مرآة العقول

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

مرآة العقول

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
المطبعة: مروي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٤

______________________________________________________

للعبد قدرة على ضدها ، والامتناع منها ، وخلق فيه المعصية كذلك ، فهم المجبرة حقا والجبر مذهبهم على التحقيق ، والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال ، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات والواسطة بين القولين أن الله أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم وحد لهم الحدود في ذلك ورسم لهم الرسوم ، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف ، والوعد والوعيد ، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها ، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها ، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض « انتهى » وأقول هذا معنى حق لكن تنزيل الأخبار عليه لا يخلو من بعد.

الثاني : ما ذكره بعض السالكين مسلك الفلاسفة حيث قال : فعل العبد واقع بمجموع القدرتين والإرادتين ، والتأثيرين من العبد ومن الرب سبحانه ، والعبد لا يستقل في إيجاد فعله بحيث لا مدخل لقدرة الله فيه أصلا ، بمعنى أنه أقدر العبد على فعله بحيث يخرج عن يده أزمة الفعل المقدور للعبد مطلقا ، كما ذهب إليه المفوضة أو لا تأثير لقدرته فيه وإن كان قادرا على طاعة العاصي جبرا ، لعدم تعلق إرادته بجبره في أفعاله الاختيارية كما ذهب إليه المعتزلة ، وهذا أيضا نحو من التفويض ، وقول بالقدر وبطلانه ظاهر ، كيف ولقدرة خالق العبد وموجده تأثير في فعل العبد بلا شبهة كما يحكم به الحدس الصائب ، وليس قدرة العبد بحيث لا تأثير له في فعله أصلا سواء كانت كاسبة كما ذهب إليه الأشعري ، ويؤول مذهبه إلى الجبر كما يظهر بأدنى تأمل أم لا تكون كاسبة أيضا بمعنى أن لا تكون له قدرة واختيار أصلا بحيث لا فرق بين مشي زيد وحركة المرتعش كما ذهب إليه الجبرية وهم الجهمية ، وقال : هذا معنى الأمر بين الأمرين ، ومعنى قول الحكماء الإلهيين : لا مؤثر في الوجود إلا الله ، فمعناه أنه لا يوجد شيء إلا بإيجاده تعالى وتأثيره في وجوده ، بأن يكون فاعلا قريبا له ،

٢٠١

______________________________________________________

سواء كان بلا مشاركة تأثير غيره فيه كما في أفعاله سبحانه كخلق زيد مثلا ، أو بمشاركة تأثير غيره فيه كخلقه فعل زيد مثلا ، فجميع الكائنات حتى أفعال العباد بمشيته تعالى وإرادته وقدره ، أي تعلق إرادته وقضاؤه ، أي إيجاده وتأثيره في وجوده ، ولما كانت مشية العبد وإرادته وتأثيره في فعله بل تأثير كل واحد من الأمور المذكورة آنفا في أفعاله جزءا أخيرا للعلة التامة لأفعاله ، وإنما يكون تحقق الفعل والترك مع وجود ذلك التأثير وعدمه فينتفي صدور القبيح عن الله تعالى ، بل إنما يتحقق بالمشية والإرادة الحادثة ، وبالتأثير من العبد الذي هو متمم للعلة التامة ، ومع عدم تأثير العبد والكف عنه بإرادته واختياره لا يتحقق فعله بمجرد مشية الله تعالى وإرادته وقدره ، بل لا يتحقق مشية وإرادة وتعلق إرادة منه تعالى بذلك الفعل ، ولا يتعلق جعله وتأثيره في وجود ذلك الفعل مجردا عن تأثير العبد فحينئذ الفعل لا سيما القبيح مستند إلى العبد ، ولما كان مراده تعالى من إقدار العبد في فعله وتمكينه له فيه صدور الأفعال عنه باختياره وإرادته ، إذا لم يكن مانع أي فعل أراد واختار من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، ولم يرد منه خصوص شيء من الطاعة والمعصية ، ولم يرد جبره في أفعاله ليصح تكليفه لأجل المصلحة المقتضية له ، ولا يعلم تلك المصلحة إلا الله تعالى وكلفه بعد ذلك الأقدار بإعلامه بمصالح أفعاله ومفاسده في صورة الأمر والنهي ، لأنهما من الله تعالى من قبيل أمر الطبيب للمريض بشرب الدواء النافع ، ونهيه عن أكل غذاء الضار ، وذلك ليس بأمر ونهي حقيقة ، بل إعلام بما هو نافع وضار له ، فمن صدور الكفر والعصيان عن العبد بإرادته المؤثرة واستحقاقه بذلك العقاب ، لا يلزم أن يكون العبد غالبا عليه تعالى ، ولا يلزم عجزه تعالى ، كما لا يلزم غلبة المريض على الطبيب ، ولا عجز الطبيب إذا خالفه المريض وهلك ، ولا يلزم أن يكون في ملكه أمر لا يكون بمشيته تعالى وإرادته ، ولا يلزم الظلم في عقابه ، لأنه فعل القبيح بإرادته المؤثرة ، وطبيعة ذلك الفعل توجب أن يستحق فاعله العقاب ،

