آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري
الموضوع : العرفان والأدعية والزيارات
الناشر: مؤسسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 964-7263-74-0
الصفحات: ٢٠٦
الواجبي بالشدّة والضعف.
وكذا في النوع البسيط الذي هو هيولىٰ عالم العناصر علىٰ طريقة المشّائين ، حيث إنّها مخالفة بالنوع لهيولىٰ عالم الأفلاك ، فلا شريك لها من نوعها ، وهي بسيطة ؛ لأنّ جنسها مضمّن في فصلها ، وفصلها مضمّن في جنسها ، وإن كان لها شريك في جنسها ووجودها ، وكان لها أجزاء عقلية ، كما عرفت بأنّها جوهر مستعد ، أو ماهية ووجود.
وتفارق الأحدية عن الواحدية في النقطة ، من حيث انتفاء الأجزاء المقدارية عنها. وكذا في الأعراض من الماهيات التامّة ، من حيث انتفاء الأجزاء الخارجية عنها ، وإن كان لها الأجزاء العقلية. وكذا في الأجناس العالية والفصول الأخيرة من الماهيات الناقصة ، من حيث انتفاء الأجزاء العقلية عنها.
وتفارق الواحدية عن الأحدية في الأجرام الفلكية من الأفلاك الكلّية والجزئية والكواكب السيارة وغيرها ، إذ كلّ منها نوعه منحصر في فرده ، ولا شريك له في نوعه ، وإن كان لها شريك في جنسها ووجودها ، ولو اعتبر النفي بالكلّية كانتا من الصفات المختصة بالله تعالىٰ ؛ لأنّ ما سواه من الموجودات لا يخلو من شيء منها من الشريك في الوجود ، بخلافه تعالىٰ فإنّه لا شريك له في الوجود ، كما لا ثاني له في الموجود.
وما من موجود إلّا وهو زوج تركيبي له ماهية ووجود ، بخلافه تعالىٰ ؛ إذ لا ماهية له ، بل ماهيته إنيّته وتأكّد وجوده ووجوبه.
برهان أحديته وواحديته تعالىٰ
وأمّا بيان أحديته تعالىٰ وكونه وجوداً صرفاً : لأنّه إن كان ذاته مركّبة من الأجزاء مطلقاً فلا يخلو : إما أن تكون الأجزاء موجودة بوجود واحد ، أو بوجودات متعدّدة.
الأول : تكون أجزاء عقلية من الجنس والفصل والماهية والوجود.
والثاني : قسمان ؛ فإنّ الأجزاء مع كونها موجودة بوجودات متعددة ، إمّا أن تكون متّحدة في الوضع فهي الأجزاء الخارجية من المادّة والصورة ، وإمّا غير متّحدة في الوضع وهي الأجزاء المقدارية.
فهو تعالىٰ بريء عن جميع هذه ؛ لأنّه ليس جسماً حتّىٰ تكون له المادّة والصورة ، وكذا الأجزاء المقدارية التي من لواحق الجسم ، وليس نوعاً حتىٰ تكون له الجنس والفصل ، وكذا لا ماهية له حتىٰ تكون له الأجزاء التحليلية العقلية ، بل هو وجود صرف ، والوجود بسيط محض.
في الاستدلال علىٰ توحيده تعالىٰ :
وأمّا بيان واحديته تعالىٰ ونفي الشريك عنه ، فكما قيل في المشهور : إنّه لو كان الواجب لذاته متعدّداً لابدّ من امتياز كلّ منهما عن الآخر ، فإمّا أن يكون امتياز كلّ منهما عن الآخر بذاته ، فيكون مفهوم وجوب الوجود محمولاً عليهما بالحمل العرضي ، وكلّ عرضي معلّل ، وقد قرّر بطلانه.
وإمّا أن يكون الامتياز ببعض الذات فيلزم التركيب ، وكلّ مركّب محتاج إلىٰ الأجزاء ، وكلّ محتاج ممكن ، هذا خلف.
وإمّا أن يكون الامتياز بالأمر الزائد علىٰ ذاتيهما ، فذلك الزائد إمّا أن يكون معلولاً لذاتيهما ، وهو مستحيل ؛ لأنَّ الذاتين إن كانتا واحدة كان التعيين أيضاً واحداً ، فلا تعدّد ، هذا خلف. وإن كانتا متعددتين كان وجوب الوجود عارضاً لهما ، وقد ظهر بطلانه.
وإمّا أن يكون معلولاً لغيرهما ، لزم الافتقار في التعيّن إلىٰ الغير ، وكلّ مفتقر إلىٰ غيره في تعيّنه مفتقر إليه في وجوده ؛ إذ التعيّن إمّا عين الوجود أو مساوق له ، فيكون ممكناً ، هذا خلف.
فقد ثبت توحيد واجب الوجود بالذات جلَّ برهانه.
وهاهنا شبهة عويصة منسوبة إلىٰ ابن كمونة ، وقد أجابه صدر المتألّهين الشيرازي قدسسره ، في الأسفار (١) ، من شاء فليرجع إليه.
