غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام

السيد ثامر هاشم العميدي

غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق عليهما السلام

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-447-7
الصفحات: ٣٢٧

ولهذا ورد بسندٍ صحيح عن الإمام الحجة عليه‌السلام قوله ـ جواباًً على ما سأله أحمد بن إسحاق ـ : « ... وأما علة ما وقع من الغيبة ، فإنّ الله عزّوجلّ يقول : ( يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسوكم ) (١). إنّه لم يكن أحد من آبائي إلاّ وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي » (٢).

وهذا يعني انتفاء أي التزام بعهد أو ميثاق أو بيعة للإمام المهدي عليه‌السلام مع الحاكم المستبد ، وإلاّ رجع الأمر إلى مواجهة الطغاة ، والعودة إلى علة الخوف من القتل ، حيث لم يكن فرض الإمام المنقذ هو التقية.

ويؤيده ما رواه سورة بن كليب ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث جاء فيه : « ... فإذا قام قائمنا سقطت التقية ، وجرّد السيف ، ولم يأخذ من الناس ولم يعطهم إلاّ السيف » (٣).

العلة الثالثة ـ السنن التاريخية :

ويراد بتلك السنن أن ما جرى على الامم السابقة لابد وأن يجري على هذه الأمة أيضاًًً ، وقد حفلت كتب الصحاح الستة عند العامّة وغيرها

__________________

١ ـ سورة المائدة : ٥ / ١٠١.

٢ ـ إكمال الدين ٢ : ٤٨٣ / ٤ باب ٤٥ ، وكتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : ٢٩٢ / ٢٤٧ ، والخرائج والجرائح ٣ : ١١١٣ ، والاحتجاج ٢ : ٤٦٩ ، وإعلام الورى : ٤٥٢ فصل ٣ : كلهم في ذكر التوقيعات الواردة من جهته عليه‌السلام.

٣ ـ تأويل الآيات / الاسترآبادي ٢ : ٥٣٩ ـ ٥٤٠ / ١٣ في تأويل الآية ٣٤ من سورة فصّلت الشريفة.

١٦١

بأحاديث كثيرة في هذا المعنى لاحاجة لنا بها ، وأما في خصوص الإمام المهدي عليه‌السلام فقد مرّ أن سنناً من الأنبياء عليهم‌السلام في غيباتهم ، وهي لابد وأن تتحقق فيه عليه‌السلام.

ويدل على ماقلناه ، ما رواه سدير الصيرفي عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : « إنّ للقائم منا غيبة يطول أمدها ، قال : فقلت له : يا ابن رسول الله! ولم ذلك؟ قال : لأنّ الله عزّوجلّ أبى إلاّ أن تجري فيه سنن ألأنبياء : في غيباتهم ، وأنه لابد له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم ، قال الله تعالى : ( لتركبنّ طبقا عن طبق ) (١) أي : سنن من كان قبلكم » (٢). وأما عن سبب جريان تلك السنن في الإمام المهدي عليه‌السلام فعلمه عند الله عزّوجلّ.

العلة الرابعة ـ وهي علة خافية لم يؤذن بكشفها :

ويؤيد ذلك ما رواه عبد الله بن الفضل الهاشمي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : « إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابد منها ، يرتاب فيها كل مبطلٍ ، فقلت : ولم جعلت فداك؟ قال : لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم؟ قلت : فما وجه الحكمة في غيبته؟ قال : وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدمه من حجج الله تعالى ذكره ، إنّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلاّ بعد ظهوره ، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر عليه‌السلام من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار لموسى عليه‌السلام

__________________

١ ـ سورة الانشقاق : ٨٤ / ١٩.

٢ ـ علل الشرائع / الشيخ الصدوق ١ : ٢٤٥ / ٧ باب ١٧٩ باب علة الغيبة ، واكمال الدين ٢ : ٤٨٠ ـ ٤٨١ / ٦ باب ٤٤.

