الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

١

٢

٣

« هذا الكتاب هو في الأصل رسالة جامعية تقدّم بها صاحبها لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي من كلية اللغات بجامعة اصفهان. وقد نوقشت صباح يوم الأربعاء ٢٤ / ٥ / ١٤١٩ هـ الموافق ١٦ / ٨ / ١٩٩٨ م. وقد نال بها صاحبها وبفضل من الله وتوفيقه درجة الماجستير بمرتبة امتياز مع تقدير لجنة المناقشة والحكم ».

٤

كلمة المكتبة الأدبيّة المختصّة

الحمد لله رب العالمين والصلاة على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.

لمدرسة النجف الأشرف في الأدب ـ شأنَ كل تكوينها العلمي الحضاري العتيد ـ حضورٌ طاغٍ يمتدُّ إلى أجيال متلاحقة ساهمت في إشادة البُنية الفارهة للكلمة .. الكلمة التي اعتبرت ذاتَها امتداداً لإعجاز أمير اللغة والبيان وإمام الفصاحة الفذّة علي بن ابي طالب عليه‌السلام نشأ الأديبُ النجفيُّ في ظلّ وادي السلام المسكون بالعبقريّة حتى يتملّكَهُ هذا الجنوح الغريب إلى فتق المفردات ومعالجة الأفكار .. ربّما للمغناطيسيّة الهائلة التي أودعَها علي عليه‌السلام واهبة إبداعاً ورؤيا يجذبان إليهما كلَّ رفيفِ شعورٍ ونديِّ قول..

وهكذا فالنجفيُّ مسكونٌ ـ أبداً ـ بالشعريّة في الشعر والنثر كليهما على مرّ الف عام او يزيدون ، لا سيّما في قرنها الحاضر الأخير.

ولا اراني مبالغاً لو قلت انّ مدرسة النجف أفرزت ركاماً هائلاً من النتاج الأدبي يتعدّى حتى نتاجها العلمي الشاخص في جهود علمائها الأفذاذ ، بل لصحَّ لو قرّرنا ان أيّة حاضرة علمية في التاريخ لم تتلبَّسْها هذه الروح الفريدة كالغريّين.

وما برحت أصداء النديّ الخالد تتردّد في شرق العالم وغربه .. وما برحت أشباح السمار تهوّم في الزمان والمكان تنأى لتقترب وتغيب لتشرق مطلعَ كلِّ مصطبَح وأوانَ كلِّ مغتبق رغم الصمت والحزن والكبرياء الجريحة في يومها المرير هذا ..

فلا غروَ ـ اذن ـ والحالُ هذه ان يمتدّ الجذرُ الكبير حتى دوحة عبد المنعم الفرطوسي الوارفة التي طالما تفيَّأَ ظلالَها كاتبُ هذه السطورِ المكلومةِ وغيرُه الكثيرون ـ من قبلُ ومن بعدُ ـ لتحضر النجف بكلّ خُيَلائها وزبرجها في اللفظ والمعنى ..

ولقد كان الشيخُ الفرطوسيُّ ـ فيما يمثِّلُ من صفاتِهِ الجمّة ـ واعيةَ الكلمة العلويّة

٥

المقدّسة بشقشقتِهِ التي هدَرَتْ فما قرّتْ حتى نصف قرنٍ من العطاءِ والجهاد والاستبسال بين يَدَي أهدافها الكبيرة في نصرة الحقّ والانتصاف للهدى والامتياح من النبع السرمدي ..