٢٠٢

______________________________________________________

ولما كان مع ذلك الإعلام من الأمر والنهي بوساطة الحجج البينة اللطف والتوفيق في الخيرات والطاعات من الله جل ذكره ، فما فعل الإنسان من حسنة فالأولى أن يسند وينسب إليه تعالى ، لأن مع أقداره وتمكينه له وتوفيقه للحسنات أعلمه بمصالح الإتيان بالحسنات ، ومضار تركها والكف عنها بأوامره ، وما فعله من سيئة فمن نفسه ، لأنه مع ذلك أعلمه بمفاسد الإتيان بالسيئات ومنافع الكف عنها بنواهيه وهذا من قبيل إطاعة الطبيب ومخالفته ، فإنه من أطاعه وبريء من المرض يقال له : عالجه الطبيب وصيره صحيحا ، ومن خالفه وهلك يقال له : أهلك نفسه بمخالفته للطبيب ، فظهر إسناد الحسنات إلى الله تعالى وإسناد السيئات إلى العبد ، فهذا معنى الأمر بين الأمرين وينطبق عليه الآيات والأخبار من غير تكلف « انتهى » وهذا المحقق وإن بالغ في التدقيق والتوفيق بين الأدلة لكن يشكل القول بتأثيره سبحانه في القبائح والمعاصي مع مفاسد أخر ترد عليه ، ذكرها يفضي إلى الإطناب.

الثالث : ما ذكره أيضا أكثر السالكين مسلك الفلاسفة ونسب إلى المحقق الطوسي أيضا حيث قالوا : قد ثبت أن ما يوجد في هذا العالم فقد قدر بهيئته وزمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده ، وقد ثبت أن الله تعالى قادر على جميع الممكنات ولم يخرج شيء من الأشياء عن مصلحته وعلمه وقدرته وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة وإلا لم يصلح لمبدئية الكل ، فالهداية والضلال والإيمان والكفر والخير والشر والنفع والضرر وسائر المتقابلات كلها منتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته ومشيته بالذات أو بالعرض ، وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه وقدره وهي واجبة الصدور بذلك منا ، ولكن بتوسط أسباب وعلل من إدراكنا وإرادتنا وحركاتنا وسكناتنا وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا ، وتدبيرنا الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا ، فاجتماع تلك الأمور التي هي الأسباب والشرائط مع ارتفاع الموانع علة تامة يجب عندها وجود ذلك الأمر المدبر والمقضي المقدر ، وعند تخلف شيء

٢٠٣

______________________________________________________

منها أو حصول مانع بقي وجوده في حيز الامتناع ، ويكون ممكنا وقوعيا بالقياس إلى كل واحد من الأسباب الكونية.

ولما كان من جملة الأسباب وخصوصا القريبة منها إرادتنا وتفكرنا وتخيلنا وبالجملة ما نختار به أحد طرفي الفعل والترك فالفعل اختياري لنا فإن الله أعطانا القوة والقدرة والاستطاعة ليبلونا أينا أحسن عملا ، مع إحاطة علمه ، فوجوبه لا ينافي إمكانه واضطراريته لا تدافع كونه اختياريا كيف وأنه ما وجب إلا باختياره ولا شك أن القدرة والاختيار كسائر الأسباب من الإدراك والعلم والإرادة والتفكر والتخيل وقواها وآلاتها كلها بفعل الله تعالى لا بفعلنا واختيارنا ، وإلا لتسلسلت القدر والإرادات إلى غير النهاية ، وذلك لأنا وإن كنا بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن لم نشأ لم نفعل ، لكنا لسنا بحيث إن شئنا شئنا ، وإن لم نشأ لم نشأ ، بل إذا شئنا فلم تتعلق مشيتنا بمشيتنا بل بغير مشيتنا فليست المشية إلينا ، إذ لو كانت إلينا أإلى مشية أخرى سابقه ، وتسلسل الأمر إلى غير النهاية ، ومع قطع النظر عن استحالة التسلسل نقول : مشياتنا الغير المتناهية بحيث لا تشذ عنها مشية لا يخلو إما أن يكون وقوعها بسبب أمر خارج عن مشيتنا أو بسبب مشيتنا ، والثاني باطل لعدم إمكان مشية أخرى خارجة عن تلك الجملة ، والأول هو المطلوب ، فقد ظهر أن مشيتنا ليست تحت قدرتنا كما قال الله عز وجل : « وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ » (١) فإذن نحن في مشيتنا مضطرون وإنما تحدث المشية عقيب الداعي ، وهو تصور الشيء الملائم تصورا ظنيا أو تخيليا أو علميا ، فإذا أدركنا شيئا فإن وجدنا ملائمته أو منافرته لنا دفعة بالوهم أو ببديهة العقل انبعث منا شوق إلى جذبه أو دفعه ، وتأكد هذا الشوق هو العزم الجازم المسمى بالإرادة ، وإذا انضمت إلى القدرة التي هي هيئة للقوة الفاعلة انبعثت تلك القوة لتحريك الأعضاء الأدوية من العضلات وغيرها ،

__________________

(١) سورة الإنسان : ٣٠.

٢٠٤

______________________________________________________

فيحصل الفعل فإذا تحقق الداعي للفعل الذي تنبعث منه المشية تحققت المشية ، وإذا تحققت المشية التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ، ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة ، فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة ، والقدرة محركة ضرورة عند انجزام المشية والمشية تحدث ضرورة في القلب عقيب الداعي ، فهذه ضروريات يترتب بعضها على بعض ، وليس لنا أن ندفع وجود شيء منها عند تحقق سابقه ، فليس يمكن لنا أن ندفع المشية عند تحقق الداعي للفعل ، ولا انصراف القدرة عن المقدور بعدها ، وفنحن مضطرون في الجميع ، ونحن في عين الاختيار مجبورون على الاختيار « انتهى ».

