مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٤

باب البيان والتعريف ولزوم الحجة

١ ـ محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن ابن الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم.

محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج مثله.

٢ ـ محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير ، عن محمد بن حكيم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام المعرفة من صنع من هي قال من صنع الله ليس للعباد فيها صنع.

______________________________________________________

باب البيان والتعريف ولزوم الحجة

الحديث الأول : حسن بسنده الأول ، مجهول كالصحيح بسنده الثاني.

قوله عليه‌السلام : بما آتاهم ، أي من العقول والآلات والأدوات والجوارح والقوي وعرفهم من أصول الدين وفروعه كما قال تعالى : « أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١).

الحديث الثاني : مجهول.

والمراد بالمعرفة أما العلم بوجوده سبحانه فإنه مما فطر الله العباد عليه إذا خلوا أنفسهم عن المعصية ، والأغراض الدنية كما قال تعالى : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ » (٢) وبه فسر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، أي من وصل إلى حد يعرف نفسه فيوقن بأن له خالقا ليس مثله ، ويحتمل أن يكون المراد كمال المعرفة فإنه من قبل الله تعالى بسبب كثرة الطاعات والعبادات والرياضات ، أو المراد معرفة غير ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسل فإن ما سوى ذلك

__________________

(١) سورة البلد : ٨ ـ ١٠.

(٢) سورة لقمان : ٢٥.

٢٢١

______________________________________________________

إنما نعرفه بما عرفنا الله على لسان أنبيائه وحججه صلوات الله عليهم ، أو يقال : المراد بها معرفة الأحكام الفرعية لعدم استقلال العقل فيها ، أو المعنى أنها إنما تحصل بتوفيقه تعالى للاكتساب ، وذهب الحكماء إلى أن العلة الفاعلية للمعرفة تصوريا كان أو تصديقيا ، بديهيا كان أو نظريا ، شرعيا كان أو نظريا ، شرعيا كان أو غيره ، إنما يفيض من الله تعالى في الذهن بعد حصول استعداد له بسبب الإحساس أو التجربة أو النظر والفكر والاستماع من المعلم أو غير ذلك ، فهذه الأمور معدات والعبد كاسب للمعرفة لا موجد لها ، والظاهر من أكثر الأخبار أن العباد إنما كلفوا بالانقياد للحق وترك الاستكبار عن قبوله ، فأما المعارف فإنها بأسرها مما يلقيه الله سبحانه في قلوب عباده بعد اختيارهم للحق ، ثم يكمل ذلك يوما فيوما بقدر أعمالهم وطاعاتهم حتى يوصلهم إلى درجة اليقين ، وحسبك في ذلك ما وصل إليك من سيرة النبيين وأئمة الدين في تكميل أممهم وأصحابهم فإنهم لم يحيلوهم على الاكتساب والنظر ، وتتبع كتب الفلاسفة وغيرهم ، بل إنما دعوهم أولا إلى الإقرار بالتوحيد وسائر العقائد ، ثم إلى تكميل النفس بالطاعات والرياضات ، حتى فازوا بما سعدوا به من أعالي درجات السعادات.

قال الفاضل المحدث أمين الدين الأسترآبادي في الفوائد المدنية : قد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوة متصلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن معرفة الله بعنوان أنه الخالق للعالم ، وأن له رضا وسخطا ، وأنه لا بد من معلم من جهته تعالى ليعلم الخلق ما يرضيه وما يسخطه من الأمور الفطرية التي وقعت في القلوب بإلهام فطري إلهي ، وذلك كما قالت الحكماء : الطفل يتعلق بثدي أمه بإلهام فطري الهي ، وتوضيح ذلك أنه تعالى ألهمهم بتلك القضايا ، أي خلقها في قلوبهم وألهمهم بدلالات واضحة على تلك القضايا ، ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى فيه ، وبالجملة لم يتعلق وجوب ولا غيره من التكليفات إلا بعد بلوغ خطاب الشارع ، ومعرفة الله قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق إلهام بمراتب ، وكل من بلغته

٢٢٢

______________________________________________________

دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقع في قلبه من الله يقين بصدقه ، فإنه قد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنه ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه ، قبله أو تركه.

وقال في موضع آخر : قد تواترت الأخبار أن معرفة خالق العالم ومعرفة النبي والأئمة عليهم‌السلام ليستا من أفعالنا الاختيارية ، وأن على الله بيان هذه الأمور وإيقاعها في القلوب بأسبابها ، وأن على الخلق بعد أن أوقع الله تلك المعارف الإقرار بها والعزم على العمل بمقتضاها.

ثم قال في موضع آخر : قد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم كما تواترت بأن المعرفة موهبية غير كسبية ، وإنما عليهم اكتساب الأعمال فكيف يكون الجمع بينهما؟ أقول : الذي استفدته من كلامهم عليهم‌السلام في الجمع بينهما : أن المراد بالمعرفة ما يتوقف عليه حجية الأدلة السمعية من معرفة صانع العالم ، وأن له رضا وسخطا ، وينبغي أن ينصب معلما ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ، ومن معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد بالعلم الأدلة السمعية كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : العلم أما آية محكمة أو سنة متبعة أو فريضة عادلة ، وفي قول الصادق عليه‌السلام : إن من قولنا أن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ، ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى ، وفي نظائره إشارة إلى ذلك ، ألا ترى أنه عليه‌السلام قدم أشياء على الأمر والنهي ، فتلك الأشياء كلها معارف ، وما يستفاد من الأمر والنهي كله هو العلم ، ويحتمل أيضا أن يراد بها معرفة الأحكام الشرعية وهو الذي ذهب إليه بعض أصحابنا حيث قال : المراد بهذه المعرفة التي يعذب ويثاب مخالفها وموافقها « انتهى ».