وهو ـ ازاء ذلك ـ يشكّل ظاهرةً شعريّة امتلكت زمام الفرادة في ثرائها وعنفوانها حق لها ـ لو كان ثمّةَ نُعمى للحق ـ ان تُرصد ويُكتب عنها : بحثاً وتمحيصاً وتوثيقاً ، لكنّها بعد ان ادّت ما عليها من ضريبة القول والموقف لم يشأ لها زمنها الذي عاشه شاعرُها إلاّ غمطاً وظلماً .. على انَّ الفرطوسي كان وسيبقى حاضراً بكلّ جلالِه وحِدائه المميَّزَيْن في الذاكرة حتى عند من لم يحضرْه أو يعاصرْه .. وكان من اولئك الذين شهدوه بعد زمنه ـ بقليلٍ ـ فاكتَنَفَتْه روحُ الفرطوسي وإبداعُه : أحَدُ أبناء حاضرة النجف الباحث الجامعي الدؤوب الاستاذ حيدر محلاّتي ( الخفّاف ) من خلال دراسة جادّةٍ موفّقةٍ رغم ندرة المصادر والاحالات عن موضوع البحث ، شاءَ لها صبرُ صاحبها ومراسُه الفتيُّ ان تتوافر على صفات النجاح والتوفيق بما يفتح الباب مشرَعاً على ارتياد عوالم الفرطوسي الرحبة .. وكان خرج منها بحصيلةٍ وافرة قرّبت الصورة إلى مدياتها الحقيقية عن العالم الشاعر الفرطوسي الموهوب ، والمكتبة الادبية المختصّة إذ تبادر إلى نشر مثل هذه الدراسة الرائدة تجد نفسها معنيّةً بخدمة رموز الأدب الولائي المبارك الذين مثَّل الفقيد الكبير ـ موضوع هذه الدراسة ـ واحداً من رموزه الشاخصين ، كما تهيب بالأخوة الاُدباء والباحثين ان يرفدوا بعطائهم ونتاجهم مسيرة هذه الكلمة الأدبيّة الطيّبة حتى تؤتي اُكُلَها كلَّ حينٍ بإذن ربها .. عسى أن نكون نحن جميعاً من ذوي الزاد في مسيرة العروج إلى طهر أهل البيت عليهم‌السلام الدين وأتباعهم الخالدين.

مدير المكتبة الأدبية المختصة

فرات الأسدي

غرّة ربيع الثاني / ١٤٢٠ هـ

٦

المقدمة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى ، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

وبعد :

فلم تزل مدرسة النجف في جميع أدوارها التاريخية حافلة بمشاهير الشعراء وأكابر الأدباء والعلماء ممّن أسهموا مساهمة فعّالة في إحياء التراث العربي ، وصيانته من اللغات الدخيلة.

ولهذه المدرسة سجل حافل بأسماء تلاميذها الأذكياء والنوابغ ممن أثروا المكتبة العربية بروائع نتاجهم ، وأمدوا الثقافة والمعرفة بجلائل آثارهم وعظيم أفكارهم وآرائهم.

ومن هؤلاء الشاعر الكبير الشيخ عبد المنعم الفرطوسي الذي لم تعرف النجف على مرّ عصورها مثيلاً له من حيث غزارة الشعر ووفرة النتاج الأدبي. فقد بلغت أبياته الشعرية التي نظمها طوال مسيرته الأدبية خمسين ألف بيت ، الحدّ الذي لم ينازعه فيه شاعر لا من قديم ولا من حديث.

والغريب أنَّ شاعراً كالفرطوسي وبهذا الكم الهائل من الإبداع الأدبي لم يعن باهتمام النقاد والمعنيين بشؤون الأدب ، الأمر الذي دفعني إلى دراسة حياته ،

٧

والتعمق في شعره على الرغم من ضآلة المصادر وقلة المراجع المعنية بهذا الموضوع.

وقد ضمت الدراسة ثلاثة أبواب ، تناول الباب الأول بيئة الشاعر أي مدينة النجف ، ومالها من معالم تاريخية ودينية ، بالاضافة إلى واقعها الاجتماعي والسياسي والثقافي. وقد كان ضرورياً بحث هذه الجوانب من بيئة الشاعر باعتبار انّ هذه البيئة لم تعد تشكل هاجساً عاطفياً لدى الشاعر لكونها مهد طفولته وموطن نشأته فحسب ، بل ولأنها أصبحت تجسد في فكره مفهوماً حضارياً راقياً وواقعاً تاريخياً هاماً كما سيتضح من خلال البحث.

أمّا الباب الثاني فقد سلط الضوء على جوانب مختلفة مما يتصل بحياة الشاعر الخاصة من قبيل مولده ونشأته ، اُسرته وقبيلته ، سيرته وخلقه ، آثاره ومؤلفاته ، وأعماله ونشاطاته في الميادين السياسية والإجتماعية والثقافيّة.