والظاهر أن هذا عين الجبر ، وليس من الأمر بين الأمرين في شيء ، واحتياج الإرادة إلى إرادة أخرى ممنوع ، وتفصيل الكلام في ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمات وإيراد إشكالات وأجوبة تفضي إلى التطويل ، مع أن أمثال هذه شبه في مقابلة البديهة ولا وقع بمثلها.

ومثل هذا التوجيه ما قيل : أنه لا دخل لإرادة العبد في الإيجاب ، بل هي من الشروط التي بها يصير المبدأ بإرادته موجبا تاما مستجمعا لشرائط التأثير ، وهذا القدر كاف لوقوع فعل العبد بإرادته ، وكونه مستندا إليها وعملا له.

وما قيل : أن لإرادة العبد مدخلية في الإيجاب لا بالمشاركة فيه ، بل بأنه أراد وقوع مراد العبد وأوجبه على أنه مراده ، فلها مدخلية في الإيجاب لا بالمشاركة فيه ، وبهذه المدخلية ينسب الفعل إلى العبد ويكون عملا له ، فهذان الوجهان وأضرابها مما تركنا ذكرها حذرا من الإطالة مشتركة في عدم رفع المفاسد ، وعدم إيصال طالب الحق إلى المقاصد.

الرابع : ما ذكره الفاضل الأسترآبادي رحمه‌الله تعالى حيث قال : معنى الأمر بين الأمرين أنهم ليسوا بحيث ما شاءوا صنعوا بل فعلهم معلق على إرادة حادثة متعلقة

٢٠٥

______________________________________________________

بالتخلية أو بالصرف ، وفي كثير من الأحاديث أن تأثير السحر موقوف على أذنه تعالى وكان السر في ذلك أنه لا يكون شيء من طاعة أو معصية أو غيرهما كالأفعال الطبيعية إلا بإذن جديد منه تعالى ، فتوقف حينئذ كل حادث على الإذن توقف المعلول على شروطه ، لا توقفه على سببه.

أقول : وهذا معنى يشبه الحق وسنشير إليه.

الخامس : أن يكون الجبر المنفي ما ذهب إليه الأشعري والجهمية ، والتفويض المنفي هو كون العبد مستقلا في الفعل ، بحيث لا يقدر الرب تعالى على صرفه عنه كما ينسب إلى بعض المعتزلة ، والأمر بينهما هو أنه جعلهم مختارين في الفعل والترك مع قدرته على صرفهم عما يختارون.

السادس : أن يقال : الأمر بين الأمرين هو أن الأسباب القريبة للفعل بقدرة العبد ، والأسباب البعيدة كالآلات والأدوات والجوارح والأعضاء والقوي بقدرة الله سبحانه ، فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين.

وفيه : أن التفويض بهذا المعنى لم يقل به أحد حتى يحتاج إلى نفيه.

السابع : أن المراد بالأمر بين الأمرين كون بعض الأشياء باختيار العبد وهي الأفعال التكليفية ، وبعضها بغير اختياره كالصحة والمرض والنوم واليقظة وأشباهها.

ويرد عليه ما أوردنا على الوجه السابق.

الثامن : أن التفويض المنفي هو تفويض الخلق والرزق وتدبير العالم إلى العباد كقول الغلاة في الأئمة عليه‌السلام ، ويؤيده ما رواه الصدوق في العيون بإسناده عن يزيد بن عمير قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو ، فقلت : يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنه قال : لا جبر ولا تفويض ، أمر بين أمرين فما معناه؟ فقال : من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن

٢٠٦

______________________________________________________

زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، فقلت له : يا بن رسول الله ، فما أمر بين أمرين؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه ، فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك؟ فقال : أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها الأمر بها والرضا لها ، والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها ، قلت : فلله عز وجل فيها القضاء؟ قال : نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير وشر إلا ولله فيه قضاء ، قلت : فما معنى هذا القضاء؟ قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.

التاسع : ما ظهر لنا من الأخبار المعتبرة المأثورة عن الصادقين عليهم‌السلام ، وهو أن الجبر المنفي قول الأشاعرة والجبرية كما عرفت ، والتفويض المنفي هو قول المعتزلة إنه تعالى أوجد العباد وأقدرهم على أعمالهم وفوض إليهم الاختيار ، فهم مستقلون بإيجادها على وفق مشيتهم وقدرتهم ، وليس لله سبحانه في أعمالهم صنع.

