الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

حيدر المحلاتي

الشيخ عبدالمنعم الفرطوسي حياته وادبه

المؤلف:

حيدر المحلاتي


الموضوع : التراجم
الناشر: المكتبة الأدبيّة المختصّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-185-0
الصفحات: ٣٤٤

أمّا القصيدة الرابعة فهي بعنوان « بلبل الروض » وقد بث فيها الشاعر حسراته على أيام الطفولة التي كان ينعم بهنائها وصفائها مبتعداً عن الأحزان والآلام :

والهفتـاهُ على عصر مضى هدراً

عصر الطفولة أنـت اليوم مفقود

اذ كنـت فيك عن الآلام مبتعداً

واليوم قلبـي من الآلام محشـود

فلا أرى سولة لـي عنك تنعشنى

وكيف يسلو معنّىً وهو معمود (١)

وأول قصيدة بدأ يسطع نجم الشاعر من أفقها هي قصيدة « الحقيقة » التي نظمها عام ١٩٣٨ م ، وألقاها في الحفلة التي عقدها السيد محمد رضا الصافي (٢) في بيته احتفاءً بزفاف الأديب السيد محمد علي البلاغي صاحب مجلة الاعتدال. وقد نالت تشجيعاً أدبياً قيماً في حفل محتشد برجال العلم والادب. وفي القصيدة اشارة الى مواطن التخلف والجهل التي شقي بها الشرق ، ودعوة الى النهوض واليقظة لمسايرة ركب المدنية والحضارة :

أما آن عن وجه الحقيقة ينجاب

سجاف عليها قـد أذيل وجلباب

ألا ينجلي هذا الظلامُ بـمشعلٍ

لتهدى عقـول تائهاتٌ وألبـاب

الى كم بهذا الجهل تشقى عقولنا

ويخدعنا مـن خلّب الغي جذاب

وحتامَ نبقـى والقشور نـصيبنا

وقد اوصدت فوق الحقيقة أبواب

لقد ضللت تلك العقول فلم تجد

سناً تهتدي فيـه اذا هـي تنتاب

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٢٢.

٢ ـ السيد محمد رضا الصافي ( ١٢٩٨ ـ ١٣٦١ هـ ). سياسي قدير ، وأديب رقيق الروح. كانت له مساهمات فعالة في العمل السياسي والوطني. ( شعراء الغري ، ج ٨ ، ص ٣٩٢ ).

١٠١

وكيف ترى نهج الحقيقة والهدى

وقد جللتـه للأضاليـل أثواب

وحتى متى تنجو من الجهل أمة

بها علقت من آفة الجهل أنياب (١)

أما عن طريقة النظم التي تَميّز بها الشاعر عن سائر شعراء عصره ، فيقول عنها : « نظمت الشعر في العقد الثاني من عمري ، وطريقتي في نظم الشعر نادرة إذ اني أنظم القصيدة الطويلة على لوحة خاطري وتبقى أياماً مرتسمة في حافظتي ثم اكبتها واصلح ما يلزم إصلاحه منها. وبسبب هذه المنحة التي منّ بها المنعم أصبح من السهل على إلقاء قصائدي في الاحتفالات بدون ورق شبه المرتجل وإعادة مواردها مراراً من أي موضع يطلبه المستعيد وإن كنت في آخر القصيدة كأنها مرسومة في ورقة أمام ناظري (٢) ».

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٦.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٨

١٠٢

ثانياً : المؤثرات

لا يخفى أنّ الشاعر بحكم احساسه المرهف وروحه الرقيقة يتأثر بعوامل عديدة تنعكس على عواطفه وخواطره وتلقي بظلالها على شعره وأدبه. وتشكل هذه العوامل الحدر الاساس في بناء أدب الشاعر وتكوين هيكليته وأساسه. والشيخ الفرطوسي وهو الشاعر الذي حمل بين حنايا ضلوعه قلباً حساساً وروحاً شاعرة وعاطفة ثائرة كان لا بد ان يتأثر بالعوامل المحيطة به وأن يعكسها على مرآة شعره وأدبه. ومن هذه العوامل :

١ ـ المحيط* :

لا شك أنّ للمحيط الأثر الأكبر في بلورة شاعرية الشاعر وتحديد معالم أدبه وشعره. وكما قال الفرطوسي : « إنّ للمحيط الذي يتشبع ذهن الانسان بخواطره وتملأ عينه بمناظره. والحياة التي يعيش في رغد نعيمها أو نكد جحيمها. والنكبات التي تفاجئه بها الحوادت فيتلقاها بالثبات او يستسلم لسلطانها. والاتجاهات العاطفية التي تسير بالنفس الى شواطيء رغباتها. كل هذه العوامل لها أثر واقعي في توجيه أدب الشاعر وتكييفه لان الأدب موهبة من مواهب النفس ، والنفس تتأثر بهذه الدواعي فلابد وأن يظهر لونها على الأدب (١) ».

ولون الأدب عند الفرطوسي هو لون الحزن والألم بل قل لون العذاب

__________________

* ـ ليس المقصود من الميحط هنا البيئة التي عاشها الشاعر وتأثر بأجوائها. فهذا موضوع سبق أن بحث في الباب الأول من هذه الدراسة. وانما المقصود من المحيط هو العوامل غير البيئية التي حدقت بالشاعر وأثّرت عليه وشاركت في حوك نسيجه الشعري المتميز.

