السيّدة سكينة

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم

السيّدة سكينة

المؤلف:

السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ١
الصفحات: ١٥٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وشاهدت أولئك المناجيد مضرجين بالدماء مقطعين الأوصال وبينهم علة الكائنات ومدار الموجودات أبو عبد الله « الحسين » (ع) : وقد مثلوا فيه بكل مثلة .

ووجهوا نحوه في الحرب أربعة

السهم والسيف والخطيّ والحجرا

فقابلت تلكم الفوادح برباطة جأش وهدوء بال ، ولولا انخراطها في الاستغراق مع الله تعالى وتفانيها في الطاعة له كما أخبر أبوها الحجة (ع) بقوله : « الغالب عليها الاستغراق مع الله » لانهدّت قواها وساخ صبرها وتبلبل فكرها وفقدت مشاعرها ، ولكنها بالرغم من ذلك لم يرعها ذل الأسر ولا شماتة العدو وتراكم الرزايا وأنين الأطفال وبكاء الفواقد فلم يصدر عنها ما لا يتفق مع الخضوع للاصلح المرضي لله تعالى .

ولو كان « أبي الضيم » يعلم بضعف عزمها وتفكك صبرها لما رافقها إلى محل تضحيته لئلا يتسبب من تلكم الأهوال الوقوع في خطر عظيم .

إن ذلك المشهد الدامي الذي لم يمر على نبي أو وصي وقابله شهيد الدين بصبر تعجبت منه ملائكة السموات كما في نص زيارته ترك الجفون قرحى والعيون عبرى والقلوب حرى إلى يوم الانقضاء على حد تعبير الإمام أبي الحسن الرضي (ع) (١) ويقول رسول الله (ص) إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً (٢) ، والسيدة سكينة أبصرت كل ما جرى في ذلك اليوم وسمعت صرخة أبيها المظلوم واستغاثته ، وشاهدت حرائر النبوة ومخدرات الإمامة

____________________

(١) أمالي الصدوق ص ٧٦ مجلس ٢٧ .

(٢) مستدرك الوسائل ج ص ٢١٧ .

٨١
 &

يتراكضن في تلك البيداء المقفرة حين شبت النار في مضاربهم ولا محامي يلذن به إلا زين العابدين وقد انهكته العلة .

فلو أن أيوباً رأى بعض ما رأى

لقال بلى هذا العظيمة بلواه

فلم يتضعضع صبرها ولا وهي تسليمها للقضاء الجاري ولم يتحدث المؤرخون عما ينافي ثباتها على الخطوب في الكوفة والشام مع ما لاقته من شماتة ابن مرجانة وابن ميسون ونكته بالعود رأس الحسين ، وأهل المجلس يشاهدون الأنوار تتصاعد من أسارير جبهته والروائح العطرة تفوح منه وهو يرمق حرمه بعينيه ، ولما أمر يزيد بقتل رسول ملك الروم لأنه أنكر عليه فعلته نطق الرأس المقدس بصوت جهوري ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) (١) .

فأخذت الناس الحيرة وراح الرجل يحدث جليسه بالضلال الذي عمهم ، وتحدثت أندية الشام بهذا الحادث الذي لم يسمع بمثله قبل يوم الحسين ، ولما رجعت السيدة الطاهرة سكينة إلى المدينة أقامت في بيت أبيها أبي عبد الله مع نساء قومها لابسات السواد يبكين الحسين والبهاليل من آل عبد المطلب وزين العابدين يعمل لهن الطعام (٢) .

ويحدثنا أبو عبد الله الصادق (ع) عن حزن الفاطميات بقوله : ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت ولا رئي الدخان في بيت هاشمي خمس حجج إلى أن قتل عبيد الله بن زياد (٣) .

____________________

(١) مقتل الحسين أو حديث كربلاء ص ١٥ الطبعة الثانية ، وفيه ص ٤٠١ ذكرنا أسرار كلام الرأس المقدس .