لكن المشهور بين المتكلمين من أصحابنا والمعتزلة والأشاعرة أن معرفته تعالى نظرية واجبة على العباد ، وأنه تعالى كلفهم بالنظر والاستدلال فيها ، إلا أن الأشاعرة قالوا : تجب معرفته تعالى نقلا بالنظر ، والمعرفة بعده من صنع الله تعالى

٢٢٣

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن حمزة بن محمد الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ » قال حتى

______________________________________________________

بطريق العادة ، وسائرهم قالوا : تجب معرفته سبحانه عقلا بالنظر والمعرفة بعده من صنع العبد يولدها النظر ، كما أن حركة اليد تولد حركة المفتاح ، وهم قد اختلفوا في أول واجب على العباد ، فقال أبو الحسن الأشعري : هو معرفته تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينية ، وعليه يتفرع كل واجب من الواجبات الشرعية ، وقيل هو النظر في معرفته تعالى لأن المعرفة تتوقف عليه ، وهذا مذهب جمهور المعتزلة وقيل : هو أول جزء منه ، لأن وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه ، فأول جزء من النظر واجب ومقدم على النظر المقدم على المعرفة ، وقيل : هو القصد إلى النظر ، لأن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المقدم على أول جزء من أجزاء النظر ، وقال شارح المواقف : النزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد الأول ، أي أريد أول الواجبات المقصودة أولا وبالذات فهو المعرفة اتفاقا ، وإن أريد أول الواجبات مطلقا فالقصد إلى النظر ، لأنه مقدمة للنظر الواجب مطلقا فيكون واجبا أيضا.

الحديث الثالث : حسن موثق.

قوله سبحانه : « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً » (١) أي يسميهم ضلالا أو يؤاخذهم مؤاخذتهم ، أو يسمهم بسمة الضلالة يعرف بها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها أنهم من الضالين ، أو يخذلهم بسلب اللطف والتوفيق منهم « بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ » قيل : يحتمل أن تكون الهداية هيهنا بمعنى الإيصال إلى المطلوب ، فمعناه أنه تعالى لا يخذل قوما أو لا يحتج على قوم ولا يحكم بضلالتهم بعد أن أوصلهم إلى المطلوب حتى يعرفهم ما يرضيه فيعملوا به ، وما يسخطه فيجتنبوا عنه ، أي حتى يوفقهم لكل خير ويعصمهم

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٥.

٢٢٤

يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه وقال « فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » (١) قال بين لها ما تأتي وما تترك وقال « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » (٢) قال عرفناه إما آخذ وإما تارك وعن قوله « وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى » (٣) قال عرفناهم فاستحبوا العمى على الهدى وهم يعرفون وفي رواية بينا لهم.

______________________________________________________

من كل شر فما بعد « حتى » داخل فيما قبلها ، ويحتمل أن يكون بمعنى إراءة الطريق فمعناه أنه تعالى لا يخذل قوما أو لا يحكم بضلالتهم بعد إذ هداهم إلى الإيمان إلا بعد أن يعلمهم ما يرضيه وما يسخطه فما بعد « حتى » خارج عن حكم ما قبلها « انتهى ».

وفيه دلالة على أن التعريف من الله فيما يرضيه وفيما يسخطه من الشرائع والواجبات والسنن والأحكام ، لكن لا ينافي ما مر ، وقوله : وقال فألهمها ، من كلام ثعلبة وضميره راجع إلى حمزة ، أي وسأله عن قوله تعالى : « فَأَلْهَمَها » والضمير راجع إلى النفس ، والمراد : بفجورها وتقويها ، ما فيه فجورها وما فيه تقويها ، وقوله عليه‌السلام : بين لها ما تأتي وما تترك ، أي المراد بالإلهام هو بيان أن الله تعالى وإعلامه بما ينبغي للنفس أن تأتي به مما ينفع لها بالأمر ، وبما ينبغي لها أن تتركه مما يضرها بالنهي فالنشر على خلاف ترتيب اللف ، قال البيضاوي : إلهام الفجور والتقوى إفهامهما ، وتعريف حالهما ، والتمكين من الإتيان بهما « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ » أي سبيل الخيرات والطاعات « إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ».

قال البيضاوي : هما حالان من الهاء ، وإما للتفصيل أو التقسيم أي هديناه في حالتيه جميعا أو مقسوما إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه ، وبعضهم كفور بالإعراض عنه ، أو من السبيل ووصفه بالشكر والكفر مجاز « قال : عرفناه » بالتشديد أي السبيل « إما آخذ » تفسير للشاكر « وإما تارك » تفسير للكفور ، وهذا شامل لجميع الواجبات الأصولية والفروعية ، وكذا قوله : « وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ » شامل لهما ، والهداية هنا بمعنى إراءة الطريق ، وفي رواية : بينا لهم ، أي مكان عرفناهم.

__________________

(١) سورة الشمس : ٨.

(٢) سورة الإنسان : ٣.

(٣) سورة فصلت : ١٧.

٢٢٥

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن ابن بكير ، عن حمزة بن محمد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١) قال نجد الخير والشر.

٥ ـ وبهذا الإسناد ، عن يونس ، عن حماد ، عن عبد الأعلى قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة قال فقال لا قلت فهل كلفوا المعرفة قال لا على الله البيان « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » و « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها » قال وسألته عن قوله « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ » (٢) قال حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه.