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٦.

١٠٣

والشقاء فقلما أحس الشاعر ساعة هناء أو استساغ فمه طعم نعيم خلال العقود السبعة التي عاشها وما أصعبها من عقود. وعن أسباب هذا الحزن يقول الشاعر : « أعيش في زوايا مظلمة من بيت قديم متداعي لا تجد الشمس فيه مدخلاً سهلاً لأشعتها ومتى ضاقت النفس من سجن هذا القفص وطلبت التمتع بالفضاء الرحب والنسيم الطلق ذهبت الى « وادي السلام » وماذا بالوادي غير قبور بالية ومناظر حزينة باكية تستعرضها فتمر في ذهنك ذكريات عشرات من القرون الغابرة طويت أجيالها في صفحاتها ويهيمن على نفسك وأنت تستطلع الطريق بين أرمالها سكون ذلك الوادي الرهيب وروعته وجلاله. كما أني أرتاد في كل عام بعض المناطق القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء متحشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في القروية وهي طافحة بصور الفقر والبأساء محتشدة بمناظر الحزن والألم فتطبع في نفسي من هذه وتلك ألوان من الصور الكئيبة وتحز في قلبي مدى من آلامها (١) ».

ويستشف من شعر الفرطوسي الكثير الكثير من ضروب البؤس والشقاء التي تقاطرت على الشاعر من كل حدب وصوب وبحلقات متسلسلة ومتواصلة :

حياتُك واليـأس صُنوٌ لها

ومنها الـرّدى فَرقاً يفزع

حياة الجحيم علـى ما بها

الـى جنبها رغـدٌ ممتع

حيـاةٌ ترقُ لها الحادثات

ويرثـي لها الألم الموجع

عجبـت لقلبك يحيى بها

وفي كلّ آن لـه مصرع

حياتُك يا منبعَ العاطفات

ضروبُ الشقـاء بها تنبع

له ألفُ مطلع حزن يُرى

ومـا للسرور بهـا مطلع

وأنت على ما بها من عناً

يقض له الجنب والمضجع

أراك ولـوعـاً بـآلامها

فرفقاً بنفسك يـا مولـع


__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٦ ، ٢٧.

١٠٤

فهـل عندك الألـم الموجع

هو الأملُ الباسم الممرع (١)

وقصيدة « قلبي » التي نظمها الشاعر عام ١٩٥٢ م تصور وبكل وضوح وشفافية حياة البؤس والنكد التي واكبت مسيرة الشاعر في مختلف أدوار حياته :

قلبي لمستك جمرة في أضلعـي

صعّدتها لفمـي فكانت مطلعي

ولمحت نورك موجة في ناظري

طفحت فسالت في شقائق أدمعي

ولقد عهدتك بلبلاً يهفـو على

نغم بقيثار الشعـور مــوقـع

يهتز للألم الحزيـن كـأنـه

أمـلٌ يسـامره بـلحن ممتع

ويطيـر من اُفق خصيب كيفما

يهـوى الى افـق خصيب المرتع

وأراك في افق الخيال وقد دجا

شبحـاً ضئيلاً هامـداً في بلقع

فعلمت انك من جمـودك جثة

اضحى لها قفص هامداً كمصرع(٢)

واضافة الى القصيدة ذاتها فأنّ تعبير الشاعر في مقدمة القصيدة يفصح عن عمق الحزن الذي تخلل قلب الشاعر ولم يترك فيه فسحة للنعيم والهناء :

« غارس يزرع الأمل ويحصد الألم ، حقل ينبت الورد ويجتني الشوك. جدول يروي الظماء من معين الحياة ويموت ملتهباً ظامئاً. بلبل سجين في قفص مظلم يطرب السامع من الحانه الكئيبة وهو باك حزين. روح يوحي السعادة ويعيش بشقاء. هذا هو قلبي فأين السعادة والنعيم من هذا الشقي المعذب ».

ولم يحن لمسلسل البؤس ان ينتهي. فقد نكب الشاعر بحشد من النوائب وافواج من المصائب بددت أعز أفراد أسرته ، وأجهزت على خيرة أهله وأحبائه.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٢٣ ، ١٢٤.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٣ ، ١٣٤.

١٠٥

ففي عام ١٣٦١ هـ نكب الشاعر بمصرع أخيه الشاب « جبار » إثر عملية جراحية فاشلة. ولم تمض سنة حتى نعي بوفاة ولده « عبدالرزاق » وذلك عام ١٣٦٢ هـ وما هي الاّ سنوات ويفقد الشاعر طفله « علي » عندما كان يمرح مع أترابه في ملعب الطفولة. ثم يأتي عام ١٣٧٢ هـ ليفجعه بأخيه الأكبر الشيخ عبدالزهراء.

