مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٤

٧ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن داود الرقي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » (١) فقال ما يقولون قلت يقولون إن العرش كان على الماء والرب فوقه فقال كذبوا من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوق ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه قلت بين لي جعلت فداك فقال إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون أرض أو سماء أو جن أو إنس أو شمس أو قمر فلما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم من ربكم فأول من نطق :

______________________________________________________

الحديث السابع : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : وعلمه الماء ، قال السيد الداماد : كثيرا ما وقع اسم الماء في التنزيل الكريم وفي الأحاديث الشريفة على العلم أو على العقل القدسي الذي هو حامله ، واسم الأرض على النفس المجردة التي هي بجوهرها قابلة العلوم والمعارف ، ومنه قوله :عز سلطانه « وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » على ما قد قرره غير واحد من أئمة التفسير ، فكذلك قول مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام في هذا الحديث ، الماء تعبير عن الجوهر العقلي الحامل لنور العلم من الأنوار العقلية القدسية « انتهى ».

وأقول : هذه التأويلات في الأخبار جرأة على من صدرت عنه ، والأولى تسليمها ورد علمها إليهم.

ويحتمل أن يكون المراد بحمل دينه وعلمه على الماء : أنه تعالى جعله مادة قابلة لأن يخلق منه الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، الذين هم قابلون وحاملون لعلمه ودينه ، أو أن علمه سبحانه لما كان قبل خلق الأشياء غير متعلق بشيء من الموجودات العينية بل كان عالما بها وهي معدومة ، فلما أوجد الماء الذي هو مادة سائر الموجودات كان متعلقا لعلمه سبحانه به ، وبما يوجد منه ، فلعل هذا الكلام إشارة إلى ذلك ،

__________________

(١) سورة هود : ٧.

٨١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمة صلوات الله عليهم فقالوا أنت ربنا فحملهم العلم والدين ثم قال للملائكة هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي وهم المسئولون ثم قال لبني آدم أقروا لله بالربوبية ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة فقالوا نعم ربنا أقررنا فقال الله للملائكة اشهدوا فقالت الملائكة شهدنا على أن لا يقولوا غدا « إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ » يا داود ولايتنا مؤكدة عليهم في الميثاق.

باب الروح

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن الأحول قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الروح التي في آدم عليه‌السلام قوله « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » (١) قال هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة.

______________________________________________________

مع أنه لا يمتنع أن يكون الله سبحانه أفاض على الماء روحا وأعطاه علما.

وقد أول بعض من سلك مسلك الحكماء : الماء بالمادة الجسمانية تشبيها لها بالماء ، لقبولها الأنواع والأشكال ، وقال : قبلية حمل الدين والعلم إياه على الموجودات المذكورة قبليته بالذات والمرتبة لا بالزمان ، وهي أقوى لأنها بعلاقة ذاتية ، وقال : نثرهم ، أي نثر مهياتهم وحقائقهم بين يدي علمه ، فاستنطق الحقائق بالسنة قابليات جواهرها ، وألسن استعدادات ذواتها ، وفيه إشارة إلى قوله سبحانه « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ » الآية (٢).

أقول : وسيأتي بعض الكلام فيه في كتاب الإيمان والكفر.

باب الروح

أي بيان الروح التي أضافها الله إلى نفسه ، ومعنى إضافتها إليه سبحانه.

الحديث الأول : صحيح.

__________________

(١) سورة الحجر : ٢٩.

(٢) سورة الأعراف : ١٧٢.

٨٢

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن ثعلبة ، عن حمران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَرُوحٌ مِنْهُ » (١) قال هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن القاسم بن عروة ، عن عبد الحميد الطائي ، عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ـ عن قول الله عز وجل « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » كيف هذا النفخ فقال إن الروح متحرك كالريح وإنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الأرواح مجانسة للريح وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت بيتي ولرسول من الرسل خليلي وأشباه ذلك وكل

______________________________________________________

الحديث الثاني : حسن.

الحديث الثالث : مجهول ولعل إخراجه على لفظة الريح عبارة عن التعبير عن إيجاده في البدن بالنفخ فيه ، لمناسبة الروح للريح ومجانسته إياه وإنما أضافه إلى نفسه سبحانه لأنه اصطفاه بتقدسه وتشرفه على سائر الأرواح.

واعلم أن الروح قد تطلق على النفس الناطقة التي تزعم الحكماء أنها مجردة وهي محل للعلوم والكمالات ومدبرة للبدن ، وقد تطلق على الروح الحيواني وهو البخار اللطيف المنبعث من القلب الساري في جميع الجسد ، وتلك الأخبار تحتملهما وإن كانت بالأخير بعضها أنسب ، وقيل : الروح وإن لم تكن في أصل جوهرها من هذا العالم إلا أن لها مظاهر ومجالي في الجسد ، وأول مظهر لها فيه بخار لطيف دخاني شبيه في لطافته واعتداله بالجرم السماوي ، ويقال له : الروح الحيواني ، وهو مستوي الروح الرباني الذي هو من عالم الأمر ومركبة ومطيته قواه ، فعبر عليه‌السلام عن الروح بمظهره تقريبا إلى الأفهام ، لأنها قاصرة عن فهم حقيقته كما أشير إليه بقوله تعالى : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » (٢) ولأن مظهره هذا هو

__________________

(١) سورة النساء : ١٧١.

(٢) سورة الإسراء : ٨٥.