وفي الباب الثالث تركز الحديث على شعر الشاعر فضم أربعة فصول :

الفصل الأول : في بدايات الفرطوسي الشعرية ، والعوامل التي أثّرت في شعره ، بالإضافة إلى المراحل والأدوار التي مرّ بها الشاعر طيلة عمله الأدبي.

الفصل الثاني : حول الموضوعات الشعرية الرئيسية عند الشاعر ، وهي : السياسة ، والاجتماع ، والعقيدة.

الفصل الثالث : في الأغراض الشعرية المتمثلة بشعر المديح ، والرثاء ، والوصف ، والغزل ، وشعر التأريخ.

الفصل الرابع : تناول بالتفصيل ملحمة الشاعر الموسومة بملحمة أهل البيت عليهم‌السلام. وفيه حديث مفصل ومطول عن أوليات الملحمة وتاريخها ، وكذلك ميزات ملحمة الشاعر ، وما يتعلق بها من أحاديث وموضوعات.

٨

وقد اعتمدت في اعداد البحث على عدة مصادر تفاوتت من حيث الأهمية والموضوع. من أهمها : كتاب « ماضي النجف وحاضرها » للشيخ جعفر آل محبوبة ، وكتاب « شعراء الغري » لعلي الخاقاني ، وكتاب « حركة الشعر في النجف الأشرف وأطواره خلال القرن الرابع عشر الهجري » للدكتور عبد الصاحب الموسوي. واضافة إلى هذه الكتب وكتب اخرى فقد بقي ديوان الشاعر وملحمته الشعرية أهم مرجعين اعتمدتهما طوال البحث.

أمّا منهجية العمل فقد حرصت في بادئ الأمر على أن يخرج البحث بموضوعية تامة ونزاهة كاملة بعيداً عن الأحكام التعسفية والنقد اللاذع الذي من شأنه أن يُدخل البحث في متاهات لا تتماشى وروح البحث وصميم الدراسة.

وجلّ عملي في البحث قائم على تحليل النصوص الشعرية ودراستها من الناحية الموضوعية في استقصاء يهدف في الوهلة الأولى الى تعيين مواطن اهتمام الشاعر ، ثم تقييم نتاجه الأدبي تقييماً علمياً يبرز مدى قابليته وتفوقه في عالم الشعر والقريض.

ختاماً أتقدم بوافر شكري وجزيل امتناني لاُستاذي المشرف الدكتور عبدالغني ايرواني زاده على ما بذله من جهد وما اسدى من نصح خلال إعداد الرسالة. كما واشيد بالجهود والملاحظات القيمة التي أبداها الاُستاذ المساعد الدكتور نصرالله شاملي عند اطلاعه على مسودات الرسالة.

أسأل الله أن يجعل عملي هذا مما ينتفع به ، انّه وحده ولي التوفيق. والحمد لله ربّ العالمين.

حيدر محلاتي

٩
١٠

البَابُ الأَوَّلُ

البيئة

١١

١٢

١ ـ النجف قديماً وحديثاً :

النَّجَفُ في اللغة : « مكان مستطيل منقادٌ ولا يعلوه الماء ، والجمع نجاف. ويقال هي بطون من الأرض في أسافلها سُهولة تنقاد إلى الأرض ، لها أودية تنصبُّ إلى لينٍ من الأَرض » (١).

وقال ياقوت الحموي : « النجف بالتحريك ... هو بظهر الكوفة كالمُسنّاة تمنع مسيل الماء أن يعلوَ الكوفة ومقابرها ... وبالقرب من هذا الموضع قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد ذكرته الشعراء في أشعارها فأكثرت ... » (٢)

وللنجف جذور تاريخية عريقة يوم كانت جزءاً من حاضرة الحيرة التي تربع على عرشها المناذرة ، وبنوا فيها منازلهم وقصورهم لما كانت تتمتع هذه البقعة بطيب المناخ ، وحسن التربة ، واعتدال الهواء. وقديماً قال فيها الشاعر (٣) :

لم يَـنْزل الناسُ في سَهْـلٍ ولا جَبل

أصفى هواءً ولا أعذى من النجفِ (٤)

__________________

١ ـ ابن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج ٥ ، ص ٣٩٥.