وعلى الرغم من كل ما قاسى الشاعر من مصاعب وآلام ، وما تحمل من شقاء وعذاب ، فانه بقي صلب العود ، قوي الايمان ، راضياً بقضاء الله ، غير قانط من رحمته ، متحلياً بالصبر في كل حال من احواله :

لقد شهد الـدهر المحددُ نابـهُ

علي بأني قـد أبنت به الكسرا

وما أنكرت مني الصروف صلابة

تعودتها مـا اقبلت زمراً تترى

وكنت اذا جازت مساحة اصبع

إلي صروف الدهر جاوزتها شبرا

تتـوق لانغام الخطوب صبابـة

وتهتز نفسي مـن تقاطيعها بشرا

وتنعـم عينـي بالظلام كـأنما

سواد الدجى كحل لمقلتها العبرى

تأملت في هذي الحياة فلم أجد

بها لي الاّ مسلكاً مـوحشاً وعرا

كأن خطوب الدهر آلت وأقسمت

على نفسها أن ترغم الفطن الحرا

رضيً بقضاء الله إن كان قد قضى

علي بأن اشقى وطوعاً لما اجرى

وصبـراً يـراعَ الحـر انّك مثلُهُ

غريب فلا تستعظم الخطب والأمرا

تروم بـأن تحيا مـن الدهر مطلقاً

ويحكم إلاّ أن تموت بـه أسرا (١)

ولا ننسى ونحن نستعرض ألوان الشقاء التي اصطبغت بها حياة الشاعر أن نذكر نكبته ببصره حيث حرم النور ولما يبلغ الخمسين من عمره. وقد كان وقع هذا الخطب على نفسه عظيماً حيث أثار لواعج احزانه وجدد قديم آلامه وأشجانه.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٥٦ ، ٢٥٧.

١٠٦

ومن أليم قوله في هذا الشأن : « أفق حزين أطبقت عليه ظلمة اليأس وهو منبع النور والأمل يقتات من بقايا الصور الخيالية المرتسمة على مرآة الذهن فهو مصباحه ، ويستاف من زفرات قلبه المحترقة عبيره ونفحاته ، فهو حقله ومجمره. ويستمد من وعي الروح المنطلق قوته ونشاطه فهو حياته يحدق في النجم فلا يرى غير الضئيل من شعاعه ويرمق الزهرة فلا يدرك سوى اللون الواضح من جمالها يرنو للوجه الحسن فلا يحس بغيرالروعة البارزة من قسماته. هذا هو بصري وهذه صور من الألم أرسمها على صفحات هذا اللوح الكئيب :

ربيعَ العمر والآمـال تـجلـى

وأنت الخصب قد أجدبت محـلا

ويا أفـق الحياة ظلمت نـجما

أشـاب اليأس مـن عينيه طفلا

أهـذا الجـو للغربان مـلـك

فحيـث تحل منـه لهـا أحـلا

وأقفاص البـلابل وهـي تشدو

لها قـد أصبحت سجناً وغـلا

أحـدق بالنجوم دجـى فتخفى

علـى طرف بداج الاُفق ضلا

كـأن الليل مدّ عليـه سجفـاً

وألقـاه عـلى عينـي ظـلا

فـلا نجـم يلوح ولا شعـاع

لعيـن بـافتقـاد النـور ثكلـى

أرى الوجـه الجميـل ولا أراه

وأسلوه وكيف الـحسن يُسلـى

وأمتـع بالشذى الفياح شـوقاً

الى النفحـات حين أرود حقـلا

وألـمس ورده بيـديّ لمــا

حُرمت جماله لوناً وشكلا » (١)

ومن هنا أصبح لون الحزن والألم مميزاً في شعر الفرطوسي يتجلى في معظم نظمه ويشيع في أغلب قصائده. ولا غرو في ذلك فمن يمّر بمثل ما مّر به الفرطوسي ، ويتجرع الغصص التي تجرعها لحقيق بأن تظهر عليه آثار الحزن ومظاهر الألم.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ١٣٠ ، ١٣١.

١٠٧

٢ ـ العقيدة :

للعقيدة الدينية مكانتها الخاصة في شعر الفرطوسي. فقد اهتم الشاعر في منهجه الأدبي بالجانب العقائدي اهتماماً كبيراً هيمن على جلّ نتاجه الشعري. ويشكل هذا الأهتمام اتجاهاً واضحاً في مسيرة الشاعر. فقد دأب الشيخ في الألتزام وحرص على توظيف أدبه في خدمة الدين ونشر الثقافة الاسلامية المتمثلة بمبادىء الرسالة المحمدية ، ومعارف أهل البيت عليهم‌السلام.

ومن المعروف أنّ التزام الشيخ الفرطوسي هو التزام ديني قبل ان يكون التزاماً أدبياً. فقد عرف الشيخ في الأوساط الدينية بـ « الانسان التقي الذي تعيش التقوى في كل مواقع حياته وفي كل دوائر علاقاته .. وفي حسن العبادة وخشوعها وابتهالها ، وفي كل آفاق الالتزام الديني الذي يجعله يحتاط فيه ، ويحتاط له حتى يشتدد على نفسه ليتأكد انّه قد أدّى واجبه امام الله بشكل كامل غير منقوص (١) ».