وقد ذكر الحكماء حججاً وبراهين كثيرة علىٰ توحيده تعالىٰ ، والحال أنّه غنيّ عن الحجج والبراهين ، بل ذاته بذاته برهان ودليل علىٰ ذاته ، كما في الدعاء : ( يا من دلّ علىٰ ذاته بذاته ) (٢).
وفيه أيضاً : ( عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصبياً ، متىٰ غبت حتىٰ تحتاج إلىٰ دليل يدلّ عليك ، ومتىٰ بعدت حتىٰ تكون الآثار هي التي توصل إليك ) (٣).
( اعرفوا الله بالله ، والرسول بالرسالة ، واُولي الأمر منكم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) (٤).
علم چون بر فرازد شاه فرخار |
|
چراغ انجا نمايد چون شب بار |
زهی نادان که او خورشيد تابان |
|
بنور شمع جويد در بيابان |
فهذا القليل الذي ذكرت في توحيده تعالىٰ من أقوال الحكماء كافٍ في هذا المختصر لمن له قلب سليم أو ألقىٰ السمع وهو شهيد.
فقوله : ( بعد توحيدك ) أي بعد توحيدي إيّاك ، اُضيف المصدر إلىٰ المفعول. يريد أنّك تعذّب بنارك الموحّدين والعارفين بحقّك ؟! لا والله ، أنت أجلّ وأرفعُ من أن تعذّب موحّديك ، وتولّه مفرديك ومحبيك.
_____________________________
(١) « الحکمة المتعالية » المشهور بالأسفار الأربعة ، ج ١ ، ص ١٣٣.
(٢) « بحار الأنوار » ج ٩١ ، ص ٢٤٣. |
(٣) « الإقبال » لابن طاووس ، ص ٦٦٠. |
(٤) « الكافي » ج ١ ، ص ٨٥ ، ح ١ ، وفيه : « والعدل والإحسان » بدل : « والنهي عن المنكر ».
( وَبَعْدَ مَا انْطَوىٰ عَليهِ قَلْبي مِنْ مَعْرِفِتكَ )
الانطواء : الاندماج والاجتماع ، وكلمة ( مِن ) بيان لـ ( ما ).
القلب والروح والنفس الناطقة واحدة عند الحكماء ، ولكن فرّق بينها العرفاء والأطباء.
فقال الأطباء : الروح هو البخار اللطيف المتولد في القلب الصنوبري ، القابل لقوّة الحياة والحسّ والحركة.
كما يسمّىٰ هذا البخار عند العرفاء بالنفس ، وما يتوسّط بين المدرك للكلّيات والمدرك للجزئيات بالقلب ، فهو عند العرفاء (١) جوهر نوراني مجرّد يتوسط بين الورح ـ بالمعنىٰ الأول ـ والنفس ، ولكنّ باطنه الروح ، ومركبه وظاهره المتوسط بينه وبين الجسد : النفس.
وفي آية النور في قوله تعالىٰ : ( اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ) (٣) ، وقد مثّل القلب بالزجاجة وبالكوكب الدريّ ، والروح بالمصباح ، والنفس بالشجرة الزيتونة ، فإنّها لا من شرق عالم الأرواح ولا من غرب عالم الأجساد ، بل هي متوسطة بينهما ومشتملة عليهما.
فإنّ النفس ـ كما مرّ ـ جسمانية الحدوث ، روحانية البقاء ، ظاهرها هو البدن وقواه ومشاعره ، وباطنها هو العقل الفعّال وقدرة الله تعالىٰ.
ويمكن أن يراد بالانطواء : الانفطار.
أي بعدما انفطر عليه قلبي ، إذ القلوب مفطورة ومجبولة علىٰ المعرفة ولو إجمالاً ، كما قال عليهالسلام :
_____________________________
(١) انظر « شرح الأسماء » ص ٢١٢. |
(٢) « النور » الآية : ٣٥. |
( رأيت العقل عقلين |
|
فمطبوع ومسموع ) (١) |
وقال صلىاللهعليهوآله : ( ما من مولود إلّا يولد علىٰ الفطرة ، فأبواه ينصّرانه ويهوّدانه ويمجّسانه ) (٢).
در هيچ سری نيست |
|
که سرّى از خدا نيست |
والمعرفة أعمّ من العلم ، إذ هي تطلق علىٰ إدراك الجزئيات أيضاً ، بخلاف العلم ، فإنّه لا يقال إذا أدرك أحد جزئياً : هو عالم به ، بل يقال : عارف به.
( وَلَهجِ بِهِ لِسانِي مِنْ ذَكْرِكَ )
كلمة ( من ) بيانيّة ، والجملة معطوفة علىٰ ما قبلها ، أي وبعد ما لهج به لساني من ذكرك.
واللهجة : التنطّق ، ومنه في وصف علي عليهالسلام قال صلىاللهعليهوآله : ( عليّ أصدق الناس لهجةً ). وقال صلىاللهعليهوآله : ( ما من ذي لهجة أصدق من أبي ذر ) (٣).
( وَاعْتَقَدَهُ ضَميري مِنْ حُبِّكَ )
معطوفة علىٰ ما قبلها.
