الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

الاجتماعي المتخلّف :

يريد لك « الوضعُ » أن تنزوي

بحيـث خيـالـك لا يطلـع

وأن تغتـدي هيكلاً مـا لـه

شعورٌ يـحس بمـا يفجـع

فمـا لك قـلبٌ ولا مقـولٌ

ومـا لك طـرفٌ ولا مسمع

كأنك طبـلٌ بـأجـوائـه

يدوي إلـى كل مـن يقرع

فإن قيـل للخبِّ ذا مـاجـدٌ

فقـل إنّـه الماجـدُ الأروع

وللظالـم المعتـدي عـادلٌ

فقل هـو للعـدل مستـودع

وفي السياق ذاته تتكرر مفردة « الوضع » في بيتين تاليين والخطاب لا يزال موجهاً للشاعر الطموح :

فكـن خاملاً مثلمـا يرتضـي

لك « الوضع » والزمن الأفظع

يروم لك « الوضع » ما يرتئي

وان كان يصنع مـا يصنع (١)


ومن معالم التجديد في شعر الشيخ الفرطوسي ، التجديد في الأفكار والأغراض الشعرية. وتبرز هذه الظاهرة في جميع الأغراض التي طرقها الشاعر. ففي المديح مثلاً نجد الفرطوسي يجدد في شكل القصيدة ومضمونها. فهو لا يقلد القدامى في تقديم القصيدة بالغزل والنسيب وذكر الأطلال وغيرها ، بل يدخل إلى صلب الموضوع بدون مقدمات وممهدات.

امّا من ناحية المضمون فيتخذ الشاعر من المديح ذريعة لبث الأفكار السامية والمضامين القيمة التي تعود على المجتمع بالخير والمنفعة. فنراه مثلاً عندما ينظم قصيدة في المدح كالقصيدة التي مدح فيها الشيخ محمد الحسين الكاشف الغطاء عند عودته من المؤتمر الاسلامي في الباكستان عام ١٩٥١ م

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٢٦ ، ١٢٧.

١٢١

يدخل في المدح مباشرة ومن البيت الأول :

للفتح آيـاتٌ بوجهك تُعـرف

هـل أن طلعتك السعيدة مصحف

شعّت على قسمات وجهك مثلما

شعت بقلبي مـن ولائـك أحرف

هي أحرفٌ ذهبيةٌ خُطت علـى

قلبـي وريشتها فــمٌ مـتلهف

أبصرت قلبي ظلمـة مـن يأسـه

ورأيتُهـا فجـر المنـى اذ يكشف

أجللتهـا من أن تُمسَ قـداسـة

واسم ( الحسين ) مقدس ومشرف

فغرستُها في تربـة أزكى ثـرىً

في الطهر من قلب الوليد وانظف (١)

ويستمر الشاعر في ذكر أوصاف الممدوح وعدّ خصاله الحميدة مشيراً إلى مواقفه الاصلاحية وأعماله الجليلة التي قام بها خدمةً للاسلام والمسلمين ، لينتقل في النهاية إلى غرضه الأصلي وهو الاشادة بالمطالب الحقة التي توخاها الشاعر من مديحه وغالباً ما تكون مطالب اصلاحية وتربوية :

إنـا لنبغـي للجهـاد قيـادة

يرتاع منها المستبـد ويرجـف

ونريد افئـدةً علـى اضـلاعها

تطغـى عزائمُها وحينـاً تعصف

وأناملاً يهـوي علـى تقبيلهـا

في حين تلطمـه فـم مـتكلف

ونريـد اصـلاحاً لأنظمـة بهـا

لعب الغريم وعاث فيها المجحف

ونريـد أفكـاراً مثقفـة بهـا

نسمـو ومن عرفانهـا نتثقـف

وعقــائـداً دينيـة ميمونـة

في النشء يغرسها أب مـتعطف

إنـا لننشد مصلحين نفـوسهـم

عن حمل ما قد حُمِّلوا لا تضعف (٢)

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٥٣.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٥٩.

١٢٢

وعلى هذا النحو تتبين معالم التجديد في سائر أغراض الشاعر كالرثاء والغزل والوصف والشعر الوطني والحماسي. وفي هذا الأخير نلحظ بوادر تجديدية للشاعر من خلال تناوله لشخصية البطل التي عليها مدار القصيدة الحماسية. فالفرطوسي يعمد إلى ذكر البطل من أجل الاشادة ببطولاته وبث روح الحماس في قلوب الناس والاهتمام برسالته التي تحمل في طيّاتها مُثلاً سامية ومبادئ قيمة مثل الدفاع عن الوطن والذود عن سيادته واستقلاله. فالهدف مبادئ البطل لا البطل ذاته (١).