(٢) المحاسن للبرقي المتوفي سنة ٢٧٤ ج ٢ ، ص ٤٢٠ .

(٣) البحار للمجلسي المتوفي سنة ١١١٠ ج ١٠ ص ٢٩٣ طبع الكبيني إيران .

٨٢
 &

عاشت السيدة سكينة في بيت أخيها السجاد (ع) الذي لم يزل ليله ونهاره باكي العين على سيد شباب أهل الجنة ، وكان جوابه لمن يطلب منه التخفيف لئلا تذهب عيناه : إني ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا تذكرت فرارهن من خيمة إلى خيمة وكان هذا دأبه في البكاء على « قتيل العبرة » إلى أن استشهد صلوات الله عليه سنة ٩٥ ، وإذا كان عميد البيت لا يفتر عن النياحة مدة حياته فما ظنك بمن حواه البيت من النساء ومن شأنهن الرقة والجزع ، والسيدة سكينة تأوي هذا البيت المفعم بالحزن والشجاء وفي مسامعها نشيج أخيها الحجة وتبصر تساقط دموعه على خديه فتشاركه في الزفرة وتجاوبه بالعبرة ولا تبارح فاكرتها الهياكل المضرجة بالدماء وقد شاهدتهم صرعى مقطعين الأوصال .

قد غير الطعن منهم كل جارحة

إلا المكارم في أمن من الغير

فهل تبقى لها لفتة إلى لوازم الحياة فضلاً عن عقد مجالس الأنس والفرح بلى كانت السيدة العفيفة مدة حياة أخيها الإمام وبعده باكية نادبة على أبيها المظلوم الممنوع من الورود وأبو عبد الله حياة الكون وري الوجود ( والماء يصدر عنه الوحش ريانا ) .

ولكن آل الزبير تحدثوا وافتعلوا وأكثروا ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) (١) .

____________________

(١) سورة الزخرف ، الآية ٨٣ .

٨٣
 &

السيّدة سكينة السيّد عبد الرزّاق المقرّم

٨٤
 &

الغناء تحت الحكم

لا ريب في حرمة الغناء في الشريعة الإسلامية وهو الصوت المشتمل على الترجيع والطرب سواء انظمت إليه آلاته أو كان مجرد الصوت المهيج ، ولا فرق بين أن يقع بالشعر أو غيره وكما يحرم فعله يحرم استماعه وقد دل على حرمته الذاتية وإن لم يقترن بمحرم الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وفي الكتاب آيات ثلاث فسرتها السنة بذم الغناء وحرمته وتبكيت فاعله ففي الحج / ٣٠ ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) وفي لقمان / ٦ ( مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ) وفي الفرقان / ٧٢ ( وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) واتفقت تفاسير الشيعة الحاكية قول أبي عبد الله الصادق (ع) على أن المراد من الزور ولهو الحديث هو الغناء ولم يتباعد عنه المفسرون من أهل السنة ففي تفسير الآلوسي روح المعاني ج ١٩ ص ٥١ وج ٢١ ص ٦٧ ، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٣٢٨ ، وتفسير الخازن ج ٥ ص ٩١ ، وأسباب النزول للواحدي ص ٢٦٠ أن لهو الحديث والزور هو الغناء ، وقال الآلوسي : لهو الحديث ذم للغناء بأعلى صوت .

وأما السنة ففي مفتاح الكرامة في المكاسب المحرمة عند ذكر حرمة الغناء قال : وردت خمسة وعشرون رواية صحيحة ، وفي الجواهر أنها متواترة عن السجاد والباقر والصادق (ع) دالة على حرمة الغناء مطلقاً ،

٨٥
 &

وإن لم يقترن بمحرم ولفظها : الغناء عش النفاق ، ومن الكبائر والبيت الذي يغني فيه لا يؤمن من الفجيعة ولا يجاب فيه الدعاء ولا يدخله الملك ، ولا ينظر الله بالرحمة إلى من اجتمع في مجلس الغناء ، وينزع الله الحياء عن المغني فلا يبالي بمقاربة أهله الرجال ، والمستمع للغناء شريك مع المغني في الإثم ، والمغنية ملعونة وكسبها حرام .

