أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]
المحقق: الدكتور يوسف علي طويل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٢٤
لله درّك أيّ نجل كريمة |
|
ولدته فاس منك بعد حبالها (١) |
ولأنت لا عدمتك والد فخرها |
|
وسماك سؤددها وبدر كمالها |
اغلظ على من عاث من أنذالها |
|
واخشع لمن تلقاه من أبدالها |
والبس بما أوليتها من نعمة |
|
حلل الثّناء وجرّ من أذيالها |
خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة |
|
جاءتك لم ينسج على منوالها |
ما جال في مضمارها شعر ولا |
|
سمحت قريحة شاعر بمثالها |
وأثل أبا البركات من بركاتها |
|
وادفع محال شكوكه بمحالها (٢) |
هذه ، أمتع الله ببقائك ، وأسعد بلقائك ، وأراها بما تؤمّله من شريف اعتنائك ، وترجوه من جميل احتفائك ، ما تعرف به من احتذائك ، وتعترف له ببركة اعتفائك ، كريمة الأحياء ، وعقيلة الأموات والأحياء ، بنت الأذواء والأقيال ، ومقصورة الأسرّة والحجال ، بل أسيرة الأساوير والأحجال ، على أنها حليفة آلام وأوصأب ، وأليفة أشجان وأطراب ، صبابة أغراب من صيّابة أعراب ، جاورت سيف بن ذي يزن في رأس غمدان ، وجاوزت مسلمة بن مخلد يوم جابية الجولان ، وذلقت لسان ابن أخته حسّان ، فتضاءلت لرقة حدّه جسوم بني عبد المدان ، وقرّبه وما شيم من غمده قيد ابن الإطنابة بين يدي النّعمان ، قربت ببني جفنة مزار جلّق ، وسعرت لبني تميم نار محلق ، ومرّت على معتاد غالب فما أنست ناره ، وطافت ببيت عبد الله بن دارم فلم ترض جواره ، ولو حلّت بفنائه ، واستحلّت ما أحلّ لها من مبذول حبائه ، لاغتفر لها ما جنته ببطن أواره ، ولحلّت لها حبوتا مجاشع وزراره ، مزقت على مزيقيا حللا ، وأذهبت يوم حليمة مثلا ، وأركبت عنزا شرّ يومها يجدع جملا ، وناطت بأذن مارية قرطها ، وجرّت على أثر الكندي مرطها ، وقفها بين الدّخول فحومل فوقفت ، وأنفها يوم دارة جلجل فأنفت منه وما ألفت ، عقر ناقته وانتهس عبيطها ، ودخل خدر عنيزة وأمال غبيطها. أغرت أبا قابوس بزياد ، وأسرجت للزبيدي فرس أبي داود ونافرت بحاتم طيّ كعب إياد ، وساورت للمساور ، بمثل جوده السّائر. ولئن بلت الجعفري لبيدا ، فلقد استعبدت الأسدي عبيدا ، وقطعت به في أثر سليماه الأسدية بيدا ، أرته المنيّة على حربة هندها الملحوب ، وما حال قريضه ، دون جريضه ، وأقفر من أهله ملحوب ، وما زالت تخبط في شعاب الأنساب فترشد ، وتنشد ضالتها اليمانية ، فتنشد : [الكامل]
إن كنت من سيف بن ذي يزن |
|
فانزل بسيف البحر من عدن |
__________________
(١) في الأزهار : «حيالها».
(٢) في الأزهار : «من آلها».