وأما الأمر بين الأمرين فهو أن لهداياته وتوفيقاته تعالى مدخلا في أفعالهم بحيث لا يصل إلى حد الإلجاء والاضطرار ، كما أن لخذلانه سبحانه مدخلا في فعل المعاصي وترك الطاعات ، لكن لا بحيث ينتهي إلى حد لا يقدر معه على الفعل أو الترك ، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه في أحواله المختلفة ، وهو مثل أن يأمر السيد عبده بشيء يقدر على فعله وفهمه ذلك ، ووعده على فعله شيئا من الثواب وعلى تركه قدرا من العقاب ، فلو اكتفى من تكليف عبده بذلك ولم يزد عليه مع علمه بأنه لا يفعل الفعل بمحض ذلك ، لم يكن لوما عند العقلاء لو عاقبه على تركه ، ولا ينسب عندهم إلى الظلم ، ولا يقول عاقل أنه أجبره على ترك الفعل ، ولو لم يكتف السيد بذلك وزاد في ألطافه والوعد بإكرامه والوعيد على تركه ، وأكد ذلك ببعث من يحثه على الفعل ويرغبه فيه ويحذره على الترك ، ثم فعل ذلك الفعل بقدرته واختياره فلا

٢٠٧

______________________________________________________

يقول عاقل أنه جبره على الفعل ، وأما فعل ذلك بالنسبة إلى قوم وتركه بالنسبة إلى آخرين فيرجع إلى حسن اختيارهم وصفاء طويتهم أو سوء اختيارهم وقبح سريرتهم أو إلى شيء لا يصل إليه علمنا ، فالقول بهذا لا يوجب نسبة الظلم إليه سبحانه ، بأن يقال : جبرهم على المعاصي ثم عذبهم عليها ، كما يلزم الأولين ، ولا عزله تعالى من ملكه واستقلال العباد ، بحيث لا مدخل لله في أفعالهم ، فيكونون شركاء لله في تدبير عالم الوجود كما يلزم الآخرين.

ويدل على هذا الوجه أخبار كثيرة كالخبر الأول لا سيما مع التتمة التي في الاحتجاج ، والخبر الثامن والثالث عشر من هذا الباب ، بل أكثر أبواب (١) هذا الباب ، والأبواب السابقة واللاحقة ، وبه يمكن رفع التنافي بينها كما أومأنا إليه في بعضها ، وقد روي في الاحتجاج وتحف العقول فيما أجاب به أبو الحسن العسكري عليه‌السلام في رسالته إلى أهل الأهواز حيث قال عليه‌السلام : قال الصادق عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض ، أمر بين أمرين ، قيل : فما ذا يا بن رسول الله؟ قال : صحة العقل وتخلية السرب ، والمهلة في الوقت ، والزاد قبل الراحلة ، والسبب المهيج للفاعل على فعله ، فهذه خمسة أشياء ، فإذا نقض العبد منها خلة كان العمل عنه مطرحا بحسبه وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث من شرحه ، ويشهد به القرآن بمحكم آياته وتحقيق تصديقه عند ذوي الألباب وبالله العصمة والتوفيق.

ثم قال عليه‌السلام : فأما الجبر فهو قول من زعم أن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ورد عليه قوله : « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » (٢) وقوله جل ذكره : « ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ » (٣) مع آي كثيرة في مثل هذا ، فمن زعم أنه مجبور على المعاصي فقد

__________________

(١) والظاهر « الأخبار » بدل الأبواب.

(٢) سورة الكهف : ٤٩.

(٣) سورة الحج : ١٠.

٢٠٨

______________________________________________________

أحال بذنبه على الله عز وجل وظلمه في عقوبته له ، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه لزمه الكفر بإجماع الأمة.

والمثل المضروب في ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه ، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ، ويعلم مولاه ذلك منه ، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ، ولا يملكه ثمن ما يأتيه به ، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور ، فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة أن يعاقبه ، فلما صار العبد إلى السوق وحاول أخذ الحاجة التي بعثه المولى للإتيان بها وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ، ولا يملك العبد ثمنها ، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته ، فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك ، فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذب نفسه ، أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.

ثم قال عليه‌السلام بعد كلام طويل : فأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه‌السلام وخطىء من دان به فهو قول القائل : إن الله فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ، وفي هذا كلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية عليهم‌السلام من عترة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنهم قالوا : لو فوض الله إليهم على جهة الإهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به من الثواب ، ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب ، إذ كان الإهمال واقعا ، فتنصرف هذه المقالة على معنيين : إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة ، كره ذلك أم أحبه فقد لزم الوهن ، أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي ففوض أمره ونهيه إليهم وأجراهما على محبتهم ، إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته ، فجعل الاختيار إليهم في

٢٠٩

______________________________________________________

الكفر والإيمان ، ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ، ونهيه ، وادعى مالك العبد أنه قادر قاهر عزيز حكيم ، فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أو أمره عظيم الثواب ، وأوعده على معصيته أليم العقاب ، فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره ونهيه ، فأي أمر أمره به أو نهي نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى ، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه ، وبعثه في بعض حوائجه ، وفيها الحاجة له ، فصدر العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه ، وقصد إرادة نفسه واتبع هواه ، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه فإذا هو خلاف ما أمره به ، فقال العبد : اتكلت على تفويضك الأمر إلى فاتبعت هواي وإرادتي ، لأن المفوض إليه غير محصور عليه ، لاستحالة اجتماع التفويض والتحصير.

ثم قال عليه‌السلام : من زعم أن الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ، وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير أو شر وأبطل أمر الله تعالى ونهيه ، ثم قال : إن الله خلق الخلق بقدرته ، وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي وقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك منهم ، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها ، ولله الخيرة في الأمر والنهي ، يختار ما يريد ويأمر به ، وينهى عما يكره ، ويثيب ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه ، لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة ، بالغ الحجة بالأعذار والإنذار ، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده ، اصطفى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثه بالرسالة إلى خلقه ، ولو فوض اختيار أموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن الصلت وأبي مسعود الثقفي ، إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قالوا : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يعنونهما بذلك.