وبمثله وردت أحاديث أهل السنة المروية في مسند أحمد ج ٥ ص ٢٦٤ وص ٢٦٨ ، وفي كنز العمال ج ٧ ص ٣٣٧ .

ويتحدث الكليني في الكافي باب الغناء أن رجلاً قال لأبي عبد الله الصادق إني أدخل الكنيف ولي جيران عندهم جوار يتغنين ويضربن بالدف فربما أطلت الجلوس لاستماعهن فقال : لا تفعل ، قال الرجل : إنما هو سماع بأذني ، قال أبو عبد الله (ع) : أما سمعت قول الله عز وجل : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) (١) قال : بلى ، قال : استغفر الله وأغتسل وصل ما بدا لك لأنك كنت على أمر عظيم ما أسوأ حالك لو مت على هذا فاسأل الله التوبة من كل ما يكره فإنه لا يكره إلا كل قبيح والقبيح دعه لأهله فإن لكل شيء أهلاً ، ومن هنا أجمع الإمامية على حرمته كما في الحدائق ، والمستند ، وفي الجواهر أنها من ضروريات المذهب .

وأما فقهاء السنة فحكى الآلوسي تضافر الآثار وكلمات كثير من العلماء على حرمة الغناء لا في مقام دون مقام وعن التتارخانية حرمته في جميع الأديان ، وحكى عن أبي حنيفة حرمته ، ونقل صاحب الذخيرة تحريمه عن جمع من الحنابلة (٢) ، وقال شيخ الإسلام

____________________

(١) سورة الإسراء ، الآية ٣٦ .

(٢) روح المعاني ج ٢١ ص ٦٧ .

٨٦
 &

المرغيناني ، الحنفي نهى رسول الله عن الصوتين الأحمقين النائحة والمغنية ولا تقبل شهادة المغنية (١) ، وقال الكاساني الحنفي : مجرد الغناء واستماعه معصية والتغنية صفة محظورة لكونها لهواً وشرطها يوجب فساد البيع ، والغناء في الجواري عيب (٢) ، وحكى ابن تيمية عن ابن المنذر أنه نقل الاتفاق على حرمة الغناء مطلقاً وإبطال إجارة المغنية (٣) ، وقال ابن مفلح الحنبلي حرم جماعة الغناء ، وحكى القاضي عياض الاجماع على كفر مستحله (٤) ، وقال ابن قدامة الحنبلي حرمه بعض الحنابلة ، وقال أحمد : إنه ينبت النفاق فلا يعجبني (٥) ، واختار الشيخ أحمد الرملي حرمته مطلقاً (٦) ، ونقل السهروردي عن الأئمة الأربعة أنهم حرموا الغناء (٧) ، وكرهه مالك (٨) .

ومن هنا يتجلى للقارئ أن الشريعة المطهرة حرجت على من يدين بها التباعد عن ارتكاب هذه الصفة الممقوتة للمولى سبحانه وتعالى حتى أسقطت منزلة مرتكبها بين الناس ، فلا تقبل شهادته على جليل وحقير ، ولا يؤتم به في الصلاة ، ولا يقدم للاستسقاء ، والواجب على كل مسلم ردع من يرتكب الغناء أو يسمعه ( وَلْتَكُن

____________________

(١) الهداية في فقه الحنفية ج ٣ ص ٩٠ .

(٢) بدائع الصنايع ج ٥ ص ١٢٩ وص ١٦٩ .

(٣) مختصر الفتاوى الكبرى المصرية ص ٣٨٨ .

(٤) الفروع ج ٣ ، ص ٩٠٣ .

(٥) المغني ج ٩ ، ص ١٧٥ .

(٦) الحديقة الندية للشيخ عبد الغني الطرابلسي ج ٢ ص ٢٥٣ .

