبيك

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٠٣.

٢١٨

... أنت دنيا الهوى لقلب مشوق

كلُّ آمـالـه الحسـان لـديك

رفـرفـت كلها علـى شفتيك

كالفراشات وارتمت في يديك (١)

أمّا غزل الشاعر قبل هذه الفترة فهو أقرب الى التعبير العاطفي الصادق تجاه مفهوم الحب لا الى لوازمه وعناصره. ويظهر هذا الاتجاه واضحاً في كثير من قصائد الفرطوسي كقصيدة « عواطف الحب » التي نظمها عام ١٩٤٣ م :

شعلـةٌ أشرقت بظلمة نـفس

فأنارت منهـا فـؤاداً دجيّـا

صقلتـه مـن الصداءة حتّـى

أظهرت منـه معدنـاً ذهبيـا

لم يزل خامل العواطف حـتّى

خلق الحبُّ منـه حسّاً ذكيـا

واضاءت شمس الصبابـة فيـه

فـأرتنا مهـذّبـاً عبقـريّـا

حيـن أمسى جَمّ المواهب فذّاً

بعدما كـان جامـداً همجيـا

فتعالت عواطف الحب كم ذا

أيقظـت خاملاً وأدنـت قصيا

تنشر الروح حيـن تعلق فيها

فتــدب الحياةُ شيّـا فشيـا

أتراهُ بعد الجمـود زمـانـاً

كـان ميتاً وكيف أصبح حيّـا

ليس تستطيع أن تشف شعوراً

كلُّ نفس لم يكوها الحب كيا (٢)

وعلى الرغم من توسع الشاعر في وصفه الحسي لمفاتن المرأة ومحاسنها الانثوية ، فقد التزم في نفس الوقت بمبادئ الشريعة الاسلامية التي تدعو المرأة الى الحجاب والتعفف ، والابتعاد عن التحلل والابتذال. وقد ذكّر الشاعر بهذه القيم في مواضع عدة ، منها هذه الرباعية :

الحب روح للنفـوس

ونشـره أرج وطيب

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٠١ ، ٢٠٢.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢١٨.

٢١٩

قبس بـأعماق الحشا الـ

ـدامي يشب لـه لهيب

سلك بـأحداق الحسـان

بـه تكهـربت القلـوب

الحب أن تـذكو القلوب

وأن تعفَّ به الجيوب (١)

وكذلك في الثنائية التالية :

أفهكذا الحسنـاء اغـراء لنـا

وهي المصونة بالحيـا تتخلـع

حقّـاً بـأنك فتنةٌ يـا حبذا

لو كان عندك من عفافك برقع (٢)

وحصيلة الكلام انّ الغزل عند الفرطوسي معظمه محكاة وتقليد ، وقليل منه شعور وعاطفة. وهو في الحالتين عفيف البيان ، نزيه الوصف ، بعيد عن الابتذال والانحطاط البذيء.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٢٩.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٢٢.

٢٢٠