وللفرطوسي في هذا الشأن منظومات كثيرة ، منها ما قاله مخاطباً أبطال سوريا ولبنان إثر سقوط القدس القديمة بيد الجيوش العربية في حرب فلسطين عام ١٩٤٨ م :

أبطال ( سوريـا ) و( لبنـان ) ردوا

حوض المنـايا أو يُـردُّ ما سلـب

فأنتم السـراةُ فـي كلّ وغـىً

وأنتـم الغـزاة فـي كـل لجب

كـم سبحت بكم خيـول وهفت

علـى رؤوسكـم بنـودٌ وعذب

للآن فـي ( الروم ) لكم وقـائـع

بمسمـع الدهر لوقعهـا صخـب

فـاجتهدوا وشيدوا مـن العلى

« لآل حمـدان » عـروشاً وقبب

تقـدموا إلى الـوغى لتـرجعـوا

أعـداءكم نـاكصةً على الـعقب

وكيـف تُثنـون وألـفُ قـائـدٍ

مثل «أبي فراس» منكم في (حلب)(٢)

ولم يكتف الشاعر بالتجديد في الموضوعات والأغراض فحسب بل دعا الشعراء إلى النهوض بالشعر والتجديد في مواضيعه ومضامينه حسب مقتضيات

__________________

١ ـ عبدالحسين المبارك : ثورة ١٩٢٠ في الشعر العراقي ، ص ١٦٤.

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٤٦.

١٢٣

العصر ومتطلبات الحياة :

هبّـو شباب القوافي إنها عُقدت

على عواطفكـم للشعـر آمال

واستنقذوه من البلوى فما بقيت

في الكأس إلاّ صبابـات وأوشال

دعـوا الأقاويلَ والأهواءَ ناحيةً

فليس ينفعنـا قيـلٌ ولا قـال

خذوا اللّباب وخلّوا القشر واجتهدوا

أن تقتفـي منكم الأقوالَ أفعال

وجددوهـا ميـاديناً تثـور بهـا

مـن العـواطف أمواجٌ وأهوال

فهـاهنا حلبـاتُ الشعر رنّ لهـا

صوت على مسمع التأريخ جوال

وهـاهنا الأدب العالـي بكم رُفعت

أعلامُهُ فغدت تـزهو وتـختال

وهاهنا نمت الفصحى وقد زهرت

فيهـا بكورٌ أنيقـاتٌ وآصـال

فالخـزيُ والعارُ أن يبنو لنا شرفاً

ونحن نهدمُ مـا شادته أجيال (١)

٤ ـ براعة التصوير :

تتجسد براعة التصوير عند الشيخ الفرطوسي من خلال قدرته الفائقة على تصوير الأشياء مفصلة سواء المرئية منها أم غير المرئية. فهو عندما يصف الطبيعة مثلاً يحلّق في أجوائها ويلتقط بعدسته الشعرية صوراً رائعة ودقيقة يستحيل التقاطها إلاّ عن طريق ارادة الشاعر الفنية.

ولا يخفى ما للطبيعة من تأثير خاص ووقع هام في ازدهار وتنمية القدرة التصويرية عند الشاعر. فالفرطوسي يرى أنّ الشاعر هو : « من عشاق الطبيعة. ويمتاز بادراكه أسرار جمالها وعظمة جلالها وتجسيم صورها الرائعة في

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨٩.

١٢٤

تصاويره الشعرية كأنها ماثلة أمام عينيك ، يصف الزهرة فينشقك نفحتها ويلمسك رقتها ، والغصن فيميل بقده الأهيف عليك كأنك تهصره بيدك وتعطفه بأناملك. والبلبل فيجس أوتار قلبك بأغاريده الراقصة ويطلق نفسك في أفق من حياة الحرية. والجدول فيفرغ في سمعك عربدة أمواجه وخرير سواقيه. والعاصفة فيطلع عليك عملاقاً جباراً من مردة الجان يتطاير الشرر من مقلتيه ويجلجل الرعد في شفتيه ، والسحاب فيغشاك بظلمات من الاهوال تشق حجبها البروق وتصطرع بها الصواعق والرعود. والقمر فيملأ عينك باشراق هالته وجمال طلعته وجلال روعته. وهكذا يرسم لك مختلف صور الطبيعة على ألواحه ويعرضها عليك وأنت في زاوية مكتبك أو مجلس سمرك ما لو قدر لك أن تراها بعينك لما كنت تقدر على ادراك بعض ما قرأته من التصوير في صفحات ديوانه » (١).

فللطبيعة دور هام في تصوير الواقع المعاش والحقائق الملموسة. وقد عرف الشاعر هذه الخصوصية الهامة فأحسن الاستفادة منها في تصوير الاحداث والوقائع التي عاصرها والتي لم يعاصرها. وكثيراً ما نجد مفردات الطبيعة تشغل حيّزاً واسعاً من شعر الشاعر وخاصة الوصفي منه حيث الرسم والتصوير قائم على قدم وساق. فنلحظ مثلاً عندما يصور لنا وقائع الحرب العالمية الثانية يستخدم مفردات مثل « التلول » ، و « الجبال » ، و « الهضب » ، و « الصحراء » ، ومفردات مماثلة اُخرى :

أسيـولٌ موّارةٌ أم دمـاءُ

سفكتها من مثلها الأبرياءُ

وقـلاع رصينةٌ أم تلولٌ

كونتها من حولها الأشلاءُ

غمرتها مدامع اليتم شجواً

بنجيع ذابت بـه الأحشاءُ

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥.