ويبرز الالتزام العقائدي عند الشاعر اكثر فأكثر حين ينظم قصائد المديح والرثاء في النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأهل بيته عليهم‌السلام. وقد اكثر الشاعر النظم في هذا المجال حتى شمل ثلث ديوانه ، هذا بالاضافة الى موسوعته الشعرية الكبرى ـ ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ التي تجاوزت الأربعين ألف بيت.

ومرجع هذا التفاني في احياء الفكر الاسلامي ونشر معارف أهل البيت عليهم‌السلام انما يعود الى التربية الاسلامية التي نشأ عليها الشاعر وتربى في احضانها وترعرع في ظلها الوارف.

وتتجسد العقيدة الدينية في شعر الفرطوسي من خلال رؤيته الواضحة

__________________

١ ـ محمد حسين فضل الله ، من كلمة له في تقديم الجزء الثامن من ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ص ٣.

١٠٨

ومعرفته الدقيقة للدين الاسلامي. فهو من هذا المنظار يعرف جيداً كيف يلقي الضوء على العقائد الاسلامية ، ويصورها في شعره من الزاوية التي يجب أن تصور وفي الاتجاه الصحيح والسليم.

ومن مميزات الصورة التي يرسمها الشاعر في شعره العقائدي انّه عندما يتناول موضوعاً في هذا المجال يمهد له في باديء الأمر بمقدمات تكون ضرورية في الغالب لبسط الموضوع ودرك فحواه. وبعد أن يستوفي الغرض في المقدمات يعرج على ذكر البراهين والحجج التي يمكن عن طريقها التوصل الى الحقيقة المنشودة ، والغاية التي من اجلها أنشد قصيده. وفي مثل هذه المواضع يكثر الشاعر من ايراد الشواهد والأمثلة التي من شأنها أن تساعد على استيعاب الموضوع بأسهل صورة ممكنة.

فمثلاً عندما يتناول الشاعر موضوع ولاية الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، يذكر في البداية مقدمات في مناقب الامام وفضله وكذلك مواقفه عليه‌السلام التي حفظت للدين الاسلامي عزته وكرامته :

لك بالامامة واضحات دلائـل

بنهارها يُمحى ظـلام الباطل

كالسيف تشهر وهي أعظم سطوة

فـي وجه كل معانـد ومجادل

يـا واحدَ الدنيـا المخّلدَ ذكـرُه

بخلائـق قـدسيَّـةٍ وشمـائـل

خلّـدت للاسلام مـجداً باذخـاً

يربو علـى افق السما المتطاول

وأشدت للـدين الحنيف منـازلاً

لولا حسامُك لم تكن بأواهـل

وبنور نهجك وهـو منبع حكمة

متـدفـق اوضحت ايَّ مشاكل

أوردتنـا فيـه نميـراً صافيـاً

يمنـى لخير مـوارد ومنـاهل

أحكمته بقـواعـد حكميـة

كفلت بيان اصول كـل مسائل

١٠٩

تقف العقولُ أمـامه مسحورة

ببيانـه وبنسقـه المتـواصل

انـت المحيطُ معـارفاً لكنما

لم تحوِ غيرَ جواهر وفضائل

ومن ثم ينتقل الشاعر الى اثبات ولاية الامام عليه‌السلام بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة مستشهداً بأحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الخصوص :

عيد الغديـر وأنت أعظم شاهد

بانت به للحق خيرُ دلائـل

يـومٌ بـه قـام النبـيّ مبلغـاً

من ربّه نصّ البلاغ النـازل

والناس بعضهـم غدا متواصلاً

بالبعض في حشد عظيم حافل

نـادى بهم والحـق يشهد انّـه

لولا الحقيقة لم يكـن بالقائل

مـن كنـت مولاه فهذا حيدر

مولاهُ بـالنص الجلـيّ الكامل

هذا اميرُ المـؤمنينَ اميرُكـم

وخليفتي فيكـم بقول شامل

لكنما غشيت عمـيً وضلالة

تلك البصائـر بالضلال الحائل

نبذوا الكتاب وراءهم وتنكبوا

عن منهج الحق الصريح الفاصل

عدلوا عـن الحبل المتين غواية

وتمسكوا مـن غيّهم بحبـائل

ويواصل الشعر ردّه على شبهات المعاندين بكثير من المناقب والفضائل التي خص بها الامام دون غيره من الصحابة والتابعين :

قـل للمعاند قـد ضللت جهالة

سفهاً لعقلك من عنود جاهـل

أعماك غيك أن ترى نور الهدى

فتسير في نهج البصير العـاقل

أمن العدالـة أن يؤخـرَ سابقٌ

ويقدَم المفضـولُ دون الفاضل

هذي فضائلـه وذي آثـاره

سطعت بـآفاق الهدى كمشاعل

فتصفح التـأريخ فهي بـوجهه

غرر صبـاح نظّمت كسلاسل

١١٠

ينبئـك من واسى الـنبيّ محمداً

بمواقف مشهـورة وغـوائـل

وفداه عنـد مبيتـه بفـراشـه

في نفسه فـوقاه شـر البـاطل

ومن الذي اردى الـوليد وشيبـة

في يوم بدر بالحمـام العـاجل

وبيـوم احد من طغت عزمـاتـه

فرست جبالاً في الزحـام الهائل

من فرق الأحزاب حيـن تجمعت

فرقـاً وما في القوم غيـر الناكل

ورمى على وجـه الثرى اصنامها

لما رقى من فوق أشـرف كاهل

وبكفـه حصن اليهود قد اغتـدى

متلاطماً كالموج فـوق الساحل

ومـن الذي ردت له شمس الضحى

لما أشـار لها ارجعي فـي بابل

وفضائل ليست تعد و« هـل اتى »

