ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف:

السيد الأمير الحسين بن بدر الدين


المحقق: د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة بدر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٩٩

يدخلهم النّار» (١) ، وروينا عن الحسن أنه قال : «لو اجتمع أهل السماء وأهل الأرض على دم رجل واحد مؤمن لكبّهم الله جميعا في النّار على وجوههم» (٢) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من رمى بسهم في سبيل الله بلغ أو قصر كان له عتق رقبة» (٣) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ الله يدخل بالسّهم الواحد ثلاثة الجنّة : عامله وحامله والرّامي به في سبيل الله» (٤) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «يا ابن آدم بفضل نعمتي قويت على معصيتي ، وبعظمتي وعزّتي أدّيت إليّ فرائضي ، وأنت أولى بذنبك (٥) منّى. والشّرّ منك إليّ بما جنيت ، فلي الحجّة عليك» (٦).

وأما الإجماع ـ فذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين.

وأما الموضع الخامس :

وهو في إيراد ما يستدلّ به المخالفون من الآيات المتشابهة ، وبيان معانيها المذكورة عن علماء التفسير : فمن ذلك قول الله سبحانه : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : ٢٢] ، قالوا : فأخبر أنه فاعل للتسيير (٧) ، وذلك

__________________

(١) رأب الصدع تخريج أمالي أحمد بن عيسى ٣ / ١٤٥٥ برقم ٢٤٧١ ، والبيهقي ٨ / ٢٢ الجنايات ، والترمذي ٤ / ١١ رقم ١٣٩٨ بألفاظ متقاربة.

(٢) الطبراني في الأوسط ٢ / ١١٢ برقم ١٤٢١. وج ٩ ص ٩٩ برقم ٩٢٤٢. والترمذي ٤ / ١١ رقم ١٣٩٨.

(٣) المعجم الكبير للطبراني ٨ / ١٣٤ برقم ٧٦١٠. والبيهقي ٩ / ١٦٢.

(٤) أخرجه أحمد بن حنبل ٦ / ١١٩ برقم ١٧٣٠١. والدارمي ٢ / ٢٠٤ ،.

(٥) في (ب) : بذلك.

(٦) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية للعاملي ص ٢٤٩ عن علي بن الحسين.

(٧) في (ب) ، (ج) : فاعل التسيير.

١٦١

يوضح أن لا فعل للعبد. والجواب : أنّ علماء التفسير ما ذكروا شيئا من ذلك ، بل منهم من قال : معنى (يُسَيِّرُكُمْ) ، أي يحملكم بالأمر على السّير (١). وقيل : سبب تسييركم في البر على الظهور ، وفي البحر على السفن. وقيل : تسخير الجمال في البر ، والرياح في البحر ، وذلك شايع في اللّغة كما يقول الرجل : سيّرت الدابّة ، وسيّر الملك عسكره.

ومن ذلك قول الله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] قالت : الحشويّة القدرية : فأضاف قتلهم ورميهم إلى نفسه ، وبيّن أنّهم لم يقتلوهم ، ولم يرم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما رمى الله تعالى (٢).

والجواب : أن الظاهر يقتضي ما لا يقول به مسلم ، وذلك يوجب في كل قتيل أن يكون الله قتله دون القاتل ، وذلك يوجب قتله ، وهذا يبطل كثرة ما عاب الله تعالى الكفار بقتل الأنبياء والمؤمنين (٣) ، ويوجب أن يطلق القول بأنّ أحدا لم يقتل أحدا ، وهذا خروج من الدّين ، والإجماع ، وإبطال كثير من الآيات. ويوجب ظاهر لفظ الآية أنّه متناقض ؛ لأنه قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧] ، فنفى بالأول الرّمي عنه ، وأثبته له بالرّمي الثاني. وإذا كان الجري على الظاهر يؤدي إلى ما قلناه سقط التعلّق به. وإذا وجب الرجوع إلى التأويل قلنا : إنّ قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) خطاب للمؤمنين يعني : أيّها المؤمنون لم تقتلوا المشركين بحولكم وقوّتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) حيث سبّب في قتلهم بنصركم وخذلانهم ، وقوّى قلوبكم ، وألقى في قلوبهم

__________________

(١) الرازي مج ٩ ج ١٧ ص ٧٠. والكشاف ج ٢ / ٣٣٨.

(٢) متشابه القرآن ق ١ / ٣١٧ مسألة ٢٧٧. وتفسير الطبري مج ٦ ج ٩ ص ٢٦٩ وما بعدها. والألوسي مج ٦ ص ٢٦٧ وما بعدها.

(٣) متشابه القرآن ق ١ ص ٣١٨.

١٦٢

الرّعب وأمدّكم بالملائكة (١).

وقيل : كانت الرياح تحمل السهام ، وتوقعها في مقاتل الكفار. وقيل : فلم تميتوهم ؛ لأنّ الموت لا يقدر عليه غير الله ، وأنتم جرحتموهم فقط. وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ) أيّها النبي (إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) اختلفوا في الرّمية ؛ فقيل : قبضة من تراب ، قال لعلي عليه‌السلام : ائتني بكفّ من بطحاء ، فأتاه بكفّ من تراب ، فرمى بها فلم يبق مشرك إلا وأدخل في عينيه ومنخريه منها شيء ، وكانت تلك الرّمية سبب الهزيمة ، وذلك في يوم بدر ، رمى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : شاهت الوجوه ، فقسمها الله على أبصارهم حتى شغلهم بأنفسهم. وهو قول أكثر المفسّرين (٢).