٢ ـ معجم البلدان ، ج ٥ ، ص ٣١٣.

٣ ـ هو اسحاق بن إبراهيم الموصلي ، توفي سنة ٢٣٥ هـ.

٤ ـ أبو الفرج الأصفهاني : الأغاني ، ج ٥ ، ص ٣٦٧.

١٣

وقد ورد لبقعة النجف عدة أسماء ، منها :

الغري أو الغريان : وهو من الأسماء المتداولة الشائعة لبقعة النجف. وقد ورد كثيراً في معاجم الحديث وقواميس اللغة وكتب التاريخ والأدب. والغري أو الغريان : « تثنية الغري ، وهو المطلي. الغراء ممدود : وهو الغراء الذي يُطلى به ... والغري نُصُب (١) كان يذبح عليها العتائر (٢) والغريان : طِربالان وهما بناءان كالصومعتين بظاهر الكوفة قرب قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه » (٣).

وادي السلام : من أسماء النجف المشهورة ، وقد ورد في بعض الأحاديث الدينية وعن لسان بعض الأئمة : وهذا الأسم يطلق اليوم على مقبرة النجف الشهيرة التي تضمّ بين ثناياها أجساداً من الأقاصي الإسلامية أمّت النجف لتنال جوار أمير المؤمنين علي عليه‌السلام. وفي هذه البقعة المقدسة يقول الفرطوسي من

__________________

١ ـ النُّصُب : صنمٌ أو حجر ، كانت الجاهلية تنصبه ، وتذبح عنده فيحمرُّ للدم. ( لسان العرب ، ج ١٤ ، ص ١٥٦ ).

٢ ـ العتائر : جمع العتيرة ، وهي الذبيحة التي كانت تُذْبَح للأصنام ويُصب دَمُها على رأسها. ( لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٣٣ ).

٣ ـ ياقوت الحموي : معجم البلدان ، ج ٤ ، ص ٢٢٢ ، ويستطرد ياقوت في سرد قصة الغريين فيقول : « وأن الغريين بظاهر الكوفة ، بناهما المنذر بن امرئ القيس بن ماء السماء ، وكان السبب في ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد ، يقال لأحدهما خالد بن نضلة ، والآخر عمرو بن مسعود ، فثملا فراجعا الملك ليلة في بعض كلامه فأمر وهو سكران فحفر لهما حفيرتان في ظهر الكوفة ، ودفنهما حيين. فلما أصبح استدعاهما فأخبر بالذي أمضاه فيهما فغمه ذلك ، وقصد حفرتهما وأمر ببناء طربالين عليهما ، وهما صومعتان. فقال المنذر : ما أنا بملك إن خالف الناس أمري. لا يمر أحد من وفود العرب الاّ بينهما وجعل لهما في السنة يوم بؤس ، ويوم نعيم. يذبح في يوم بؤسه كل من يلقاه ، ويغري بدمه الطربالين فإن رفعت له الوحش طلبتها الخيل ، وان رفع طائر أرسل عليه الجوارح ، حتى يذبح ما يعن ويطليان بدمه. ولبث برهة من دهره ، وسمى أحد اليومين يوم البؤس وهو اليوم الذي يقتل فيه ماظهر له من إنسان وغيره ، وسمي الآخر يوم النعيم يحسن فيه إلى كل من يلقى من الناس ويحملهم ويخلع عليهم ».

١٤

قصيدة بعنوان « وادي السلام » :

على الذكواتِ البيضِ من جانبِ الوادي

قِفـا ساعةً واستنطِقا الأثرَ البادي

إلى أن يقول :

ويا تربةً وادي السلامِ قـرارهـا

ومن حبّها في كل قلبٍ هوىً بادي

سقاكِ الحيا من تربةٍ قد ترعرعت

على حُبِّها نفسى بساعـةِ ميلادي

علقتُ بهـا طولَ الحيـاةِ وإنني

سأبعث مَقروناً بها يوم ميعادي (١)

واكتسبت النجف أهمية وقداسة منذ أن احتضنت بين دفتيها جثمان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام. فأصبحت ومنذ ذلك الحين مزاراً يُؤَمُّ من كل حدب وصوب ، وتربة يستشفى بها على حدّ قول الشاعر (٢) :