١٦٢

إلى وقت افتراقهما. يا ابن الفضل! إنّ هذا الأمر أمر من ( أمر ) الله تعالى ، وسرٌّ من سرّ الله ، وغيب من غيب الله ، ومتى علمنا أنه عزّوجلّ حكيم صدّقنا بمن أفعاله كلها حكمة ، وإن كان وجهها غير منكشف » (١).

لقد فرّق هذا الحديث بين علة الغيبة ، ووجه الحكمة في غيبة الإمام عليه‌السلام أما العلة ، فقد علّمها الله تعالى لأوليائه ، غير أنه عزّوجلّ لم يؤذن لهم في كشفها ، وبهذا يتبيّن اشتباه بعضم في جعل تلك العلة الخافية علينا من أسرار الله عزّوجلّ التي لم يطلع عليها أحداً من أوليائه عليهم‌السلام! والصحيح منه سبحانه استأثر بوجه الحكمة في غيبة الإمام ، ولم يستأثر بالعلة نفسها كما هو صريح هذا الحديث الشريف.

ثانياًً ـ أحاديث التمحيص والاختبار وبيان فلسفتها :

أحاديث التمحيص والاختبار :

تعدّ مسألة تمحيص الناس واختبارهم في زمان الإمام المهدي عليه‌السلام مسألة متواترة عن الإمام الصادق عليه‌السلام فحسب ، فقد رواها عنه أبان ابن تغلب ، وأبو بصير ، والربيع بن محمد المسلّي ، وزرارة ، وسدير الصيرفي ، وعبد الله بن الفضل الهاشمي ، وعبد الله بن يعفور ، وعبد الرحمن بن سيابة ، وفرات بن الأحنف ، والمفضّل بن عمر ، ومهزم بن أبي برده الأسدي ، وأخرجها محدثو الشيعة ، عن هؤلاء ، عن الإمام عليه‌السلام من طرق شتى فيما

__________________

١ ـ إكمال الدين ٢ : ٤٨١ ـ ٤٨٢ / ١١ باب ٤٤ ، وعلل الشرائع ١ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ / ٨ باب ١٧٩ باب علة الغيبة.

١٦٣

تتبعناه وسنكتفي ببعض منها ، كالآتي :

١ ـ عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام منه قال : « مع القائم عليه‌السلام من العرب شيء يسير ، فقيل له : إنّ من يصف هذا الأمر منهم لكثير! قال : لابد للناس من أن يمحّصوا ، ويميّزوا ، ويغربلوا ، وسيخرج من الغربال خلق كثير » (١).

والذي قال للإمام عليه‌السلام ذلك هو عبد الله بن يعفور كما هو صريح روايات اُخرى (٢).

٢ ـ وعن عبدالرحمن بن سيابة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « كيف أنتم إذا بقيتم بلا إمام هدى ولا علم ( يرى ) يتبرّأ بعضكم من بعض ، فعند ذلك تُميّزون وتُمحصّون وتُغربلون .. » (٣).

٣ ـ وعن مهزم بن أبي بردة الأسلمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « والله لَتُكسَّرنَّ تكسّر الزجاج وإنّ الزجاج ليعود فيعاد ، والله لَتُكسّرُنَّ تكسّر الفخار فإنّ الفخار ليتكسّر فلا يعود كما كان ، والله لَتُغَربُلنّ ، والله لتميّزن ، والله لتمحّصن ، حتى لايبقى منكم إلاّ الأقل ، وصعّر كفّه » (٤).

وأخرج الشيخ الطوسي عن الربيع بن محمد المسلّي ، عن الإمام

__________________

١ ـ كتاب الغيبة / النعماني : ٢٠٤ / ٦ باب ١٢.

٢ ـ كتاب الغيبة / النعماني ٢٠٤ ـ ٢٠٥ / ٧ من الباب السابق.

٣ ـ إكمال الدين ٢ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨ / ٣٦ باب ٣٣.

٤ ـ كتاب الغيبة / النعماني : ٢٠٧ / ١٣ باب ١٢.

١٦٤

الصادق عليه‌السلام ؛ نحوه (١).