______________________________________________________

الحديث الرابع : حسن موثق أيضا.

« نجد الخير » أي عرفناه سبيلهما ، والنجد في الأصل الطريق الواضح المرتفع ، وفيه دلالة على أن الهداية تطلق على إراءة طريق الشر أيضا لأنها هداية إلى اجتنابه وتركه ، أو هو على التغليب وقال السيد الداماد (ره) إذا أريد تخصيص الهداية بالخير قيل أي نجدي العقل النظري والعقل العملي ، وسبيلي كمال القوة النظرية وكمال القوة العملية ، أو نجدي المعاش والمعاد ، أو نجدي الدنيا والآخرة ، أو نجد الجنة والعقاب والثواب والفناء المطلق في نور وجه الله البهجة الحقة للقاء بقائه.

الحديث الخامس : مجهول.

قوله : هل جعل في الناس أداة ، أي آلة من العقل والفهم ينالون بها بدون التعريف والتوقيف المعرفة بأحد المعاني المتقدمة ، « فهل كلفوا المعرفة » أي بالنظر والاستدلال « على الله البيان » أي وعليهم القبول كما روي في التوحيد عن الصادق عليه‌السلام قال : ليس لله على الخلق أن يعرفوا قبل أن يعرفهم ، وللخلق على الله أن يعرفهم ، ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا ، ثم أشار عليه‌السلام إلى أن تكليفهم بالمعرفة أو بكمالها تكليف بالمحال ، بقوله : « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » والوسع أوسع من الطاقة ، و « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها » أي ما آتاها علمه ، وظاهره أن المعارف توقيفية ، وتكليفهم بتحصيلها تكليف بالمحال وقد سبق الكلام فيه.

__________________

(١) سورة البلد : ١٠.

(٢) سورة التوبة : ١١٥.

٢٢٦

٦ ـ وبهذا الإسناد ، عن يونس ، عن سعدان رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله فمن من الله عليه فجعله قويا فحجته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه ومن من الله عليه فجعله موسعا عليه فحجته عليه ماله ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله ـ ومن من الله عليه فجعله شريفا في بيته جميلا في صورته فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك وأن لا يتطاول على غيره فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله.

باب

اختلاف الحجة على عباده

١ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عن الحسين بن زيد ، عن درست بن أبي منصور عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة.

______________________________________________________

الحديث السادس : مرفوع.

قوله عليه‌السلام : فحجته عليه القيام بما كلفه ، أي ما يحتج به عليه بعد التعريف قوة القيام بما كلف به ، أو المحتج له القيام بالمكلف به ، وهذا أظهر وأوفق بما بعده من جعل التعاهد للفقراء بنوافل ماله والحمد على شرفه وجماله ، وعدم التطاول على غيره ، من الحجة وحينئذ ينبغي حمل قوله « فحجته عليه ماله » على أن المحتج له إصلاح ماله وصرفه في مصارفه وحفظه عن التضييع والإسراف فيه.

باب (١)

ليس الباب في بعض النسخ ، وإنما لم يعنون لأنه من الباب الأول ، وإنما أفرد لامتياز حديثه بخصوصية كما لا يخفى.

الحديث الأول : ضعيف

« المعرفة والجهل » أقول : قد مر الكلام فيهما سابقا ونقل إجماع المتكلمين على وجوب

__________________

(١) كذا في النسخ ومنه يظهر أنّ عنوان الباب غير موجود في النسخ التي عنده (ره).

٢٢٧

______________________________________________________

النظر في معرفة الله تعالى ، بل إجماع الأمة عليه ، وإنما اختلفوا في أن وجوبها عقلي أو شرعي ونسب إلى البراهمة أنها تحصل بالإلهام ، وإلى الملاحدة أنها تحصل بالتعليم ، وإلى المتصوفة أنها تحصل بتصفية الباطن والرياضات ، وربما يقال : إن النظر في معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله والعقائد الدينية على ما تفعله المتكلمون بدعة في الدين ، لم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة والخلفاء الراشدين ، ولو كانوا قد اشتغلوا بها لنقل إلينا لتوفر الدواعي على نقله كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهية على اختلاف أصنافها ، وأجيب بمنع عدم النقل بل تواتر أنهم كانوا يبحثون عن دلائل التوحيد وما يتعلق به ، والقرآن مملوء منه ، وهل ما يذكر في كتب الكلام إلا قطرة من بحر مما نطق به الكتاب الكريم؟ نعم أنهم لم يدونوها ولم يشتغلوا بتقرير المذاهب وتحرير الاصطلاحات ، ولم يبالغوا في تفصيل الأسئلة وتلخيص الجوابات لاختصاصهم بصفاء النفوس وقوة الأذهان ، ومشاهدة الوحي المقتضية لفيضان أنوار العرفان ، والتمكن من مراجعة من يفيدهم ويدفع عنهم ما عسى أن يعرض لهم من الشكوك والشبهات في كل حين ، مع قلة عناد المعاندين وندرة تشكيك المشككين ، بخلاف زمان من بعدهم إلى زماننا هذا ، حيث كثرت المذاهب والمقالات ، وشاعت المنازعات والمجادلات ، فاجتمع بالتدريج لأهل الأعصار التالية جميع ما حدث في الأزمان والقرون الخالية ، فاحتيج إلى تدوين مسائل الكلام وتقرير كل ما أورد على كل حجة من النقض والإبرام.