وقيل : سهم رمى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر على باب خيبر فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه (٣). وقيل : نزلت يوم أحد في شأن أبيّ بن خلف وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رماه بحربة فكسر ضلعا من أضلاعه فمات (٤). والأصحّ أنها نازلة في يوم بدر ، وهو قول أكثر المفسرين ، وعليه يدل ما رويناه في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومغازيه وحروبه ، فإنها قاضية بذلك. وإذا ثبت

__________________

(١) غريب القرآن للإمام زيد ص ١٤٧ ، (وَما رَمَيْتَ ..) ، معناه : أن الله هو الذي أيدك ونصرك.

(٢) ينظر مجمع البيان للطبرسي مج ٤ ج ٩ ص ٤٤٥. والدر المنثور ٣ / ٣١٧. والماوردي في النكت والعيون ٢ / ٣٠٤. والطبري مج ٦ ج ٩ ص ٢٦٩. والزمخشري ٢ / ٢٠٧. ومتشابه القرآن ١ / ٣١٩ ، وهو قول ابن عباس وأنس والسدي.

(٣) الدر المنثور ٣ / ٣١٨ ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري.

(٤) الدر المنثور ٣ / ٣١٧. وذكر الفخر الرازي في المفاتيح مج ٨ ج ١٥ ص ١٤٥ ، فقال : في سبب نزول هذه الآية أقول : الأول ـ وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر وذكر ذلك كما ذكره المصنف (عليه‌السلام).

١٦٣

ذلك فقوله : (وَما رَمَيْتَ) أي ما بلغت رميتك حيث بلغت بك ، ولكنّ الله بلّغ وملأ بها عيون الكفار.

وقيل : ولكنّ الله وفّقك وسدّد رميتك. وقيل : وما أصبت إذ أصبت ولكنّ الله أصاب ، وذلك ثابت في لغة العرب ؛ فإنهم يصفون الإصابة بلفظ الرّمي ؛ ولذلك قالوا في المثل : «ربّ رمية من غير رام». ومعلوم أنّ الرّمي لا يكون إلا من رام ، وإنما أرادوا إصابة من غير حاذق بالرمي. فمعنى ذلك أنّك لم تصبهم حيث رميت ولكن الله رماهم أي أصابهم. والإصابة من الله ، والرمي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإذا ثبت ذلك كانت الآية على خلاف مذهبهم أولى بالدلالة منها على موافقة مذهبهم ؛ لأن المعلوم أنّ الصحابة (رض) هم الذين قتلوا الكفّار في يوم بدر. والمعلوم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي (١) رمى ؛ ولهذا أضاف الله تعالى الرمي إلى نبيّه بقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧] ولهذا يضاف إلى السيّد ما يفعله غلامه ، فبطل قولهم.

ومما تعلقوا به قول الله سبحانه حكاية عن ابراهيم عليه‌السلام : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] ، قالوا : فأخبر أنّه خلقهم وخلق أعمالهم مع كونها كفرا ومعصية (٢). والجواب : أنّ معناها (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أيها القوم (وَما تَعْمَلُونَ) أي وما تعملون فيه ، وهو الأصنام ، ولم يرد أعمالهم وهي حركاتهم المعدومة ؛ لأن المعبود هو الخشب المنحوتة دون عملهم ؛ لأنّه احتجّ عليهم ، فلا يجوز أن يورد لهم حجة عليه ؛

__________________

(١) الذي محذوفة من (ب).

(٢) ينظر الرازي ١٣ / ١٥٠. وجامع البيان مج ١٢ ج ٢٣ ص ٨٩.

١٦٤

ولأنّه أضاف إليهم فعلهم وهو النّحت. ومثل هذا موجود في اللغة ؛ فإنّ قائل أهل اللغة يقول : فلان يعمل بابا ، والمراد به يعمل عملا في الباب ؛ فأطلق اسم العمل على المعمول فيه ، وعلى هذا نزّل قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧] يعني العصيّ والحبال المأفوكة دون نفس الإفك. ونمط الآية هو قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) يعني المنحوت. كذلك قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يريد المعمول. ومثل ذلك قوله تعالى : (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) [طه : ٦٩] وإنما تلقف المصنوع. فإنّ فعلهم وهو الحركة قد صار معدوما ؛ ولأنّه لو حمل قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) على أنّ المراد به العمل لأدّى ذلك إلى تناقض الآية في نفسها ، بل إلى تناقض القرآن فإنّ إبراهيم عليه‌السلام بيّن في الآية أنّهم نحتوها ، فلو أراد أن الله خلق نحتهم كما قالته الجبرية كان بذلك مناقضا. وقد ثبت أن القرآن لا يتناقض ولا يتعارض ، ولا يدخله الباطل (١).

وتعلّقوا بقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) [الفرقان : ٢]. والجواب : أن هذه خاصة في أفعاله تعالى وهي الأجسام والأعراض التي لا يقدر عليها سواه ، كالحرارة والبرودة والطعوم والألوان ونحو ذلك ، فأمّا الفواحش والمخازي والظلم والكذب فأيّ تقدير فيه ، أو أيّ حكمة في فعله؟ بل فاعله مذموم. ولو قيل للقدري : يا سارق أو يا كاذب أو يا ظالم أو يا زاني ـ لأنف على نفسه واغتمّ ، فكيف يرضى بإضافة ذلك إلى ربه تعالى أو يحسّنه عقله؟ ـ لو لا الزيغ العظيم والضلال البعيد ـ فبطل قول الجبرية. وعلى قود هذا الكلام يجري الكلام في سائر ما يتعلقون به في ذلك.