الضمير : الفؤاد والقلب ، سمّي به لأنّه مضمر ومستتر ، وكلمة ( من ) أيضاً بيانية.
والحب والعشق بمعنًى واحد.
نيست فرقى در ميان حب و عشق |
|
شام در معنى نباشد جز دمشق |
إنّ المحبة للرحمن أسكرني |
|
فهل رأيت محبّاً غير سكران (٤) |
_____________________________
(١) « بحار الأنوار » ج ١ ، ص ٢١٨ ، ح ٤٤ ؛ ج ٧٥ ، ص ٨٠ ، ح ٦٤ ، وفيه : « العلم علمان ... ».
(٢) « بحار الأنوار » ج ٣ ، ص ٢٨١ ، ح ٢٢ ، باختلاف يسير.
(٣) « بحار الأنوار » ج ٢٢ ، ص ٤٠٥ ، ٤٠٦. |
(٤) انظر « شرح الأسماء » ص ٥٣٤. |
كما أنَّ الخمر تذهب بالعقل وتأخذ الإنسان من نفسه ، كذلك العشق والمحبة ـ رزقنا الله تعالىٰ ـ تأخذ الإنسان من نفسه ، وتسكره سكراً ليس له صحو وإفاقة إلىٰ صباح القيامة.
وقد وصفها الله تعالىٰ في كتابه الكريم ، قال : ( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّـهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ) (١). وقال : ( وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلًا ) (٢).
وقال تعالىٰ : ( وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ) (٣) أي مزاج الرحيق المختوم ، وهو ما يمزج به ( من تسنيم ) : وهو عين في الجنة ، ينصبّ علىٰ أهلها من علوّ ، وهو أشرف شراب في الجنة. قال تعالىٰ : ( عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) (٤).
وفي مجمع البيان : « أي هي خالصة للمقرّبين ، يشربونها صرفاً ، ويمزج لسائر أهل الجنة » (٥).
اعلم أنّ مشرب العرب في شربهم مختلف ، فمنهم من يشرب صرفاً ، كما قال الشاعر :
يا ساق لا تشعشع الراح بما |
|
فهو يكفّ عاملاً عن عمل |
وقال ابن الفارض :
عليك بها صرفاً وإن شئت مزجها |
|
فعدلك عن ظلم الحبيب هو الظلم (٦) |
ومنهم من يشرب مزجاً ، كما قال الشاعر :
فقلت : اقتلوها عنكم بمزاجها |
|
[ فأطيب ] (٧) بها مقتولة حين تقتل (٨) |
وقال أبو القاسم الحريري في مقاماته توريةً :
_____________________________
(١) « الإنسان » الآية : ٥ ـ ٦. |
(٢) « الإنسان » الآية : ١٧ ـ ١٨. |
(٣) « المطففين » الآية : ٢٧. |
(٤) « المطففين » الآية : ٢٨. |
(٥) « مجمع البيان » ج ١٠ ، ص ٥٨١. |
(٦) « ديوان ابن الفارض » ص ١٨٤. |
(٧) من المصدر ، وفي المخطوط : « فحب ». |
(٨) « ديوان الأخطل » ص ١٥٥. |
يا قوم كم من عاتق عانس |
|
ممدوحة الأوصاف في الأنديهْ |
قتلتها لا أتّقي وارثاً |
|
يطلب مني قوداً أو دِيَهْ |
وقال حسّان بن ثابت :
إنّ التي ناولتني فرددتها |
|
قُتِلَتْ قُتِلتْ فهاتها لم تقتل (١) |
والله تعالىٰ حرّم أصنافها علىٰ المؤمنين في الدنيا ، ووعدهم في الاُخرىٰ الصِّرفَ للمقرّبين ، والممزوجَ لأصحاب اليمين.
وقول الحريري : « عانس » ، يقال : عنست الجارية ، إذا بلغت وبقيت عنج أهلها ، حتىٰ خرجت عن إدارة الأبكار ولا يتزوجها أحد.
والعاتق : من أسماء الخمر ، وهي التي مضت عليها مدّة طويلة ، سنة أو سنتان أو أكثر منها.
( وَبَعْدَ صِدْقِ اعْتِرافِي وَدُعائِي خاضِعاً لِرُبُوبِيَّتِكَ )
الاعتراف والتصديق بمعنًى واحد ، والربوبية من الربوب من الرب ، ومعناها بالفارسية : خداوندي. ومنه الحديث : ( العبودية جوهرة كنهها الربوبية ) (٢).
( هَيْهاتَ ، أنتَ أَكْرَمُ مِنْ تُضَيِّعَ مَنْ رَبَّيْتَهُ )
وهذه الجملة ناظرة إلى ما قبلها ، إلىٰ قوله : ( أتراك معذّبي ).
( هيهات ) اسم فعل معناه : بَعُدَ.
التضييع : الإفساد.
( ربّيته ) : من التربية.
_____________________________
(١) « ديوان حسّان بن ثابت » ص ١٨٥ ، وفيه : « فاولتني » ، بدل : « ناولتني ».
(٢) « التفسير الصافي » ج ٤ ، ص ٣٦٥.