(٧) مناقب ابن أبي حنيفة للبزاز في ذيل مناقبه للخوارزمي ج ١ ، ص ١٧١ .

(٨) المدونة الكبرى لمالك ج ٣ ص ٣٩٧ كتاب الإجارة .

٨٧
 &

مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

وكما منعت الشريعة من ارتكابه أوقفت من يدين بها عن الطعن فيمن آمن بالملة ولم يخرق ناموسها الأكبر ، وفرضت تأديب من يطغو على مكانة المسلم ويعبث بقدسيته كما أمرته بالكف والسكوت عن الطعن في الناس خصوصاً إذا لم يحصل له الوثوق بهتكهم حجاب الشريعة فقالت : ( إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) (٢) ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ) (٣) .

وعلى هذا فالسيدة سكينة بنت الحسين (ع) بعد أن كانت متدينة بقانون جدها الأعظم (ص) لأنها في عداد المسلمين الخاضعين لكل ما جاء به نبي الإسلام عن الوحي المبين ، فلا يسوغ لأي مسلم التفوه في حقها بما يخرجها عن صراط الشريعة ما لم يثبت بطريق واضح لا تعكر فيه ، فإن من قال في مسلم كلمة هجر فقد خرق ستر الله (٤) ، وإيذاء المسلم أذى لرسول الله ، ومن آذى رسول الله آذى الله تعالى (٥) .

وأحاديث الغناء التي سجلها أبو الفرج على هذه الحرة العفيفة مروية عن آل الزبير الذي عرفت عداوتهم لآل علي (ع) وتهجمهم

____________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ١٠٤ .

(٢) سورة يونس ، الآية ٣٦ .

(٣) سورة الإسراء ، الآية ٣٦ .

(٤) الأدب المفرد للبخاري ص ٦٤ .

(٥) الجامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ١٥٧ .

٨٨
 &

على مقدساتهم بكل ما لديهم من حول وطول مع أنه لم يأت أثر يشهد بتعديها على نواهي أخيها زين العابدين ، فإنها كانت تساكنه في بيته ونظراته الرحيمة تلحظها ليلاً ونهاراً ، وبعده كانت في كنف الإمام أبي جعفر الباقر وابنه أبي عبد الله الصادق (ع) فهل يتصور أحد أن الأئمة ينهون الناس عن مزاولة الغناء ، ويقول الصادق (ع) لمن كان يستمعه وهو في ( المرحاض ) : ما أسوأ حالك لو أتاك الموت وأنت على هذا الحال ، ثم يذرون بناتهم ونساءهم مع الهوى ـ كلا ـ إنه طغيان على حرماتهم وتعدّ على مقام الخلافة الإلٰهية ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) .

٨٩
 &

السيّدة سكينة السيّد عبد الرزّاق المقرّم

٩٠
 &

الشعراء

لقد جاء صاحب الأغاني بمنقصة تأباها الغيرة والشهامة حسبها القاصر فضيلة رابية أتحف بها خفرة من بنات الرسالة وتبعه من جاء بعده بحجة أن لها المعرفة في الأدب وقوة العارضة في نقد الشعر وقد غفلوا عن مناقشة الحساب عندما يوقفون في محكمة التحقيق .

فروى أبو الفرج عن المدايني وعن أبي عبد الله الزبيري اجتماع الشعراء في بيت سكينة للضيافة واختصموا عندها في المفاضلة بين جرير والفرزدق وكثير والأحوص وجميل ونصيب وأنها جلست في مكان تراهم ولا يرونها ، وأنها أخرجت وصيفة لها روت الأشعار فكانت الوصيفة تلقي على سكينة شعر كل واحد منهم وترجع إليهم بما تعيبه سيدتها (١) .