وذر الشآم وما بناه به الر |
|
روميّ من قصر ومن فدن |
تعلف سيل العرم وتردغسان ، وتمهد لها أهضام تبالة فتقول : مرعى ولا كالسّعدان (١) ، تساجل عن سميحة بابن خرام ، وتناضل بسمير يوم خزام ، وتنسى قاتل ستة آلاف ، وكاسي بيت الله الحرام ثلاثة الأفواف ، فلو ساجلت بنبعها أبا كرب ، وأرته ضراعة خدّها التّرب ، لساجلت به أخضر الجلدة في بيت العرب ، ماجدا يملأ الدّلو إلى عقد الكرب ، بل لو حطت بفناء بيتها الحجري رحلها ، وساجلت بفناء جدّها ذي رعين لاستوفت سجلها. كم عاذت بسيفها اليزني ، فأدركت ذحلها ، ولاذت بركنها اليمني ، فأجزل محلها ، ولو استسقت بأوديتها لأذهبت محلها. كافحت عن دينها الحنيفيّ ، فما كهم حسامها ، ونافحت عن نبيّها الأمّيّ فأيّدت بروح القدس سهامها. سدّت باب الدرب دون بني الأصفر ، وشدّت لموته ثوب موت أحمر ، وما شغلها كسر تاج كسرى عن قرع هامة قيصر. ولقد حلّت من سنام نسبها اليعربي باسمك ذروة ، وتعلّقت من ذمام نبيّها العربي بأوثق عروة. تفرّد صاحب تيماء بأبلقه الفرد فعزّ ، وتمرّد ربّ دومة الجندل لما كان من مارد في حرز ، فما ظنك ، أعزك الله ، بمن حلّ من قدسي عقله ، بمعقل قدس ، يطار إليه فلا يطار ، وراد من فردوس أدبه في جنّة لا يضام رائدها ولا يضار. زها بمجاورة الملك ، فازدهى رؤساء الممالك ، وشغف بمجاورة الملك ، فاشتغل عن مطالعة المسالك ، أيشقّ غباره ، وعلى جبين المرزم مثاره ، أو ينتهك ذماره ، وقلب الأسد بيته ودار أخيه أسامة زاره. ولما قضت من أنديتها العربية أوطارها ، واستوفت على أشرف منازعها الأدبية أطوارها ، وعطّرت بنوافح أنفاسها الذّكية آثارها ، وأطلعت في ظلم أنفاسها الدّجوجية كواكبها النيّرة وأقمارها ، عطفت على معقلتها الشاذلية فحلّت عقالها ، وأمر لها فراق الوطن فلمّا استمرّ لها حلالها ، استودعت بطنان تبالة آلها ، وتركت أهضامها المخصبة وحلالها ، أطلّت على دارات العرب فحيّت أطلالها ، ودعت لزيارة أختها اليونانية أذواء حمير وأقيالها. أطمعتها بلمعيّة ألمعيّتها الأعجمية ، ومثلها يطمع ، وجاء بها من قدماء الحكماء كلّ أوحدي الأحوذية ، فباتت تخبّ إليه وتوضع ، باحثة عن مركز دارتهم الفيثاغورية ، آخذة في إصلاح هيئتهم الإنكساغورية ، مؤثرة لما تدلّ عليه دقائق حقائق بقايا علوم مقايسهم البرهانية ، وتشير إليه رموز كنوز وصايا علماء نواميسهم الكلدانية ، من مأثور تأثير لاهوتية قواهم
__________________
(١) «مرعى ولا كالسّعدان» مثل ، والسّعدان : نبت ذو شوك كأنه فلكة ، ينبت في سهول الأرض ، وهو من أطيب مراعي الإبل ما دام رطبا. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ٢٧٥) ولسان العرب (سعد).