فهذا هو القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض ، بذلك أخبر أمير المؤمنين عليه‌السلام حين سأله عباية بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام

٢١٠

______________________________________________________

تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال له : قل يا عباية! قال : وما أقول؟ قال : إن قلت تملكها مع الله قتلتك ، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك ، قال :وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال : تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن ملكها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملكك ، والمالك لما عليه أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون : لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال الرجل : وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : لا حول بنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله ، قال : فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه ، إلى آخر الخبر بطوله.

وأقول أكثر أجزاء هذا الخبر يدل على ما ذكرنا في الوجه التاسع ، وأما ما ذكر في معنى التفويض ، فيحتمل أن يكون راجعا إلى الوجه الأول ، لكن الظاهر أن غرضه عليه‌السلام من نفي التفويض نفي ما ذكره المخالفون من تفويض اختيار الإمام عليه‌السلام ونصبه إلى الأمة وتفويض الأحكام إليهم بأن يحكموا فيها بآرائهم ، وقياساتهم واستحساناتهم ، ولهذا أجمل عليه‌السلام في الكلام ، وقال في هذا كلام دقيق ، وبين ذلك أخيرا بذكر قريش واصطفائهم فلا تغفل.

فيمكن أن يعد هذا وجها عاشرا لنفي الجبر والتفويض ، وإثبات الواسطة.

ويؤيد ما ذكرنا أيضا ما رواه الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتاب كنز الفوائد إن الحسن البصري كتب إلى الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام : من الحسن البصري إلى الحسن بن رسول الله أما بعد فإنكم معاشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة ، مصابيح الدجى وأعلام الهدى ، والأئمة القادة ، الذين من تبعهم نجا والسفينة التي يؤول إليها المؤمنون ، وينجو فيها المتمسكون ، قد كثر يا بن رسول الله عندنا الكلام في القدر ، واختلافنا في الاستطاعة ، فعلمنا ما الذي عليه رأيك ورأي آبائك فإنكم ذرية بعضها من بعض ، من علم الله علمتم ، وهو الشاهد عليكم ، وأنتم الشهداء

٢١١

______________________________________________________

على الناس والسلام؟ فأجابه صلوات الله عليه من الحسن بن علي إلى الحسن البصري : أما بعد فقد انتهى إلى كتابك عند حيرتك وحيرة من زعمت من أمتنا وكيف ترجعون إلينا وأنتم معنا بالقول دون العمل ، واعلم أنه لو لا ما تناهى إلى من حيرتك وحيرة الأمة من قبلك لأمسكت عن الجواب ، ولكني الناصح ابن الناصح الأمين ، والذي أنا عليه أنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر ، ومن حمل المعاصي على الله فقد فجر ، إن الله سبحانه لا يطاع بإكراه ، ولا يعص بغلبة ، ولا أهمل العباد من الملكة ولكنه عز وجل المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم ، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله عز وجل لهم صادا ، ولا عنها مانعا ، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء سبحانه أن يمن عليهم فيحول بينهم وبينها فعل ، وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها إجبارا ولا ألزمهم بها إكراها ، بل احتجاجه عز ذكره عليهم أن عرفهم وجعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه ، وترك ما نهاهم عنه ، ولله الحجة البالغة والسلام.

وفي تحف العقول هكذا : أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أن الله يعلمه فقد كفر ، إلى قوله عليه‌السلام : وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبرا ولا ألزموها كرها ، بل من عليهم بأن بصرهم وعرفهم وحذرهم وأمرهم ونهاهم لا جبلا لهم على ما أمرهم به ، فيكونوا كالملائكة ، ولا جبرا لهم على ما نهاهم ، ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين والسلام على من اتبع الهدى.

وأقول : قال السيد بن طاوس قدس‌سره في كتاب الطرائف : روى جماعة من علماء الإسلام عن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا ، قيل : ومن القدرية يا رسول الله؟ قال : قوم يزعمون أن الله قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها.

وروى صاحب الفائق وغيره من علماء الإسلام عن محمد بن علي المكي بإسناده قال : إن رجلا قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرني بأعجب شيء رأيت؟ قال : رأيت قوما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لم

٢١٢

باب الاستطاعة

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن الحسن بن محمد ، عن علي بن محمد القاساني ، عن علي بن أسباط قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الاستطاعة فقال يستطيع العبد بعد أربع خصال أن يكون مخلى السرب صحيح الجسم سليم الجوارح له سبب وارد من الله قال قلت جعلت فداك فسر لي هذا قال أن يكون العبد مخلى السرب صحيح الجسم سليم الجوارح يريد أن يزني فلا يجد امرأة ثم يجدها

______________________________________________________

تفعلون؟ قالوا : قضاء الله علينا وقدره ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستكون من أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، أولئك مجوس أمتي.

وروى صاحب الفائق وغيره عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ويقولون إن الله قد قدرها عليهم ، الراد عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله.