٤ ـ وعن المفضّل بن عمر ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « أما والله ليغيبنّ إمامكم سنين من دهركم ، ولتمحّصن حتى يقال : مات أو هلك ، بإي وادٍ سلك ... » (٢).

فلسفة التمحيص والاختبار :

تكشف الأحاديث الاربعة المتقدمة وغيرها من الاحديث الأخرى الواردة في موضوعها عن التخطيط الالهي المقتضي لامتحان المسلمين واختبارهم في غيبة إمام الزمان عليه‌السلام ، لمن الغيبة لا سيّما إذا كانت طويلة وزائدة على عمر الإنسان الطبيعي بعشرات المرّات ، ستورث الشكّ في النفوس الضعيفة في بقاء صاحب الغيبة حيّاً طوال تلك الفترة ، وقد يؤول هذا الشكّ إلى الطعن باستمرار وجوده الشريف!

والمراد بالتمحيص : التفية بأخذ الشيء الحيد وابعاد الشيء الردي.

وبالتمييز : التفرقة بين شيئين بموجب خصائص معينة ، والمراد هنا معرفة الناس على حقيقتها بالاختبار.

وبالغربلة : نخل الشيء بالغربال.

وفي حديث الإمام الباقر عليه‌السلام : « والله لتميّزنّ ، والله لتمحّصنّ ، والله

__________________

١ ـ كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : ٣٤٠ / ٢٨٩.

٢ ـ كتاب الغيبة / النعماني ٢٠٤ / ٦ من الباب السابق.

١٦٥

لتغربلنّ كما يغربل الزوان من القمح » (١).

والزوان : حبوب صغيرة تختلط بالحنطة وتكون على شكلها ولكنها ليست منها ، فانظر إلى دقة التمثيل وروعته ، فكما تخرج الزوان عن القمح بالغربال فكذلك يخرج ضعفاء الإيمان بقانون التمحيص ، وغربالهم ليس إلاّ الظروف الصعبة التي يمر بها الإنسان في حياته ، وما تحيط بتلك الحياة من مصالح ضيقة وشهوات ومغريات.

وقول الإمام الصادق عليه‌السلام : « وسيخرج من الغربال خلق كثير » ليس اعتباطاً إذن ، وإنّما هو يحكي عن حقيقة ثابتة نطق بها القرآن الكريم بذم الكثرة ومدح القلة في كثير من الآيات البينات : ( وكثير منهم فاسقون ) (٢) ( وما آمن معه إلاّ قليل ) (٣).

وكل هذا يشير إلى أن أكثر البشر يتبعون الباطل ، وينحرفون مع الشهوات ، ويندفعون تجاه مصاليهم ، حتى ليكونوا عونا للظالمين ، ويدا لهم ، وفي مقابل هذا تبقى في نتيجة الامتحان والتمييز والتمحيص الطويل ثلة لا يضرها من ناوأها حتى يقاتل آخرها الدجال ؛ لأنهم يمثلون الحق صرفاً الذي لا باطل معه أصلاً.

ونظرة واحدة إلى القرآن الكريم تكشف آن قانون التمحيص الالهي لم

__________________

١ ـ كتاب الغيبة / النعماني : ٢٠٥ / ٨ من الباب السابق.

٢ ـ سورة الحديد : ٥٧ / ١٦.

٣ ـ سورة هود : ١١ / ٤٠.

١٦٦

يختص بفئة أو اُمّة من الناس ، بل هو قانون عام للبشريّة في جميع مراحل تاريخها ، ويدلنا على ذلك :

قوله تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتّى يميز الخبيث من الطّيّب ) (١).

وقوله تعالى : ( ليميز الله الخبيث من الطيّب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فير كمه جميعاً فيجعله في جهنّم أولئك هم الخاسرون ) (٢).

وقوله تعالى : ( وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصّابرين ) (٣).

ومن غير شك أن قانون التمحيص لابد وأن يكون أشد وآكد إذا ما اقترن أمره باعداد النخبة الصالحة التي ينبغي أن تعيش الاستعداد الكامل لنصرة الاحق وأهله من خلال انتظارها لدولة الحق المرتقبة على بد المنقذ العظيم الإمام المهدي عليه‌السلام.