١٢٥

وتعـالت من حولهـا للأيـامى

شهقات حـزينـةٌ وبكـاءُ

ودُخـانٌ يغشى السماء فيمتـدّ

علـى صحوها الجميـل غشاءُ

أم قتـام سـدّ الفضا فتـوارت

بـدجـاه عـن العيـون ذكاءُ

ودوي الـرعـد المجلجل يتلـوه

دويّ تعيــــده الأصـداءُ

وجبال الصحراء زعزعها القصف

ومـادت من حـولها الصحراءُ

فتهـاوت على المفـاوز منهـا

قطعات ضاقت بهـا الحصباءُ

أم حصـونٌ سيارةٌ من حديـد

هـي والهضب في الثبات سواءُ

وجمـوع من الدَّبى أو من النمل

على الارض أمطرتها السماءُ (١)

أم جنـود قد أمّت الارض غزواً

حين ضـاقت بعزمهـا الأجواءُ

تتهـاوى علـى سعيـر المنايـا

كلّمـا لاح لـلأمـانـي ضياءُ

لا تبالـي ان افلحت في منـاها

أخلـودٌ مصيـرُها أم فنـاء (٢)


وتتبلور خصوصية هامة أُخرى في صور الشاعر وهي الحركة والحيوية. فالشاعر لا يعرض صوره جامدة ثابتة تبعث الملل في نفس المتلقي ، بل ينفخ فيها الحركة التي تبعث في النفس الحيوية والنشاط. وهي لا شك تجعل المتلقي يعيش أجواء القصيدة ويساير أبياتها بيتاً بيتاً. ومن نماذج هذه الحركة قصيدته التي نظمها عند سفره من بغداد إلى سويسرا عام ١٩٦٥ م ، والتي وصف فيها الطائرة وصفاً دقيقاً وجميلاً :

طارت بنا مجلجله

مدبــرة ومقبلـه

__________________

١ ـ الدَّبى : أصغر ما يكون من الجراد والنمل. ( لسان العرب ، ج ٤ ، ص ٢٨٨ ).

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٥٨ ، ١٥٩.

١٢٦

تقطع أجواء الفضا

مـرحلة فمـرحله

وتسبق الـريح اذا

ما استبقت مهروله

تشقــه كــلجة

تعبرها فـي عجله

صرح على قوائم

من ذا أقـام هيكله

سفينـة جـاثمـة

على الهوا مشتمله


ثم يتابع الشاعر في هذا الوصف تواصل الحركة بمزيد من التفصيل والدقة :

خفّت بنـا شـاهقـة

إلـى الفضا محملـه

كـريشـةٍ طـائـرة

ووزنهـا مـا اثقلـه

تطوى المسافاتُ بهـا

كـأنهـا متصلــه

توصل فـي أطرافها

وان تكـن منفصلـه

كأنما فـواصـل الأ

بعـاد فيها مـوصله

فـكل ناءٍ عنـدهـا

دان كقيــد سلسلـه

نفّـاثــة كطلقــة

نـاريـة مـستعجله

تطيـر فـي أجنحـة

خفيفـة مُطــولـه

تـوازن السيـر بهـا

صانعها قد عدّله (١)

وعلى هذا النحو من الوصف الدقيق والتصوير الأدق يمضي الشاعر في قصائده الوصفية والتصويرية معتمداً على حسه المرهف وذوقه السليم وقدراته الشعرية الهائلة.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٩ ، ١٤٠.

١٢٧

٥ ـ براعة الأساليب :

للشيخ الفرطوسي نفَسه الخاص واسلوبه المتميّز في لغته الشعرية. اللغة التي اتسمت بوضوح المعاني ، وشفافية المفاهيم ، وتسلسل الأفكار ، وانسجام الالفاظ ، ومتانة التركيب. وقد بات واضحاً على المهتمين بالشعر التمييز بين شعر الفرطوسي وشعر أقرانه ولداته من الشعراء النجفيين ، لما في اُسلوبه من مميزات اختص بها دون غيره من الشعراء.