و« النجم » و« النبأ العظيم » دلائلي

عميت عيون لا ترى شمس الضحـى

عنـد استقامة كلِ ظل مـائـل

عيـد الغـدير وأنت اكرم وافـد

وافى من البشريـة بخير رسائـل

عيـد به الاسلام اضحى حافـلاً

فرحـاً بتتـويج الامام العـادل

عيـدٌ بـه شمس الحقيقة أشـرقت

والحق اطلق من شبـاك الباطـل

ما جـادت الدنيـا لنا في مثلـه

أبداً ولا تـأتي لـه بممـاثـل

حقّـاً يُخلَّـد ذكرهُ وعــلاؤهُ

وبه يُخلَّـد ما تخط أنـاملي (١)

وعلى هذا النحو تتمثل العقيدة الاسلامية في شعر الفرطوسي بأوضح صورها وأتم معالمها ، مما لا تدع مجالاً للشك في اخلاص الشاعر تجاه دينه ومعتقده الذي حرص على أدائه بأكمل ما يمكن من وجوه الدقة والكمال.

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١١٧ ـ ١١٩.

١١١

٣ ـ التاريخ :

لم يغفل الشيخ الفرطوسي عن مكانة التاريخ في التعبير الشعري ومدى تأثيره في حياة الناس. فقد استخدم الشاعر هذا العامل المحفز للإشادة بأمجاد السلف وتذكار تراثهم العريق الحافل بالمفاخر والبطولات ليستنهض همم أبناء جلدته ، ويثير في نفوسهم الحماس والحمية من أجل الدفاع عن مبادئ الدين القويم ، والحفاظ على سيادة الوطن واستقلاله.

وكثيراً ما أشاد الشاعر بالماضي القديم ليستعيد من وهجه المضيء قبساً ينير درب المستقبل الذي اظلمته الحروب والويلات وعكّرت صفوه النوائب والأزمات :

عزائم العرب ثوري وانضي فينـا

الى الوغـى وأعيدي مجـد ماضينا

ورفرفي يـا بنودَ الحـقِّ خافقةً

بالنصر واستقبلي دنيـا أمانينـا

قـد آن أن تملأ الدنيا عـزائمنا

ناراً مـوقـدة تُصلـي أعـادينا

فتلك أوطاننـا أضحت بها علناً

بشائـرُ النهضــة الـكبرى تحيّينـا

ثارت فلم يبق في دنيا الفخار فـمٌ

للعـرب إلاّ ولبّـاهـا تــلاحينـا

وطاف في الشرق صوت الحق فابتهجت

لـه النفـوسُ ولبّتــه مـواضينـا

واستنهـض المجد من أبناء نجدته

عزائمـاً بعثت روح الإبـا فينـا (١)

ويلح الشاعر على تصفح التأريخ المجيد ليقرأ في صحائفه الوضّاءة أمجاد أمّته الخالدة التي حققت النصر والغلبة تحت راية الأسلام وبنصر من الله مؤزّر :

يا أمـة خانها في الشرق طالعهـا

فعاد فـي صفقة الخسران مغبونـا

سلي الحوادث عن تأريخ نهضتنـا

«واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا»

____________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٧.

١١٢

كم نهضة فـي سبيل المجد خالدةٍ

جبـارة قـد أقامتهـا مواضينا

هاتيك « أندلس » للآن ما برحت

آثارنـا في ضـواحيها تنادينا

غـداة سرنا ونصر الله يصحبنا

ورايـة الحق والاسـلام تعلونا

« فما انثنينا ولا فلت عزائُمنا »

حتى فتحنا وأمست طوع أيدينا

وكيف نثنى ولـم يُرفع لنـا علمٌ

إلاّ وعاد بنصـر الله مقرونا (١)

ولم يكتف الشاعر بتذكار الماضي البعيد ، بل راح يشيد بأحداث قريبة العهد من مثل ثورة العشرين التي فجرها الشعب ضد المحتل الأنجليزي في مطلع هذا القرن :

يـا ثورة العشـرين يوُمكِ غُرةٌ

في جبهة التـاريخ لا تتغيـر

ميلاد نجمك بين أحضان الضحى

والشمس مولدها الصباح المسفر

أفق الفرات ومهده قـد أنجبـا

فية وهـا هو بالارومة يفخـر

حملتـه وهو المجد بيـن ضلوعها

اُمٌ ولـودٌ كالعفـرنى تـزأر (٢)

حتـى اذا وضعته في لجج الدِما

كـرها وعـاصفة المنيـة تجأر

حضنته جارتُها وأضحت تـدعي

فيه وهـل تلـد العقيمُ وتثمر

وتفيـأت منـه الظلالَ وامّـه

تصلى برابعـة الهجير وتُصهر

واستثمـرته كأنما هـو غـرسةٌ

منها اجتناها الغارس المستثمر (٣)

وهكذا ينفذ التاريخ إلى شعر الفرطوسي عبر أحداثه المتفاوتة وأزمانه المختلفة ليشكل منعطفاً هاماً وجزءاً كبيراً من نتاج الشاعر وخاصة نتاجه في حقل السياسة والعمل الوطني.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٩.