لقد أراد الله عزّوجلّ أن يكون التمحيص في الغيبة الكبرى لإمام العصر والزمان عظيماً ؛ ليتضح من خلاله ما إذا كانت تصرفات الانسان وأقواله منسجمة مع الدين أو لا. ولا شكّ أن من يعبرالاختبار الصعب

____________

١ ـ سورة آل عمران : ٣ / ١٧٩.

٢ ـ سورة الانفال : ٨ / ٣٧.

٣ ـ سورة آل عمران : ٣ : ١٤١ ـ ١٤٢.

١٦٧

سوف لن يهمل وظيفته الاجتماعية الكبرى : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باعتبارهما من أبرز وظائف عصر الانتظار المتقوم بالإيمان ، والتضحية ، والصمود.

ولا يخفى بأن الغرض من أحاديث التمحيص والاختبار كلها إنّما هو يصبّ في خدمة أجيال الغيبة ؛ لكي ينتبهوا من غفلتهم ويلحظوا ما ينبغي ملاحظته من أمور :

كعدم الاغترار بلمع السراب من كلام المشعوذين الكاذبين.

ومعرفة مكائد السفهاء وأعداء الحق ، من الذين في قلوبهم مرض والمفتونين.

والتعوّذ من زخارف إبليس وأشياعه في كل زمان ومكان.

والتمسّك بالثقلين : كتاب الله والعترة الطاهرة عليهم‌السلام.

وعدم استطالة المدى في غيبة المولى عليه‌السلام ؛ لمن الظهور الشريف آت لا محالة ومثلة مثل الساعة : ( لا يُجلّيها لوقتها إلاّ هو ثقلت في السّموات والأرض لا تاتيكم إلاّ بغتةً ) (١).

والتدرّع بالصبر على النتظار الحبيب صاحب الطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة.

وارتفابه ببصيرة لا حيرة فيها ، ويقيناً لا شكّ معه.

__________________

١ ـ سورة الاعراف : ٧ / ١٨٧.

١٦٨

والاعتقاد الحازم بأن الله تعالى سيصلح له أمره في ليلة واحدة وحينئذٍ سيقبل كالشهاب الثاقب.

١٦٩

الباب الثالث

دور الإمام الصادق عليه‌السلام في رد الشبهات

المثارة حول الغيبة والغائب

الفصل الأول :

شبهة الكيسانية بمهدوية محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه

الفصل الثاني :

شبهة مهدوية عمر بن عبدالعزيز الاموي المرواني

الفصل الثالث :

شبهة مهدوية محمد بن عبد الله الحسيني

الفصل الرابع :

دعوى مهدوية المهدي العباسي

الفصل الخامس :

موقف الإمام الصادق عليه‌السلام من المهدويات الأخرى

الفصل السادس :

دور الإمام الصادق عليه‌السلام في رد الشبهات الأخرى

١٧٠
١٧١

تمهيد :

على الرغم من كثرة الكتب المؤلّفة في غيبة الإمام المهدي عليه‌السلام قبل حصولها ، وكثرة الأحاديث الواردة في بيان هوية الإمام المهدي ، وغيبته ، وطول عمره الشريف قبل ولادته بعشرات السنين ، وانتشار العقيدة المهدوية في الوسط الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى ـ انتشاراً واسعاً ... على الرغم من كل ذلك بقي علم الكلام الإسلامي في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام بكل اتجاهاته خالياً تماماًً من اية إثارة بخصوص الإمام المهدي عليه‌السلام ، هذا في الوقت الذي تناول فيه شتى المباحث الكلامية في التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة ، والمعاد ، وغيرها.

والسرّ في ذلك .. أنه لم تكن هناك ثمة شبهات كيبرة تذكر في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام بشأن الغيبة والغائب ، خصوصاًً وإن الإمام المهدي عليه‌السلام لم يكن مولودا في ذلك الحين ولم تبتل الأمة بغيبته الطويلة التي صارت فيما بعد مثاراً اللجدل. هذا إذا ما استثنينا بعض المحأولاًًت المنحرفة التي كانت تستهدف استغلال عقيدة الأمة بمهديها فادّعت المهدوية زوراً وبطلاناً ، وتصدّى لها إلإمام الصادق عليه‌السلام بكل قوّة حتى قبرت وهي في مهدها.