( أوْ تُبَعِّدَ مَنْ أدْنَيتَهُ )
أدنوه منّي : أي قرّبوه ، من الإدناء ، قد مرّ الكلام فيه.
( أوْ تُشَرِّدَ مَنْ آوَيْتَهُ)
التشريد : التطريد والتفريق ، كما قال تعالىٰ : ( فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ) (١).
( آويته ) : أي مكّنته عندك وضممته إلىٰ عبادك ، كقوله تعالىٰ : ( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) (٢) أي انضموا واجتمعوا إليه.
( أوْ تُسَلِّمَ إلىٰ البَلاءِ مَنْ كَفَيْتَهُ وَرَحِمْتَهُ )
البلاء هنا بمعنىٰ الغمّ والحزن.
( كَفَيْتهُ ) : أي أغنيته عن غيرك ، كقوله تعالىٰ : ( أَلَيْسَ اللَّـهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) (٣) أي بمغنٍ.
( رَحِمْتَهُ ) : رزقته وأحسنت إليه.
( وَلَيْتَ شِعْرِي يا سَيّدِي وإلٰهي ومَولاي ، وأتُسَلِّطُ النارَ علىٰ وُجُوهٍ خَرَّتْ لِعَظَمَتِكَ ساجِدَةً )
( ليت شعري ) : كلام يقال في مقام الحيرة في أمر ، والبهت والاستفسار عن باطن ذاته ، وأمثال هذا.
الوجوه ـ جمع « الوجه » ـ : وهو ما اشتمل علىٰ الناصية والذقن وما بينهما من الحاجبين والعينين والخدّين والأنف والفم.
( خرّت ) : أي سقطت.
_____________________________
(١) « الأنفال » الآية : ٥٧. |
(٢) « الكهف » الآية : ١٦. |
(٣) « الزمر » الآية : ٣٦.
( وَعَلىٰ ألْسُنٍ نَطَقَتْ بِتَوْحِيدِكَ صادِقةً )
تقييد التوحيد بالصدق لإخراج توحيد أهل النفاق ، الذي هو الإقرار باللسان فقط ؛ إذ من أقسام الكفر كفر النفاق ، وهو خلاف كفر التهوّد ، الذي هو الإنكار في الظاهر ، والإقرار في الباطن.
مراتب التوحيد :
ثم اعلم أنّ مراتب التوحيد أربعة :
توحيد الذات : وهو أن يرىٰ الموحّد جميع الموجودات ممحوقة ومقهورة في وجود الله تعالىٰ ، بحيث لا يشذّ عن حيطة وجوده وجود.
وتوحيد الصفات : وهو أن يرىٰ الموحّد جميع القُدَر والصفات الكمالية مستهلكة في صفاته ، كما أشعر بالأول : ( لا هو إلّا هو ) وبالثاني ( لا إلٰه إلّا الله ).
وتوحيد الأفعال : وهو أن يرىٰ الموحد جميع الأفعال فانية في فعله تعالىٰ ، كما أشار إليه قوله صلىاللهعليهوآله : ( لا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم ).
توحيد الآثار : وهو أن يرىٰ الموحد كلّ الآثار من الله تعالىٰ ، كما قال الحكماء : لا مؤثر في الوجود إلّا الله.
( وَبِشُكْرِكَ مَادِحةً )
معطوف على التوحيد.
( وَعَلَىٰ قُلُوبٍ اعْتَرَفَتْ بإلِٰهيَّتِكَ مُحَقِّقةً )
أي اعترافاً واضحاً.
( وَعَلَىٰ ضَمِائَر حَوَتْ مِنَ العِلْمِ بِكَ حَتّىٰ صارَتْ خاشِعةً )
( ضمائر ) : جمع « ضمير ».
( حوت ) : أي جمعت من الحجج والبراهين علىٰ توحيدك وتوحيد صفاتك وتوحيد أفعالك وآثارك ، حتّىٰ حصل لها الخشوع والخشية منك ، كما قال تعالىٰ : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (١).
جميع هذه الجمل والفقرات وكذا الفقرتان الآتيتان معطوفة علىٰ « الوجوه ».
( وَعَلَىٰ جَوارِحَ سَعَـتْ إلىٰ أوْطانِ تَعَبُّدِكَ طَائِعةً )
الجوارح : جمع « جارحة » ، وهي الأعضاء من الرأس والظهر والبطن واليدين والرجلين وغيرها.
( سعت ) : أي جهدت وأسرعت.
الأوطان ـ جمع « الوطن » ـ : وهو محلّ التوقّف والإقامة مطلقاً ، سواء كان مولد الشخص فيه أم لا ، والمراد بها هنا : المساجد والمشاهد الشريفة والمعابد ، وكلّ مكان اُقيم فيه طاعته تعالىٰ وعبادته.
التعبّد : هو فعل العبادة وقضاؤها.
أنواع العبادة وحقيقتها
اعلم أنّه كما قال المحقّق الطوسي والحكيم القدّوسي قدسسره ، في الأخلاق الناصرية ، ناقلاً عن أقوال الحكماء : « عبادة الله تعالىٰ علىٰ ثلاثة أنواع.