٢ ـ أسد عَفرنى ، أي شديد قوي. ( لسان العرب ، ج ٩ ، ص ٢٨٥ ).

٣ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ٢ ، ص ٧٣.

١١٣

ثالثاً : الخصائص

١ ـ التوظيف والألتزام :

لعل من أهم الخصائص التي امتاز بها الشاعر الفرطوسي في منظوماته وأشعاره ، الهدفية والألتزام التي واكبت مسيرة شعره اكثر من خمسة عقود. ونعني بالألتزام هنا ، الألتزام بمعنييه العام والخاص. فالاول وهو أن يتناول الشاعر مشكلة اقتصادية أو سياسية تتصل بالهموم العامة للأنسان في محاولة منه لمعالجتها وايجاد سبل لحلها من خلال المعيار الاجتماعي والفردي (١).

أمّا الألتزام بالمعنى الخاص فنقصد به الأدب الذي جسّد الاسلام في حقيقته وتناول في أغراضه المختلفة سيرة ومعارف أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

وفي كلا المعنيين نجد الفرطوسي يوظف شعره في الاتجاهين المذكورين سواء الاتجاه الاجتماعي والسياسي أو الاتجاه الديني المتمثل بنشر حقيقة الاسلام ومعارف وعلوم أهل البيت عليهم‌السلام.

ففي المعنى الاول يتجه الفرطوسي اتجاهاً واضحاً لا غبار عليه محاولاً من خلاله معالجة قضايا المجتمع والأخذ بعين الاعتبار سبل الأصلاح والتوعية. ولا تمضي سنة من عمر الشاعر إلاّ ونقرأ له شعراً في هذا الخصوص. ففي سن التاسعة عشرة مثلاً ينظم الشاعر قصيدة « التقاليد » التي دعا فيها أبناء جلدته الى اليقظة والنهوض من أجل الاصلاح والتعليم وخاصة تعليم الجنسين وتربيتهما ترتبية صالحة وسليمة :

__________________

١ ـ محمود البستاني : الاسلام والفن ، ص ٩.

٢ ـ محمود البستاني : تاريخ الأدب العربي ، ص ٤٤٢.

١١٤

أفيقـوا يابنـي وطني عجالا

فما يجدي الـرقادُ النائمينـا

وهبّـوا فيه للاصـلاح كيما

نـراكـم للتمـدن ناهضينا

أليس ثقافـة الجنسين فرضاً

تقوم به الـرجال المصلحونا

وفي نور المعارف خير هادٍ

طريـق يقتفيـه السالـكونا

جمال الشعب يوماً أن نـراه

يسيـر الـى الثقافـة مستبينا

وان ثقـافة الأحـلام نـورٌ

به يُهدى الشبابُ الواثبونا (١)

وفي سن العشرين ينشد قصيدة « غارس الورد » التي أشار فيها الى مآسي الفلاحين وما يعانون من شظف في العيش وضيق في الحياة :

يا غارس الورد حاول أن تنسّقـه

في خير سلك من التنظيم مـوزون

ايّاك ايّاك أن تسعى بتفـرقة

بين الشقيقين من تلك الـريـاحين

فضمّ مـا عشت ورد الاقحوان الى

ورد الشقيـق خدود الخـرد العيـن

واشفق على النرجس الذاوي بجنبهما

انـي لأخشـى عليه ساعـة الهون

هذي الازاهير وهي الحسن أجمـعه

فيهـا تمتـع من حين الـى حيـن

وخلّ عنك أعاصـير الهـموم فقد

أفنيـت عمرك فـي تلك الميـادين

مـا أنصفت أممٌ جـبارةٌ غصبت

منـك الحياة بظلـم غيـر مسنون

هـل العدالـة تقضي أن تضـام بها

أم تلك حكمـة هـاتيك القوانين (٢)

وهكذا دواليك في باقي قصائده الاجتماعية والسياسية الكثيرة من مثل « الحقيقة » و« فلسطين » ، و« الى الاغنياء » ، و« مآسي الحرب » ، و« اليتيم » ، و« السعادة ». وهذه الأخيرة تعد من خيرة قصائد الشاعر الاجتماعية التي تناول فيها الفوارق الكبيرة بين طبقتي الاغنياء والفقراء مصوراً فيها حياة البؤس والشقاء

__________________

١ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٩.

٢ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣١٧ ، ٣١٨.

١١٥

التي كان يحياها معظم الناس دون الاقلية من الاغنياء.