١٧٢

ويبدو أن متكلمي المعتزلة والزيدية وغيرهم من خصوم الإمامية الذين ماتوا قبل ولادة الإمام المهدي عليه‌السلام كانوا في حرج شديد إزاء أخبار الإمام الصادق عليه‌السلام وأهل البيت عليهم‌السلام كافة بخصوص ولدهم المهدي عليه‌السلام ، إذ شكلت بمجموعها تحدّياً صارخاً لهم ، ولم يجدوا وسيلة في رد أخبار أهل البيت عليهم‌السلام تلك حتى وإن لم يعتقدوا بإمامتهم ، إذ تكفيهم بذلك سائر موجبات قبول الخبر من الوثاقة والضبط والصدق والحفظ والحريجة في الدين ، سيما وإن تلك الأخبار أنبأت عن مستقبل قد يكون بعيداً على أولئك المتكلمين ، وبالتالى هم ليسوا من أهله (١) ، ولهذا نراهم قد خفّفوا من غلوائهم تجاه هذه المسألة ، واهملوها تماماًً ، ولم يتصدّ أحد منهم قط إلى تكذيب أخبارها على الرغم من كونها بين أيديهم ، وكأنهم ـ بهذا ـ قد تحفّظوا على أنفسهم فلم يرموا بها شططاً في كل اتجاه.

وما إن انقضى عصر أُولئك المتكلمين إلاّ وقد اصطدم خَلَفَهُم بالواقع ، خصوصاًً وقد شاهدوا رجوع القواعد الشيعية برمّتها ـ في كل صغيرة

__________________

١ ـ بحث المتكلمون في مسائل كثيرة لم يكونوا من أهلها في ذلك الحين ، وكانت تمسّ مستقبل الانسان ومصيره في الصميم ، كما هو الحال في بحثهم مسألة البرزخ ، والصراط ، والميزان ... ونحوها كثير.

والامر هنا مختلف تماماً ، إذ لا يقبل جدلاً ولا تأويلاً ، فالإخبار عن شخص بذكر اسمه ونسبه وحسبه وكنيته ولقبه وسيرته وحليته وأخلاقه وأوصافه بأنه هو المهدي الموعود به في آخر الزمان ، لا يدع مجالاً للمتكلمين في تأويل ذلك أو صرفه عن مدلّو له ، اللهمّ إلاّ أن يضطرّهم اعتقادهم الفاسد إلى تكذيب مثل هذا الإخبار ، وهو ما لم يحصل من المتكلمين في زمان الإمام الصادق عليه‌السلام.

١٧٣

وكبيرة ـ إلى سفراء الإمام المهدي عليه‌السلام ووكلائه المنبثّين في طول بلاد الإسلام وعرضها.

ومن هنا لم يشأ بعضهم ترك الحبل على غاربه ، فحاول عبثاً إثارة بعض الشبهات والاشكالات ، حتى اضطرّ أخيراً إلى تكذيب تلك الأخبار التي كانت مدونة في عهد أسلافهم الذين عجزوا من تكذيبها.

وما إن دخلت العقيدة المهدوية في علم الكلام وأخذت حيزها الواسع فيه ، وذلك بعد تحقّقها على أرض الواقع بولادة الإمام المهدي عليه‌السلام وغيبته سنة / ٢٦٠ هـ ، إلاّ وقد تصدّى طلائع المتكلمين من الإمامية في عصر الغيبة الصغرى كابن قبة الرازي والنوبختيين وغيرهم إلى بيان زيف تلك الشبهات وأذاقوها ألواناً من مرارة التفنيد ، كما نجده في كثير من نقولات الشيخ الصدوق عن أولئك المتكلمين في رد شبهات الزيدية والمعتزلة وغيرهم في هذا الخصوص (١).