ومن هذه الخصائص تعمّد الشاعر إلى ايراد المفاهيم والمضامين بصورة واضحة وشفافة وبشكل منتظم ومسلسل بحيث يسهل على المتلقي تجسيدها في مخيلته واستيعابها بسهولة ويسر. فلو أخذنا مثلاً قصيدة « مآسي الجسر » التي نظمها الشاعر في الانتفاضة الوطنية عام ١٩٤٨ م ، لتجسدت أمامنا أحداث تلك الواقعة بكل وضوح وشفافية :

سل الجسر عن بحر عبيط من الـدم

طغا فوقـه لجـاً بوجـه جهنم

وعن جثث القتلى وكيف تراكمت

علـى جـانبيه كـالحطام المهشم

وعن عدد الجرحى اذا كان عنـده

سجـل إلى احصـائها كالمترجم

وعن فوهة الرشـاش طبقت الفضا

دوِّياً باطلاق الـرصـاص المخيم

فكـم طلقة ناريـة منه صُـوّبت

لـقلب بريء مـن انامـل مجرم

***

فمن يافع غض الصبا متــرعرع

يحيّيـه من آماله خير مبسم

مشى نحوه كالسهم غير محايــد

وليس بهيّاب ولا متـبـرم

يصافح تيار الرصـاص بصدره

ويرنـو له في طرفه كالمسلِّــم

١٢٨

إلى أن غدا للقاذفات ضحية

مبعثـرة كالهيكـل المتحطم

***

وكم زهرة فـي ميعة العمر بضة

إلى أُمّهـا العذراء بالطهر تنتمي

تهـاوت على نيرانه وهـي جمرة

مسعرة من عزمها المتـضـرم

إلى أن قضت صبراً بحصد رصاصه

فعطل منها خيـر جيد ومعصم

***

وكم طفلة تبكي دموعاً وحسرة

أباها مـن اليتم الفضيع المذَّمم

وأم رؤوم القلب تنعى وحيدها

بقلب حـزين بالكآبـة مضرم

ترق لها حتى الجمادات رحمة

وتأسى بـقلب خاشع متـرحم

فمـا بالكـم ياقادة الشر قسوة

أهبتم بشعب بـائس متظلم (١)

وثمة خصوصية اُخرى تظهر بوضوح في اُسلوب الشاعر ، وهي حسن اختيار الوزن والموسيقى الشعرية في المناسبات المختلفة. فعندما يقتضي الموقف إلى تعظيم الصورة وتهويلها كتصوير مآسي الحرب مثلاً ، يعمد الشاعر إلى تبني أوزان وقوافي شديدة الوقع على السمع عظيمة الأثر في النفس تؤدي الغرض وتعطي الموضوع حقه من التعظيم.

فمثلاً عندما يتناول الشاعر حرباً هوجاء كالحرب العالمية الثانية يختار لها بحراً ثقيلاً وكلمات أكثر ثقلاً لتصور ويلات الحرب ومآسيه بأعظم ما يمكن من الشدة والقوة :

ثـارت فطبَّق نقعها الأفـاقـا

حرب بها قـد أسسوا الارهـاقا

فـوهاء تلتهـم الفضا نيـرانها

عصفت فضاق بها الزمان خناقا

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٤٥ ، ١٤٦.

١٢٩

ألقـى على القمرين نقع مغارها

حـجباً فـغيّب منهما الاشـراقا

ومشت على كرة الوجود فأحرقت

مـن كل ناحية بهـا احـداقـا

قد أرخصوا فيها النفوس فعمروا

للمـوت في ميـدانها أسـواقـا

واستخـدموها للمطامع سُلَّمـا

بـلغت نفوسُهُم بهـا ما راقا (١)

وعلى العكس من هذه الصورة المرعبة والمثيرة ، نجد الشاعر يحلق في سماء الكلمات الرقيقة والأوزان الراقصة الخفيفة عندما يتناول موضوعاً عاطفياً رقيقاً ، وغرضاً شعرياً جميلاً كالغزل والنسيب. من ذلك قوله في قصيدة « مليكة » التي نظمها عام ١٩٦٥ م ، وفيها يقول :

مليكـةٌ مملكةُ الحسـ

ـنِ بهـا معتـد له

وشعـرُهـا أكليلُـهـا

في حين تُعلي خصله

كأنهـا العروس مـن

زينتهـا فـي حجله

انسانهـا جـار ولكـ

ـن قدها مـا أعدله

واللؤلؤ المنثـور من

حديثها مـا أفضلـه

زنبقــة بثغـرهـا

يـرشفها مـن قبّله

وخـدهـا سجنجـلٌ

يـرسم فيـه قُبلـه

كــأنهـا أراكــةٌ

مثمـرةٌ مذلّلـه (٢)

ومن مميزات اسلوب الشيخ الفرطوسي استخدامه المكرر والمميز للنداء. وقد أكثر الشيخ من هذا الاسلوب لما فيه من مباشرة خطابية تؤثر في نفس المتلقي وتجعله مسايراً لأحداث القصيدة ، ومتتبعاً لحيثياتها المختلفة. ومن بديع

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٨٧.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢١١.