أقول : الأخبار الواردة في ذلك أوردناها في كتابنا الكبير ، وإنما أوردنا هنا بعضها تأييدا لما ذكرنا في شرح الأخبار ، إذ المصنف (ره) إنما اقتصر على الأخبار الموهمة للجبر ، ولم يذكر مما يعارضها إلا قليلا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

باب الاستطاعة

الحديث الأول : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : أن يكون مخلى السرب ، والسرب بالفتح والكسر : الطريق والوجهة ، وبالكسر البال والقلب والنفس ، أي مخلى الطريق مفتوحة ، وهو كناية عن رفع الموانع والزواجر كزجر السلطان وأمثاله « صحيح الجسم » أي من الأمراض المانعة عن الفعل « سليم الجوارح » التي هي آلات الفعل « له سبب وارد من الله » من عصمته أو التخلية بينه وبين إرادته « فسر لي هذا » أي السبب الوارد ففسره عليه‌السلام

٢١٣

فإما أن يعصم نفسه فيمتنع كما امتنع يوسف عليه‌السلام أو يخلي بينه وبين إرادته فيزني فيسمى زانيا ولم يطع الله بإكراه ولم يعصه بغلبة.

______________________________________________________

بالعصمة والتخلية ، فيكون ذكر وجدان المرأة استطرادا « ولم يطع الله بإكراه » بل بإرادته وعصمة الله من أسباب إرادته « ولم يعصه بغلبة » منه ، بل بإرادته مع تخلية الله بينه وبين إرادته ، فلو لم يخل الله بينه وبين اختياره ، وأراد منعه لم يمكنه الفعل فلم يكن الله في ذلك مغلوبا منه.

ويحتمل أن يكون المراد بتخلية السرب أن يكون مخلى بالطبع ، فارغ البال غير مشغول الخاطر بما يصرفه عن الفعل ، وبصحة الجسم أن لا يكون له مرض لا يقدر معه على الفعل ، وبسلامة الجوارح أن لا يكون في الجارحة التي يحتاج إليها في الفعل آفة ، كقطع الذكر في مثل الزنا ، وبالسبب إذنه تعالى أي رفع الموانع ، فقوله : فلا يجد امرأة ، مثال لتخلف السبب عن الثلاث وقوله : ثم يجدها ، بيان لوجوده ، فقوله إما أن يعصم نفسه ، أي يعصم المكلف نفسه لكن في المقابلة بينه وبين أن يخلي تكلف.

وفيما أجاب به أبو الحسن الثالث عليه‌السلام قال الصادق عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين ، وهي صحة الخلقة وتخلية السرب والمهلة في الوقت والزاد مثل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله ، ثم فسر عليه‌السلام صحة الخلقة بكمال الخلق للإنسان بكمال الحواس وثبات العقل والتميز وإطلاق اللسان بالنطق قال : وأما تخلية السرب فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ، ويمنعه العمل مما أمر الله به ، وأما المهلة في الوقت وهو العمر الذي يمتع به الإنسان من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ، وذلك من وقت تميزه وبلوغ الحلم ، إلى أن يأتيه أجله ، فمن مات على طلب الحق فلم يدرك كماله فهو على خير ، وأما الزاد فمعناه البلغة والجدة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به ، والراحلة للحج والجهاد وأشباه ذلك ، والسبب المهيج هو النية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال

٢١٤

٢ ـ محمد بن يحيى وعلي بن إبراهيم جميعا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم وعبد الله بن يزيد جميعا ، عن رجل من أهل البصرة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن

______________________________________________________

وحاستها القلب ، فمن فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل الله منه عملا إلا بصدق النية ، إلى آخر الخبر الطويل الذي أوردته في الكتاب الكبير وفيه فوائد جمة.

الحديث الثاني : مرسل.

واعلم أن المتكلمين اختلفوا في أن الاستطاعة والقدرة هل هما في العبد قبل الفعل أو معه؟ فذهبت الإمامية والمعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني ، واستدل كل من الفريقين على مذهبهم بدلائل ليس هذا موضع ذكرها ، والحق أن ما ذهب إليه الإمامية ضرورية إذ القطع حاصل بقدرة القاعد في وقت قعوده على القيام ، والقائم في حال قيامه على القعود بالوجدان ، ويدل عليه أخبار كثيرة :

منها ما رواه الصدوق عن عوف بن عبد الله عن عمه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الاستطاعة؟ فقال : وقد فعلوا ، فقلت : نعم زعموا أنها لا تكون إلا عند الفعل ، واردة في حال الفعل لا قبله ، فقال : أشرك القوم.

وفي الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول : لا يكون العبد فاعلا إلا وهو مستطيع ، وقد يكون مستطيعا غير فاعل ، ولا يكون فاعلا أبدا حتى يكون معه الاستطاعة.

وفي الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما كلف الله العباد كلفة فعل ، ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ، ثم أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذا ولا تاركا إلا باستطاعة متقدمة قبل الأمر والنهي ، وقبل الأخذ والترك وقبل القبض والبسط.

وفي الصحيح أيضا عن هشام عنه عليه‌السلام قال : لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلا باستطاعة متقدمة للقبض والبسط.

٢١٥

______________________________________________________

وفي الصحيح أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول وعنده قوم يتناظرون في الأفاعيل والحركات ، فقال : الاستطاعة قبل الفعل ، لم يأمر الله عز وجل بقبض ولا بسط إلا والعبد لذلك مستطيع ، والأخبار في ذلك كثيرة.

والأشاعرة إنما قالوا بعدم القدرة قبل الفعل وكونها مع الفعل لأنهم يقولون بعدم تأثير قدرة العبد وإرادته في الفعل أصلا.