هذا على الصعيد الأجتماعي والسياسي ، أمّا على الصعيد الديني فقد اهتم الشاعر بهذا الجانب اهتماماً كبيراً بلغ فيه أن خصص قسماً كبيراً من نتاجه الأدبي لهذا الغرض. فثلث ديوانه المكوّن من جزئين يختص بذكر أهل البيت عليهم‌السلام ، وموسوعته الشعرية الكبرى ـ ملحمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ التي جاوزت الأربعين الف بيت تندرج في الإطار ذاته. ولهذا عرف الشيخ الفرطوسي في الأوساط الادبية والدينية بشاعر أهل البيت لغزارة شعره وكثرة نظمه فيهم عليهم‌السلام.

ومنشأ هذا الألتزام بشعر وأدب أهل البيت عليهم‌السلام انّما يعود الى التربية الاسلامية المبتنية على حب أهل البيت عليهم‌السلام والتي ترعرع الشاعر في ظلها واستضاء بقبس نورها وضياء هدايتها. وقد عبر الشاعر عن هذا الحب المتأصل في ذاته في مواقع كثيرة ، منها قوله:

على حبّكم يـا آل بيـت محمدٍ

ترعرعت في مهد الطُفولة ناشيا

وعندي من وحي الولاء عواطف

عـرفت بهـا حبّي لكم وولائيا

صهرت بها روحي هدى وعقيدة

وأفعمت بـالايمان منهـا فؤاديا

فؤادٌ بكم غالى هـوىً وصبابةً

فأصبـح فيكـم مغـرماً متفانيا

أغذيه عذباً من غـدير ولائكم

يعـب به عبـاً ويصدر ظـاميا

وأعجبُ من قلب يعب معينـه

ويصدر ريّاناً من الحب راويا (١)

ومهما يكن من أمر فأن الشاعر من جهة حرص كل الحرص على أن يوظف شعره وأدبه في خدمة المجتمع ليعالج من خلاله شؤونه الاقتصادية والسياسية والثقافية. ومن جهة اخرى تبنى موقفاً دينياً واضحاً يهدف الى خدمة الدين الاسلامي ونشر معارف أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٥٢.

١١٦

٢ ـ الواقعية والموضوعية :

سيطر الواقع الاجتماعي والسياسي على شعر الفرطوسي سيطرة بعثت فيه روح الاندفاع نحو الأصلاح والنهوض بوجه الأمر الواقع الذي يفرضه المستعمر الغاشم بشتى حيله الاقتصادية والسياسية والثقافية. فكان الشاعر يدرك هذا الواقع المر من خلال حسه الشعوري المرهف وتواجده الفاعل والمستمر في الساحة. وكان مواظباً في تصويره للواقع الاجتماعي والسياسي مبتعداً عن حالة الغموض والرمزية مستخدماً الطريقة المباشرة في التعبير ليتسنى لعامة الشعب فهم رسالته واستيعابها بسهولة.

وكان الشاعر يعيش مع الأحداث ويواكب مسيرتها خطوة بخطوة ، ويحاول الالتفات الى منعطفاتها الخطيرة التي تذهب بالأمة الى هاوية الانزلاق والسقوط. فنلحظه مثلاً عندما نشبت الحرب العالمية الثانية يصرخ مندداً بهذه الطامة العظمى التي أضرمتها نار الأحقاد والضغينة لتحيل نعمة الأرض وخيرها نقمة وشقاءً :

إنّها الحـرب أضرمتها سعيراً

بلظاهـا الأحقـاد والبغضـاء

قد أشابت حتى الجمادات هولاً

وهــي بكـرٌ فتيّـةٌ عـذراء

تخذوها الـى المطامـع جسراً

كونتـه الأغـراض والأهـواء

ظلموا العـالَم الوديعَ اغتصاباً

ليفوزوا بهـا فخاب الـرجـاء

ألقحوها وهم شقـوا بلظاهـا

ويظنّـون أنّهــم سعــداء

كم أساؤا الـى الحضارة فيها

ليتهم أحسنوا كما قـد أساؤا (١)

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٥٩.

١١٧

وما ان وضعت الحرب أوزارها حتى بدأ التأزم الاقتصادي يتفاقم ، وبدأت المشاكل تتوالى الواحدة بعد الاُخرى ، وبدأ الفساد يدب في المجتمع دون رادع ومانع. فعزّ على الشاعر أن يرى أبناء شعبه وهم يتخبطون في البؤس والشقاء ، فأشاد بالاصلاح ودعا المصلحين إلى العمل من أجل خلاص الشعب من ربقة العناء والألم :

رُحماك يا مصلح الأخلاق بالبشر

لم يبق فيه لقوس الصبر من وتـر

انّ الفضيلةَ لـم نبصر لها وضحاً

وهل تُحسُّ بلا عين ولا أثـر (١)

ومنبتُ الخير قد غاضت منـابعهُ

وموقد الشر يطغى من لظى الشرر

والكون مجزرةٌ تبـدو لنـاظرها

مـن الضحايـا بها آلاف محتضر

ومعرض حاشد بالبؤس قد مثلت

به الفضائعُ أشكـالاً على صور

ضاعت مقاييس إصلاح منظمـة

لكـلّ وضـعٍ من الإفساد منتثر

فأختلّ منّـا نظـامُ الاجتماعِ لها

حتـى بدا فيه نقصٌ غيرُ مستتر

وأُبعـد النبلُ عـن قوم به عرفوا

وقرّبـوا بعد عـرف الحق للنكر

وكل شيء على عكس المرام بدا

مشـوه الشكل بعـد المنظر النضر

ولا نحسّ لهـذا النقص من سببٍ

سوى اختلال نظام العالم البشري (٢)