يا صاحب القبة البيضاء في النجف

من زار قبرك واستشفى لديك شفي

زوروا أبـا الحسن الهـادي لعلكم

تحظـون بالأجر والإقبال والزلف

زوروا لمن تسمع النجوى لديه فمن

يـزره بالقبر ملهوفـاً لديه كفـي

إذا وصلـت فـأحرم قبل تدخلـه

ملبياً واسـع سعياً حـوله وطـف

حتى اذا طفت سبعـاً حول قبتـه

تـأمل الباب تلقى وجهه فقف (٣)

هذا ما كانت عليه النجف قديماً. أمّا اليوم فهي مدينة واسعة تقع في سهل رملي على حافة الهضبة الغربية من العراق ، التي عند نهايتها تقوم الحدود السعودية. يحدها من الشمال والشمال الشرقي مدينة كربلاء ، ومن الجنوب والغرب منخفض بحر النجف ، ومن الشرق مدينة الكوفة (٤).

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٩٩.

٢ ـ هو الحسين بن الحجاج البغدادي ، توفي سنة ٣٩١ هـ.

٣ ـ محمد باقر الخوانساري : روضات الجنات ، ج ٣ ، ص ١٦٢.

٤ ـ جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج ١ ، ص ١١٥.

١٥

أمّا عن مناخها فيقول جعفر آل محبوبة : « هواء صيفها حار يابس وفي الشتاء بارد قارص وعندما يشتد الحر في الصيف يلتجىَ أهلها إلى سراديب منحوتة في الأرض نحتاً بديعاً » (١) ويقول في موضع آخر : « يهب الهواء الناشف الساكن الهادىَ في فضاء النجف ولم يحمل معه ما تتركه المياه المتعفنة والمستنقعات الوبيئة فتراه نسيماً خالصاً به ينتعش الحزين ويصبو الولهان ويستيقظ المستهام فيثير عواطف الوداد ويهيج هواجس الشوق فتتفجر براكين أرباب الغرام فترمي بقذائف الأفكار فتسبكها في بودقة الخيال فتنصب شعراً » (٢).

وتعتبر النجف من أهم الحواضر الاسلامية المقدسة بعد مكة المكرمة ، والمدينة المنورة ، والقدس الشريف. وهي اليوم جامعة تربوية دينية ، انتهت اليها مسؤولية تدريس علوم أهل البيت عليهم‌السلام واحياء أمرهم ونشر مذهبهم ، اضافة الى ريادتها التاريخية في الحفاظ على التراث الاسلامي وصونه من الضياع والتلف.

٢ ـ الحياة الاجتماعية :

ورثت النجف طبيعة قبلية كانت قد استفحلت فيها القيم البدوية والأعراف السائدة في العشائر التي نزحت اليها. فسكان النجف ينتمي بعضهم الى أعراب البوادي الرحالة القادمين من طوائف الحجاز ، وبعضهم ينتمي إلى عشائر العراق القاطنة على ضفتي دجلة والفرات ، بالإضافة إلى بعض العناصر المختلفة كالفارسي ، والهندي ، والتركي الذين تأثروا ببيئتهم الجديدة فأصبحوا جزءاً منها في عاداتها وتقاليدها وسلوكها الاجتماعي.

__________________

١ ـ ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٧.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٨٨.

١٦

وفي مثل هذا المزيج من العادات والتقاليد والثقافات المتباينة كان لابد أن تظهر صراعات ونزاعات بين المحلات المختلفة في المدينة الواحدة. ولعل العامل المحفز في تشديد هذه الصراعات هو روح العصبية القبلية التي ورثتها النجف منذ القدم يوم كانت تقع على حافة الصحراء وقد أصبحت موئلاً لتموين القبائل البدوية التي تتجول في الصحراء بالقرب منها. وكثيراً ما كانت المشاحنات والمنازعات تقع بين أهل النجف وتلك القبائل. وهذا يجعل أهل النجف يشعرون بضرورة وجود عصبية قوية بينهم لتساعدهم على مدافعة القبائل البدوية عند الحاجة (١).