وأنت إذا قرأت حكم ابن حجر العسقلاني على المدائني بأنه من موالي عبد الرحمن بن سمرة الذي هو من صنائع معاوية وفي عداد عماله (٢) يسعك الحكم بأنه لا يتخطى سيرة مولاه ولا من اصطنعه ، ومن هنا شحنت الجوامع بمروياته الشائنة لمقام رجالات أهل

____________________

(١) الأغاني ج ١٤ ، ص ١٤٥ إلى ص ١٦٧ .

(٢) لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٢٥٣ .

٩١
 &

هذا البيت الطاهر فنسب إلى عبد الله بن جعفر الطيار كلمة تحط من قدره ودينه ، وان صبها في قالت الفضيلة فذكر أن العجوز التي ذبحت الشاة للحسنين وكان معهما ابن جعفر ولما شاهدها الحسن بالمدينة أمر لها بألف شاة وألف دينار وأعطاها الحسين مثله وقال لها ابن جعفر : لو بدأت بي لأتعبتهما (١) .

فإن كل من يقرأ سيرة ابن جعفر مع إماميه الحسنين وخضوعه لهما يتجلى له افتعال هذا الحديث ومحاورته مع معاوية تؤكده ، وذلك يوم أراد إغراءه بالمدح البالغ حده ليفصله عن متابعة الحسنين (ع) فأوقفه ابن جعفر على ما سمعه من رسول الله (ص) في فضلهما وأنهما إماما هذه الأمة بعد أبيهما الوصي وأن الله تعالى أفاض عليهما القدرة بالتصرف في الأشياء كما يريدان (٢) .

وإني على يقين في افتعال كل ما ورد في حق عبد الله بن جعفر من أحاديث الكرم ، وما أدري من أين له هذه الأموال الطائلة مع أنه مملق وأبوه أفقر منه فلا إقطاع عنده ولا عيون ولا من التجار المثرين ، وإنما أراد ابن هند في وضع هذه القصص إيجاد شخص من الطالبيين يضاهي أبا محمد سيد شباب أهل الجنة الذي وقف النائل عليه وحده ، ومما يشهد لهذه الدعوى سعي معاوية في اثبات الكرم لعبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ذلك الذي ترك قيادة أربعة آلاف جندي وهمس ليلاً إلى معسكر ابن هند طمعاً في دراهم

____________________

(١) لباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ ص ١٠٦ ، وثمرات الأوراق على هامش المستطرف ج ٢ ، ص ١٩ ، باب ٤٦ ، والفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٦٥ . .

(٢) الاحتجاج للطبرسي ص ١٥٤ النجف .

٩٢
 &

معدودة وترك الدنيا والآخرة المملوكتين لأبي محمد (ع) عطاء من الله غير مجذوذ ، في حين لم يغب عنه « ذبح طفليه » على يد بسر ابن أرطأة قائد معاوية ؟ فأين هذا والجود الذي هو شيمة الأحرار وغريزة الطاهرين (١) .

وأما عبد الله الزبيري فلم يغب عن القارئ شهادة العلماء بمعاداته لأهل البيت وأنه يضع المنكرات فيهم فرواياته أوهى من بيت العنكبوت ، على أن المبرد (٢) وابن قتيبة (٣) ذكرا اجتماع الشعراء عند عبد الملك ابن مروان وتذاكرهم بيت نصيب :

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت

أوكل بدعد من يهيم بها بعدي

فأزرى كلهم على نصيب فقال لهم عبد الملك : ما تقولون ؟ فقال أحدهم أقول :

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت

فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي

فقال عبد الملك : أنت أسوء رأياً من نصيب فقالوا فما كنت تقول أنت يا أمير المؤمنين ؟ قال أقول :

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت

فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي

فقالوا أنت أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين .

ويحدث المرزباني (٤) أن الأقيشر دخل على عبد الملك بن مروان فعاب بيت نصيب وهو :

____________________

(١) قصص العرب ج ١ ، ص ٢١٠ ، وص ٢١١ .

(٢) تهذيب كامل البرد ج ٢ ، ص ١٥٠ .