ولم تقتصر نداءات الشاعر ومناشداته الاصلاحية على عصر أو حكم. فكما طالب بالاصلاحات في العهد الملكي نراه يطالب بها وباندفاع أكبر في العهد الجمهوري. ومواقفه في هذا الخصوص كثيرة ، منها قصيدته اللاذعة التي ألقاها في المهرجان الكبير الذي اُقيم في مدينة النجف عام ١٩٦٣ م بمناسبة مولد الامام الحسين عليه‌السلام والتي قال فيها :

__________________

١ ـ الوَضَح : الضَّوء. ( لسان العرب ، ج ١٥ ، ص ٣٢٣ ).

٢ ـ ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ١٤٤ ، ١٤٥.

١١٨

ياساسة الوطن المفدى أصلحوا

وضع البلاد فوضعها متـأزم

وطن هو الثكلـى فكل مفوّه

فيه ينـوحُ وكـل حفل مأتم

إلى أن يقول :

ماذا أبث من الشجون وبعض ما

في القلب من ألم يضيق به الفم

ماذا أخط والـف لونٍ للأسـى

في لوحة النفس الحـزينة يُرسم

فاستعرضوا وضع البلاد فوضعها

من كل ناحية يسـئ ويـؤلـم

حريـة الأفكار رهـنُ رقـابة

سوداء يفرضهـا نظـام مظلـم

والحكم بالارهـاب يوصدُ بابه

فـاذا تنفسَ فهـو صلٌّ أرقـم

وأماتت الفوضى النظـام بمهده

فـالأمـن للعنقـاء فيهـا توأم

وتقهقـرت للاقتصـاد زراعة

وصناعـة خـططٌ بهـا يتقـدم

ورؤوس أموالِ البـلاد تمَـزّقت

بيـدِ الضرائبِ والجمودُ يـخيمُ

وجرت جروح الشعب حتى اغرقت

جثث الضحايا والسيول هي الدم

وخلاصة الأحـداث لا وطـنيةٌ

فيهـا ولا وعي بهـا متقــدم

انّ المناصب غـايـة منشـودة

وطريقهـا هذا الصراع المؤلـم

وطـن يباع وأمّة منكوبــةٌ

فيـه تراعُ وفيئ شعب يقسم (١)

هكذا كانت الواقعية والموضوعية تفرض ارادتها على أدب الشاعر ونتاجه دون أن ترهبه عواقب نقداته اللاذعة وآرائه الصريحة التي كانت بطبيعة الحال تضع الشاعر في مواقف خطيرة ومواقع لا يجني منها سوى المضايقة والاضطهاد. ولكن الشاعر وبغض النظر عن كل ما يعترض طريقه من شوك وقذى حرص على أن يكون لسان حال شعبه ومتنفسه الوحيد الذي منه يستنشق الحرية والاستقلال.

__________________

١ ـ المصدر السابق ، ج ٢ ، ص ٩٤ ، ٩٥.

١١٩

٣ ـ التجديد والإِبداع :

ونقصد بالتجديد ، التجديد في اللغة والفكرة لا في الوزن والقافية. فالشاعر كما تستوضحنا أشعاره شاعر مقلّد شديد المحافظة على أشكال الشعر الموروثة وقوالب النظم القديمة. وهو من هذا المنظار شاعر تقليدي أو كما يسمونه اليوم شاعر كلاسيكي يدرج في نظمه على أسلافه الماضين.

أمّا التجديد المنظور في شعر الفرطوسي فمنه التجديد في اللغة الشعرية والأُسلوب البياني. فقد وفق الشاعر وبالرجوع إلى منابع اللغة العربية الصافية إلى بيان شعري متميز يتصف بسلامة اللغة ونقائها ، ونصاعة العبارة ووضوحها ، وبالتخلص من الاستعمالات البديعية المسرفة سوى التي تأتي مرسلة وعن سبيل العفوية.

وقد حرص الشاعر على أن تكون لغته الشعرية قريبة المتناول ، يسيرة الفهم تأخذ طريقها إلى قلوب الناس عامة وخاصة على السواء. فكان ينتقي الألفاظ الأكثر شيوعاً في اللغة ذات الصلة باللغة الحوارية بين الناس ليتسنى للمتلقي استيعاب المضمون وفهم رسالة الشاعر.

فمثلاً يفضل الشاعر استخدام كلمة « الوضع » بدلاً من « الواقع العام » أو « العرف السائد » وغيرها من المصطلحات التي تشيع غالباً عند الطبقة المثقفة والمتعلمة من الناس (١). فهو يؤثر كلمة « الوضع » على سائر مرادفاتها العصرية لتداولها بين العامة وتقبّلها من قبل الخاصة.

يقول الشيخ الفرطوسي عن موقع الشاعر الطموح من « الوضع »

__________________

١ ـ عبدالصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص ٦١٦.

١٢٠