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٥١. ومتشابه القرآن ٢٥ / ٥٨٠. والألوسي مج ١٣ ج ٢٣ ص ١٨١. وجامع البيان مج ١٢ ج ٢٣ ص ٨٩. والطبرسي مج ٨ ج ٢٣ ص ٣١٨.

(٢) ذكر الرازي في تفسيره مج ١٢ ج ٢٤ ص ٤٧ أنه تعالى خالق لأفعال العباد.

١٦٥

فصل : في القضاء والقدر

والكلام فيه يقع في خمسة مواضع : الأول : في حكاية المذهب ، وذكر الخلاف. والثاني : في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالفون. والثالث : في إيراد طرف مما يلائم مذهبنا من أدلة الشرع ، وما يحكى في ذلك عن الصحابة ، وعن أهل البيت المطهرين رضوان الله عليهم أجمعين. والرابع : في إيراد طرف مما يحتجّ به المخالفون من متشابه الآيات ، وبيان ما يجوز فيها من المعاني الصحيحة. والخامس : في تعيين القدرية وبيان طرف مما جاء في ذمّهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن صحابته الأبرار (رض).

أما الموضع الأول : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف

فاعلم أنّ الجبرية تطلق القول بأنّ تصرف العباد بقضاء الله تعالى وقدره. وعندنا أنه لا يجوز إطلاق القول بذلك من غير تقييد في النفي ولا في الإثبات ممّن لم تثبت حكمته ، أو تظهر عصمته. وإنما يجوز القول بأنها بقضاء الله وقدره ، وأنّها ليست بقضاء الله تعالى وقدره مع التقييد بما يزيل الإشكال ، ويرفع الإيهام ، وهذه عقيدتنا أهل البيت.

وأما الموضع الثاني :

وهو في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون

فالذي يدل على ذلك أن القضاء والقدر لفظتان مشتركتان بين معان : بعضها صحيح في هذه المسألة وبعضها فاسد. وكلّ لفظة هذه حالها فإنّه لا يجوز إطلاقها في النفي ولا في الاثبات من غير تقييد بما يزيل الإشكال ، ويرفع الإيهام ممن لم تثبت حكمته. وإنما قلنا : بأن لفظة القضاء ، ولفظة القدر مشتركتان بين معان بعضها صحيح في هذه المسألة ، وبعضها فاسد ؛ لما نبينه

١٦٦

في ذلك ، وذلك بأن نتكلم في ثلاثة مطالب : أحدها في بيان معاني القضاء والقدر واستعمالهما فيها. والثاني في الدلالة على اقتضائهما لتلك المعاني. والثالث في بيان الصحيح من ذلك والفاسد.

أمّا المطلب الأول : وهو في بيان معاني لفظة القضاء والقدر واستعمالهما فيها. فالقضاء (١) على وجوه خمسة : أحدها الخلق والتّمام يحكيه قول الله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] أي خلقهنّ وأتمّهن (٢). وثانيها الأمر والإلزام ، يحكيه قول الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] معناه أمر وألزم (٣). وثالثها الإخبار والإعلام ، يحكيه قول الله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) [الإسراء : ٤] أي أعلمنا وأخبرنا (٤). ورابعها بمعنى الفراغ من الشيء يحكيه قوله (٥) تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٤] أي فرغ منه. وقوله تعالى : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [يوسف : ٤١] ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف : ٢٩] يعني لما فرغ من ذلك. وخامسها بمعنى الحكم (٦) ، يحكيه قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [يونس : ٩٣] ، ومنه سمّي القاضي قاضيا ، أي حاكما وفاصلا

__________________

(١) في (ب) : فالقضاء يطلق.

(٢) فتح الباري : ٨ / ٣٨٩.

(٣) فتح الباري ٨ / ٣٨٩. وتفسير الماوردي ٣ / ٢٢٨.

(٤) أنظر غريب القرآن ١٨٤ ، وفتح الباري ٨ / ٣٨٩ ، وتفسير الأعقم للآنسي ٣٥١.

(٥) في (ب) : قول الله.

(٦) في الأم : الحكم بحكمه يحكيه ، ولا معنى لكلمة بحكمه.

١٦٧

يحكم ويفصل. والقدر يستعمل في ثلاثة معان : أحدها بمعنى الخلق ، يحكيه قول الله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠] أي خلق. وثانيها بمعنى العلم يحكيه قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) [النمل : ٥٧] أي علمنا ذلك من حالها. وثالثها بمعنى الكتابة يحكيه قول العجّاج (١) :

واعلم بأنّ ذا الجلال قد قدر

في الصّحف الأولى التي كان سطر

أمرك هذا فاجتنب منه التّبر

قوله : قد قدر ، أي قد كتب ذلك في الصّحف. التّبر ما يهلك ، وقد ينطلق (٢) على الهلاك.

وأما المطلب الثاني : وهو في الدلالة على اقتضائها لهذه المعاني التي ذكرنا ؛ فالذي يدل على ذلك أنّ القضاء والقدر متى نسبا إلى الله تعالى مطلقا لم يسبق إلى الأفهام معنى من هذه المعاني دون غيره ، بل يبقى الفهم مترددا بينها ، لا ترى (٣) ترجيحا لبعضها على بعض ، وذلك هو أمارة اللفظة المشتركة بين المعاني.