١٣٠

أمثلة النداء الباعث على القوة والتأثير قول الشاعر من قصيدة بعنوان « مصر والاستعمار » حيث يقول في أبياتها الأولى :

يا مصـر يـا أمَّ الصقورِ

ثوري على الطغيان ثوري

ثـوري علـى الشرِّ المبيد

وبـددي شمـلَ الشـرورِ

ثوري علـى الغدر الفظيع

وأنت طـاهـرةُ الضميـرِ

ثـوري لـحقّك قد تبلّج

فهو كـالصبح الـمنيرِ (١)

فقد أورد الشاعر النداء مرتين في صدر البيت الاول ليسترعي انتباه المتلقي إلى أهمية الموضوع ثم عززه بست جمل انشائية أمرية خمس منها مكررة وهي « ثوري » وواحدة غير مكررة وهي « بددي ». ولا شك انّ في هذا الحشد من الجمل الانشائية ما يجلب انتباه المستمع إلى خطورة الموضوع ومدى أهميته.

ولم يكتف الشاعر بهذا القدر من النداء المؤكد بل راح يكثر منه في مواضع اُخرى من القصيدة :

يامصر ياغاب الأسود الشـ

ـوس يـاوكـرَ النسـور

يـامهد نـاشئة الفخـار

تصان فـي أزكى الحجور

يـامشعـل التحرير مـن

رقيـة الظلـم النكيــر

يارايـة الاصلاح لـلأجيـ

ـال تـنشر فـي العصـور

يانهضـة الشـرق المجيـد

طغـت بميـدان الشعــور

ياصرخـة الايمـان اسكتـ

ـت المـدافـع بـالـزئـير

يـا بنت فرعون بسوح البـ

ـطش والفتـك الـمبير (٢)

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٩٥.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٩٦.

١٣١

والتكرار ديدن الشاعر في معظم قصائده. ولا يخفى ما له من أثر كبير في تأكيد الموضوع وتعزيز أهميته. وقد تفنن الشاعر في هذا الأمر ، فتارة يكرر استخدام الجمل الفعلية ليؤكد على استمرارية الحدث وامتداده في الزمان ، كما يتضح من الأبيات التالية :

أغـدق الأفق بـالبشائر حتى

أغرق الكون بـالشعاع البهي

وتجلّت عروسـه وهي ترمي

بنثـار من نـورها الذهبـي

وتمشّت علـى الربى نفحاتٌ

عـابقاتٌ بـكل نـشرٍ ذكي

وتنـاغت بـلابل راقصـات

فوق أعطاف كل غصن ندي

وتعـالت بين السمـا همسات

هـي أفـراح عـالم ملكـي

وأطلّت مـن أفقهـا قسماتٌ

للعذارى تـزهو بنـور جلي

وأفاقت مـن سكرها عاطفات

تتلقى البشرى بوحي خفي (١)

وتارة يتم التكرار بموالاة جمل اسمية تفصح عن الثبات والدوام والاستقرار. من ذلك الأبيات التالية من قصيدة « الحب » :

قطـرةٌ في قـرارة النفـس مـنها

تمـلأ النفس حين تـهبط عطفـا

جمـرةٌ تلـذع القلوبَ بـوقـد

مـن لظاها لكنها لـيس تطفـى

قـوةٌ تصـرع العقول لـديهـا

فتخـور العقول وهنـا وضعفـا

أيكـةٌ تثمرُ الحـنـانُ عليهــا

بجنـاحيـه طائـر الحـبّ رفّـا

خمـرةٌ تسكـر النفـوس اذا مـا

خالطتهـا منهـا اللذاذة صرفـا

سنـةٌ توقظ العواطف فـي النفـ

ـس التهاباً وترهف الحـس لطفا

نغمـةٌ تنطق القلـوب وتـحيي

ميت الروح حيـن تعزف عـزفا

نفحـةٌ من مواهب القدس تذكـو

في فضاء النفوس طيباً وعرفا (٢)

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٥٣.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٠٩.

١٣٢

ومرة اُخرى يكون التكرار بحرف الجر احترازاً من توالي الأفعال ، وتنبيهاً لفطنة المتلقي في استيعاب الفعل الرئيسي للجملة. من ذلك قول الشاعر في قصيدة بعنوان « معاهد العلم » :

ياصـاحبي أعيرا مهجتي جلدا

ففي جناني من وقع الردى خور

إلى أن يقول :

خِفا إلى مهبط الألطاف والتهما

وحياً بليغاً بـه قد فاهت العبر

واستنطقا صفحة الوادي فصفحته

سِفر بـه خطت الأنباء والسير

عن ألف جيل وجيل في قرارتـه

ثووا ومـا طاف فينا منهم خبر

وعن مصارع أبطال جبـابـرة

كانت بهم جمرات العزم تستعر

وعـن مفارق أملاك غطارفـة

كانت بهم تفخر التيجان والسرر

وعـن شمائل أمجاد بها طويـت

من العلى صحف منشورة غرر

وعـن مواهب أفـذاذ وأنـدية

للفضل كانت بهم تزهو وتزدهر

وعن عواطف آبـاء مرفـرفة

على غصون بكف الموت تهتصر

وعن مواسيم أعياد بها احتفلت

دنيا الأماني وماجت حولها صور

وعن ثنايا ثغور ضـاع لؤلؤها

وكـان يحرسه من صونها الخفر

وعن أكاليل شعر حـولها نثرت

مدامع من جفون اليتم تُعتصر (١)

ومهما يكن من أمر فأنّ التكرار اُسلوب بياني استخدمه الشاعر في كثير من قصائده. وقد تبيّن من خلال البحث الأغراض والأهداف التي اتضحت بواسطة التكرار ، وهي في طبيعة الحال أغراض تهدف إلى تأكيد المضامين وتعزيز المحتوى والمفاهيم.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٢٩٣ ، ٢٩٤.