السّيماوية ، راغبة فيما يفاض على مادتها الجسمانية ، ويطرأ على عاقليّتها الهيولانية ، من علويات آثار مواهبها الربّانية ، موافقة لمثلهم المفارقة أفضل موافقة ، موافقة لما وافق من شوارد آرائهم الموفّقة أحسن موافقة. وتحت هذه الأستار محذرات أسرار أضرّ بها الإسرار ، وطالما نكر معارفها الإنكار ، ونقلت من صدور أولئك الصّدور إلى بطون هذه الأوراق ، في ظهور فوق دفاتر فلسفيات معاني علومهم الرّقاق. وفي تلك المغاني ، أبكار معاني ، سكن الجوانح والصدور ، بدل الأرائك والخدور ، ولحن في دياجي ، ظلم هذه الأحاجي ، كأقمار في أطمار بهرن وما ظهرن ، وسطعن وما لمعن ، فعشقن وما رمقن ، واستملحن وما لمحن. أدرن خمور أجفانهن ، على ماخوريات ألحانهن ، فهيّجت البلابل ، نغم هذه البلابل ، واستفرغته الأكياس ، مترعات تلك الأكواس. ما سحر بابل ، كخمر بابل ، ولا منتقى أغانيهن الأوائل ، كحمائمكم الهوادل ، إن وصلت هديلها بحفيف ، وصلن ثقيلهن بخفيف. إيه أيها الشّمري المشمعل ، دعنا من حديثك المضمحل ، سر بنا أيها الفارس النّدس (١) ، من حظيرة النّفس ، إلى حضرة القدس ، صرّح بإطلاق الجمال ، وجل من عالميّتك الملكوتية في أفسح مجال ، تمش بين مقاصر قصورها ، ومعاصر خمورها ، رخيّ البال ، مرخيّ السربال ، فما ينسج لك على منوال ، نادم عليها من شغف دنّ سقراط ، إن استحسنت لها حسان فما يصلح لك صالح بن علاط ، بت صريع محيّاها فقد أوصت بمعالجة عقير معاقرة عقارها بقراط ، لا تخش صاحب شرطتها فلا شرط له عليك ولا اشتراط ، ما لك غير مبديك الأول ، من قال امتثل الأمر وما عليك من أمر وال. على رسلك ما هذا العجل ، لا خطأ تتوقعه ولا خطل ، أمكره أنت في هذه الكريهة ، أم بطل. لو علم أنك ضبارية هذا الخميس ، وخبعثة ذلك الخميس ، لما عانى اليمّ رسيس ، شوقا إليك محمد بن خميس ، على أن لا غالب اليوم لأني غالب ، ولا طالب يدرك شأو هذا الطالب ، فقه بلا تفهق ، وحذق في تحذلق. أقسم أبا الفضل بما لك على أبي البركات من الفضل ، ذلك العراقي الأرومة ، لا هذا الفارسي الجرثومة ، وإن يك ذلك ، إسرائيلي الأصل ، وهذا إسماعيلي الجنس ، علوي الفضل. فلتلك الذات ، شرف تلك الأدوات. قدّم لي غالبنا المذكور ، من بأسه الغرّ لأرفع وأسمى من مقعد رقوطيّهم المشهور ، من إغرناطة الحمراء ، ومن متبوّإ أبي أميّتهم المرحوم من جنّات جزيرتهم الخضراء ، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة ، وألوك ، أرأيت في عمرك مثل هذا الصعلوك؟ لا والله ما على ظهر هذه الغبرا ، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا. فأي
__________________
(١) الفارس النّدس : السريع في الطعن. لسان العرب (ندس).
شيء هذا المنزع؟ إيش ، لا حال لنا معك ولا عيش ، من يضحك على هذا الطيش. ما هذا الخبل ، أخمار بك أم ثمل؟ ارجع إلى ما كنت بصدده وقيت الزّلل ، خذ في الجدّ فما يليق بك الهزل ، رقّ عن ذلك فحكّ لنا منه أرقّ غزل ، ما ذا أقول؟ وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول؟ أفحمتني ، والله ، عن مكالمتكم هذه المحن ، ومنعتني من طلب مسالمتكم ما لكم عليّ في دنياكم هذه من الإحن. إن تكلمت كلمت ، وإذا استعجمت عجمت. أما لهذه العلة آس ، أم على هذه الفيلة مواس؟ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي؟ أما يلين لضعفي ، أما يرقّ قلب زمانكم القاسي؟ ما هذه الدّمن ، يا بني خضراوات الدمن ، أظهرتم المحن ، فقلب لكم ظهر المجنّ (١). إن مرّ بكم الولي حمّقتموه ، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسّقتموه ، وإذا نجم فيكم الحكيم غصصتم به ، فكفّرتموه وزندقتموه. كونوا فوضى ، فما لكم اليوم مسرى سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة ، حيث شئتم ، فقد أهملكم الرعاة. ضيّعتم النص والشرائع ، وأظهرتم في بدعكم العجائب والبدائع. نفّقتم النّفاق ، وأقمتم سوق الفسوق على ساق. استصغرتم الكبائر ، وأبحتم الصّغائر ، أين غنيّكم الشاكر ، يتفقد فقيركم الصابر؟ أين عالمكم الماهر ، يرشد متعلّمكم الحائر. مات العلم بموت العلماء ، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء. جرّد لنا شريعتك يا أفضل الشّارعين ، أتمّ فيها موعظتك يا أفصح التابعين. لا ، والله ، ما يوقظكم من هذا الوسن ، وعظ الحسن ، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن ، إلّا سيف معلّمه أبي الحسن ، والسلام.