(٣) عيون الأخبار ج ٤ ، ص ١٤٦ .

(٤) الموشح ص ١٨٩ .

٩٣
 &

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت

فوا حزني من ذا يهيم بها بعدي

فقال له عبد الملك : ما كنت تقول أنت ؟ فقال أقول :

تحبكم نفسي حياتي فإن أمت

فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي

ثم ذكر المرزباني نقد الفرزدق على الأحوص إذ يقول :

يقرّ بعيني ما يقرّ بعينها

وأحسن شيء ما به العين قرَّت

فقال له إنه يقر بعينها النكاح أيقر ذلك بعينك (١) ؟ .

ثم إن ابن كثير ذكر اجتماع الشعراء عند عمر بن عبد العزيز وهم : الفرزدق وجرير وعمرو بن أبي ربيعة والأحوص وتفاضلهم ونقده لهم (٢) .

فالمفاضلة بين الشعراء كانت عند عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز ولكن المرواني أبا الفرج زحزحها إلى ناحية السيدة سكينة تحرياً للوقيعة بمصونات البيت الهاشمي بيت الشهامة والعفاف بيت الحجاب والغيرة ، وقد ظن أبو الفرج أن هذه المفتعلات مما يخفى مصدرها حتى في العصور المستنيرة بالبحث والتدقيق ، وقد كان المصدر في هذا الحديث المدائني الذي ذكرنا توقف العلماء عن مروياته ، ثم هناك شيء يرشدنا إلى كذب هذه المحاكمة عندها هو : أن أبا الفرج لم يذكر لها بيتاً في الأدب والعرفان ولو كانت سكينة بهذه المنزلة المزعومة لها من قوة العارضة والنقد لكثر منها الشعر كما كان لغيرها من رجال ونساء ، ولدوّنه أبو الفرج كما سجل لغيرها .

____________________

(١) المصدر ص ١٨٧ .

(٢) البداية ج ٩ ، ص ٢٦٢ .

٩٤
 &

بيت الضيافة

على أنا لا نعرف هذا البيت الذي فتحته لضيافة الوافدين عليها متى كان ؟ أفي العهد الذي كانت في ذات أزواج « لو تحققت الأوهام » وهم يرضون لها محادثة الرجال الأجانب وكانوا يدرون عليها المال لتنفقه عليهم ؟ أو أنها كانت تنفق على الأضياف وتجيز الشعراء من مالها الخاص بها ؟ الذي لم يرد به تأريخ أصلاً أو أن الإمام السجاد أو الباقر يفيضان عليها المال لتنفقه على الأجانب .

ثم لماذا فتحت هذا المضيف والمرأة لا تمدح بالكرم وإنما تمدح بالصون والعفاف ، ولم يعهد في النساء الهاشميات نظير لها في ذلك حتى من سيدة النساء فاطمة الزهراء وابنتها عقيلة الهاشميين زينب الكبرى والمعصومة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (ع) وحكيمة بنت الإمام أبي جعفر الجواد (ع) إلى غيرهنّ من فضليات نساء بني هاشم وكل منهن أجلّ من سكينة وأقدر على الانفاق والعطاء ولو بنحو من خوارق العادات .

أكانت سكينة متفردة عن حرائر قومها بالرغم مما تقرأه من الانكار البالغ حده من جدها أمير المؤمنين (ع) في أمر المرأة فيقول في وصيته للإمام المجتبى :

٩٥
 &

إياك ومشاورة النساء فإن رأيهنّ إلى أفن وعزمهنّ إلى وهن واكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن وليس خروجهن بأشد من إدخالك من لا يوثق به عليهن ، وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل ، ولا تمكن المرأة ما جاوز نفسها فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة (١) .

فإن التأمل في أطراف كلامه (ع) يوقفنا على الحكم بإلزام المرأة بيتها وإسدال الستر عليها لأنه أحفظ في الصون وأمنع من طروق ما لا يحل بساحتها مما يقبحه العقل والعرف والدين والغيرة .