١٣٣

٦ ـ التنسيق والتنقيح :

سبقت الاشارة إلى انّ الشاعر كان يعنى بقصائده عناية خاصة ، ينسقها كيفما يقتضيه طبعه ويملي عليه ذوقه. وما ديوانه إلاّ لون من الوان ذلك التنسيق الجميل. وخلافاً لما جرت عليه العادة من تصنيف القصائد حسب أبجدية القوافي فانّ الشاعر فضّل أن ينظم قصائده حسب الموضوعات والأغراض. فوضع على سبيل المثال قصائده الولائية في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وآل بيته عليهم‌السلام ، في باب سمّاه « من وحي العقيدة » ، ثم عرّج على قصائده الوطنية والسياسية والاجتماعية فضمّها إلى حقل دعاه « صور من المجتمع » ، وهكذا دواليك.

ومن موارد التنسيق والدقة التي امتاز بها الشاعر في إنشاد ديوانه ، التعليقات القيمة التي علقها على معظم قصائده والتي ذكر فيها الغرض من انشاد القصيدة ، والمناسبة التي القيت فيها ، وتاريخ الإلقاء بالسنة الهجرية والميلادية. ولهذا الأمر قيمة فنية لا تخفى من حيث دراسة قصائد الشاعر من الناحية التاريخية ، والأدوار والمراحل التي مرّ بها الشاعر وتأثر بأجوائها وظروفها المختلفة.

وبالاضافة إلى التعليقات المذكورة فقد شرح الشاعر قسماً من الألفاظ اللغوية الواردة في الديوان موضحاً بعض الأعلام والأشخاص ليسهل على المطالع استيعاب المعاني بلا تعب وتفكير.

ومن جميل صنعه في الديوان أنّه قدّم لبعض قصائده بعبارات نثرية جميلة تبين جدارته وطول باعه في حقل النثر الفني اضافة إلى شاعريته الفذة. من ذلك مقدمته النثرية الجميلة لقصيدة « الباب الذهبي » التي ألقاها في المهرجان الذي احتفلت به مدينة النجف عند افتتاح الباب الذهبي الذي اُهدي لمرقد الامام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

١٣٤

يقول في المقدمة : « عدل صارم لا تضام في ظلّه نملة في حبة من رزقها ، ولا تطمع رحم بسوى حقها. حياة مخصبة من المعارف مجدبة من المغريات. بيت بسيط ما فيه غير سرير وحصير ورحى وأقداح من الطين ومدرعة بالية. يشيد الحق على أساسه صروحاً من الذهب ، وشموعاً تنافس الشهب. هذا عليٌّ وتلك حياته وهذه عقباه وهي المثل الأعلى للأنسانية » (١).

ويلحظ المتتبع لشعر الشيخ الفرطوسي من خلال ديوانه بعض القصائد المتجانسة من حيث الشكل والمضمون ، والمختلفة من حيث العنوان. وهذه القصائد في الحقيقة هي جزء من قصيدة واحدة سبق أن نشرها الشاعر في الصحف والمجلات ثم آثر تقطيعها على شكل قصائد متعددة لتنتظم في ديوانه. فقصيدة « مولد الأنوار » و « وطن يباع » و « قادة التعليم » هي جزء من قصيدة واحدة ، وكذلك قصيدة « آثار مجدك » ، و « بنت الفرات » ، و « راية الاسلام » (٢)

ومن الملاحظ أيضاً أنَّ الفرطوسي كان شديد العناية بشعره يدأب في تهذيبه وتنقيحه قبل أن ينشره في ديوانه. فمثلاً قصيدة « يا نجل مصر » التي نظمها ترحيباً بالدكتور زكي مبارك والتي يقول في مطلعها :

قومي اهتفي بحليف المزبر الخصب

بمـلء فيك معي يا حلبةَ الأدبِ (٣)

كانت في الأصل بعنوان « تحية الغري لزائره العزيز » وبالمطلع التالي :

قومي اهتفي باسم محيي العلم والأدب

بـملء فيك معي يا أمة العـرب (٤)

وعلى أي حال فانّ الشاعر اهتم بنتاجه الأدبي اهتماماً كبيراً ، وحرص على أن يكون ديوانه أثراً أدبياً قيماً ضمن الآثار الأدبية الراقية.

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٣٣.

٢ ـ مجلة الايمان : العددان ٧ ـ ٨ ( ١٩٦٤ م ) ، ص ١٣٥ ـ ١٤٢.