الأول : ما يجب علىٰ الأبدان ، كالصلاة والقيام ، والسعي في المواقف الشريفة لمناجاته جلّ ذكره.
الثاني : ما يجب علىٰ النفوس ، كالاعتقادات الصحيحة ، من العلم بتوحيد الله وما
_____________________________
(١) « فاطر » الآية : ٢٨.
يستحقه من الثناء والتمجيد ، والفكر فيما أفاضه الله سبحانه علىٰ العالم من وجوده وحكمته ، ثم الاتساع في هذه المعارف.
الثالث : ما يجب عند مشاركات الناس في المدن ، وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح ، وتأدية الأمانات ، ونصح البعض للبعض بضروب المقارنات ، وجهاد الأعداء والذبّ عن الحريم وحماية الحوزة » انتهىٰ.
وحقّ العبادة وحقيقها ـ كما في الحديث ـ ثلاثة أشياء :
الأول : أن لا يرىٰ العبد لنفسه فيما أنعمه الله تعالىٰ ملكاً ؛ إذ العباد لا ينبغي أن يكون لهم الملك ، بل يرون المال مال الله ، يصرفونه حيث أمرهم الله تعالىٰ.
الثاني : أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيراً.
الثالث : أن يكون جملة اشتغاله فيما أمره الله تعالىٰ ونهاه.
فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما أعطاه الله ملكاً هان عليه الإنفاق ، وإذا فوّض العبد تدبير نفسه إلىٰ مدبّره هانت عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد فيما أمره الله ونهاه لا يتفرّغ منهما إلىٰ المراء والمباهاة مع الناس.
فإذا اتّصف العبد بهذه الثلاثة هانت عليه الدنيا وما فيها ، ولا يطلب الدنيا تفاخراً وتكاثراً ، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً ، ولا يدع أيامه باطلة. فهذا أول درجة المتّقين.
ويمكن أن يراد بالتعبّد : دوام فعل العبادة ، كما سمّي من يداوم في العبادة بالمتعبّد.
( وَأشارَتْ بِاسْتِغْفارِكَ مُذْعِنةً )
أي أشارت الجوارح ، فينبغي
أن نعمم الجوارح حتىٰ تشتمل جميع الأعضاء ، من اللسان والجنان والأصابع والعيون والجفون ، وغيرها ممّا ذكر أو لم يذكر ؛ إذا حيث يذكر الذاكرُ المذكورَ الحقيقي جميع المشاعر والقوىٰ والآلات والأدوات
ملتفتاً
ومشيراً إليه تعالىٰ ، كما قيل :
جمله اعضايم سراسر سوى دوست |
|
وقت يا الله إشارت ميكنند |
( ما هْكذا الظَنُّ بِكَ ، وَلا اُخْبِرْنا بِفَضْلِكَ عَنْكَ يا كَريمُ )
كلمة ( ما ) نافية ، و ( هكذا ) كناية عن مقدار الشيء وعدّته.
نقل الكلام ابن هشام في بيان لفظ كذا
قال ابن هشام : « ويرد « كذا » علىٰ ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون كلمتين باقيتين علىٰ أصلهما ، وهما كاف التشبيه و « ذا » الإشارة ، كما تقول : رأيت زيداً فاضلاً ورأيت عمراً كذا.
الثاني : أن تكون كلمة واحدة مركّبة من كلمتين ، يكنىٰ بهما عن غير عدد ، كما جاء في الحديث : ( يقال للعبد يوم القيامة : أتذكر يوم كذا وكذا فعلت كذا وكذا ).
الثالث : أن تكون كلمة واحدة مكنّياً بها عن العدد ، فتوافق « كأيّن » في أربعة أمور : التركيب ، والبناء ، والإبهام ، والافتقار إلىٰ التمييز.
وتخالفها في ثلاثة :
أحدها : أنّها ليس لها صدر الكلام.
الثاني : أنّ مميزها واجب النصب ، فلا يجوز جرّه بـ ( من ) اتفاقاً ، ولا بالإضافة ، خلافاً للكوفيين.
الثالث : لا تستعمل غالباً إلّا معطوفاً عليها » (١) انتهىٰ.
وهاهنا من الوجه الثاني ، ولكنّها مركّبة من كلمات ثلاث ، هي : « هاء » التنبيه ، و « كاف » التشبيه ، و « ذا » الإشارة ، مجرّدة عن معانيها ، وصيرورتها كلمة واحدة كنّىٰ بها عن غير العدد.
_____________________________
(١) حكاه عنه العلّامة الطريحي في : « مجمع البحرين » ج ١ ، ص ٣٥٧.
معنىٰ الظن
الظن يأتي لمعانٍ أربعة كما في المجمع (١).
منها معنيان متضادان :
أحدهما : الشكّ.
والآخر : اليقين الذي لا شكّ فيه.
فمن موارد اليقين قوله تعالىٰ : ( وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّـهَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) ومعناه : علمنا وأيقنا.
ومنها معنيان ليسا بمتضادين :
أحدهما : الكذب.
والآخر : التهمة.