٨٣

ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن بحر ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يروون أن الله خلق آدم على صورته فقال هي صورة محدثة مخلوقة واصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه فقال « بَيْتِيَ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ».

باب جوامع التوحيد

١ ـ محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا رفعاه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أن

______________________________________________________

المنفوخ دون أصله.

الحديث الربع : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : فأضافها إلى نفسه ، أي تشريفا وتكريما ، وروى الصدوق (ره) في العيون بإسناده عن الحسين بن خالد قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله خلق آدم على صورته؟ فقال : قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مر برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك ، فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته ، فلعل الباقر عليه‌السلام أجاب هكذا على تقدير تسليم الخبر ، أو لم يتعرض لنفيه تقية ، وربما يجاب أيضا بأن المراد على صفته ، لأنه مظهر للصفات الكمالية الإلهية ، أو يقال : إن الضمير راجع إلى آدم أي صورته المناسبة له اللائقة به.

باب جوامع التوحيد

الحديث الأول : مرفوع.

٨٤

أمير المؤمنين عليه‌السلام استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية فلما حشد الناس قام خطيبا فقال :

الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه فليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال كل دون صفاته تحبير اللغات وضل هناك تصاريف الصفات

______________________________________________________

قوله : حشد ، أي جمع ، وفي بعض النسخ بالراء بمعناه.

قوله عليه‌السلام : المتفرد ، أي في الخلق والتدبير أو بسائر الكمالات ، « ولا من شيء خلق » أي ليس إحداثه للأشياء موقوفا على مادة أو شيء ليس هو موجده.

قوله عليه‌السلام : قدرة ، أي له قدرة ، أو هو عين القدرة بناء على عينية الصفات ، وقيل : نصب على التميز ، أو على أنه منزوع الخافض ، أي ولكن خلق الأشياء قدرة ، أو بقدرة ، وفي التوحيد : قدرته فهو مبتدأ « وبأن بها » خبره أو خبره « كافية » ، فكانت جملة استئنافية ، فكأن سائلا سئل وقال : فكيف خلق لا من شيء؟ فأجاب بأن قدرته كافية.

قوله : ولا حد ، أي جسماني أو عقلي ، أو ليس لمعرفة ذاته وصفاته تعالى حد ونهاية حتى يضرب له فيه الأمثال ، إذ الأمثال إنما تصح إذا كان له مشابهة بالممكنات أو مناسبة بينه وبين المدركات بالعقول والمشاعر ، والكلال : العجز والإعياء ، والتحبير التحسين أي أعيى قبل الوصول إلى بيان صفاته أو عنده تزيين الكلام باللغات البديعة الغريبة « وضل هنالك » أي في ذاته تعالى أو في توصيفه بصفاته صفات تصاريف صفات الواصفين ، وأنحاء تعبيرات العارفين ، أو ضل وضاع في ذاته الصفات المتغيرة الحادثة فيكون نفيا للصفات الحادثة عنه تعالى ، أو مطلق الصفات ، أي ليس في ذاته التغيرات الحاصلة من عروض الصفات المتغايرة ، فيكون نفيا لزيادة الصفات مطلقا ، كل ذلك أفاده الوالد العلامة قدس الله روحه « في ملكوته » فعلوت من الملك ، وقد يخص بعالم الغيب وعالم المجردات ، والملك بعالم الشهادة وعالم الماديات ، وأفكر في الشيء وفكر

٨٥

وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور.

فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له

______________________________________________________

فيه وتفكر بمعنى ، أي تحير في إدراك حقائق ملكوته وخواصها وآثارها وكيفية نظامها وصدورها عنه تعالى الأفكار العميقة ، الواقعة في مذاهب التفكير أو مذاهب التفكير العميقة ، فيكون إسناد الحيرة إليها إسنادا مجازيا.

« دون الرسوخ في علمه » الرسوخ : الثبوت أي انقطع جوامع تفسيرات المفسرين قبل الثبوت في علمه أو عنده ، إشارة إلى قوله تعالى : « وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ » (١) وقد مرت الإشارة إلى توجيهه في باب النهي عن التفكر في ذاته تعالى هذا إذا كان المراد بقوله : في علمه ، في معلومه ، ويحتمل أن يكون المراد في العلم به سبحانه أو في إبانة حقيقة علمه سبحانه بالأشياء.

« وحال دون غيبه المكنون » المكنون : المستور ، والمراد معرفة ذاته وصفاته ، فالمراد بالحجب النورانية والظلمانية المعنوية من كماله تعالى ونقص مخلوقاته أو الأعم منها ومن سائر العلوم المغيبة ، فالحجب أيضا أعم أو المراد أسرار الملكوت الأعلى من العرش والكرسي والملائكة ، الحافين بهما وسائر ما هو مستور عن حواسنا بالحجب الجسمانية ، والتيه : التحير ، والأدنى : الأقرب ، والإضافة في « طامحات العقول ولطيفات الأمور » من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والطامح : المرتفع ، والظرف في قوله : في لطيفات ، متعلق بالطامحات ، بأن يكون « في » بمعنى إلى ، أو حال منه فتبارك إما مشتق من البروك بمعنى الثبات والبقاء أو من البركة وهي الزيادة ، والهمة العزم ، ويقال : فلان بعيد الهمة إذا كانت إرادته تتعلق بالأمور العالية ، والمعنى لا تبلغه الهمم العالية الطالبة لأعلى وأبعد ما من شأنها الوصول إليه ، وكذا المراد بغوص

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧.

