لأن طبيعة تأليف هذا الكتاب تأبى أن يكون له نظير يحاكيه ، لا من لغته ولا من غير لغته ، وذلك هو معنى إعجاز البلاغى ومن أراد أن يتصور هذا اللون من ألوان إعجازه فلينتقل هو إلى هذا الكتاب ولغته ، فيتذوقه بها وبأساليبها ومن المحال أن ينتقل هذا الكتاب العزيز ، تاركا عرشه الذى بوأه الله إياه وهو عرش اللغة العربية. وما ذا يبقى للملك من عزة وسلطان إذا هو تخلى عن عرشه وملكه؟ وهذا القرآن جعله الله ملك الكلام ، وتوّجه بتاج الإعجاز ، واختار لغته العربية مظهرا لهذا الإعجاز والاعتزاز! (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
فوائد الترجمة بهذا المعنى
لترجمة القرآن بهذا المعنى فوائد كنا فى غنى عن بيانها ، بما أشرنا إليه من أنها كالتفسير العربى الذى اتفق الجميع على جوازه بشرطه. ولكن بعض الباحثين توقفوا فى جواز هذه الترجمة كما توقفوا فى جواز الترجمة بالمعنى الآتى مع بعد ما بينهما ؛ ثم تذرعوا بأنه لا فائدة ترجى منها ، وأثاروا شبهات حولها. لهذا نبسط القول ببيان فوائد هذه الترجمة ، ثم بدفع الشبهات عنها. أما فوائدها فنشرحها فيما يأتى :
(الفائدة الأولى) : رفع النقاب عن جمال القرآن ومحاسنه لمن لم يستطع أن يراها بمنظار اللغة العربية من المسلمين الأعاجم ، وتيسير فهمه عليهم بهذا النوع من الترجمة ، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، ويعظم تقديرهم للقرآن ، ويشتد شوقهم إليه ، فيهتدوا بهديه ، ويغترفوا من بحره ، ويستمتعوا بما حواه من نبل فى المقاصد ، وقوة فى الدلائل ، وسمو فى التعاليم ، ووضوح وعمق فى العقائد ، وطهر ورشد فى العبادات ، ودفع قوى إلى مكارم الأخلاق ، وردع زاجر عن الرذائل والآثام ، وإصلاح معجز للفرد وللمجموع ، واختيار موفق لأحسن القصص ، وإخبار عن كثير من أنباء الغيب ، وكشف عن معجزات
(٣ ـ مناهل العرفان ـ ٢)