وفي هذا الصدد يقول علي الخاقاني : « ومعظم أهالي النجف يعيشون الى اليوم بالعقلية القبلية وبطبيعة أهل البادية. والنجف لم تتأثر بالحضارة الحديثة ولم تلتفت الى مقتضيات العصر كما يراد ، وان تجرد الفرد من المسؤولية أدى به الى فقدان مجتمع صالح يتعاون معه للقضاء على الرذيلة ومقاومة فاعلها ... ، لذا ترى التكتل الاجتماعي قائماً على قدم وساق ، يزيده وينميه ضعف الوازع الديني والخلقي والنظامي ، ولذا تراه ينضوي تحت راية من يدعي القوة » (٢).

والنجف بصحرائها القاحلة وبداوتها الجافية لم تكن بلدة زراعية بطبيعة الحال ، فجفاف التربة وقلة الأمطار أعدم الزراعة فيها الاّ القليل مما كان يزرع من الخضروات وبعض المحاصيل الزراعية التي لم تكن تسد حاجة المدينة من المواد الغذائية. فلذا عمّ الفقر والجوع بين الناس الى حد كان لا يجد الشخص رغيف الخبز الذي يقتات به ، وقد يقضي اليوم أو اليومين على الطوى دون أن يأكل ما يحفظ رمقه ويقيم أوده. وللشعراء في هذا الشأن خطب جليل. فقد أكثروا من شعر

__________________

١ ـ علي الوردي : دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ، ص ١٧٩.

٢ ـ شعراء الغري ، ج ١٢ ، ص ٤٥٥.

١٧

الفقر وقصيد الجوع الذي كان يعبر عن بؤسهم وشقائهم وما كانوا يعانون من آلام وأسقام. من ذلك قصيدة « تنويمة الجياع » لمحمد مهدي الجواهري (١) الذي صوّر فيها حالة الجوع التي استشرت في البلاد عامة :

نامـي جياع الشعب نامي

حـرستك آلهـة الطعـام

نامـي فإن لـم تشبعـي

مـن يقظة فمـن المنـام

نامـي على زبد الوعـود

يـداف في عسـل الكلام

نامي تزرك عرائـس الأ

حلام فـي جنح الظـلام

تتنوري قـرص الـرغـ

ـيف كدورة البدر التمام

وتَـرَيْ زرائبـك الفسـ

ـاح مبلطات بالرخام (٢)

أمّا الصناعة فهي الاخرى لم تكن بأحسن حالاً من الزراعة. فقد كانت قائمة على بعض الأعمال اليدوية والصناعات الخفيفة الأخرى. وفي هذا الصدد يقول جعفر آل محبوبة : « ليس في النجف إلاّ الصناعات الوطنية التي تتلقاها الأبناء عن الآباء تراثاً وأخصها نسيج العباء .. وقد اشتهرت النجف بنسج العباء ، وفيها معامل يدوية كثيرة منتشرة في محلات النجف ... وفيها النجارة والصياغة والدباغة ـ فيها مدبغة كبيرة خارج البلدة تدبغ الأدم على اختلافها ، ويصرف أكثرها في حاجة السكان لعمل الأحذية ، والقرب ، والدلاء الصغيرة التي تستعمل لمتح الماء من الآبار ، والدلاء الكبيرة التي تستعمل لسقي البساتين. وفيها لطرق النحاس معامل يدوية تصنع الأوعية والمراجل وسائر الأدوات والأواني البيتية ـ فيها سوق خاص للنحاسين ( الصفارين ) ومنه تجلب الأواني الى أكثر البلدان

__________________

١ ـ محمد مهدي الجواهري ( ١٩٠٢ ـ ١٩٩٧ م ) من أشهر شعراء العربية المعاصرين ، وأحد أعلامها المبرزين. له ديوان ضخم يقع في عدة أجزاء.

٢ ـ ديوان الجواهري ، ج ٤ ، ص ٧٣.

١٨

العراقية. تصنع في النجف النواعير الحديدية التي ترفع الماء من الأنهر بطريقة فنية لسقي المزارع ، وهذه تصرف في ضواحي النجف (١).