٨٦

وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود سبحان الذي ليس له أول مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى سبحانه هو كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته وحد الأشياء كلها عند خلقه إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن ولم يخل منها فيقال له أين لكنه سبحانه أحاط بها علمه وأتقنها صنعه وأحصاها حفظه لم يعزب عنه خفيات غيوب الهواء ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ولا ما في السماوات العلى إلى

______________________________________________________

الفطن : الفطن الغائصة في بحار الفكر لدرك دقائق الأمور.

« ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود » أي ليس له زمان متناه ولا غير متناه لخروجه عن الزمان ، أو ليس له زمان متناه ولا غاية لوجوده وإن امتد الزمان.

« ولا نعت محدود » أي بالحدود الجسمانية أو العقلانية بأن يحاط بنعته « ولا آخر يفنى » أي بعده « هو كما وصف نفسه » أي في كتبه وعلى ألسنة رسله وحججه وبقلم صنعه على دفاتر الآفاق والأنفس ، « حد الأشياء كلها » أي جعل للأشياء حدودا ونهايات أو أجزاء وذاتيات ليعلم بها أنها من صفات المخلوقين ، والخالق منزه عن صفاتهم ، أو خلق الممكنات التي من شأنها المحدودية ليعلم بذلك أنه ليس كذلك ، كما قال تعالى (١) : فخلقت الخلق لأعرف ، أو خلقها محدودة لأنها لم يكن يمكن أن تكون غير محدودة لامتناع مشابهة الممكن الواجب في تلك الصفات التي هي من لوازم وجوب الوجود ، ولعل الأوسط أظهر « ولم يخل منها » أي بالخلو الذي هو بمعنى عدم الملكة ، بقرينة التفريع ، أي الخلو المحل عن الحال والمكان عن المتمكن « فيقال له أين » أي يسأل أين هو ، ويمكن أن يقرأ أين بالتنوين ، أي يقال إنه أين ومكان للأشياء ، ثم بين عليه‌السلام نسبته سبحانه إلى الأشياء وكيفية قربه منها ، بقوله « لكنه سبحانه » إلخ ، أي قربه قرب العلية وإحاطته الإحاطة العلمية ، « لم يعزب » أي لم يغب ، والدجى : جمع دجية بالضم وهي الظلمة.

__________________

(١) أي في الحديث القدسي.

٨٧

الأرضين السفلى لكل شيء منها حافظ ورقيب وكل شيء منها بشيء محيط والمحيط بما أحاط منها.

الواحد الأحد « الصَّمَدُ » الذي لا يغيره صروف الأزمان ولا يتكأده صنع شيء كان إنما قال لما شاء « كُنْ » فكان ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ولا تعب ولا نصب وكل صانع شيء فمن شيء صنع والله لا من شيء صنع ما خلق وكل عالم فمن بعد جهل تعلم والله لم يجهل ولم يتعلم أحاط بالأشياء علما قبل كونها فلم يزدد بكونها علما علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها لم يكونها لتشديد سلطان ولا خوف من زوال ولا نقصان ولا استعانة على ضد مناو ولا ند مكاثر ولا شريك مكابر لكن خلائق مربوبون وعباد داخرون.

______________________________________________________

« لكل شيء منها حافظ ورقيب » الظرف خبر لقوله : حافظ ورقيب ، أو متعلق بكل منهما والمبتدأ محذوف أي هو لكل شيء منها حافظ ورقيب ، والأول أظهر فيكون إشارة إلى الملائكة الموكلين بالعرش والكرسي والسماوات والأرضين والبحار والجبال وسائر الخلق.

قوله عليه‌السلام : وكل شيء منها ، أي من السماوات والأرض وما بينهما محيط بشيء منها إحاطة علم وتدبير فيكون تأكدا للسابق على أحد الوجهين أو إحاطة جسمية ، والمحيط بكل من تلك المحيطات علما وقدرة وتدبيرا هو الله الواحد بلا تعدد الأحد بلا مشارك له في الحقيقة « الصمد » المستجمع لجميع كمالاته اللائقة بذاته الأحدية « الذي لا يغيره صروف الأزمان » أي تغيراتها « ولا يتكأده » أي لا يشق عليه « صنع شيء » من الأشياء « كان » وحصل بتكوينه « ابتدع » وخلق لا من مادة « ما خلق » مخترعا « بلا مثال سبق » وقوله : ولا تعب ولا نصب إما عطف على قوله : مثال ، ولا لتأكيد النفي أو مستأنف ولا لنفي الجنس ، والتعب ضد الاستراحة ، والنصب : الإعياء « على ضد مناف » وفي بعض النسخ « مناو » أي معاد « ولا ند » أي مثل « مكاثر » أي يغالبه بالكثرة « ولا شريك مكابر » أي يعارضه بالكبر أو الإنكار للحق ،

٨٨

فسبحان الذي لا يئوده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما برأ ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى علم ما خلق وخلق ما علم ـ لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق لكن قضاء مبرم وعلم محكم وأمر متقن توحد بالربوبية وخص نفسه بالوحدانية واستخلص بالمجد والثناء وتفرد بالتوحيد والمجد والسناء وتوحد بالتحميد وتمجد بالتمجيد وعلا عن اتخاذ الأبناء وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء وعز وجل عن مجاورة الشركاء فليس له فيما خلق ضد ولا له فيما ملك ند ولم يشركه في ملكه أحد الواحد الأحد « الصَّمَدُ » المبيد للأبد والوارث للأمد الذي لم يزل ولا يزال وحدانيا أزليا قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور الذي لا يبيد ولا ينفد بذلك أصف ربي فلا إله إلا الله من عظيم ما أعظمه ومن جليل ما أجله ومن عزيز ما أعزه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

______________________________________________________

والدخور الصغار والذل « لا يؤوده » أي لا يثقل عليه « ولا من عجز » أي لم يكتف بخلق ما خلق لعجز ولا فتور ، بل لعدم كون الحكمة في أزيد من ذلك.