وأما المطلب الثالث : وهو أن بعضها صحيح في أفعال العباد في الله (٤) وبعضها فاسد ؛ لأنه لا يجوز إطلاق القول بأنّ أفعال العباد بقضاء من الله

__________________

(١) هو عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر السعدي التميمي ، العجاج شاعر وراجز مجيد ، ولد في الجاهلية ، وقال الشعر فيها ثم أسلم. توفي نحو سنة ٩٠ ه‍. وله ديوان طبع في مجلدين. ينظر الأعلام ٣٤ / ٨٦.

(٢) في (ب) : يطلق.

(٣) في (ب) : لا يرى.

(٤) في (ب) : نظّر على كلمه الله.

١٦٨

وقدر بمعنى الخلق (١) ؛ لما بيّنا في المسألة الأولى أنّا فاعلون لتصرّفاتنا. ومما يدل على ذلك أنّ المعاصي لو كانت بقضاء من الله تعالى وقدر بمعنى الخلق لوجب علينا الرضى بها ؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أنّ الرضى بقضاء الله سبحانه وقدره بهذا المعنى واجب. ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكيا عن ربه تعالى : «من لم يرض بقضائي ، ويصبر على بلائي ، ويشكر (٢) نعمائي فليتّخذ ربّا سواي (٣)». ومعلوم أنه لا يجوز الرضى بالمعاصي ؛ فإنه لا خلاف بين المسلمين في أنه لا يجوز الرضى بالمعاصي. ولا مخلص من المناقضة بين الإجماعين إلا القول بأنّ المعاصي ليست بقضاء الله تعالى وقدره ، بمعنى الخلق لها ، ولا بمعنى الأمر بها ؛ لأنّ في أفعال العباد القبائح ، وهو تعالى لا يأمر بها ؛ لأن الأمر بالقبيح قبيح. وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما تقدم بيانه. وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا

__________________

(١) قال المقبلي في العلم الشامخ ص ٢٨٠ في بحث خلق الأفعال : ولا أدري كيف غرسه الشيطان ونماه حتى جار على الأفاضل الأمة [عنده] وصيروه من مهمات الدين ، ولم يتكلم أحد بمثل ما ذكرت لك الآن ، بل شمر كل لنصرة ما طرق خلده أول مرة ووجد قلبه خاليا فتمكن وهو على غرة :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكّنا

حتى صنف البخاري كتابا في خلق الأفعال وذكر في الصحيح شيئا من ذلك [أي إن الله خلق أفعال عباده] وليته صان تلك المكرمة التي فاز بها في الحديث ، ولكنه أتى بما لا يزيد العاقل عند سماعه على التسبيح ، وفعل غيره من أفاضل الأمة ونحوه ، كل ينصر ما اتفق له ، آيات بينات ، على أن هذا النوع مع تكريمه (أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ* فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ).

(٢) في (ب) ، و (ج) و (د) : ويشكر على.

(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط ٧ / ٢٠٣ رقم ٧٢٧٣ ، ٨ / ١٩٢ برقم ٨٣٧٠.

١٦٩

يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨] وإنما يجوز القول بأنها بقضائه وقدره مع التقييد بأنّ معنى ذلك أنّه علمها ، وأعلم بها ملائكته ، وكتبها في اللوح المحفوظ ، من غير جارحة يكتب بها ؛ إذ الجوارح لا تجوز عليه تعالى كما تقدم بيانه.

فثبت قولنا : إنهما لفظتان مشتركتان بين معان : بعضها صحيح في أفعال العباد ، وبعضها فاسد. وإنما قلنا : بأن كلّ لفظة هذه حالها فإنه لا يجوز إطلاقها ممن لم تثبت حكمته إلا مع التقييد بما يزيل الإشكال ؛ لأنّ في ذلك إيهام الخطإ ، وإيهام الخطإ لا يجوز. وإنما يجوز إطلاقها في النفي والإثبات ممن تثبت (١) حكمته ، فيجوز ذلك من الله تعالى أو من رسله ؛ لأنّ الحكيم لا يريد بذلك إلا المعنى الصحيح ، دون المعنى الفاسد ، ويزول له بذلك الإشكال ، ويرتفع الإيهام ، فثبت الموضع الثاني.

وأما الموضع الثالث :

وهو في ذكر طرف مما يلائم ذلك من أدلّة الشرع

وما يحكى في ذلك عن الصحابة والتابعين وأهل البيت المطهرين رضى الله عنهم أجمعين.

فالشرع قاض بذلك. فمن ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت : كنت أصبّ الماء على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسقط الإناء من يدي وكسر ، فقلت : الأمر مفروغ منه ، فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إن كان الأمر مفروغا منه فلأيّ شيء بعثت ولأي شيء بعث الأنبياء من قبلي.

وروي عن الحسن البصرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لن يلقى الله

__________________

(١) في (ب) : ثبتت.

١٧٠

العبد بذنب أعظم من الإشراك بالله ، وأن يعمل معصية ثم يزعم أنّها من الله» (١). إلى غير ذلك من الأخبار. وهو معلوم عن الصحابة والتابعين ، فإن الأقوال متظاهرة عنهم بنفي هذه المعاصى عن الله سبحانه وإضافتها إلى العباد.