إذا عرفت هذا فاعلم أن هذا الخبر ظاهرا موافق لمذهب الأشاعرة ، ومخالف لمذهب الإمامية ، والأخبار الصحيحة السالفة تنفيه ، ويمكن تأويله بوجوه :

الأول : حمله على التقية إذ أكثر المخالفين يرون رأي الأشعري ويتبعونه في أصول مذهبهم ، ويؤيده أن ما ذكر فيه من الدليل على نفي الاستطاعة من عمدة دلائل الأشاعرة على نفي اختيار العبد حيث قالوا : القدرة على الأثر بمعنى التمكن على فعله وتركه ، إما حال وجود الأثر وحينئذ يجب وجوده ، فلا يتمكن من الترك وإما حال عدمه فيجب عدمه فلا يتمكن من الفعل ، وأجيب بأنا نختار أنها حال عدم الأثر لكنها عبارة عن التمكن من الفعل في ثاني الحال ، فلا ينافيه العدم في الحال ، بل يجتمع معه.

الثاني : أن يقال المراد بالاستطاعة في الخبر الاستعداد التام الذي لا يكون إلا مع الأثر والمراد بآلة الاستطاعة جميع ما يتوقف عليه الأثر فعلا كان أو تركا ، فاستطاعة الفعل لا يكون إلا مع الفعل ، واستطاعة الترك لا يكون إلا مع الترك ، وبعبارة أخرى : المراد بالاستطاعة الاستقلال بالفعل ، بحيث لا يمكن أن يمنعه مانع عنه ، ولا يكون هذا إلا في حال الفعل إذ يمكن قبل الفعل أن يزيله الله تعالى عن الفعل بصرفه عنه ، أو إعدامه أو إعدام الآلة ، والحاصل أن استطاعة الشيء التمكن منه وانقياد حصول ذلك الشيء له ، واستطاعة أحد الطرفين لا يستلزم استطاعة الآخر بخلاف القدرة ، فإن القدرة على أحد الطرفين تلزمه القدرة على الآخر ، والقدرة

٢١٦

الاستطاعة فقال أتستطيع أن تعمل ما لم يكون قال لا قال فتستطيع أن تنتهي عما قد كون قال لا قال فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام فمتى أنت مستطيع قال لا أدري قال فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة

______________________________________________________

على الفعل تسبقه بمراتب بخلاف الاستطاعة ، قال إمامهم الرازي في الجمع بين رأيي الأشاعرة والمعتزلة في تلك المسألة : القدرة قد تطلق على القوة العضلية التي هي مبدء الآثار المختلفة في الحيوان بحيث متى انضم إليها إرادة كل واحد من الضدين حصل دون الآخر ، ولا شك في أن نسبتها إلى الضدين على السواء ، وقد تطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شك في امتناع تعلقها بالضدين وإلا اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر لاختلاف الشرائط بحسب مقدور مقدور ، فلعل الأشعري أراد بالقدرة المعنى الثاني ، فحكم بأنها لا تتعلق بالضدين ، ولا هي قبل الفعل ، والمعتزلة أرادوا بها المعنى الأول فذهبوا إلى أنها تتعلق بالضدين وأنها قبل الفعل « انتهى » وهذا الكلام متين لكنه لا يصلح جامعا بين القولين ، لأن الأشعري لا يقول بتأثير قدرة العبد وإرادته ، ولذا قال بمقارنتها للفعل.

الثالث : أن يكون المعنى أن في حال الفعل تظهر الاستطاعة ، ويعلم أنه كان مستطيعا قبله ، بأن أذن الله له في الفعل ، كما ورد أن بعد القضاء لا بداء.

قوله عليه‌السلام : أن تعمل ما لم يكون ، أي بعد حصول الترك في زمان الترك لا تستطيع الفعل ، بل تستطيع الترك ، وتمت علته وحصل ، فلا تستطيع الفعل حينئذ ، إذ لم يحصل منك ولا من الله ما يتوقف عليه حصول الفعل قبله ، فصار الترك حينئذ واجبا بعلله التي منها إرادة العبد الترك.

قوله عليه‌السلام : أن تنتهي عما قد كون ، أي بعد وجود الفعل ووجوبه بعلله التي منها إرادته كيف يستطيع الترك ، فالقدرة على الفعل والترك قبلهما واستطاعتهما أي وجوبهما ولزومهما في وقتهما كما مر في الوجه الثاني « فجعل فيهم آلة الاستطاعة »

٢١٧

ثم لم يفوض إليهم فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل فإذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه لأن الله عز وجل أعز من أن يضاده في ملكه أحد قال البصري فالناس مجبورون قال لو كانوا مجبورين كانوا معذورين قال ففوض إليهم قال لا قال فما هم قال علم منهم فعلا فجعل فيهم آلة الفعل فإذا فعلوه كانوا مع الفعل مستطيعين قال البصري أشهد أنه الحق وأنكم أهل بيت النبوة والرسالة.