والطريف في تلك الشبهات أنها كانت تعتمد على أشياء قد سبق وإن تعرّض لها الإمام الصادق عليه‌السلام ، نظير تمسّكهم بدعاوى المهدوية ، وطول عمر الإمام المهدي عليه‌السلام ، والفائدة من غيبته ، ونحو هذا من الأمور التي لم تزل تثار إلى وقتنا هذا .. بما يمكن معه القول بأن سائر الاشكالات التي يثيرها بعض الكتّاب لم تكن جديدة أصلاً ؛ إذ مضى عليها أكثر من ألف عام بل حتى أجوبتها ليست جديدة هي الأخرى وعمر معظمها أطول

__________________

١ ـ راجع : ما كتبه الشيخ الصدوق في مقدمة كتابه إكمال الدين وإتمام النعمة ، ستجد فيها ردّاً واسعاً على شبهات الزيدية والمعتزلة وغيرهم في العقيدة المهدوية.

١٧٤

من عمر الإمام المهدي عليه‌السلام ، كما سنرى بعد قليل.

ومن هنا يتبين لنا وبكل وضوح أن دور الإمام الصادق عليه‌السلام في صيانة الفكر المهدوي الأصيل كان دوراًً سابقاًً لزمانه بقرون عديدة ، إلاّ ما كان بصدد رد بعض دعاوى المهدوية المعاصرة له عليه‌السلام ، إذ كان عليه‌السلام يتعمّد إلى إثارة ما يمكن أن يقال عاجلاًً أو آجلاًً ثم يتعرّض ـ بذات الوقت ـ إلى الإجابة الشافية المختصرة.

وكثيراً ما يكون في حديثه عليه‌السلام جواب لشبهة مقدرة من دون إثارة صريحة لها ، وربّما قد يكون الجواب ـ أحياناًً ـ ردّا على سؤال في هوية الإمام المنتظر ، أو ولادته ، أو غيبته ، ونحو ذلك من أمور أخرى ، صارت أجاباتها ردوداً لما أُثير بعد ذلك من شبهات.

وفي ما يلي دراسة لأهم الشبهات المثارة حول العقيدة المهدوية ، وموقف الإمام الصادق عليه‌السلام منها وذلك في فصول.

١٧٥

الفصل الأول

شبهة الكيسانية بمهدوية محمد بن الحنفية رضي الله عنه

أولاًًً ـ أسباب ظاهرة ادّعاء الهدوية في التاريخ :

تمثّل ظاهرة ادّعاء المهدوية في التاريخ الإسلامي عنصر الفساد والانحراف الذي يقف دائماًً ـ وباسم الدين ـ في الصفّ المناوئ للأهداف الكبرى في الشريعة ، وذلك باستغلال إيمان الأمة بالإمام المهدي عليه‌السلام الذي بشّر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل تخطى مضمونه سائر الحدود المطلوبة في تحقّق التواتر وعلى جميع الأصول المحرّرة في معرفته.

وقد يسأل بعضهم فيقول : كيف استطاعت إذن أن تشقّ تلك الظواهر طريقها في المجتمع الإسلامي وبهذا الوقت المبكّر من تاريخه؟ والجواب منوط بمعرفة الاسباب المؤدّية الى استغلال الدين باسمه وعلى اكثر من صعيد ، ويأتي في طليعتها :

١ ـ عدم تحصّن الأمة بالثقلين « كتاب الله والعترة الطاهرة عليهم‌السلام » كما ينبغي.

٢ ـ ضعف الوازع الديني عند أدعياء المهدوية على مرّ التاريخ ، مما

١٧٦

هوّن عليهم ذلك ارتكاب مثل هذاالأمر الخطير.

٣ ـ تشر ذم الأمة إلى فئات متناحرة ومحاولة كل منها كسب الأنصار والمؤيدين بشتى الطرق الملتوية ، من بذل المال ، أو الالتفاف على الدين.

٤ ـ قلّة الثقافة المهدوية في نفوس بعض القواعد الشعبية التي روّجت لمهدوية هذا الشخص أو ذاك ، كما نجده عند الكيسانية في إشاعتهم مهدوية محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه.