والذي أريد هنا هو المعنىٰ المصطلح ، وهو الطرف الراجح من طرفي الاعتقاد ، أي الذي بمعنىٰ الحسبان ، كما هو المراد في الحديث القدسي : ( أنا عند حسن ظنّ عبدي المؤمن ) (٣).
وفي الأخبار : ( أحسن ظنك ببارئك ) (٤).
وقيل : فليحسن العبد ظنّه بربّه.
وقوله : ( ولا اُخبرنا ) أي ولا هكذا اُخبرنا ، مجهول المتكلّم من الماضي من الإخبار ، يريد أنَّ الذي أخبرنا بفضلك عنك عن نبيك بعكس ذلك ، وهو قوله تعالىٰ : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (٥).
_____________________________
(١) « مجمع البحرين » ج ٦ ، ص ٢٧٩. |
(٢) « الجن » الآية : ١٢. |
(٣) « بحار الأنوار » ج ٦٧ ، ص ٣٦٦ ، ٣٨٥ ، ٣٩٠.
(٤) « بحار الأنوار » ج ١١ ، ص ٢٦٣ ، وفيه : « بربك » بدل : « ببارئك ».
(٥) « الزمر » الآية : ٥٣.
وإنّه غافر الخطيئات ، ماحي السيئات ، معطي المسألات ، رافع الدرجات ، قاضي الحاجات ، واهب العطيات ، غفور رحيم ، ذو الفضل العميم ، ذو العرش العظيم ، حكيم قديم حليم كريم ، عطوف رؤوف ، وأمثال ذلك.
( يا رَبِّ وأنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي )
( ضعفي ) : ووهني ووهيي.
( عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاءِ الدُنيا )
كحرارة أهوية الصيف ، وبرودة الشتاء ، والجوع والظمأ ، وأمثال ذلك.
( وَعُقوباتِها )
ونكالها ، كالآلام والأوجاع ، وانكسار العظم ، وقطع اليد والرجل وسائر الأعضاء ، وكالوقوع في المخاوف والمهالك ، وسياسات السلاطين والحكّام ، والتجلّد بالحدود ، وأمثال ذلك.
( وَما يَجْرِي فِيها مِنَ المَكارِهِ عَلَىٰ أهْلِها )
والضمائر الثلاثة راجعة إلىٰ ( الدنيا ).
( عَلَىٰ أنَّ ذلِكَ )
أي بلاء الدنيا وعقوباتها والمكاره التي تجري علىٰ أهلها.
( بَلاءٌ وَمَكْرُوهٌ قَلِيلٌ مَكْثُهُ )
ساعة أو يوم أو اُسبوع أو شهر أو سنة ، كلّ ذلك :
( يَسِيرٌ بَقاؤهُ )
سريع الزوال.
البقاء : خلاف الفناء ، كما أنَّ القليل واليسير خلاف الجزيل والكثير.
( قَصِيرٌ مُدَّتُهُ )
وزمانه القصير ، ضدّ الطويل.
( فَكَيْفَ احْتِمالي لِبَلاءِ الآخِرَةِ وَجَلِيلِ وُقُوعِ المكارِهِ فِيها )
يريد أنَّ الإنسان الضعيف النحيف الذي لا يطبق احتمال العذاب والعقوبات السريعة الزوال في الدنيا ، كيف يحتمل العقاب والعذاب الدائم المخلّد في الآخرة ، كما قلت في كتابك الكريم : ( وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ ) (١).
( وَهُوَ بَلاءٌ تَطُولُ مُدَّتُهُ ، وَيَدومُ مَقامُهُ ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْ أَهْلِهِ )
أي أهل البلاء ، وهو لا يخّفف عن أهله ، لأنه كما قال تعالىٰ : ( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا ) (٢).
بيان حشر أصناف الخلق
واعلم أنّ دار الآخرة هي دار بروز صور الملكات والأخلاق ، وأهل المحشر يحشرون علىٰ أصناف شتىٰ وأقسام مختلفة :
فبعضهم يحشرون علىٰ صور البهائم ، اُولئك الذين كانوا في الدنيا واقفين عن تحصيل المعارف الحقّة والكمالات الدينية بالرياضات الشرعية ، وبذلوا جهدهم
_____________________________
(١) « السجدة » الآية : ٢١. |
(٢) « النساء » الآية : ٥٦. |
وصرفوا همّهم في سوق الشهوات ونيل اللذات العاجلة كيفما اتّفق ، وكم من آية مرّت عليهم في الدنيا وهم عنها معرضون !
وبعضهم يحشرون علىٰ صور الذؤبان والحضاجر (١) ، اُولئك الذين كانوا في الدنيا حسدين علىٰ ما أنعم الله به عباده من المال والكمال والجمال والعزّة والجلال ، ولازالوا حاسدين وتمكنوا فيه ، فماتوا علىٰ مَلَكته ، وكم من نذير جاءهم فيها وهم عنه غافلون !
وبعضهم يحشرون علیٰ صورة الدببة والخنازير.
اُؤلئك الذين كانوا في الدنيا حريصين علیٰ ادّخار الزخارف ، ومولعين في كثرة الأكل والشرب ، وما زالوا واقفين علیٰ تلك الصفة الخبيثة ، حتّیٰ تمكنوا فيه وصارت مَلَكتهم ، وكم من ناصح نصحهم تركه وهم عنهم نافرون !