ثم أكد عليه‌السلام ذلك بقوله : « علم ما خلق ، وخلق ما علم » أي ما علمه أن الصلاح في خلقه « ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق » بل لم يخلق لعدم الداعي إلى خلقه وإيجاده « لكن » الإيجاد « باقتضاء تام وقضاء مبرم وعلم محكم » وإحاطة بالخير والأصلح « وأمر متقن » أي نظام كامل « استخلص بالمجد والثناء » أي جعلهما مخصوصين بذاته الأحدية.

« وتوحد بالتحميد » أي باستحقاق الحمد من العباد ، أو بتحميد نفسه ، وفي التوحيد فتحمد بالتحميد ، يقال : هو يتحمد علي أي يمنن ، أي أنعم علينا واستحق منا الحمد والثناء بأن رخص لنا في تحميدة ، أو بأن حمد نفسه ولم يكل حمده إلينا والتمجد إظهار المجد والعظمة ، والتمجيد يحتمل الوجهين أيضا « المبيد للأبد » أي المهلك المفني للدهر والزمان والزمانيات « والوارث للأمد » أي الباقي بعد فناء

٨٩

وهذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه‌السلام حتى لقد ابتذلها العامة وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس ليس فيها لسان نبي على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به بأبي وأمي ما قدروا عليه ولو لا إبانته عليه‌السلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد ألا ترون إلى قوله لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان فنفى بقوله لا من شيء كان معنى الحدوث وكيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال نفيا لقول من قال إن الأشياء كلها محدثة بعضها من بعض وإبطالا لقول الثنوية الذين زعموا أنه لا يحدث شيئا إلا من أصل ولا يدبر إلا باحتذاء مثال فدفع عليه‌السلام بقوله لا من شيء خلق ما كان جميع حجج الثنوية وشبههم لأن أكثر ما يعتمد الثنوية في حدوث العالم أن يقولوا لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء فقولهم من شيء خطأ وقولهم من لا شيء مناقضة وإحالة لأن من توجب شيئا ولا شيء تنفيه فأخرج أمير المؤمنين عليه‌السلام هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحها فقال لا من شيء خلق ما كان فنفى من إذ كانت توجب شيئا ونفى الشيء إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا لا من أصل أحدثه الخالق كما قالت الثنوية إنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثال.

ثم قوله عليه‌السلام ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال كل دون صفاته تحبير اللغات فنفى عليه‌السلام أقاويل المشبهة حين شبهوه بالسبيكة والبلورة وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء وقولهم متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية ولم ترجع إلى إثبات هيئة لم تعقل شيئا فلم تثبت صانعا ففسر أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه واحد بلا كيفية وأن القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة

______________________________________________________

الأمد أي الغاية والنهاية ، أو امتداد الزمان « وبعد صروف الأمور » أي تغيرها وفناؤها وهذا ناظر إلى قوله : لا يزال ، كما أن ما قبله ناظر إلى قوله لم يزل.

قوله : لقد ابتذلها ، أي اشتهرت بينهم ، فكأنها صارت مبتذلة ، ولو لا إبانته ،

٩٠

ثم قوله عليه‌السلام الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ثم قوله عليه‌السلاملم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن فنفى عليه‌السلام بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة ومباينة الأجسام على تراخي المسافة.

ثم قال عليه‌السلام لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير وعلى غير ملامسة.

٢ ـ علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن الحسين بن يزيد ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله تبارك اسمه

______________________________________________________

أي تمييزه الحق عن الباطل « نفيا لقول من قال » أي من الحكماء والدهرية والملاحدة حيث يقولون بقدم الأنواع ، وأن كل حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية « لأن أكثر ما يعتمده الثنوية » لعل المراد بالثنوية غير المصطلح من القائلين بالنور والظلمة ، بل القائلين بالقدم وأنه لا يوجد شيء إلا عن مادة ، لأن قولهم بمادة قديمة إثبات لإله آخر ، إذ لا يعقل التأثير في القديم ، فقال عليه‌السلام : لا من شيء خلق ، فإنه رد عليهم بأن ترديدهم غير حاصر ، إذ نقيض من شيء لا من شيء لا من لا شيء « فنفى » أي نفي لفظة من بإدخال لا عليها ، إذ كانت نفي من توجب شيئا ، فلو دخلت على حرف النفي كما قالوا لزم التناقض « ثم قوله » بالجر عطف على قوله في قوله : ألا ترون إلى قوله. وقوله : ومباينة الأجسام عطف على مماسته أو على الكون ، أو مبتدأ وعلى تراخي المسافة خبره ، ليكون مؤيدا للجملة السابقة فتأمل.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى اسمه ، أي اسمه ذو بركة عظيمة أو ثابت غير متغير ، أو بريء عن العيوب والنقائص ، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن ،

٩١

وتعالى ذكره وجل ثناؤه سبحانه وتقدس وتفرد وتوحد ولم يزل ولا يزال و « هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ » فلا أول لأوليته رفيعا في أعلى علوه شامخ الأركان رفيع البنيان عظيم السلطان منيف الآلاء سني العلياء الذي عجز الواصفون عن كنه صفته ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته ولا يحدون حدوده لأنه

