نفوسهم إليه وعزمهم على تنفيذه. وفى ذلك ما فيه من ترويضهم على الطاعة ، وتعويدهم الامتثال ، وإثابتهم على حسن نياتهم وكأن المأمور به فى هذه الصورة هو المقدمات التى تسبق الفعل لا نفس الفعل ؛ بدليل نسخ الفعل قبل التمكن من امتثاله ، لكنهم أمروا بالفعل نفسه ، لأن عزمهم عليه والإتيان بمقدماته لا يتأتى إلا بالأمر على هذه الصورة فتأمل.
الشبهة الرابعة ودفعها :
يقولون : إن استدلالكم بقصة إبراهيم وولده الذبيح ، استدلال لا يسلم من جملة مؤاخذات.
(أولها) أن رؤيا إبراهيم ما هى إلا رؤيا رآها. فخيل إليه أنه مأمور بالذبح والحقيقة أنه لم يؤمر به.
والجواب أن رؤيا الأنبياء وحى حق ، لا باطل فيه ولا تخييل. والوحى يصيبهم ضرورى فى الموحى إليه بأن ما أوحى إليه حق. والأنبياء لا يتمثل لهم الشيطان ، ولا سلطان له عليهم لا فى اليقظة ولا فى المنام.
ومن ذا الذى يهمل عقله ، ويسفه نفسه ، فيصدق أن شيخا كبيرا فى جلالة إبراهيم خليل الرحمن يتأثر بخيال فاسد ، ويصدر عن وهم كاذب ، فى أن يقدم على أكبر الكبائر وهو قتل ولده ، وذبح وحيده وفلذة كبده ، بعد أن بشره مولاه بأنه غلام حليم ، ورزقه إياه على شيخوخة وهرم ، وحقق فيه ما بشره به فشب الوليد وترعرع ، حتى بلغ مع أبيه السعى فكان إبراهيم يراه وهو يسعى معه ، فيملأ عينه نورا ، وقلبه بهجة وحبورا.
(ثانيا) قالوا : إن إبراهيم على فرض كون رؤياه حقا ، لم يك مأمورا بذبح ولده ، إنما كان مأمورا بالعزم على الذبح فحسب ، امتحانا له بالصبر على هذا العزم. ولا ريب أن إبراهيم بمحاولته التى حاولها وصورها القرآن ، قد عزم وأدى ما وجب عليه ، فلا نسخ.