وبعضهم يحشرون علیٰ صور القردة ، اُؤلئك الذين كانت طباعهم مجبولة علیٰ تقليد العباد ، أفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم ، وقصروا هممهم علیٰ إراءة صفات أهل الله بأقبح وجه وأسوأ حال ، ومازالوا عاكفين عليها وماتوا علیٰ مَلَكتها ، وكم من شفيع زاجر منعهم عن تلك الصفات الخسيسة وهم عنهم سائمون !
وبعضهم يحشرون علىٰ صور الاُسود والفهود والكلاب والنمور ، اُولئك الذين شيمتهم في الدنيا سَوق الغضب علىٰ الخلائق ، وديدنهم القهر ومزق الأعراض وهتك العصم بلا حجة شرعية ، ومازالوا تورّطوا فيها حتّىٰ صارت مَلَكتهم ، وكم من شفيق مكرم نصحهم تركها فما سمعوا ، وماتوا وهم كافرون !
وهكذا بعضهم علىٰ صور النمل ، وبعضهم علىٰ صور العقارب والزنابير والحيّات ، وقِسْ عليها ما لم يُذكر.
هذا علىٰ طريقة الإمامية الاثني عشرية الحقّة ، ومذهب حكماء الإسلام ، بل
_____________________________
(١) كذا في المخطوط.
مذهب جميع الحكماء ، من إدريس عليهالسلام إلىٰ زماننا هذا ، وإليها ذهب جميع العرفاء ، وأهل الكشف والشهود ، والآيات الفرقانية ، والأحاديث الصحيحة الصريحة ، والآثار من الحكماء النظّار والعرفاء ـ أولي الأيدي والأبصار ـ في هذا الباب أكثر من أن تعدّ وتحصىٰ.
قال العارف الرومي في مواضع من المثنوي ، منها :
ز آنكه حشر حاسدان روز كنند |
|
بيگمان بر صورت گرگان کنند |
حشر پر حرص خس مردار خوار |
|
صورت خوکی بود روز شمار |
زانيانرا کند اندام نهان |
|
خمر خوارانرا بود کند دهان |
سيرتی کاندر نهادت غالب است |
|
هم بر ان تصوير حشرت واجب است |
ومنها :
آيد ريده پوستين يوسفان |
|
کرك بر خيزى از ان خواب كران |
كشته گرگان هر يکی خوهای تو |
|
ميدارنند از غضب اعضای تو |
آنسخهای چو مار و گردمت |
|
مار و کژدم گردد و گيرد دمت |
ای برادر تو همين انديشهٔ |
|
ما بقی تو استخوان وريشهٔ |
گر بود انديشه ات کل گلشنی |
|
ور بود خاری تو هيمه گلخنی |
کان قندم نيستان شکرم |
|
هم ز من ميرويد ومن ميخورم |
إلىٰ غير ذلك.
وقيل :
إنّ يوم الحشر إذا حُشر الناس علىٰ تلك الصور صاحوا وفزعوا فزعاً عظيماً ، ونادوا نداء ، ويقولون : يا ويلتىٰ ما هذه ، ما كنّا بهائم
وذؤباناً واُسوداً وفهوداً وعمياناً ، كما أخبر الله تعالىٰ عن الحال الجاهلين في الدنيا ، وقولهم
هنالك : ( رَبِّ
لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ) (١).
چشم بينا خشه ام من أى كرام |
|
كور محشورم كند يوم القيام |
فيقال لهم : إنّما هي أعمالكم تردّ إليكم ، ومَلَكاتكم صوّرت لكم ، فيقولون : يا ليتنا كنّا تراباً.
كاش از خاكى سفر نگزيد می
ثمّ يعرضون جميعهم علىٰ النار ، ويصلون فيها خالدين إلىٰ ما شاء الله.
( لأنّهُ لا يَكُونُ إلّا عَنْ غَضَبِكَ وَانْتِقامِكَ وَسَخَطِكَ )
الضمير يرجع إلىٰ البلاء.
الغضب في الحيوان : غليان دم القلب الصنوبري إذا أدرك ما ينافر طبيعته ، وأراد التفصّي عنه أو الانتقام علىٰ باعثه.
وفي الله تعالىٰ : عقابه وإرادة الانتقام من العصاة ، فإنّه يفعل بالكفّار ما يفعل الملك الجبّار إذا غضب علىٰ من تحت يده.
وفي رواية عمرو بن عبيد مع أبي جعفر عليهماالسلام ، وقد قال له : قوله تعالىٰ : ( وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ) (٢) ما ذلك الغضب ؟ فقال عليهالسلام : ( هو العقاب يا عمرو ، وإنّه مَن زعم أَنَّ الله قد زال من شيء إلىٰ شيء فقد وصفه صفة المخلوقين ) (٣).