______________________________________________________

« وتعالى ذكره » عن الوصف بما يليق بالإمكان ، وجل ثناؤه سبحانه عن إحصار الألسن وإحاطة الأذهان ، وتقدس عن الاتصاف بما في بقعة الإمكان ، وتفرد بقدرته عن مشاركة الأعوان ، وتوحد بعز جلاله عن مجاورة الأمثال ، واتخاذ الأزواج والولدان وهو بذاته لم يزل ولا يزال لا بإحاطة الدهور والأزمان ، وهو الأول الذي يبتدأ منه وجود كل موجود والآخر الذي ينتهي إليه أمد كل معدود ، وهو باق بعد فناء كل موجود ، والظاهر الغالب على الأشياء والمحيط بها بقدرته وعلمه الشامل ، والباطن الذي لا يصل إليه ولا يحيط به إدراك الأوهام والعقول الكاملة ، فلا أول لأوليته أي لأزليته وقوله : رفيعا ، منصوب على الحالية أو على المدح.

« في أعلى علوه » أي في علوه الأعلى من الوصف والبيان ، أو الأعلى من كل علو يصل إليه ويدركه الأوهام ، والأذهان أو يعبر عنه بالعبارة واللسان.

« شامخ الأركان » أي أركان خلقه أو مخلوقاته العظيمة أو صفاته التي هي بمنزلة الأركان ، أو استعارة تمثيلية بتشبيه المعقول بالمحسوس ، إيضاحا لعلوه ورفعته وكذا قوله عليه‌السلام : رفيع البيان يحتمل الوجوه والأول فيه أظهر.

« منيف الآلاء » أي مشرفها على الخلق بالفيضان من بحر جوده أو زائدها من أناف عليه أي زاد « سني العليا » رفيعة والعليا السماء ورأس الجبل والمكان المرتفع وكل ما علا من شيء ، ولعل المراد هنا كل مرتفع يليق بأن ينسب إليه ، لا يحدون حدوده أي حدود الرب سبحانه ، أي لا يقدرون على تحديده لأنهم إنما يقدرون على التحديد بالكيفيات وأشباهها وهو سبحانه متعال عن الكيفيات والصفات الزائدة وقال السيد الداماد (ره) : الضمير في حدوده يعود إلى الحمل ، يعني : لا يحدون

٩٢

بالكيفية لا يتناهى إليه.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن المختار بن محمد بن المختار ومحمد بن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال ضمني وأبا الحسن عليه‌السلام الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول من اتقى الله يتقى ومن أطاع الله يطاع فتلطفت في الوصول إليه فوصلت فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحده والأبصار عن الإحاطة به جل عما وصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون نأى في قربه وقرب في نأيه فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد كيف الكيف فلا يقال كيف وأين الأين فلا يقال أين إذ هو منقطع

______________________________________________________

حدود حمل معرفته إذ بالوصف لا يدرك إلى مداه ، وبالصفة لا يدرك منتهاه ، وبالكيفية لا يتناهى إلى حده ولا يخفى بعده.

الحديث الثالث : مجهول وأبو الحسن الثاني كما يظهر من العيون أو الثالث كما يظهر من كشف الغمة وغيره ، « يتقى » أي يخافه كل شيء « يطاع » : أي يجعل الله الخلق مطيعا له.

قوله عليه‌السلام : فلطفت ، أي وصلت إليه بلطف ورفق ، أو بحيل لطيفة ، وقال في المغرب هو قمن بكذا وقمين به أي خليق ، والجمع قمنون وقمناء ، وأما قمن بالفتح فيستوي فيه المذكر والمؤنث والاثنان والجمع.

قوله عليه‌السلام : إذ هو منقطع الكيفوفية ، أي عنده تعالى ينقطع الكيف والأين ، وقيل : يحتمل أن يكون من قبيل الوصف بحال المتعلق ، وعلى صيغة اسم الفاعل أي الكيفوفية والأينونية منقطعة عنه ، ويحتمل أن يكون على صيغة اسم المفعول أي هو منقطع فيه وعنده الكيفوفية والأينونية ، أو اسم مكان أي مرتبته مرتبة انقطع

٩٣

الكيفوفية والأينونية.

٤ ـ محمد بن أبي عبد الله رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له : ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك قال ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره فقال يا أمير المؤمنين كيف رأيته قال ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة ـ لا يوصف باللطف عظيم العظمة لا يوصف بالعظم كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ قبل كل شيء لا يقال شيء قبله وبعد كل شيء لا يقال له بعد شاء الأشياء لا بهمة دراك لا بخديعة في

______________________________________________________

فيها الكيفوفية والأينونية.

الحديث الرابع : مرفوع ، وذعلب اليماني ضبطه الشهيد في قواعده بكسر الذال المعجمة وسكون العين المهملة وكسر اللام.