قالوا : فإن ادعى أن هذا التدوين بدعة فرب بدعة حسنة ، وذلك بعينه كالاشتغال بتدوين الفقه وأصوله ، وترتيب أبوابه وفصوله ، فإنه حدث بعد ما لم يكن فكما ليس ذلك بقادح في الفقه ليس هذا بضائر للكلام ، وقد أمر الله سبحانه بالنظر في آيات كثيرة كقوله تعالى : « قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » (١) وقوله تعالى : « فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها » (٢) فأمر بالنظر وهو

__________________

(١) سورة يونس : ١٠١.

(٢) سورة الروم : ٥٠.

٢٢٨

______________________________________________________

للوجوب ، ولما نزل : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ » (١) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل لمن لاكها بين لحيتيه ولم يتفكر فيها ، فقد أوعد بترك التفكر في دلائل المعرفة ، فيكون واجبا ، إذ لا وعيد على ترك غير الواجب.

أقول : قال الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب المقالات : المعرفة بالله تعالى اكتساب وكذلك المعرفة بأنبيائه عليهم‌السلام وكل غائب ، وإنه لا يجوز الاضطرار إلى معرفة شيء مما ذكرناه وهو مذهب كثير من الإمامية والبغداديين من المعتزلة خاصة ، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة والمجبرة والحشوية من أصحاب الحديث ، وقال في موضع آخر منه : العلم بالله عز وجل وأنبيائه عليهم‌السلام وبصحة دينه الذي ارتضاه وكل شيء لا تدرك حقيقته بالحواس ، ولا تكون المعرفة به قائمة في البداهة وإنما يحصل بضرب من القياس لا يصح أن يكون من جهة الاضطرار ، ولا يحصل على الأحوال كلها إلا من جهة الاكتساب ، كما لا يصح وقوع العلم بما طريقه الحواس من جهة القياس ، ولا يحصل العلم في حال من الأحوال بما في البداهة.

ثم قال رحمه‌الله : العلم بصحة جميع الأخبار طريقه الاستدلال وهو حاصل من جهة الاكتساب ، ولا يصح وقوع شيء منه بالاضطرار ، والقول فيه كالقول في جملة الغائبات ، وإلى هذا القول ذهب جمهور البغداديين ويخالف فيه البصريون والمشبهة وأهل الأخبار ، وأما العلم بالحواس فهو على ثلاثة أضرب ، فضرب هو من فعل الله تعالى ، وضرب من فعل الحاس ، وضرب من فعل غيره من العباد ، فأما فعل الله تعالى فهو ما حصل للعالم به عن سبب من الله ، كعلمه بصوت الرعد ولون البرق ووجود الحر والبرد وأصوات الرياح وما أشبه ذلك مما يبده ذو الحاسة من غير أن يتعمد لإحساسه ، ويكون بسبب من الله سبحانه ، ليس للعباد فيه اختيار ، فأما فعل الحاس فهو ما حصل له عقيب فتح بصره أو الإصغاء بإذنه أو التعمد لإحساسه بشيء من حواسه

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩٠.

٢٢٩

______________________________________________________

أو يفعله السبب الموجب لإحساس المحسوس ، وحصول العلم به ، وأما فعل غير الحاس من العباد فهو ما حصل للحاس بسبب من بعض العباد كالصائح بغيره وهو غير متعمد لسماعة أو المولم له فلا يمتنع من العلم بالألم عند إيلامه وما أشبه ذلك ، وهذا مذهب جمهور المتكلمين من أهل بغداد ومخالف فيه من سميناه « انتهى ».

وأقول : الغرض من إيراد هذه الوجوه أن تطلع على مذاهب القوم في ذلك ، وإن كان للنظر فيها مجال واسع ، ولنتكلم على الخبر فنقول : قد عرفت الوجوه التي يمكن حمل أمثال هذا الخبر عليه ، ولنعد بعضها :

الأول : أنه يصح على القول بأن جميع العلوم والمعارف فائضة من قبل الله سبحانه بحسب استعدادات العباد وقابلياتهم إما بلا واسطة أو بتوسط الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وإنما الواجب على الخلق أن يخلو أنفسهم عن الأغراض الدنية والحمية والعصبية ، ويصيروا طالبين للحق ثم بعد إفاضة الحق عليهم أن يقروا بها ظاهرا ولا ينكروا ولا يكونوا كالذين قال الله سبحانه فيهم : « جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » (١).

قال المحقق الطوسي روح الله روحه القدوسي : ولا بد فيه أي في العلم من الاستعداد ، أما الضروري فبالحواس ، وأما الكسبي فبالأول ، وقال العلامة رفع الله مقامه في شرحه : قد بينا أن العلم أما ضروري وإما كسبي ، وكلاهما حصل بعد عدمه ، إذ الفطرة البشرية خلقت أولا عارية عن العلوم ، ثم يحصل لها العلم بقسميه فلا بد من استعداد سابق مغاير للنفس ، وفاعل للعلم ، فالضروري فاعله هو الله تعالى إذ القابل لا يخرج المقبول من القوة إلى الفعل بذاته ، وإلا لم ينفك عنه ، وللقبول درجات مختلفة في القرب والبعد ، وإنما يستعد النفس للقبول على التدريج فينتقل من أقصى مراتب البعد إلى أدناها قليلا قليلا لأجل المعدات التي هي الإحساس بالحواس على اختلافها ، والتمرن عليها وتكرارها مرة بعد أخرى ، فيتم الاستعداد

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.