قدم غرناطة في أواخر عام ثلاثة وسبعمائة. وتوفي في يوم مقتل صاحبه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم ؛ فرّ من دهليز جاره فيمن كان بها من الأعلام ، بعد أن نهبت ثيابه ، حسبما جرى على غيره من الحاضرين ، وهو يقول : هكذا تقوم الساعة بغتة. ولقيه بعض قرابة السلطان ، ممن كان الوزير قد وتره ، فشرع الرّمح إليه ، فتوسّل إليه برسول الله ، فلم يقبل منه ، وطعنه ، فقتله يوم عيد الفطر عام ثمانية وسبعمائة ، وآخر العهد به ، مطّرحا بالعراء ، خارج باب الفخّارين ، لا يعلم قبره ؛ لمكان الهرج في تلك الأيام ، نسأل الله جميل ستره ، وساء بأثر قتله إياه حال ذلك الرجل وفسد فكره ، وشرد نومه وأصابته علّة رديّة ، فكان يثب المرة بعد الأخرى ، يقول : ابن خميس يقتلني ، حتى مات لأيام من مقتل المذكور.
__________________
(١) أخذه من المثل : «قلب له ظهر المجنّ» ، وهو يضرب لمن كان لصاحبه على مودة ورعاية ثم حال عن العهد. مجمع الأمثال (ج ٢ ص ١٠١).
محمد بن عمر بن علي بن إبراهيم المليكشي (١)
يكنى أبا عبد الله.
حاله : كان فاضلا ، متخلقا ، أديبا ، شاعرا ، صوفيا ، جميل العشرة ، حسن الخلق ، كريم العهد ، طيّب النفس. كتب عن الأمراء بإفريقية ، ونال حظوة ، ثم شرّق وحجّ ، ولقي جلّة ، ووصل الأندلس عام ثمانية عشر وسبعمائة ، فلقي بغرناطة حفاية ، وانسحبت بها عليه جراية ، ثم انصرف إلى وطنه ، وناله به اعتقال ، ثم تخلّص من النّكبة ، وأقام به ، يزجى وقته إلى آخر عمره.
وجرى ذكره في «الإكليل الزاهر» (٢) : كاتب الخلافة ، ومشعشع الأدب المزري (٣) بالسّلافة ، كان ، يرحمه الله ، بطل مجال ، وربّ رويّة وارتجال ، قدم على هذه البلاد وقد نبا به وطنه ، وضاق ببعض الحوادث عطنه ، فتلوّم بها تلوّم النسيم بين الخمائل ، وحلّ بها (٤) محل الطّيف من الوشاح الجائل ، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة ، وميرة (٥) يانعة. ثم آثر قطره ، فولّى وجهه شطره ، واستقبله دهره بالإنابة ، وقلّده خطّة الكتابة ، فاستقامت (٦) حاله ، وحطّت رحاله. وله شعر أنيق ، وتصوّف وتحقيق ، ورحلته (٧) إلى الحجاز سببها (٨) في الخبر وثيق ، ونسبتها (٩) في الصالحات عريق.