وزاد (ع) في أمرها أن أمر بكف أبصارهن عن النظر إلى الغير ، وأن لا تخرج من بيتها ولا يدخل عليها الرجال لما فيه مظنة الوقوع في الهلكة وارتكاب الفتنة كما وقعت فيها امرأة العزيز ونسوة مصر اللائي قطعن أيديهن حين شاهدن جمال الصديق يوسف (ع) .

وأندية أهل البيت تلهج بقول الرسول (ص) لأم سلمة وزينب حين دخل ابن أم مكتوم فلم يحتجبن عنه واعتذرن بأنه أعمى : ( أفعمياوان أنتما ) (٢) .

وهذا من المرتكزات في نفوس ذوي الغيرة والشهامة من غير هذا البيت فكيف بأهله .

يقول إسحاق بن أحمد بن نهيك : شاهدت رجلاً في طريق مكة وعديله جارية في المحمل وقد عصب عينيها وكشف الغطاء عن وجهها ولما قيل له في ذلك كان جوابه : ( إنما أخاف عليها عينها لا

____________________

(١) نهج البلاغة ج ٢ ص ٥٨ المطبعة الرحمانية في مصر من وصيته الطويلة لولده .

(٢) تفسير الخازن ج ٥ ، ص ٥٧ وتفسير البغوي بهامشه .

٩٦
 &

عيون الناس ) (١) .

وإذا كان هذا أمر الشريعة في الحكم على المرأة وبه هتف سيد الأوصياء (ع) وقام بتنفيذه أبناؤه المعصومون فهل يدور في خلد أي أحد أن الأئمة الهداة غضوا النظر عما تأتي به خفرة من نسائهم وهي في كنفهم وبعين رعايتهم ، أو أن ابنة سيد الشهداء (ع) مائلة عن الصراط السوي متنكبة جادة الحق بحيث لم يقدر أولئك المعصومون المقيضون لهداية البشر على كبحها عن هذه الشرور ( كلا ) .

وإن كلمة سيد شباب أهل الجنة الغالية في حق ابنته : ( الغالب على سكينة الاستغراق مع الله ) ووصفه لها بخيرة النساء .

ترشدنا إلى قوة الإيمان واعتناقها صحيح الحق والدين .

لكن السياسة قاضية والأقلام مستأجرة والحنق مالك لقلوب الشانئين لأهل البيت فقالوا كما شاء لهم الهوى وأوقعوا غيرهم ممن لم يمحص الحقائق في هوة الضلال .

ثم إن قول أمير المؤمنين (ع) « لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها » يحصر الانفاق عليها بما يفي بمناجحها ويسد خلتها كيلا تتجاوز الحدود في صرف المال فيما لا يلائم صيانتها وعفافها وكذلك يحصر تمكينها بما تقدر عليه من إدارة شؤونها بدليل تعليله ( إنها ريحانة ) يتمتع بها ويلتذ بالألفة معها ( لا قهرمانة ) تقوم بتدبير الشؤون وإقامة المصالح والحكم بين المتخاصمين ولقد أكد (ع) ذلك مرة أخرى لما أتاه رجل من أصحابه وشكا إليه نساءه فإنه قال :

____________________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ج ٤ ، ص ٨٧ .

٩٧
 &

معاشر الناس لا تطيعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال ولا تذروهن يدبرن أمر العيال فإنهن إن تركن وما أردن وردن المهالك وعدون أمر المالك فإنا وجدناهن لا ورع لهن عند حاجتهن ولا صبر لهن عند شهواتهن التبرج لهن لازم وإن كبرن ، والعجب لهن لاحق وإن عجزن ، لا يشكرن الكثير إذا منعن القليل ، ينسين الخير ويحفظن الشر ، يتهافتن بالبهتان ويتمادين بالطغيان ويتصدين للشيطان ، فداروهن على كل حال وأحسنوا لهن المقال لعلهن يحسنّ الفعال (١) .