٢٣٠

______________________________________________________

لإفاضة العلوم البديهية الكلية من التصورات والتصديقات بين كليات تلك المحسوسات وأما النظرية فإنها مستفادة من النفس أو من الله تعالى على اختلاف الآراء ، لكن بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهية ، أما في التصورات فبالحد والرسم ، وأما في التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدمات الضرورية « انتهى ».

وظاهر كلام المصنف أن الإفاضة من المبدأ الفياض ، وليس من فعل النفس بالتوليد كما ذهب إليه المعتزلة.

وقال صاحب الفوائد المدنية رحمه‌الله : هنا إشكال كان لا يزال يخطر ببالي من أوائل سني ، وهو أنه كيف تقول بأن التصديقات فائضة من الله تعالى على النفوس الناطقة ، ومنها كاذبة ومنها كفرية ، هذا إنما يتجه على رأي جمهور الأشاعرة القائلين بجواز العكس بأن يجعل الله كل ما حرمه واجبا وبالعكس ، المنكرين للحسن والقبح الذاتيين ، لا على رأي محققيهم ، ولا على رأي المعتزلة ، ولا على رأي أصحابنا؟ والجواب أن التصديقات الصادقة فائضة على القلوب بلا واسطة أو بواسطة ملك ، وهي تكون جزما أو ظنا ، والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان ، وهي لا تتعدى الظن ولا تبلغ إلى حد الجزم ، وفي الأحاديث تصريحات بأن من جملة نعماء الله تعالى على بعض عبادة أنه يسلط ملكا يسدده ويلهمه الحق ، ومن جملة غضب الله على بعض أنه يخلى بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل ، وبأن الله تعالى يحول بين المرء وبين أن يجزم جزما باطلا « انتهى ».

وعلى ما ذكره يكون المراد بالمعرفة العلم اليقيني المطابق ، والجهل يشمل البسيط والمركب ، ونسبته إليه سبحانه من جهة التخلية ، ولا يرد على شيء من تلك الوجوه عدم معاقبة الكفار والمخالفين على عقائدهم الباطلة ، لأنهم إما موقنون في أنفسهم منكرون ظاهرا فيعاقبون على الإنكار أو غير موقنين لتقصيرهم في المبادئ ، فلذا يعاقبون.

٢٣١

______________________________________________________

ويؤيده ما رواه الصدوق في التوحيد عن عبد الرحيم القصير قال : كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله عليه‌السلام اختلف الناس جعلت فداك بالعراق في المعرفة والجحود ، فأخبرني جعلت فداك أهما مخلوقان؟ فكتب عليه‌السلام : اعلم رحمك الله أن المعرفة من صنع الله عز وجل في القلب مخلوقة ، والجحود صنع الله في القلب مخلوق ، وليس للعباد فيهما من صنع ، فلهم فيهما الاختيار من الاكتساب ، فبشهوتهم الإيمان اختاروا المعرفة ، فكانوا بذلك مؤمنين عارفين ، وبشهوتهم الكفر اختاروا الجحود فكانوا بذلك كافرين جاحدين ضلالا ، وذلك بتوفيق الله لهم وخذلان من خذله الله ، فبالاختيار والاكتساب عاقبهم الله وأثابهم ، إلى آخر الخبر.

إذ ظاهره أن المفيض للمعارف هو الرب تعالى ، وللنظر والتفكر والطلب مدخل فيها ، وإنما يثابون ويعاقبون بفعل تلك المبادئ وتركها ، ويحتمل أن يكون المعنى أن المعرفة ليست إلا من قبله تعالى ، إما بإلقائها في قلوبهم أو ببيان الأنبياء والحجج عليهم‌السلام ، وإنما كلف العباد بقبول ذلك وإقرارهم به ظاهرا وتخلية النفس قبل ذلك لطلب الحق عن العصبية والعناد ، وعما يوجب الحرمان عن الحق من تقليد أهل الفساد ، فهذا هو المراد بالاختيار من الاكتساب ، ثم بين عليه‌السلام أن لتوفيق الله وخذلانه أيضا مدخلا في ذلك الاكتساب أيضا كما مر تحقيقه.

الثاني : أن يخص بمعرفة الخالق والإقرار بوجوده سبحانه ، فإنها فطرية كما عرفت ، وروي في قرب الإسناد من معاوية بن حكيم عن البزنطي قال : قلت للرضا عليه‌السلام : للناس في المعرفة صنع؟ قال : لا ، قلت : لهم عليها ثواب؟ قال : يتطول عليهم بالثواب كما يتطول عليهم بالمعرفة ، وروي في المحاسن بسند صحيح عن صفوان قال : قلت للعبد الصالح : هل في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال : لا ، إنما هو تطول من الله ، قلت : أفلهم على المعرفة ثواب إذا كان ليس لهم فيها ما يتعاطونه بمنزلة الركوع والسجود الذي أمروا به ففعلوه؟ قال : لا إنما هو تطول من الله عليهم

٢٣٢

______________________________________________________

وتطول بالثواب. وفي الصحيح أيضا عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ » (١) قال : كان ذلك معاينة فأنساهم المعاينة وأثبت الإقرار في صدورهم ، ولو لا ذلك ما عرف أحد خالقه ولا رازقه ، وهو قول الله : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ » (٢).