شعره : نقلت من خطّ الوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين ، مما قيّد عنه ، وكان خبيرا بحاله (١٠) : [الطويل]
رضى نلت ما ترضين (١١) من كلّ ما يهوى |
|
فلا توقفيني (١٢) موقف الذلّ والشّكوى |
وصفحا عن الجاني المسيء لنفسه |
|
كفاه الذي يلقاه من شدّة البلوى |
__________________
(١) ترجمة محمد بن عمر المليكشي في نيل الابتهاج (ص ٢٣٧) والدرر الكامنة (ج ٤ ص ٢٢٦) ورحلة البلوي (الورقة ٢٢) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥).
(٢) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥).
(٣) في النفح : «الذي يزري».
(٤) في المصدر نفسه : «منها».
(٥) في الأصل : «ومبرة» والتصويب من نفح الطيب.
(٦) في الأصل : «واستقامت» والتصويب من نفح الطيب.
(٧) في النفح : «ورحلة».
(٨) في النفح : «سعيها».
(٩) في النفح : «ونسبها».
(١٠) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥).
(١١) قوله : «ما ترضين» ساقط في الأصل ، وقد أضفناه من نفح الطيب.
(١٢) في الأصل : «فلا توقفني» وكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
بما بيننا من خلوة معنوية |
|
أرقّ من النجوى وأحلى من السّلوى |
قفي أتشكّى لوعة البين ساعة |
|
ولا يك هذا آخر العهد بالنّجوى |
قفي ساعة في عرصة الدار وانظري |
|
إلى عاشق لا يستفيق من البلوى |
وكم قد سألت الريح شوقا إليكم |
|
فما حنّ مسراها إليّ (١) ولا ألوى |
فيا ريح ، حتى أنت ممّن يغار بي |
|
ويا نجد ، حتى أنت تهوى الذي أهوى |
خلقت ولي قلب جليد على النّوى |
|
ولكن على فقد الأحبّة لا يقوى |
وحدّث (٢) بعض من عني بأخباره ، أيّام مقامه بمالقة واستقراره ، أنه لقي ليلة (٣) بباب الملعب من (٤) أبوابها ظبية من ظبيات الإنس ، وفتنة من فتن (٥) هذا الجنس ، فخطب وصالها ، واتّقى بفؤاده نصالها ، حتى همّت بالانقياد ، وانعطفت انعطاف الغصن الميّاد ، فأبقى على نفسه وأمسك ، وأنف من خلع العذار بعد ما تنسّك ، وقال (٦) : [الكامل]
لم أنس وقفتنا بباب الملعب |
|
بين الرّجا واليأس من متجنّب |
وعدت فكنت مراقبا لحديثها |
|
يا ذلّ وقفة خائف مترقّب |
وتدلّلت (٧) فذللت بعد تعزّز |
|
يأتي الغرام بكلّ أمر معجب |
بدويّة أبدى الجمال بوجهها |
|
ما شئت من خدّ شريق (٨) مذهب |
تدنو وتبعد نفرة وتجنّيا (٩) |
|
فتكاد تحسبها مهاة الرّبرب (١٠) |
ورنت بلحظ فاتر لك فاتن (١١) |
|
أنضى وأمضى من حسام المضرب |
وأرتك بابل سحرها بجفونها |
|
فسبت ، وحقّ لمثلها أن تستبي (١٢) |
وتضاحكت فحكت بنيّر ثغرها |
|
لمعان (١٣) نور ضياء برق خلّب (١٤) |
بمنظّم في عقد سمطي جوهر |
|
عن شبه نور الأقحوان الأشنب |
__________________
(١) في النفح : «عليّ».
(٢) النص والقصيدة البائية في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٥ ـ ٣٧٦).
(٣) كلمة «ليلة» ساقطة في النفح.
(٤) في الأصل : «في» والتصويب من النفح.
(٥) في النفح : «وقينة من قينات ...».
(٦) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٦).
(٧) في الأصل : «وتذلّلت» والتصويب من النفح.