فمن ذلك ما روي أن الحجاج بن يوسف لعنه الله كتب إلى أربعة من العلماء : وهم الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه‌الله ، وواصل بن عطاء (٢) ، وعمرو بن عبيد (٣) ، وعامر الشعبي رحمهم‌الله ، يسألهم عن القضاء والقدر ، يعنى بمعنى الخلق لأفعال العباد ؛ فأجابه أحدهم لا أعرف فيه إلا ما قاله (٤) أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، وهو قوله عليه‌السلام : أتظنّ الذي نهاك دهاك ، إنما دهاك أسفلك وأعلاك ، وربك بريء (٥) من ذاك. وأجابه الثاني فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو قوله عليه‌السلام : أتظنّ

__________________

(١) الشافي ٢ / ١٦١.

(٢) هو أبو حذيفة رأس المعتزلة من أئمة البلغاء المتكلمين سمي أصحابه بالمعتزلة ؛ لاعتزالهم الدنيا ، وإما لاعتزالهم حلقة الحسن البصري عند ما جرى ذكر حكم الفاسق حيث إنه عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين الكفر والإيمان فلا هو كافر ولا هو مؤمن. نشر مذهب الاعتزال في الآفاق ـ ولد سنة ٨٠ ه‍ بالمدينة كان يلثغ بالراء فيجعلها غنيا فتجنب الراء في خطابه. بايع لمحمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) ، في قيامه على أهل الجور ، توفي سنة ١٣١ ه‍. له من التصانيف : أصناف المرجئة ، والمنزلة بين المنزلتين ، ومعاني القرآن ، طبقات أهل العلم والجهل ، والسبيل. الأعلام ٨ / ١٠٨.

(٣) ولد سنة ٨٠ ه‍ ، من العلماء الزّهّاد ، شيخ المعتزلة في عصره ، قال فيه أبو جعفر المنصور : كلهم طالب صيد ، غير عمرو بن عبيد ، توفي سنة ١٤٤ ه‍ ، وله رسائل وخطب وكتب منها : التفسير ، والرد على القدرية. ينظر الأعلام ٥ / ٨١.

(٤) في (ب) ، (ج) : قال في كل الرواية.

(٥) في (ب) ، (ج) : والله بريء.

١٧١

الذي فسح لك الطريق لزم عليك المضيق. وأجابه الثالث فقال : لا أعرف (١) إلا ما قاله علي عليه‌السلام ، وهو قوله كرم الله وجهه : إذا كانت المعصية حتما كانت العقوبة ظلما. وأجابه الرابع فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله علي عليه‌السلام ، وهو قوله كرم الله وجهه : ما حمدت الله عليه فهو منه ، وما استغفرت الله منه فهو منك. فلما بلغ ذلك الحجاج بن يوسف قال : قاتلهم الله لقد أخذوها عن (٢) عين صافية (٣).

وعن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر لعلم الأنبياء عن علي عليه‌السلام أنّ رجلا سأله ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟ فقال : بحر عميق فلا تلجه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر ، قال : بيت مظلم فلا تدخله ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟ قال : أمّا إذا أبيت فهو أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض (٤).

__________________

(١) في (ب) : فيه.

(٢) في (ب) : من.

(٣) خلاصة الفوائد لجعفر ص ٨٣. وميزان الطباطبائي ١ / ١٠٤ ، وعزاه إلى الطرائف.

(٤) ينظر نهج البلاغة ٧٤٦ ، بلفظ : طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وبيت الله فلا تتكلفوه. قال الإمام الناصر الأطروش في البساط ص ١٦٩ : وأما قولهم : ولا تفويض ـ فإن كثيرا من الناس قد غلطوا واختلفوا في تأويل ذلك والله المستعان. ومعنى قولهم : ولا تفويض ـ لا إهمال كما أهملت البهائم ، وفوض إليها أعمالها ، لم يمتحنها الله ولم يأمرها ولم ينهها ؛ لأن الله سبحانه قد أظهر حكمته بما كان من بلواه ومحنته لعباده بالأمر والنهي بعد التمكين ، والوعد والوعيد والجنة والنار ، والإباحة والحظر ، فهذا هو المنزلة بين المنزلتين التي أراده آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قولهم : لا إجبار ولا إهمال ، تكلموا بذلك موجزا مختصرا لمن عقل منزلة المحنة والاختبار ، بين التفويض الذي هو الإهمال وبين الاضطرار ... وفي هامش (ب) : يعني لم يجبرهم الله ، ولم يفوضهم ـ أي لم يكل الأمر إليهم ـ سيابا بغير أمر ونهي ، بل أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلفهم يسيرا ، فهم غير مضطرين بل مخيرون.

١٧٢

وروى عن علي بن عبد الله بن العباس (١) قال : (٢) كنت جالسا عند أبي فقال له رجل : إنّ هاهنا قوما يزعمون أنهم أتوا من قبل الله وأنّ الله جبرهم (٣) على المعاصي ، فقال : لو أعلم أنّ هاهنا أحدا منهم لقبضت على حلقه (٤).