٣ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ١٨٥.

٤ ـ عبدالرزاق الهلالي : زكي مبارك في العراق ، ص ١٨٤.

١٣٥

٧ ـ أصالة الوزن والقافية :

على الرغم من تصاعد الدعوات التجديدية في أوائل هذا القرن والتي رمت إلى الخروج على نظام القصيدة العربية ، والتخلص من التزامات الوزن والقافية ، فقد ظل شعراء النجف ـ ومن بينهم الشيخ الفرطوسي ـ محافظين على بحور الشعر المعروفة ينظمون فيها قصائدهم غير آبهين بالأنماط الأدبية المستحدثة مثل الشعر الحر والشعر المنثور.

ولعل هذا يعود إلى الثقافة العربية الأصيلة التي نهل شعراء النجف من معينها ، ونموا قرائحهم برائع نتاجها وجليل آثارها حتى بات فرضاً على الشاعر النجفي أن يفي لهذه اللغة حقها ويحفظ لها صنعها الجميل.

ولا شك أنّ استخدام الأوزان العربية الموروثة تحكم نسيج القصيدة إحكاماً فنياً ، وتنسق جرس الألفاظ من حيث الموسيقى الخارجية والداخلية ، وتمد القصيدة بالقوة والحركة ، وهذا ما أكد الشيخ الفرطوسي على توفره في قصيده وشعره.

ومن الملاحظ أنّ الشاعر كان يكثر من استخدام البحور الأكثر شيوعاً واستحكاماً في العربية كـ « الطويل » و « الكامل » و « البسيط » و « الوافر » و « الخفيف » ، بينما ترك البحور المضطربة كالمتدارك وهو « بالشكل الذي ذكره العروضيون ، وزن مضطرب ، لا يمكن أن تنظمه قاعدة ، ويغلب على ظن بعضهم أنّ الخليل لم يجهله ، وانما أهمله ، فاذا صح ذلك فهو لموضع الاضطراب فيه » (١).

وهذا لا يعني أنّ الشاعر صبّ اهتمامه على الأوزان والبحور القديمة دون

__________________

١ـ مصطفى جمال الدين : الايقاع في الشعر العربي من البيت إلى التفعيلة ، ص ١٣٩.

١٣٦

أن يفسح المجال لقريحته في أن تبدع وتجدد. فالفرطوسي لم ينظم الشعر لوجه الشعر ولم يتخذه صنعة ومهنة ، بل صيّره وسيلة تعبيرية تفصح عن خواطره وعواطفه :

وما الشعر إلاّ منبع مـن عواطف

تـقدّسه منّـا عـقولٌ وألبـاب

وأجمله مـا جاء عفـواً سلاسلاً

وأعذبه سلس الأساليب خلاب (١)

وقوله أيضاً :

هبوا شباب المعالي انهـا عقدت

علـى مساعيكمُ الآمال أوطـانُ

وجـددوا نهضـة الآداب في بلد

مقـدس هـو لـلآداب عنـوان

ورددوا الشعـر أنغاماً مـلحنة

فـانما الشعـر أنغـامٌ وألحـان

إنّ القريض من الأحشاء مقتطع

فلا تقولوا مـقاطيع وأوزان (٢)

وعلى هذا النحو أيضاً انصب اهتمام الشاعر في مجال القوافي وخاصة القوافي المتداولة والشائعة لدى السلف من الشعراء. ومن المعروف أنّ القدماء قسموا القوافي أقساماً ثلاثة « فالتي استحسنوها ليسرها وسهولتها وإجادة الشعراء فيها سموها القوافي « الذلل » كالباء ، والتاء ، والدال ، والراء ، والعين ، والميم ، والنون ، والياء حين تلحق بها ألف الاطلاق. وعلى العكس منها ما سموه بالقوافي « الحوش » وهي الخاء ، والذال ، والثاء ، والشين ، والظاء ، والغين ، وبين هذين الحدين من السهولة واليسر ، هناك القوافي : « النُفَّر » والقصائد الجياد التي بنيت عليها قواف قليلة ، كقوافي السين ، والصاد ، والضاد ، والطاء والواو » (٣).

وقد انفرد الشيخ الفرطوسي عن شعراء النجف الآخرين في تعامله مع

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨١.

٣ ـ عبدالصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص ٣٤٨.

١٣٧

القافية ، « ذلك أنّ أكثر من نصف قصائد ديوانه ، وبالتحديد ١٧ و٥٦% من القصائد يدور في فلك قواف أربع : قافية الراء وقد استأثرت بنسبة ٥ و٢٢% من مجموع القصائد ، وقافية الميم ونسبتها ٣٦ و١٣% ثم النون ونسبتها ٧٦ و١١% وقافية العين ونسبتها ٥٥ و٨% ونظم على اثنتي عشرة قافية ٨٣و٤٣% من قصائده أكثرها على قافيتي « اللام » و « الباء » وهجر باقي القوافي ومنها « الحوش » جميعاً » (١).