٣ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن علي بن الحكم ، عن صالح النيلي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام هل للعباد من الاستطاعة شيء قال فقال لي إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم قال قلت وما هي قال :

______________________________________________________

أي ما يتوقف عليه حصولها من تخلية السرب وصحة الجسم وسلامة الجوارح ونحو ذلك على حسب الأعمال المستطاع لها « ثم لم يفوض إليهم » بحيث يكونون مستقلين لا يمكنه صرفهم عنه ، أو بحيث لا يكون له مدخل في أفعالهم بالتوفيق والخذلان ، أو المراد بالتفويض عدم الحصر بالأمر والنهي « لم يكونوا مستطيعين » أي بالاستقلال بحيث لا مدخل لتوفيق الله وخذلانه فيه ، أو لم يحصل لهم العلة التامة للفعل وإن كان باختيارهم ، ويمكن حمله على ما إذا كان الترك لعدم الآلات وللموانع الصارفة من قبل الله تعالى ، وعلى هذا ينطبق التعليل غاية الانطباق ، إذ استقلال العبد على هذا الوجه بحيث لا يتوقف فعله على شيء من قبل الله تعالى ، وعدم قدرته سبحانه على صرفه عنه ، قول بوجود أضداد له تعالى في ملكه ، وعلى الأول أيضا ظاهر ، وعلى الثاني يحتاج إلى تكلف ، وربما يقال : التعليل لعدم التفويض ، ولا يخفى بعده « فجعل فيهم آلة الفعل » أي قدرتهم وإرادتهم وقواهم وجوارحهم التي هي من أسباب وجود ذلك الفعل.

الحديث الثالث : ضعيف ، والكلام في صدر الخبر ما مر في الخبر السابق.

٢١٨

الآلة مثل الزاني إذا زنى كان مستطيعا للزنا حين زنى ولو أنه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك قال ثم قال ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا قلت فعلى ما ذا يعذبه قال بالحجة البالغة والآلة التي ركب فيهم إن الله لم يجبر أحدا على معصيته ولا أراد إرادة حتم الكفر من أحد ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير قلت أراد منهم أن يكفروا قال ليس هكذا أقول ولكني أقول علم أنهم سيكفرون فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنما هي إرادة اختيار.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : مثل الزنا (١) ، هذا مثال لقوله : إذا فعلوا الفعل ، وليس مثالا لتفسير الاستطاعة ، ولما توهم السائل من قوله عليه‌السلام : كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم ، ومن أن الاستطاعة مع الفعل لا قبله الجبر قال : فعلى ما يعذبه؟ أي الزاني والمراد بالحجة البالغة أوامر الله تعالى ونواهيه وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام لإعلام الناس بالأفعال النافعة والضارة ، والمراد بالآلة التي ركب فيهم القدرة والإرادة المؤثرتين اللتين خلقهما الله تعالى في العباد.

قوله : كان في إرادة الله أن يكفر ، أي إرادة بالعرض لأنه لما أراد أن يعطي العبد إرادة واختيارا ويخليه واختياره وهو أراد المعصية فهو سبحانه أراد ما صار سببا لكفره إرادة بالعرض أو يقال إرادته سبحانه علة بعيدة للكفر ، أو يقال : لما خيره وخلاه مع علمه بأنه يكفر بإرادته فكأنه أراد كفره مجازا كما مر تفصيله.

قوله عليه‌السلام : أن لا يصيروا إلى شيء من الخير ، أي باختيارهم وإرادتهم المؤثرة ولما توهم السائل من قوله عليه‌السلام : إنه تعالى شاء منهم أن يكفروا ، أي جبرهم عليه أو ذلك مقصوده منهم ، أجاب عليه‌السلام بأن ليس مرادي ذلك ، بل مرادي أن الله أراد بحسب مصلحة التكليف أن يكلهم إلى اختيارهم وإرادتهم ، وعلم أن إرادتهم يتعلق

__________________

(١) كذا في النسخ وفي المتن « الزاني » بدل « الزنا ».

٢١٩

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن بعض أصحابنا ، عن عبيد بن زرارة قال حدثني حمزة بن حمران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الاستطاعة فلم يجبني فدخلت عليه دخلة أخرى فقلت أصلحك الله إنه قد وقع في قلبي منها شيء لا يخرجه إلا شيء أسمعه منك قال فإنه لا يضرك ما كان في قلبك قلت أصلحك الله إني أقول إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون ولم يكلفهم إلا ما يطيقون وأنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره قال فقال هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي أو كما قال.

______________________________________________________

بالكفر فتعلق إرادته بكفرهم من حيث تعلق إرادته بما يصير سببا لإرادتهم الكفر مع علمه بذلك ، وهذا لا يستلزم كون الكفر مقصوده ومطلوبه منهم ، فإن دخوله في القصد بالعرض لا بالذات ، وتعلق الإرادة بالكفر بالعرض ليست موجبة للفعل إيجابا يخرجه عن الاختيار ، لأن هذا التعلق من جهة إرادتهم واختيارهم وما يتعلق بشيء من جهة الإرادة والاختيار لا يخرجه عن الاختيار ، وقيل : الفرق بين كلام الإمام وكلام السائل أن في كلامه عليه‌السلام عديت الإرادة بفي وفي كلام السائل بمن ، والتعدية بفي تفيد التمكين مع القدرة على المنع ، والتعدية بمن ، تفيد الطلب إما تكليفا وإما تكوينا ، فالظرفان متعلقان بالإرادة كالظرف في قوله لعلمه.

الحديث الرابع : مرسل.

قوله : فإنه لا يضرك ، هذا إما لأنه عليه‌السلام كان مطلعا على ما في قلبه وأنه حق ، أو المراد أنه إذا كان في قلبك شيء ثم رجعت عنه إلى قولنا لم يضرك ، وقوله أو كما قال ، ترديد من السائل بين العبارة المنقولة وما في حكمها من العبارات الدالة على تصديق معتقده بوجه من الوجوه.

٢٢٠