قوله : بحقائق الإيمان ، أي بحقائق هي الإيمان أو بمحققاته أو بالتصديقات التي هي أركان الإيمان ، أو بالأنوار التي حصلت في القلب من الإيمان ، أو بالإذعانات الحقة الثابتة ، أو بما هو حق الإيمان به « لطيف اللطافة » أي لطافته تعالى خفية لا تصل إليها العقول ، ولا يوصف باللطف الجسماني « لا يوصف بالعظم » أي لا يمكن وصف عظمته أو لا يوصف بعظمته الجسم « لا يوصف بالغلظ » أي ليس جلالته تعالى بمعنى الغلظ في الجثة ، أو ليس جلالته مقرونة بالغلظ في الخلق كما في المخلوقين ، « قبل كل شيء أي » بالعلية وسائر أنواع التقدم « لا يقال شيء قبله » بنحو من أنحاء القبلية وأقسامها الأزلية « وبعد كل شيء » فينتهي وجود كل شيء إليه ، وهو الباقي بعده « لا يقال له بعد » ينتهي وجوده سبحانه إليه ، وقيل : أي لا يقال له بعد على الإطلاق ومنفردا عن ذكر القبل كما يقال : هو الأول والآخر ، ولا يقال له الآخر منفردا عن ذكر الأول « شاء » اسم فاعل أو فعل ماض.

« لا بهمة » أي إرادة وخطور بال ، « لا بخديعة » أي لا بحيلة في إدراكها في

٩٤

الأشياء كلها غير متمازج بها ولا بائن منها ظاهر لا بتأويل المباشرة متجل لا باستهلال رؤية ناء لا بمسافة قريب لا بمداناة لطيف لا بتجسم موجود لا بعد عدم فاعل لا باضطرار مقدر لا بحركة مريد لا بهمامة سميع لا بآلة بصير لا بأداة لا تحويه الأماكن ولا تضمنه الأوقات ولا تحده الصفات ولا تأخذه السنات

______________________________________________________

الأشياء كلها بعلمه بها وتدبيره لها « غير متمازج بها » بالمجاورة والخلط « ولا بائن منها » مفارقا عنها بالبعد ، فإن القرب والبعد المكانيين وما بحكمهما لا يليقان به سبحانه « ظاهر » أي غالب ، أو بين ، وليس غلبته بكونه سبحانه راكبا فوقها ، أو ليس تبينه بأن يكون ملموسا أو مدركا بحس « متجل » أي ظاهر غير خفي على عباده بالآيات والأدلة ، لا بظهور وانكشاف من رؤية.

وقال في المغرب أهل الهلال واستهل مبنيا للمفعول فيهما إذا أبصر ناء من الأشياء بعيد عنها لعجزها عن الوصول إلى معرفة ذاته وحقيقته ، لا ببعد مسافة ، قريب من الأشياء لعلمه بجميعها لا بمداناة ومقارنة « لطيف » أي يدق عن إدراك المدارك ، لا بدقة جسمانية « لا باضطرار » أي بكونه مجبورا على ما يفعله ، بل إنما يفعل بعلمه ومشيته « مقدر » للأشياء محدد ومصور لها « لا بحركة » أي حركته أو حركة جوارحه أو بحركة ذهنية كما في المخلوقين « لا بهمامة » أي لا بقصد وخطور بال « ولا تحده الصفات » أي توصيفات الناس أو صفات المخلوقين ، والسنة مبدء النوم « سبق الأوقات » بالنصب « كونه » بالرفع ، إذ هو علة لها أو المعنى لم تصل الأزمان إليه بأن تتقدر بها « والعدم وجوده » قيل : المراد أنه علة لإعدام الممكنات كما أنه تعالى علة لوجوداتها لأن عدم العالم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعي إلى إيجاده المستند إلى وجوده فوجوده سبق عدم الممكنات أيضا ، أو المراد أزليته أي كل عدم ممكن تفرض أي عدمه السابق المقارن للوجود فهو مقدم عليه ، أو المراد سبق وجوده على عدمه تعالى ، لأن وجوده لما كان واجبا كان عدمه ممتنعا ، فكان وجوده سابقا على عدمه ، وغالبا عليه

٩٥

سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر

______________________________________________________

وقيل : الأعدام تابعة للملكات ، والملكات مصنوعة له ، فالأعدام كذلك.

« والابتداء أزله » أي أزليته أزلية لا تجتمع مع الابتداء وتنافيه ، فكلما جعلت له ابتداء فهو موجود لأزليته قبله ، أو أن أزليته سبقت بالعلية كل ابتداء ومبتدإ ، « بتشعيره المشاعر » أي بإيجادها وإفاضة وجوداتها وكونها ممكنة موجودة بالإيجاد عرف أنها مخلوقة له فلا يستكمل بها ، ولا يكون مناط علمه الذاتي ، فلا يكون مشاعر له أو لأنا بعد إفاضة المشاعر علمنا احتياجنا في الإدراك إليها ، فحكمنا بتنزهه سبحانه عنها لاستحالة احتياجه تعالى في كماله إلى شيء ، أو لما يحكم به العقل من المباينة بين الخالق والمخلوق في الصفات.

وقال ابن ميثم رحمه‌الله في شرح النهج : لأنه لو كان له مشاعر لكان وجودها له إما من غيره وهو محال ، وإما منه وهو أيضا محال ، لأنها إن كانت من كمالات ألوهيته كان موجدا لها من حيث هو فاقد كما لا ، فكان ناقصا بذاته وهذا محال وإن لم تكن كمالا كان إثباتها له نقصا ، لأن الزيادة على الكمال نقصان ، فكان إيجاده لها مستلزما لنقصانه وهو محال.