وقد يرجع هذا الأمر إلى الحس الملحمي الذي اتصف به الشاعر من خلال اختياره القوافي التي تصلح لنظم الوقائع والأحداث التاريخية. وهذا مسلك سار عليه الفرطوسي دون غيره من شعراء النجف. وقد تبيّن لديه هذا المنحى حين نظم موسوعته الشعرية الكبرى ـ ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ والتي تجاوزت الأربعين ألف بيت.

ومهما يكن من أمر فانّ الشاعر باستخدامه الأوزان الشائعة والقوافي المستحسنة حرص على أن يكون شعره في درجة رفيعة من القوة والمتانة بعيداً عن الضعف والهلهلة. ومع ذلك فقد يجد الشاعر نفسه في بعض الأحيان مضطراً للوقوع في محذورات ومحظورات.

ومن هذه المحذورات تعدية الفعل بنفسه أو بالحرف. ففي بعض المواضع يضطر الشاعر إلى تعدية الفعل بالحرف ليستقيم الوزن ، كما في البيت التالي حيث عدى الفعل « يعرو » بالباء وهو يتعدى بنفسه إلى مفعوله :

صلب الـعقيدة لا يعـرو بـه نزق

ولا يخف به الإسفاف من بطر (٢)

ومن المحذورات الاُخرى التي وقع فيها الشاعر والتي تعد من عيوب

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ص ٦٥٠.

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٥٠.

١٣٨

القافية ، السناد. والسناد « هو اختلاف ما يجب مراعاته قبل الروي من الحروف والحركات » (١). ومن أمثلة السناد الواردة في شعر الفرطوسي قوله في فيضان « دجلة والفرات » :

فأصبحت تعجّ في ضجيجها

وتستغيث بالصراخ واللجَبْ

وكم بها من طفلة مذعورة

تبكي وطفلٍ مستريب ينتَحِبْ

إلى أن يقول :

وأرتـسم الشقـاء في طـابعها

وغُيرت منها السمات بالرُعُبْ (٢)

فالروي حرف الباء الساكنة ، إلاّ انّ حركة ما قبل الروي تختلف في الأبيات الثلاثة. ففي البيت الأول حركة الفتحة ، وفي البيت الثاني حركة الكسرة ، وفي البيت الثالث حركة الضمة. ويسمى هذا النوع من السناد الذي يحصل في الروي المقيد ، سناد التوجيه (٣).

ومثل هذه الموارد قليلة في شعر الفرطوسي. فالصفة الغالبة على شعره قوة البناء ومتانة الأسلوب ، بالإضافة إلى جودة البيان ونصاعة التعبير.

٨ ـ استخدام المحسنات البديعية :

لم يمعن الشيخ الفرطوسي في السعي وراء المحسنات البديعية واستخدام قوالبها المصطنعة والمقيدة. بل كانت تأتي في سياق تعبيره عن أحاسيسه الحقيقية ومشاعره الصادقة مترسلةً من غير تعسف وتكلّف. وقد حرص الشيخ على أن

__________________

١ ـ نادر نظام طهراني : العروض العربي ، ص ١٥.

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٣١٢.

٣ ـ نادر نظام : المصدر السابق.

١٣٩

يتبع ألفاظه إلى معانيه ، وأن ينظر إلى المضمون قبل صياغة الشكل.

ومع ذلك فانّ في الديوان محسنات جميلة وردت بصورة عفوية ومن خلال انسياب الكلمات المتناسقة في الشكل والحروف ، والمتناسبة من جهة اللحن والايقاع. ومن هذه المحسنات :

أ ـ الجناس : « وهو تشابه لفظين في النطق ، واختلافهما في المعنى » (١). كالجناس بين كلمة « مطلع » بمعنى الابتداء ، و « مطلع » بمعنى طلوع الشمس في هذا البيت :

نشيـدي وأنت لـه مطلـع

من الشمس يعنو له مطلع (٢)

والجناس بين كلمة « نضير » بمعنى الحسن الناعم. و « نظير » بمعنى المثيل في البيت التالي :

حياة كـلّ مـا فيهـا نضير

ولكن لا تضاهى في نظير (٣)

والجناس بين كلمة « وردي » بمعنى شربي ، و « وردي » بمعنى دعائي في قوله :

فيا وطني العـزيز وأنـت وردي

لدى ضمئي ووردي في دعائي (٤)

ب ـ الطباق : « وهو الجمع بين لفظين مُقَابلين في المعنى » (٥). كالطباق بين كلمتي « رجائي » و « يأسي » في قوله :

يـا سماءَ الخيال أنتِ سمـائي

أنت دنيا يأسي ودنيا رجائي (٦)

__________________

١ ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص ٣٤٣.

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٣٣.

٣ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٥.

٤ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٧٩.

٥ ـ أحمد الهاشمي : جواهر البلاغة ، ص ٣١٣.

٦ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٣٠.

١٤٠