وهذه دروس من خليفة الرسول (ص) راقية تأخذ بمن يعطيها حقها إلى النعيم الدائم وزلفى الأبد والسعادة الخالدة ، وأولى الأمة باعتناقها والسير على ضوئها أبناؤه الهداة بتطبيقها على من تحويه بيوتهم المنيعة من أبنائهم وفتياتهم . سأل رسول الله ابنته الصديقة الزهراء (ع) عما هو خير للمرأة ، فقالت : خير للمرأة ألا يراها رجل ولا ترى رجلاً ، فضمها رسول الله إليه ، وقال : « ذرية بعضها من بعض » (٢) .

على أنا وجدنا في أخبار النساء العاديات من تغار على نفسها من الاختلاط بالأجانب إما خضوعاً منهن لناموس الدين أو جنوحاً إلى غريزة العفة ، فمن ذلك ان امرأة عربية كانت عند بعض القرشيين فدخل عليها خصي لزوجها وهي واضعة خمارها فحلقت شعر رأسها وقالت : ما كان ليصحبني شعر نظر إليه غير ذي محرم .

ومرت امرأة عربية بقوم من بني نمير فأداموا النظر إليها فقالت : يا بني نمير والله ما أخذتم بواحدة من اثنتين لا بقول الله تعالى إذ

____________________

(١) الصدوق ( فيمن لا يحضره الفقيه ) .

(٢) قوت القلوب لأبي طالب المكي ج ٢ ، ص ٢٥٣ فصل ٤٥ في التزويج .

٩٨
 &

يقول : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ) (١) . ولا بقول جرير (٢) .

فغضَّ الطرف إنك من نمير

فلا كعباً بلغت ولا كلابا

ودخل خادم على سكينة بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فغطت رأسها منه فقيل لها : انه خادم . قالت : هو رجل منع شهوته (٣) ، ومن المقطوع به أن سكينة هذه ابنة الحسين فإن أهل النسب وعلماء التاريخ لم يذكروا في أولاد علي بن أبي طالب سكينة .

ودخل معاوية على زوجته فاخته ومعه خصي وكانت مكشوفة الرأس فلما رأته غطت رأسها ، فقال لها معاوية : إنه خصي ، فقالت له : أترى أن المثلة به أحلت له ما حرم الله عليه ، فعلم الحق معها فلم يجز لخادم الدخول إلى حرمه إن كان كبيراً (٤) .

فإذا كان هذا مبلغ من أخذت غريزة العفة منها منتهاها فابنة الإمامة وربيبة الدين أجدر باتباع هذه التعاليم المقدسة أو الخضوع لهاتيك الغريزة فلا تبيح للرجال الدخول إلى دارها ولا تقترب من مجالسهم وتنبسط إليهم لا يوم يضمها بيت الإمامة ولا يوم يحويها عفاف الأزواج ( لو صدقت المزاعم ) .

وكيف تتنكب سكينة عن سنن جدها الرسول (ص) وتعاليم خليفته أمير المؤمنين (ع) وهي المتربية في بيت أخيها الإمام زين العابدين وابنه الباقر (ع) والمتأدبة بالآداب الإلٰهية وهي بعين رعايتهم

____________________

(١) سورة النور ، الآية ٣٠ .

(٢) ابن قتيبة في عيون الأخبار ج ٤ ، ص ٨٧ وص ٨٥ .

(٣) أمالي ابن الشيخ الطوسي ص ٢٣٣ .

(٤) مروج الذهب للمسعودي ص ٤٧٢ .

٩٩
 &

ولكن الرواة أبوا إلا الاسترسال وتشويه تلك السمعة الطيبة بما شاء لهم الهوى .

وعلى هذا فاعرف حديث اجتماع الشعراء معها فيما رواه مصعب الزبيري العدو لبني هاشم ولا تذهب بك الظنون أيها الحاذق الفطن .

( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) البقرة / ١٢٠ .

١٠٠