واعترض عليه بعض الأفاضل بوجوه : أحدها بالنقض لأنه لو تم ما ذكره يلزم أن لا تثبت له تعالى صفة كمالية كالعلم والقدرة ونحوهما ، وثانيها : بالحل باختيار شق آخر ، وهو أن يكون ذلك المشعر عين ذاته سبحانه كالعلم والقدرة ، وثالثها : أن هذا الكلام على تقدير تمامه استدلال برأسه لم يظهر فيه مدخلية قوله عليه‌السلام بتشعيره المشاعر في نفي المشعر عنه تعالى ، وأن ما استعمله لم تثبت به وقد ثبتت بغيره ثم قال : فالأولى أن يقال قد تقرر أن الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يكون بعض أفرادها علة لبعض آخر لذاته ، لأنه لو فرض كون نار مثلا علة لنار فعلية هذه ومعلوليته تلك إما لنفس كونهما نارا فلا رجحان لأحدهما في العلية ، وللأخرى في المعلولية ، بل يلزم أن يكون كل نار علة للأخرى ، بل علة لذاتها ومعلولا لذاتها ،

٩٦

له وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له

______________________________________________________

وهو محال وإن كانت العلية لانضمام شيء آخر فلم يكن ما فرضناه علة علة بل العلة حينئذ ذلك الشيء فقط ، لعدم الرجحان في أحدهما للشرطية والجزئية أيضا ، لاتحادهما من جهة المعنى المشترك ، وكذلك لو فرض المعلولية لأجل ضميمة.

فقد تبين أن جاعل الشيء يستحيل أن يكون مشاركا لمجعوله ، وبه يعرف أن كل كمال وكل أمر وجودي يتحقق في الموجودات الإمكانية فنوعه وجنسه مسلوب عنه تعالى ، ولكن يوجد له ما هو أعلى وأشرف منه ، أما الأول فلتعاليه عن النقص وكل مجعول ناقص وإلا لم يكن مفتقرا إلى جاعل ، وكذا ما يساويه في المرتبة كآحاد نوعه وأفراد جنسه ، وأما الثاني فلان معطي كل كمال ليس بفاقد له ، بل هو منبعه ومعدنه وما في المجعول رشحه وظله « انتهى ».

وقيل : المراد مشاعر العبادة « وبتجهيره الجواهر » أي بتحقيق حقائقها عرف أنها ممكنة ، وكل ممكن محتاج إلى مبدء ، فمبدأ المبادئ لا يكون حقيقة من هذه الحقائق « وبمضادته بين الأشياء » المتضادة من الحقائق النوعية (١) الصورية الجوهرية أو العرضية وجعلها حقائق متضادة لتحددها بتحديدات من جاعلها لها ، لا يجامع بعضها بعضا لتخالف حقائقها المتحددة بالحدود المتباينة المتنافية ، وكل حقائق مخلوقة بالحدود متحددة ، والإحدى المقدس عن التحددات لا يضاده المحدود المتنزل عن مرتبته ، وكيف يضاد المخلوق خالقه والفائض مفيضه كذا قيل.

وأقول : المراد بالضد إما المعنى المصطلح أي موجودان متعاقبان على موضوع أو محل واحد ، أو المعنى العرفي الذي هو المساوي للشيء في القوة ، فعلى الأول نقول : لما خلق الأضداد في محالها ، ووجدناها محتاجة إليها ، علمنا عدم كونه ضد الشيء ، للزوم الحاجة إلى المحل المنافية لوجوب الوجود ، أو لأنا لما وجدنا كلا من الضدين يمنع وجود الآخر ويدفعه وينفيه ، فعلمنا أنه تعالى منزه من ذلك ، وأما الثاني فلان المساوي في القوة للواجب يجب أن يكون واجبا ، فيلزم تعدد الواجب وقد مر بطلانه

__________________

(١) وفي نسخة « الناعية » بدل « النوعية » وهو خلاف الظاهر.

٩٧

وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضاد النور بالظلمة واليبس بالبلل والخشن باللين والصرد بالحرور مؤلف بين متعادياتها ومفرق بين متدانياتها دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله تعالى : « وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا

______________________________________________________

« وبمقارنته بين الأشياء » أي بجعل بعضها مقارنا لبعض كالأعراض ومحالها ، والممكنات وأمكنتها ، والملزومات ولوازمها « عرف أن لا قرين له » مثلها ، لدلالة كل نوع منها على أنواع النقص والعجز والافتقار.

وقيل : أي بجعلها متحددة بتحددات متناسبة موجبة للمقارنة ، عرف أن لا قرين له ، وكيف يناسب المتحدد بتحدد خاص دون المتحدد بتحدد آخر من لا تحدد له ، فإن نسبة اللاتحدد إلى التحددات كلها سواء « ضاد النور بالظلمة » بناء على كون الظلمة أمرا وجوديا ، وعلى تقدير كونها عدم ملكة ففي تسميتها بالضد تجوز ولعل المراد بالضد غير ما هو المصطلح.

والصرد بفتح الراء وسكونها : البرد « فارسي معرب » والحرور بالفتح : الريح الحارة « مؤلف بين متعادياتها » كما ألف بين العناصر المختلفة الكيفيات ، وبين الروح والبدن ، وبين القلوب المتشتتة الأهواء وغير ذلك « مفرق بين متدانياتها » كما يفرق بين أجزاء العناصر وكلياتها للتركيب ، وكما يفرق بين الروح والبدن ، وبين أجزاء المركبات عند انحلالها ، والأبدان بعد موتها ، وبين القلوب المتناسبة [ المتلاصقة ] لحكم لا تحصى ، فدل التأليف والتفريق المذكوران الواقعان على خلاف مقتضى الطبائع على قاسر يقسرها عليهما ، وكونهما على غاية الحكمة ونهاية الإتقان على علم القاسر وقدرته وحكمته وكماله.