وعن أبي بكر أنه قال في الفتوى أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وهو وفقنى ، وإن كان خطأ فمنّى ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان (٥). وروي عن عمر بن الخطاب أنه أتي بسارق فقال له : ما حملك على ذلك؟ فقال : قضاء الله وقدره يا أمير المؤمنين ، فقطع يده وضربه عشرين درّة أو ثلاثين ، وقال : قطعت يدك بسرقتك ، وضربتك لكذبك على الله. ثم قال : لكذبه على الله شرّ من سرقته (٦). وروي عن عثمان بن عفان أنه لما حصر في الدار كان القوم يرمونه ويقولون : الله يرميك ، فيقول : كذبتم لو رماني ما أخطأني (٧).

وروى أنّ عبيد الله بن زياد لعنه الله قال لعلي بن الحسين يعنى زين العابدين عليه‌السلام لمّا حمل إليه زين العابدين بعد قتل أبيه الشهيد الحسين السبط : ألم يقتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال زين العابدين : قد كان أخي يسمّى عليّا ، وكان أكبر منى ، وإنما قتله الناس لا الله. قال : بل الله قتله. قال

__________________

(١) السجاد أبو الملوك من بني العباس ، كان عالما عاملا جسيما وسيما طوالا مهيبا. ذكر أنه كان يسجد كل يوم ألف سجدة. ولد عام قتل الإمام علي فسمّي باسمه. سير أعلام النبلاء ٥ / ٢٥٢ ..

(٢) في (ب) : أنه قال.

(٣) في (د) : أجبرهم.

(٤) طبقات المعتزلة للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى ص ١٣.

(٥) طبقات المعتزلة ص ١١ ، وذلك عند ما سئل عن الكلالة ، والدر المنثور ٢ / ٤٤٣ ، وخلاصة الفوائد ص ٧٦.

(٦) طبقات المعتزلة ص ١١ ، ورسائل العدل والتوحيد ص ٢٤٣ ، وخلاصة الفوائد ١٢٧.

(٧) طبقات المعتزلة ص ١١ ، وخلاصة الفوائد ٨٧.

١٧٣

علي بن الحسين : فالله إذن قتل عثمان بن عفان. فانقطع اللعين عبيد الله بن زياد (١). وروي أنّ الصادق عليه‌السلام سئل عن القدر قال : ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله ، وما لم تستطع فهو فعل الله ، يقول الله : لم عصيت؟ ولا يقول : لم مرضت؟ (٢).

وروى أنّ أبا حنيفة سأل موسى الكاظم (٣) بن جعفر الصادق (ع) عن القدر ، فقال : لا بدّ أن تكون المعاصي من الله أو من العبد أو بينهما جميعا ؛ فإن كانت من الله فهو أعدل من أن يأخذ عبده بشيء فعله هو ، وإن كانت بينهما جميعا فهو شريكه ، والقويّ أقوى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد فعليه وقع الأمر. قال أبو حنيفة : فقلت : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران : ٣٤] (٤).

والمشهور عن أهل البيت (ع) من أولهم إلى آخرهم خلاف مذهب الجبرية في ذلك. ولو لا خشية التطويل لذكرتهم إماما إماما من لدن علي بن أبي طالب

__________________

(١) طبقات المعتزلة ص ١٦ ، خلاصة الفوائد ص ٨٧.

(٢) طبقات المعتزلة ص ٣٤. والميزان ١ / ١٠٤. وفي نهاية الخبر : ولم قصرت ، ولم ابيضت ، ولم اسودت ؛ لأنه من فعل الله.

(٣) هو موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام. ولد في الأبواء ٢٨ / صفر سنة ١٢٨ ه‍ وهو سابع الأئمة عند الإمامية وأحد العباد والأجواد. قيل : إنه كان يخرج في الليل وفي كمه صرة من الدراهم فيعطي من لقيه ومن أراد برّه. حبسه الرشيد عند الفضل بن أبي يحيى فسلمه إلى السندي ؛ فأمر الرشيد بقتله فسمّه السندي ، سنة ١٨٣ ه‍ ، انظر عمدة الطالب ص ٢٢٦ ، أعيان الشيعة ج ٢ ص ١٢٥.

(٤) أمالي المرتضى ١ / ١٥٢. وأخرجه ابن شعبه في تحف العقول ص ٣٠٣. وابن شهر أشوب في مناقبه ٤ / ٣٢٩ بتصرف. والتحفة العسجدية للهادي القاسمي ص ٦٤.

١٧٤

عليه‌السلام إلى وقتى هذا وهي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة سنة (١). ومن الأمثال السائرة عند العلماء : العدل هاشمي ، والجبر أموي (٢). وما ذكرناه عن أهل البيت (ع) هو المشهور عن التابعين وتابعي التابعين وسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين.

وأما الموضع الرابع :

وهو في إيراد طرف مما يحتج به المخالفون من متشابه الآيات.

فمن ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤] ، قالوا : فبيّن أنه تعالى قضى بذلك ، بمعنى الفعل.

والجواب : أنّ ما ذكروه لا يصح ؛ لأنه قال : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ، فكيف يفعل ما هو مفعول لغيره ؛ لأنه لا يكون مفعولا لغيره إلا بعد أن يفعله ذلك الغير ، وإذا قد فعله فقد خرج من العدم إلى الوجود فلا يصح فعله ثانيا.

وأما معنى الآية فإن الله تعالى قلّل المشركين في أعين المسلمين وقلّل المسلمين في أعين المشركين لأن يجسر بعضهم على بعض. قال ابن مسعود قلّوا في أعيننا حتى قلت لرجل بجنبي : تراهم سبعين؟ (٣) قال : أراهم مائة. فأسرنا

__________________

(١) وهو عصر الإمام عبد الله بن حمزة عليه‌السلام.