الثالث : أن يعم بحيث يشمل جميع أصول الدين ، ويكون المراد أن الهداية إنما هو من الله سبحانه كما قال : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » (٣) لأن الله تعالى أعطى العقل وأقام الحجج على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته في الآفاق والأنفس ، ثم بعث الأنبياء عليهم‌السلام ليبينوا للناس ما لا يفي به عقولهم ، وأيدهم بالمعجزات الباهرات ، ثم نصب لهم الأوصياء فترجع أسباب الهداية كلها إليه سبحانه ، وليس للعباد فيها مدخلية تامة ، ويكون المراد بالجهل الجهل ببعض الأمور كمن لم تقم عليه حجة من المستضعفين في الإمامة وغيرها ، فيعذرهم أو بالجميع كالمجانين.

الرابع : أن يكون المراد سوى ما يتوقف عليه العلم بحقية الرسل عليهم‌السلام ، فالمراد أن ما سوى ذلك توقيفية يعرفها الله بتوسطهم عليهم‌السلام ولم يكلفهم تحصيلها بالنظر كما قررنا سابقا.

الخامس : أن يكون المراد بالمعرفة كمالها ، وبالجهل مقابله فإنهما بتوفيق الله سبحانه وخذلانه بأسباب راجعة إلى العبد كما دلت عليه الأخبار وشهدت به التجربة والاعتبار.

السادس : أن تحمل على العلم بالأحكام الشرعية ردا على المخالفين القائلين بجواز استنباطها بقياس العقول واستحساناتها ، كما روى البرقي في المحاسن بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ليس على الناس أن يعلموا حتى يكون الله هو المعلم لهم ، فإذا علمهم فعليهم أن يعلموا ، وقد مضت الأخبار الدالة على النهي عن

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٢.

(٢) سورة الزخرف : ٨٧.

(٣) سورة القصص : ٥٦.

٢٣٣

باب حجج الله على خلقه

١ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن أبي شعيب المحاملي ، عن درست بن أبي منصور ، عن بريد بن معاوية ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن ثعلبة

______________________________________________________

اتباع الأهواء والعمل بالقياس في الدين.

السابع : حمله على التقية لموافقته ظاهر المذاهب الأشاعرة وأشباههم ، لكن لا ضرورة فيه ، وحمله على بعض الوجوه السابقة أظهر.

والرضا كيفية نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو قبول شيء ، سواء كان ذلك الشيء مرغوبا لها أو مكروها ، والغضب حالة نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو الانتقام ، وقد يطلقان على نفس الانفعالين ، والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس عن أفعالها ، لعدم انصباب الروح الحيواني إليها ، واليقظة زوال تلك الحالة.

وأقول : لعل تخصيص تلك الستة من بين سائر الصفات النفسانية لأنها مما يتوهم فيها كونها بالاختيار ، أو يقال : أنها أصول الكيفيات النفسانية فيظهر سائرها بالمقايسة ، كاللذة والألم ، والإرادة والكراهة والحياة والموت ، والصحة والمرض ، والفرح والغم ، والحزن والهم ، والبخل والحقد وأشباهها ، والأول أظهر.

باب حجج الله على خلقه

الحديث الأول : ضعيف.

ويعرف شرحه مما مر في الأخبار السابقة ، وهذه الأخبار وأمثالها مما يدل على الحسن والقبح العقليين.

الحديث الثاني : مجهول.

٢٣٤

ابن ميمون ، عن عبد الأعلى بن أعين قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من لم يعرف شيئا ـ هل عليه شيء قال لا.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم.

______________________________________________________

قوله من لم يعرف ، على بناء المعلوم من المجرد أو المجهول من باب التفعيل « شيئا » على العموم أي شيئا من الأشياء بإرسال الرسل أو الوحي أو الإلهام ، هل يجب عليه شيء يؤاخذ بتركه ويعاقب عليه؟ أو المراد من لم يعرف شيئا خاصا بتعريفه سبحانه هل يجب ذلك الشيء عليه ويؤاخذ بتركه؟ والجواب بنفي الوجوب أما على الأول فلقوله تعالى : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » (١) ولأن من لم يعرف شيئا حتى المعرفة بالله سبحانه التي من صنع الله كما مر على بعض الوجوه كيف يؤاخذ بعدم المعرفة به ، وبما يترتب عليه كما قيل ، وأما على الثاني فللآية ولأن مؤاخذة الغافل عن الشيء من غير أن ينبه عليه وعقابه على تركه قبيح عقلا ، وقيل : إفاضة المعرفة من الله لا يعاقب على عدمها ، وإنما يعاقب على ترك التحصيل كما مر في بعض الوجوه ، ويدل على أن الجاهل معذور ، وعلى أن من لم تبلغه الدعوة ولم تتم عليه الحجة غير معاقب.

الحديث الثالث : مجهول.

قوله : ما حجب الله عن العباد ، وفي التوحيد « علمه » وظاهره عدم تكليف العباد في التفكر في الأمور التي لم تبين لهم في الكتاب والسنة ، وربما يحمل على ما ليس في وسعهم العلم به كأسرار القضاء والقدر وأمثالها ، وعلى التقادير يدل على أن الجاهل بالحكم مع عدم التقصير في تحصيله معذور.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٥.

٢٣٥

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان الأحمر ، عن حمزة بن الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال لي اكتب فأملى علي إن من قولنا إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى أمر فيه بالصلاة والصيام فنام رسول الله

______________________________________________________

الحديث الرابع : حسن موثق.