قوله عليه‌السلام : « وذلك قوله » يحتمل أن يكون ذكر الآية استشهادا بكون المضادة والمقارنة دليلين على عدم اتصافه بهما ، كما فسر بعض المفسرين الآية بأن الله تعالى خلق من كل جنس من أجناس الموجودات نوعين متقابلين ، وهما زوجان لأن كل واحد منهما مزدوج بالآخر كالذكر والأنثى ، والسواد والبياض ، والسماء والأرض ،

٩٨

زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (١) ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد له شاهدة

______________________________________________________

والنور والظلمة ، والليل والنهار ، والحار والبارد ، والرطب واليابس ، والشمس والقمر ، والثوابت والسيارات ، والسهل والجبل ، والبحر والبر ، والصيف والشتاء ، والجن والإنس ، والعلم والجهل ، والشجاعة والجبن ، والجود والبخل ، والإيمان والكفر ، والسعادة والشقاوة ، والحلاوة والمرارة ، والصحة والسقم ، والغناء والفقر ، والضحك والبكاء ، والفرح والحزن ، والحياة والموت إلى غير ذلك مما لا يحصى ، خلقهم كذلك ليعلم أن لهم موجدا ليس هو كذلك.

ويحتمل أن يكون استشهادا لكون التأليف والتفريق دالين على الصانع ، لدلالة خلق الزوجين على المفرق والمؤلف لهما لأنه خلق الزوجين من واحد بالنوع فيحتاج إلى مفرق بجعلهما متفرقين ، وجعلهما مزاوجين مؤتلفين ألفه لخصوصهما ، فيحتاج إلى مؤلف بجعلهما مؤتلفين.

وقيل : كل موجود دون الله فيه زوجان اثنان كالمهية والوجود ، والوجوب والإمكان ، والمادة والصورة ، والجنس والفصل ، وأيضا كل ما عداه يوصف بالمتضايفين كالعلية والمعلولية ، والقرب والبعد ، والمقارنة والمباينة ، والتآلف والتفرق والمعاداة والموافقة ، وغيرها من الأمور الإضافية.

وقال بعض المفسرين : المراد بالشيء الجنس ، وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان ، فمن كل جنس نوعان كالجوهر منه المادي والمجرد ، ومن المادي الجماد والنامي ، ومن النامي النبات والمدرك ، ومن المدرك الصامت والناطق ، وكل ذلك يدل على أنه واحد لا كثرة فيه ، فقوله : « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي تعرفون من اتصاف كل مخلوق بصفة التركيب والتضايف والزوجية ، أن خالقهما واحد أحد لا يوصف بصفاتها.

قوله عليه‌السلام : ليعلم أن لا قبل له ، ظاهره نفي كونه سبحانه زمانيا ويحتمل أن يكون المعنى عرفهم معنى القبلية والبعدية ، ليحكموا بأن ليس شيء قبله ولا

__________________

(١) سورة الذاريات : ٤٩.

٩٩

بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه كان ربا إذ لا مربوب وإلها إذ لا مألوه وعالما إذ لا معلوم وسميعا إذ لا مسموع.

٥ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن شباب الصيرفي واسمه محمد بن الوليد ، عن علي بن سيف بن عميرة قال حدثني إسماعيل بن قتيبة قال دخلت أنا وعيسى شلقان على أبي عبد الله عليه‌السلام فابتدأنا فقال عجبا لأقوام يدعون على أمير المؤمنين عليه‌السلام ما لم يتكلم به قط خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس بالكوفة فقال الحمد لله الملهم عباده حمده وفاطرهم على معرفة ربوبيته الدال على وجوده بخلقه

______________________________________________________

بعده ، والغرائز : الطبائع ومغرزها موجد غرائزها ومفيضها عليها ، ويمكن حملها وأمثالها على الجعل البسيط إن كان حقا.

وقيل : إنما تشهد لتعاليه عن التحدد الذي إنما يكون بها الطبيعة والغريزة لأنه تحدد يلحقه الوجود ، والمتحددة به خالية في ذاتها عن الوجود ، أو لتعاليه عن التحدد مطلقا ، وربما تحمل الغرائز على الملكات والصفات النفسانية كالشجاعة والسخاوة والشهامة وأمثالها ، وتوقيتها تخصيص حدوث كل منهما بوقت ، وبقائها إلى وقت ، و « حجب بعضها عن بعض » أي بالحجب الجسمانية ، أو الأعم ليعلم أن ذلك نقص وعجز وهو منزه عن ذلك ، بل ليس لهم عن الرب حجاب إلا أنفسهم ، لإمكانهم ونقصهم « كان ربا » أي قادرا على التربية ، إذ هو الكمال ، وفعليتها منوطة بالمصلحة ، « وإلها إذ لا مألوه » أي من له الآلة ، أي كان مستحقا للمعبودية إذ لا عابد.

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : ما لم يتكلم ، من تشبيه الله تعالى وادعاء ألوهيته وأمثال ذلك.

قوله عليه‌السلام : الملهم عباده ، أي خواصهم « حمده » أي حمدا يليق به أو الأعم على حسب قابليتهم واستعدادهم « وفاطرهم على معرفة ربوبيته » بإقدارهم على المعرفة واطلاعهم عليها بالعلم بالمقدمات الدالة عليه بالفعل أو بالقوة القريبة منه ، أو بما ألقى عليهم من الإقرار به في الميثاق ، كما يظهر من الأخبار الدال على وجوده بخلقه

١٠٠