(٢) ينظر الشافي ١ / ١٤٠ حيث قال : والقول بالعدل والتوحيد هو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام عموما إلّا من خرج من بني العباس لما ضعفوا تودّدا. والجبر أموي إلا من سعد بقبول الحق ؛ فأما الذين قالوا بالعدل من خلفاء بني أمية : معاوية بن يزيد المكنى أبا ليلى ، ويزيد بن الوليد الملقب بالناقص ، وعبد العزيز بن مروان ، وعمر بن عبد العزيز.

(٣) في (ب) : أراهم.

١٧٥

رجلا منهم فقلنا له : كم كنتم ؛ قال : ألفا (١). فقلّل بعضهم في أعين البعض الآخر ليقضي ما قضى من هزيمتهم. وهذا خلاف مذهب الحشوية ؛ لأن ترك التحفّظ والاستعداد من الكفار لمحاربة المسلمين غير قبيح ولا معصية عقلا وشرعا.

أما من جهة العقل فلأنه قلّل المسلمين في أعينهم فلم يخشوا ضررا (٢) يجب عليهم دفعه عقلا.

وأما الشرع فلأن قتلهم واستئصال شأفتهم مباح من جهة الشرع ، فإذا فعل الله معهم ما لأجله تركوا الاستعداد والتحفظ ، وهو تقليل المسلمين في أعينهم فليس ذلك بأعظم من إباحة قتلهم ، وإيجاب قتلهم في بعض الأحوال ، وهذا واضح ، فبطل قولهم.

ومنها قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] قالوا : فدلّ على أن القتل بقضائه وقدره ، وهو فعله. والجواب : أنّ الكتب لم يأت في اللّغة ولا في القرآن بمعنى القضاء والقدر فسقط تعلقهم بذلك. ثم نقول : إن الكتب يأتي في اللغة والقرآن على وجوه أربعة : أحدها بمعنى الفرض والإيجاب كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] أي فرض. وثانيها بمعنى الحكم كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [الحج : ٤] أي حكم عليه به. وثالثها بمعنى الإخبار كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] أي أخبرنا

__________________

(١) أخرجه في الدر المنثور ٣ / ٣٤٢ ، والطبري في تفسيره مج ٦ ج ١٠ ص ١٩ ، والزمخشري في كشافه ٢ / ٢٢٤. والقرطبي مج ٤ ج ٨ ص ١٦.

(٢) في (ب) : إضرارا.

١٧٦

بذلك وحكمنا. ورابعها بمعنى العلم كقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] وإذا ثبت ذلك قلنا : معنى الكتب في الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الفرض ؛ لأن القتل لا يفرض على المقتول ظلما ، ولا بمعنى الحكم ؛ لأن ذلك إنما يكون على سبيل الوجوب ، والمظلوم غير مستحقّ للقتل ، فلم يبق إلا أن يكون بمعنى الخبر ، وبمعنى العلم ؛ فيكون معناها أنّ من أخبر الله تعالى أنه يقتل ، أو من علم أنه سيقتل ؛ فإنّ مخبره يكون على ما أخبر وعلم إلا أنّ خبره وعلمه لا يؤثّر في المخبر عنه ، ولا في المعلوم على ما يأتي بيانه مفصّلا إن شاء الله تعالى في التكاليف. وعلى هذا النّسق يجري الكلام في سائر ما يتعلقون به من ذلك.

وأما الموضع الخامس : وهو في تعيين القدرية وبيان طرف مما جاء في

ذمهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن صحابته (رض).

فاعلم أنّ القدرية هم المجبرة الضالّة الغوية دون الفرقة العدلية. والذي يدل على ذلك وجوه :

منها ما روي عن أنس بن مالك وحذيفة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «صنفان من أمّتي لن تنالهما شفاعتي ، لعنهما الله على لسان سبعين نبيّا : القدرية والمرجئة». قيل : يا رسول الله من القدرية؟ قال : «الّذين يعملون بالمعاصي ويقولون : هي من قبل الله». قيل : فمن المرجئة؟ قال : «الّذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل» (١). ومنها ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قيل : يا رسول الله ومن القدرية؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قوم يعملون بالمعاصي» ثمّ يقولون : إن الله

__________________

(١) أخرجه القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السّلام في خلاصة الفوائد ص ٢٩ ، ورسائل العدل والتوحيد ص ٢٧٦.

١٧٧

قدّرها عليهم (١). وهذه هي مقالة الجبرية دون العدلية على ما تقدم.

ومنها ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ثمّ يقولون : هذا بقضاء الله وقدره ، الرادّ عليهم كالمشرع سيفه في سبيل الله». ومنها ما رواه جابر بن عبد الله أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : مثل الحديث الأوّل ؛ إلا أنه قال : الرادّ عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله (٢).

وأما ما ورد في الشرع من الذّمّ للقدرية فنحو ما روي عن أبي هريرة وابن عمر وجابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «القدريّة مجوس هذه الأمة ، إن مرضو فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ، ولا تصلّوا عليهم ، وإن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم ؛ فإنّهم شيعة الدّجّال ، وحقّ على الله أن يلحقهم به (٣)». ونحو ما روي عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وحذيفة كلهم يروي (٤) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لعنت القدرية على لسان سبعين نبيّا (٥)».