٥ ـ الافتتان ببعض الشخصيات ، ومحاولة رفعها فوق قدرها واعطائها من الألقاب والصفات ما لا تستحق ، كما هو الحال في وصف عمر بن عبدالعزيز الاموي المرواني بـ ( المهدي ) مثلاًً.

ومما زاد الطين بلّة : ثقافة الاستبداد السياسي التي ورثتها الأمة وتربّت عليها بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، فهي في الوقت الذي تجاهلت فيه مبدأ النصّ والتعيين ، لم تراع حرية الاختيار واختفت الشورى تماماًً بحيث لم تتحقّق ولو مرّة واحدة ـ سهواًً أو اشتباهاًً ـ في حياتها ، ثم تطور الامر سوءاً حتى اُبيح للسلطان أن يتّخذ الدين مطيّه لتحقيق مآربه واهدافه السياسية ، ولو بعبور الخطوط الحمراء في الشريعة واستغلالها لصالحه كما هو الحال في الدولتين الاموية والعباسية ، وخير مثال على ما نحن فيه محاولة التفاف أبي جعفر الدوانيقي عبد الله المنصور ( الخليفة ) العباسي ( ١٣٦ ـ ١٥٨ هـ ) على العقيدة المهدوية ، وانتزاعها من محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى ( المهدي الحسني ) الذي ادعاها بدوره! طمعاًً بالسلطة ، فأطاح المنصور العباسي بثورته وقتله وأخاه إبراهيم ( سنة / ١٤٥ هـ ) ، ثم أقدم ( سنة / ١٤٧ هـ ) على تعيين ابنه محمد ( ١٥٩ ـ

١٧٧

١٦٩ هـ ) وليّا للعهد ولقبّه بالمهدي! (١) ، وغيرها من الاسباب الاخرى التي أفضت بطبيعتها إلى ولادة خط الانحراف العقائدي وتمكين ظواهري السلبية في المجتمع ، في حين صمد الخط الملتزم بمبادئه الاسلامية الثابتة ، وتصدت قيادته الواعية إلى كل انحراف ؛ لتصون العقيدة المهدوية من العابثين والطامعين ، كما نجد ذلك واضحاً في موقف الإمام الصادق عليه‌السلام من أولى تلك الدعاوى المزعومة والشبهات الفاسدة التي ظهرت في مقولة الكيسانية فنقول :

ثانياًً ـ براءة ابن الحنفية رضي‌الله‌عنه من القول بمهدويته :

مات السيد محمد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام المعروف بمحمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه سنة ( ٧٣ /هـ ) وقيل غيرها (٢) ، وهو لا يعرف عن دعوى الكيسانية في إمامته ومهدويته وغيبته شيئاً يذكر ، حيث روّجت الكيسانية له ذلك جهلاً ـ بعد وفاته ـ ؛ تأثّراً بسموّ أخلاقه ونبله وعلمه ، زيادة على كونه أخاً للسبطين وابناً لامير المؤمنين عليهم‌السلام ، مع عناد بعضهم على القول بإمامته ومهدويته وغيبته حتى بعد وفاته ودفنه!

وكان محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه قد سمع بعضهم وهم يسلّمون عليه بالمهدوية ، ولكنه لم يحمل تحيتهم على معنى مهدي آخر الزمان عليه‌السلام بل على كونه من جملة العباد الصالحين الذين يهدون إلى الحق وبه يعملون ، وقد

__________________

١ ـ راجع : تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢١٠.

٢ ـ اختلفت الروايات في وفاة السيد محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه ما بين سنة ( ٧٣ و ٨٠ و ٨١ و ٨٢ و ٩٢ و ٩٣ /هـ ) راجع : تهذيب الكمال / المزي ٢٦ : ١٥٢ / ٥٤٨٤.

١٧٨

نبّههم على ذلك في وقته.