أقول : قد مرّ في المكر أنَّ الغضب والحياء والخدعة والتردّد وأمثال ذلك ، إذا اُسند إليه تعالىٰ يراد بها الغايات لا المبادئ ، فغاية الغضب مثلاً هو الانتقام والتخلّص ، فإذا أراد الله تعالىٰ عقوبة العاصي أو انتقام الكفّار علىٰ كفرهم ، فصدق عليه تعالىٰ أنّه غضب عليهم. وقِسْ عليه البواقي.
_____________________________
(١) « طه » الآية : ١٢٥. |
(٢) « طه » الآية : ٨١. |
(٣) « الكافي » ج ١ ، ص ١١٠ ، ح ٥.
الانتقام : التعذيب علىٰ المخافة.
السخط : الغضب ، وهو في الإسناد إليه تعالىٰ كالغضب ، يراد به ما يوجب السخط من العقوبة.
( وَهذا ما لا تَقُومُ لَهُ السماواتُ والأرضُ )
يريد أنّ غضبك وانتقامك وسخطك شيء لا تقوم له السماوات والأرض.
( يا سَيِّدِي ، فَكَيْفَ بِيْ وَأنا عَبْدُكَ الضَعِيفُ الذَليلُ الحَقِيرُ المِسْكِينُ المُسْتَكِينُ )
( الضعيف ) : من ضَعُف عن الشيء ، أي عجز من احتماله ، فهو ضعيف.
( الذليل ) من الذُلّ ـ بالضم ـ : بمعنىٰ الهوان والاستخفاف ، خلاف العزّ.
( الحقير ) : الصغير الذليل.
( المسكين ) : الفقير الذي لا يقدر علىٰ قوت يومه وليلته.
( المستكين ) : الخاضع.
يريد : أنّ ما لا تقوم له السماوات والأرض من غضبك وانتقامك كيف يمكن لي تحمّله ومقاومته ، والحال أنّني ( عبدك الضعيف ) ... ؟ إلىٰ آخره ؟
( يا إلٰهي وَرَبِّي وَسَيِّدِي وَمَوْلاي ، لأيِّ الاُمورِ إليكَ أشْكُو ، ولِما مِنْها أضِجُّ وَأبْكِي )
في القاموس : « شكا أمره إلىٰ الله شكوىٰ ـ وينوّن وشكاة وشكاوة وشكية وشِكاية ـ بالكسر ـ إذا أخبر عنه بالسوء » (١).
فالعارف الخبير ينبغي أن لا يشكو إلىٰ غيره تعالىٰ ، مقتفياً بالأنبياء والأولياء ، كما
_____________________________
(١) « القاموس المحيط » ج ٤ ، ص ٥٠٥.
قال تعالىٰ حكاية عن يعقوب النبي عليهالسلام : ( إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّـهِ ) (١).
والشكوىٰ المذمومة هي التي جاءت بها الرواية ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : ( إنّما الشكوىٰ أن تقول : لقد ابتليت بما لم يبتلِ به أحد ، أو تقول : لقد أصابني ما لم يصب أحداً ، وليس الشكوىٰ أن تقول : سهرت البارحة وحُممت اليوم ) (٢).
( و ) عاطفة ، وكلمة ( ما ) في قوله : ( لما ) للاستفهام ، وقيامه سقوط الألف إذا دخلت عليه الحاء ، ومثل « لِمَ » و « بِمَ » و « إلىٰ مَ » وغيرها ، ولكن لمّا كان بعدها حرف من جنسها ، وهي الميم في ( منها ) ، ولم يكن محل الإدغام ، فلم يسقط ألفها. والضمير راجع إلىٰ ( الاُمور ).
الضجّة : الفزع.
سبب البكاء :
وسبب البكاء ـ كما قيل ـ هو إدراك ما لا يلائم الطبيعة ، فإنه إذا أدرك أحدٌ الأمر الغير الملائم له تحرّك روحه البخاري من الظاهر إلىٰ الباطن ، هرباً منه ، فتتمدّد الأعصاب نحو الباطن ، ويضيّق أفضية الدماغ والعصبتين والصدر ، وينعصر منافذها ، ويحدث شكل البكاء ، ويخرج حينئذٍ بالضرورة ما في الدماغ من الرطوبات الرقيقة بالدمع والمخاط ، كما يخرج الماء من الإسفنجة المغموسة فيه عند غمز اليد عليها.
وحصول تلك الرطوبات واجتماعها في الدماغ بسبب أنّ الألم الموجب للبكاء يسخّن القلب عند توجّه الدم والروح إليه ، وحينئذٍ ترتفع منه ومن نواحيه أبخرة حارة إلىٰ الدماغ ، تذيب الرطوبات التي فيه وترقّقها وتسيّلها ، ثمّ تبرد هي بنفسها ، وتغلظ حين وقوفها فيه ، فتصير رطوبات ، فيدفعها الدماغ بالعصر إلىٰ جهة العين ، لاتصال [ ... ] (٣) بها ، وكلّما كان الموجب أقوىٰ كان الدمع أحرّ.
_____________________________
(١) « يوسف » الآية : ٨٦. |
(٢) « بحار الأنوار » ج ٧٨ ، ص ٢٠٢ ، ح ١. |
(٣) كلمة غير مقروءة في المخلوط.