ونحو ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «صنفان من أمّتي ليس لهما (٦) في الإسلام سهم (٧) : المرجئة والقدرية» ، ونحو ما روي عن أنس بن مالك أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مجوس العرب ـ وإن صلّوا وصاموا ـ القدريّة (٨)».

__________________

(١) رسائل العدل والتوحيد إنقاذ البشر للشريف المرتضى ص ٢١٥.

(٢) رسائل العدل والتوحيد ص ٢٤٣.

(٣) أخرجه القاضي جعفر في خلاصة الفوائد ص ٣٠ ، والحاكم ١ / ٨٥ ، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وأبو داود في سننه ٥ / ٦٧ برقم ٤٦٩٢ ،

(٤) في (ب) : رووا.

(٥) رسائل العدل والتوحيد ص ٢٧٩. والعلل المتناهية ١ / ١٥٠.

(٦) في (ب) ، و (ج) : لهم.

(٧) في الأصل : نصيب.

(٨) في (ب) : وإن صلوا وإن صاموا. أخرجه أبو نعيم في الحلية ٣ / ٧٠ عن أنس.

١٧٨

ونحو ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لا تجالسوا أهل القدر ، ولا تفاتحوهم الكلام» (١). وعن ابن عباس أنه قال : لأن يمتلئ بيتي قردة وخنازير (٢) أحبّ إليّ من أن يمتلئ قدرية». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «القدرية شهود إبليس وخصماء الرحمن» (٣).

وروينا عن السيد الإمام أبي طالب عليه‌السلام أنه روى بإسناده عن الحسن رضي الله عنه أنه قال : إذا كان يوم القيامة دعي إبليس وقال (٤) له : ما حملك على أن لا تسجد لآدم؟ فيقول : يا رب أنت حلت بيني وبين ذلك ، فيقال (٥) له : كذبت. فيقول : إنّ لي شهودا ، فينادي أين القدرية شهود إبليس وخصماء الرحمن؟ فيقوم طوائف من هذه الأمة ، فيخرج من أفواههم دخان أسود ، فيطبّق وجوههم فتسودّ (٦).

وذلك قول الله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠]. وإذا تبيّن ذلك قلنا : إن القدرية هم المجبرة المستحقّون لما تضمنته هذه الأخبار من الذم والنار ؛ لما قدمنا من الدلالة على أنّ القدرية هي المجبرة ؛ ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصف القدرية بوصفين لا يوجدان إلا في المجبرة : أحدهما : أنه قال : هم مجوس هذه الأمة ، وقد بينا في كتاب إرشاد

__________________

(١) أخرجه الحاكم ١ / ١٥٩ ، أبو داود في السنن ٥ / ٨٤ برقم ٤٧١٠ ، أحمد بن حنبل ١ / ٧٣ برقم ٢٠٦ ، والبيهقي في السنن ١٠ / ٢٠٤.

(٢) في (ب) : خنازير وقردة.

(٣) الشافي ج ٢ ص ٣. والقرطبي ١٠ / ١٩٨.

(٤) في (ب) : وقيل ، وفي (ج) : يقال :

(٥) في (ب) : فيقول.

(٦) البالغ المدرك ص ١٠٠. ورواه الهيثمي ٧ / ٢٠٦ بألفاظ مقاربة.

١٧٩

العباد الوجوه التي وقعت بها المضاهاة بينهم وبين المجوس (١) ؛ فصح بذلك ما ذكرناه. الوصف الثاني : أنه وصفهم بأنهم شهود إبليس وخصماء الرحمن وهذا لا يوجد إلا في المجبرة ؛ لأنهم يحملون أوزارهم على الله ، ويشهدون أنها فعله. يوضّح ذلك ما روي عن الحسن البصري أنّه قدم رجل من فارس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (٢) : رأيتهم ينكحون أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم ، فإذا قيل لهم : لم تفعلون هذا؟ قالوا : قضاء الله وقدره. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما إنه سيكون في أمتي قوم يقولون مثله. أولئك مجوس هذه الأمة» (٣). ولا شك أنّ ذلك مذهب المجبرة.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : السّعيد من سعد بعمله ، والشقيّ من شقي بعمله» (٤). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما هلكت أمّة حتى يكون الجبر قولهم». وروي عن الحسن البصري أنه تلى قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] ، فقال : هم المجوس واليهود والنصارى وناس من هذه الأمة زعموا أنّ الله قدّر عليهم المعاصي ، وعذّبهم عليها ، والله يسوّد وجوههم لذلك (٥).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إذا كان يوم القيامة يجمع الله الخلائق في صعيد واحد ، فينادى مناد من بطنان (٦) العرش ، ألا كلّ من برّأ الله من ذنبه ، وألزمه نفسه ، فليدخل الجنّة آمنا غير خائف.

__________________

(١) لأن المجوس ينكحون بناتهم وأمهاتهم ، ويقولون : إنه بقضاء الله وقدره. الشافي ٢ / ٣.

(٢) في (ب) : قال.

(٣) أخرجه جعفر بن أحمد بن عبد السّلام في خلاصة الفوائد : ٣٢.

(٤) ثم السعيد من يسعد بقضاء الله وفي بطن أمه». في الأوسط للطبراني ٨ / ٢٢٣.

(٥) الخلاصة للقاضي جعفر ص ١٢٨.

(٦) بطنان الشيء وسطه. القاموس ص ١٥٢٤.

١٨٠