ويدلّ عليه ما أخرجه ابن سعد في طبقاته بسنده عن أبي حمزة قال : « كانوا يسلّمون على محمد بن علي : سلام عليك يا مهدي. فقال : أجل ، أنا مهدي اهدي إلى الرشد والخير ، ولكن اسمي اسم نبي الله ، وكنيتي كنية نبي الله ، فإذا سلّم أحدكم فليقل : سلام عليك يا محمد ، أو السّلام عليك يا أبا القاسم » (١).

ولم أجد في جميع المصادر أكثر صراحة من هذه الرواية في الدلالة على وصفه بالمهدوية في حياته. في حين انّها لاتدلّ على إرادة المهدي الموعود به في آخر الزمان ، كما لا تدلّ على رضاه ، ولا تبنيه ذلك كما يظهر من كلامه المتقدم.

ثالثاًً ـ اعتراف ابن الحنفية بإمامة السجاد عليه‌السلام ، ونفي الإمامة عن نفسه :

كان السيد محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه عالماًً بإمام زمانه ، ولم يدّع الإمامة ولا المهدوية لنفسه ، كما لم يقبل بمقولة من ادعاها له من أصحابه ؛ ولهذا أمر بالسّلام عليه ـ كما مرّ ـ إمّا باسمه ، أو بكنيته.

ويدلّ على ما ذكرناه ما جاء عن أبي بصير قال : « سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كان أبو خالد الكابلي يخدم محمد بن الحنيفة دهراً ، وما كان يشكّ في منه إمام ، حتى أتاه ذات يوم فقال له : جعلت فداك ، إنّ لي حرمة

__________________

١ ـ الطبقات الكبرى / ابن سعد ٥ : ٩٤ في ترجمة محمد بن الحنفية ، وتاريخ دمشق / ابن عساكر ٥٤ : ٣٤٧ / ٦٧٩٧ ، وتاريخ الإسلام / الذهبي ٦ : ١٨٨ / ١٣٨ في وفيات سنة ( ٨١ ـ ١٠٠ / هـ ) ، وسير أعلام النبلاء / الذهبي ٤ : ١٢٣ / ٣٦ في ترجمة محمد بن الحنفية.

١٧٩

وموّدة وانقطاها فأسألك بحرمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام إلاّ أخبرتني : منت الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟ قال ، فقال : يا أبا خالد حلّفتني بالعظيم. الإمام عَلَىَ بن الحسين عليه‌السلام عليّ وعليك وعلى كل مسلم ، فأقبل أبو خالد لمّا أن سمع ما قاله محمد بن الحنفية ، جاء إلى على بن الحسين عليه‌السلام فلمّا استأذن عليه ، فأخبر أن أبا خالد بالباب ، فأذن له فلمّا دخل عليه ، دنا منه ، قال : مرحباًً بك يا كنكر! ما كنت لنا بزائر ، ما بدا لك فينا؟ فخرّ أبو خالد ساجداً شكراً لله تعالى مما سمع من علي بن الحسين عليهما‌السلام ، فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي ، فقال له على بن الحسين عليهما‌السلام : وكيف عرفت إمامك يا أبا خالد؟ قال : إنّك دعوتني باسمي الذي سمتني أمي التي ولدتني ، وقد كنت في عمياء من أمري ولقد ، خدمت محمد بن الحنفية دهراً من عمري ولا أشكّ إلاّ وأنه إمام! حتى إذا كان قريباً سألته بحرمة الله تعالى ، وبحرمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبحرمة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأرشدني إليك ، وقال : هو الإمام عليّ ، وعليك ، على خلق الله كلهم .. » (١).

فكيف يدّعي الكيسانية إذن امامته ومهدويته وغيبته ، وهذه هي أقواله رضي‌الله‌عنه؟

رابعاًً ـ من روّج له المهدوية والإمامة بعد وفاته :

ظهر القول بإمامة ومهدوية وغيبة ابن الحنفية رضي‌الله‌عنه بعد وفاته على يد الكيسانية التي زعمت باطلا بكل هذه الاقاويل التي ما أنزل الله بها من

__________________

١ ـ رجال الكشي : ١٢٠ ـ ١٢١ / ١٩٢ في ترجمة أبي خالد الكابلي.

١٨٠