قوله عليه‌السلام : اكتب ، يدل على استحباب كتابة الحديث ولعل الأمر هنا للاعتناء بشأن ما يمليه لئلا ينسى شيئا منه ، والإملاء الإلقاء على الكاتب ليكتب ، وأصله من المضاعف فأبدل الثاني ياء ، كما قال تعالى على الأصل : « وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ » (١) « بما آتاهم » أي من العقول « وعرفهم » ولعل المراد هنا معرفة الله سبحانه التي عرفها العباد بفطرهم عليها ، أو بنصب الدلائل الواضحة في الآفاق والأنفس عليها ، ويدل عليه قوله عليه‌السلام : ثم أرسل إليهم ، فإن إرسال الرسول إنما يتأخر عن هذا التعريف

« وأنزل عليهم » وفي التوحيد « عليه » بإرجاع الضمير إلى الرسول وخص الصلاة والصيام بالذكر لأنهما من أعاظم أركان الإيمان والإسلام ، فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا النوم رواه العامة والخاصة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نام في المعرس حتى طلعت الشمس ، ومن أنكر سهو النبي لم ينكر هذا كما ذكره الشهيد (ره) لكنه ينافي ظاهرا ما عد من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان ينام عينه ولا ينام قلبه ، فيلزم ترك الصلاة متعمدا.

وأجيب عنه بوجوه : « الأول » أن المراد لا ينام قلبه في الأكثر وهذه الإنامة كانت لمصلحة فكان كنوم الناس.

الثاني : ما ذكره بعض العامة أن المراد أنه لا يستغرقه النوم حتى يصدر منه الحدث.

الثالث : ما قال بعضهم أيضا إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر أن عينيه تنامان وهما اللتان نامتا هيهنا ، لأن طلوع الفجر يدرك بالعين لا بالقلب ، ولا يخفى ما فيه إذ ظاهر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٢.

٢٣٦

صلى الله عليه واله عن الصلاة فقال أنا أنيمك وأنا أوقظك فإذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك وكذلك الصيام أنا أمرضك وأنا أصحك فإذا شفيتك فاقضه ـ ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ولم تجد أحدا إلا ولله عليه الحجة ولله فيه المشيئة ولا أقول إنهم ما شاءوا صنعوا ثم قال إن الله يهدي ويضل

______________________________________________________

أن الغرض اطلاعه عليه‌السلام على ما يخفى على النائم ، سواء كان مما يدرك بالعين أم لا كما يدل عليه قصة ابن أبي رافع وغيرها ، وأوردناها في الكتاب الكبير.

الرابع : ما يخطر بالبال وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن مكلفا بالعمل بما يعلمه من غير الجهات التي يعلم بها سائر الخلق ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم كفر المنافقين ولم يكن مأمورا بالعمل بما يقتضيه هذا العلم من قتلهم والاجتناب عنهم وعدم مناكحتهم وغيرها من الأحكام ، وكان الأئمة عليه‌السلام يعلمون كون السم في الطعام أو الذهاب إلى العدو يوجب القتل أو هزيمة الأصحاب ولم يكونوا مكلفين بالعمل بهذا العلم ، فلا يبعد أن يكون مع العلم بالفجر الصلاة ساقطة عنه أو مأمورا بتركها لتلك المصلحة ، ويمكن أن يعد هذا الوجه الأخير جوابا خامسا وسيأتي بعض القول فيه في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : أنا أنمتك ، في بعض النسخ أنيمك على صيغة المضارع كما في التوحيد وهو أصوب ، وهذا الكلام وما بعده لبيان أن الله تعالى لم يضيق على العباد في التكاليف بل وسع عليهم فيها ، فكيف يتوهم أنه جبرهم على المعاصي أو كلفهم ما لا يعلمون أو لا يطيقون؟ وقوله عليه‌السلام : ولله عليه الحجة ، كالدليل على ذلك ، فإنه لا حجة على المجبور ولا على الجاهل لكونهما معذورين ، وقوله : ولله فيه المشية ، إشارة إلى نفي التفويض كما عرفت ، كما صرح به بقوله : ولا أقول إنهم ما شاء واصنعوا ، بل لا بد من إذنه تعالى وتوفيقه أو خذلانه وتخليته كما مر ، أو المراد نفي التفويض بمعنى عدم الحصر بالأمر والنهي ، وهو بعيد.

« إن الله يهدي ويضل » قيل : أي يثيب ويعاقب أو يرشد في الآخرة إلى طريق

٢٣٧

______________________________________________________

الجنة والنار للمطيع والعاصي كما قيل في قوله تعالى : « سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ » (١) أو ينجي ويهلك كما فسر قوله تعالى : « لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ » (٢) بالنجاة وفسرت الضلالة في قوله تعالى : « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » (٣) وفي قوله : « أَإِذا ضَلَلْنا » (٤) بالهلاك أو يكون نسبة الهداية والإضلال إليه مجازا باعتبار أقداره على الخيرات والمعاصي ، والأظهر أن المراد بهما التوفيق للخيرات لمن يستحقه ، وسلبه وخذلانه ممن لا يستحقه كما مر.