وإن كانت النجف قد شهدت تدنياً في الزراعة والصناعة فانها ازدهرت ازدهاراً ملحوظاً في علاقاتها التجارية مع البلاد العربية ، وذلك بسبب موقعها الجغرافي ولتوسطها بين بادية الشام والجزيرة من جهة وبين بغداد والبصرة من جهة اخرى. فقديماً كان التجار القادمون من الشام والحجازيأتون ببضائعهم الى النجف ليجدوا أمامهم بضائع الهند القادمة من البصرة وبضائع البلاد الأخرى القادمة من بغداد.

وعن موقع النجف التجاري يقول الدكتور مصطفى جمال الدين : « تقع [ النجف ] بين الريف العراقي المنتشر على ضفاف الفرات ، وبين البادية الممتدة من العراق الى الحجاز ، وهي السوق المشتركة بين عشائر الريف وعشائر البادية ، فمنتوجات ( المشخاب ) و ( الشامية ) و ( العباسية ) و ( الكوفة ) وغيرها من الثمر ، والحنطة ، والشعير ، والرزّ ، تتجمع في ( خانات ) النجف لتُصدَّر بعد ذلك إلى بغداد ، والبصرة ، والموصل ، ومنتوجات البادية من ( القادسية ) و ( الحيرة ) ... من الغنم والصوف والوبر ، والسمن ، والجلود ، ترد الى ( مَناخة ) النجف لتصدَّر الى مناطق العراق الاخرى » (٢).

وظلّت النجف على هذه الحال بالرغم من التطورات التي شهدتها في أوائل القرن العشرين من انهيار نظام الحكم العثماني واستبداله بالحكم البريطاني وما رافقه من تطور في شتى مرافق الحياة. فكان لابد من الاتصال بالعالم الجديد

__________________

١ ـ ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٤٠٣.

٢ ـ مصطفى جمال الدين : الديوان ، ص ١٤.

١٩

والحضارة الجديدة ، وكان لابد من التطلع الى إنماء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية واللحاق بالركب الحضاري الجديد. الاّ أن ذلك لم يحصل في النجف ولم يلق ترحيباً من قبل أبنائها ، وذلك لأنها كانت ولا تزال مدينة شديدة المحافظة والانغلاق ، وقد ساعد على تأصيل هذه الميزة فيها محيطها الضيق ، ومناخها الصحراوي القاسي ، ومركزها الديني الهام.

ويفصّل الدكتور مصطفى جمال الدين الحياة الاجتماعية في هذه المدينة المحافظة فيصفها بأنها ؛ « مدينة متحفظة أشدّ أنواع التحفّظ ، فالتزمّت هو السِمَةُ البارزة في المجتمع النجفي ، فلا يوجد في هذه المدينة ما كان يوجد في غيرها من المدن ، كالمسارح ، والنوادي ، والسينمات وأمثال ذلك ممّا يلهي الشباب عن دراستهم ، أو يُخرجهم عن تحفّظهم ، بل حتى ( المقاهي ) الصغيرة المبثوثة في بعض أنحاء المدينة ـ وهي خالية من كل شيء عدا الشاي ، والقهوة ، والنرجيلة ، وبعض المرطبات ـ يمتنع علينا ، نحن شباب الدراسات الدينية ، الجلوس فيها. وأذكر أنه لا يوجد فينا من يملك جهاز ( راديو ) مثلاً ، لذلك كنا في الأربعينات ننزوي في صالة جمعية ( الرابطة الأدبية ) لنستمع أخبار الحرب العالمية الثانية من ( الراديو ) الذي أهداه لها الملك غازي مع المكتبة الثمينة » (١).

وبغضّ النظر عن السلبيات التي قد تبعثها مثل هذه البيئة المقيدة ، فإنّ الجانب الايجابي قد يطغى عليها في كثير من الأحيان. فقد عرف النجفي بصفات كريمة مثل حسن الضيافة وكرم الطبع وسخاء النفس التي اصبحت جزءاً من طبيعته لا يمكن له الفكاك عنها. وهذه صفات قلّما نجدها في المدن الكبرى. وكذلك اتصف النجفي ـ ولكثرة احتكاكه بالآخرين ـ بسرعة التعرف وقوة

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ص ١٧.

٢٠