وقال المحقق الطوسي (ره) في التجريد : الإضلال إشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة ، والإهلاك والهدى مقابل ، والأولان منفيان عنه تعالى ، وقال العلامة قدس‌سره في الشرح : يطلق الإضلال على الإشارة إلى خلاف الحق والبأس الحق بالباطل ، كما تقول : أضلني فلان عن الطريق إذا أشار إلى غيره ، وأوهم أنه هو الطريق ويطلق على فعل الضلالة في الإنسان كفعل الجهل فيه ، حتى يكون معتقدا خلاف الحق ، ويطلق على الإهلاك والبطلان كما قال الله تعالى : « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » بمعنى فلن يبطلها ، والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني ، فيقال بمعنى أعمالهم بمعنى فلن يبطلها ، والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني ، فيقال بمعنى نصب الدلالة على الحق كما تقول : هداني إلى الطريق ، وبمعنى فعل الهدى في الإنسان حتى الدلالة على الحق كما تقول : هداني إلى الطريق ، وبمعنى فعل الهدى في الإنسان حتى يعتقد المشي على ما هو به ، وبمعنى الإثابة كقوله تعالى : « سَيَهْدِيهِمْ » يعني سيثيبهم والأولان منفيان عنه تعالى بمعنى الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة ، لأنهما قبيحان والله تعالى منزه عن فعل القبيح ، وأما الهداية فإن الله نصب الدلالة على الحق وفعل الهداية الضرورية في العقلاء ولم يفعل الإيمان فيهم لأنه كلفهم به ويثيب على الإيمان ، فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ما كلف به ، وإذا قيل : إن الله تعالى يهدي ويضل ، فإن المراد به أنه يهدي المؤمنين بمعنى أنه يثيبهم ، ويضل

__________________

(١) سورة محمد : ٥.

(٢) سورة إبراهيم : ٢١.

(٣) سورة محمد : ٤.

(٤) سورة السجدة : ١٠.

٢٣٨

______________________________________________________

العصاة بمعنى أنه يهلكهم ويعاقبهم ، وقول موسى عليه‌السلام : « إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ » (١) فالمراد بالفتنة الشدة والتكليف الصعب ، « تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ » أي تهلك من تشاء وهم الكفار « انتهى ».

وقال الفاضل المحدث الأسترآبادي (ره) في حاشيته على هذا الحديث : يجيء في باب ثبوت الإيمان أن الله خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة وكفرا بجحود ، ثم بعث الله الرسل يدعو العباد إلى الإيمان به ، فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهد الله ، وأقول : هذا إشارة إلى الحالة التي سمتها الحكماء العقل الهيولاني ومعنى الضال هو الذي انحرف عن صوب الصواب ولما لم يكن قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب صوب صواب امتنع حينئذ الانحراف عنه ، ولما حصل أمكن ذلك ، فيكون الله تعالى سببا بعيدا في ضلالة الضال ، وهذا هو المراد بقوله عليه‌السلام : « يضل ».

وقال في الفوائد المدنية : وأما أنه تعالى هو المضل فقد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأن الله يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة ولا يخرجه من السعادة إلى الشقاوة ، فلا بد من الجمع بينهما ، ووجه الجمع كما يستفاد من الأحاديث وإليه ذهب ابن بابويه : أن من جملة غضب الله تعالى على العباد أنه إذا وقع منهم عصيان ينكت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب وأناب يزيل الله تعالى تلك النكتة ، وإلا فتنتشر تلك النكتة حتى تستوعب قلبه كله ، فحينئذ لا يرد قلبه إلى موضعه دليل.

لا يقال : من المعلوم أنه مكلف بعد ذلك ، فإذا امتنع تأثر قلبه بكون تكليفه بالطاعة من قبيل التكليف بما لا يطاق؟.

لأنا نقول : من المعلوم أن انتشار النكتة لا ينتهي إلى حد تعذر التأثر ، ومما يؤيد هذا المقام ما اشتمل عليه كثير من الأدعية المأثورة عن أهل بيت النبوة صلوات

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٥٥.

٢٣٩

______________________________________________________

الله عليهم من الاستعاذة بالله من ذنب لا يوفق صاحبه للتوبة بعده أبدا. ثم أقول : هيهنا دقيقة أخرى وهي أنه يستفاد من قوله تعالى : « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١) أي نجد الخير ونجد الشر ، ومن نظائره من الآيات والروايات ، ومن قوله تعالى : « أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ » (٢) ومن نظائره من الآيات والروايات أن تصوير النجدين وتمييز نجد الخير من نجد الشر من جانبه تعالى ، وأنه تعالى قد يحول بين المرء وبين أن يميل إلى الباطل ، وقد لا يحول ويخلي بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل ، وذلك نوع من غضبه ، ويتضرع على اختيار العبد العمى بعد أن عرفه الله تعالى نجد الخير ونجد الشر ، فهذا معنى كونه تعالى هاديا ومضلا ، وبالجملة أن الله يقعد أولا في أحد أذني قلب الإنسان ملكا ، وفي أحد أذنيه شيطانا ثم يلقى في قلبه اليقين بالمعارف الضرورية ، فإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه ، وإن عزم على إخفائها وإظهار خلافها يرفع الملك عن قلبه ويخلي بينه وبين الشيطان ليلقي في قلبه الأباطيل الظنية ، وهذا معنى كونه تعالى مضلا لبعض عباده « انتهى ».

وقال بعض المحققين في جواب استدلال الأشاعرة بقوله تعالى : « يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ » (٣) على مذهبهم الفاسد : هذا مدفوع بما فصله الأصحاب في تحقيق معنى الهداية والضلالة ، وحاصله أن الهدى يستعمل في اللغة بمعنى الدلالة والإرشاد نحو « إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى » (٤) وبمعنى التوفيق نحو « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً » (٥) وبمعنى الثواب نحو « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ » (٦) وبمعنى الفوز والنجاة نحو « لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ » (٧)

__________________

(١) سورة البلد : ١٠.

(٢) سورة الأنفال : ٢٤.

(٣) سورة النحل : ٩٣.

(٤) سورة الليل : ١٢.

(٥) سورة محمد : ١٧.

(٦) سورة يونس : ٩.

(٧) سورة إبراهيم : ٢١.

٢٤٠