(٨) الشريق : المشرق. لسان العرب (شرق).
(٩) في الأصل : «وتجنبا» والتصويب من النفح.
(١٠) المهاة : البقرة الوحشية. والربرب : القطيع من بقر الوحش. لسان العرب (مها) و (ربرب).
(١١) في النفح : «بلحظ فاتن لك فاتر».
(١٢) في الأصل : «تستب» بدون ياء.
(١٣) في الأصل : «لمعات» والتصويب من النفح.
(١٤) البرق الخلّب : المطمع المخلف. محيط المحيط (خلب).
وتمايلت كالغصن أخضله النّدى (١) |
|
ريّان من ماء الشبيبة مخصب |
تثنيه أرياح (٢) الصّبابة والصّبا |
|
فتراه بين مشرّق ومغرّب |
أبت الرّوادف أن تميل بميله |
|
فرست وجال كأنه في لولب |
متتوّجا بهلال وجه لاح في |
|
خلل السجوف (٣) لحاجب ومحجّب |
يا من رأى فيها محبّا مغرما |
|
لم ينقلب إلّا بقلب قلّب |
ما زال مذ ولّى يحاول حيلة |
|
تدنيه من نيل المنى والمطلب |
فأجال نار الفكر حتى أوقدت |
|
في القلب نار تشوّق وتلهّب |
فتلاقت الأرواح قبل جسومها |
|
وكذا البسيط يكون قبل مركّب |
ومن مقطوعاته البديعة ، مما سمع منه بغرناطة ، حرسها الله ، أيام مقامه بها قوله (٤) : [الطويل]
أرى لك يا قلبي بقلبي محبّة |
|
بعثت بها سرّي إليك رسولا |
فقابله بالبشرى (٥) وأقبل عشيّة |
|
فقد هبّ مسك (٦) للنسيم عليلا |
ولا تعتذر بالقطر أو بلل الندى |
|
فأحسن ما يأتي النسيم بليلا |
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي جعفر الرّعيني ، مما أملاه عليّ بمنزله بغرناطة ، قال : وحضرت في عام ثلاثة عشر وسبعمائة ، يوم إحرام الكعبة العليّة ، وذلك في شهر ذي القعدة على اصطلاحهم في ذلك ، وصفته أن يتزيّن سدنة البيت من شيبة بأحسن زي ، ويعمدوا إلى كرسي يصل فيه صاعده إلى ثلث الكسوة ، ويقطعها من هنالك ، ويبقى الثلثان إلى الموسم ، وهو يوم مشهود عند سكان الحرم ، يحتفل له ، ويقوم المنشدون أدراج الكعبة ينشدون. فقلت في ذلك : [الطويل]
ألم ترها قد شمّرت تطلب الجدّا |
|
وتخبر أنّ الأمر قد بلغ الحدّا؟ |
فجدّ كما جدت إليها وشمّر |
|
عن السّاعد الأقوى تنل عندها سعدا |
طوت بردها طيّ السّجلّ كناية |
|
لأمر خفيّ سرّه طوت البردا |
وأندت محيّاها فحيّي (٧) جماله |
|
وقبّل على صوت المقى (٨) ذلك الخدّا |
__________________
(١) أخضله الندى : بلّله. لسان العرب (خضل).
(٢) في النفح : «أرواح».
(٣) في النفح : «السحاب».
(٤) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٦).
(٥) في الأصل : «بالبشر» والتصويب من النفح.
(٦) في الأصل : «مسكي» والتصويب من النفح.
(٧) في الأصل : «فحيّا».
(٨) في الأصل : «المقلة» وكذا لا يستقيم الوزن ، والمقى : جمع مقية وهي المأق. لسان العرب ـ (مقى).
فكم سترت سود البرود جمالها |
|
وغطّته لكن عن سنها الرمدا (١) |
وكم خال ذاك الخال عما مقصّر |
|
عن العلم بالأنساب لا يعرف الحدّا |
لقد سفرت عن وجهها الكعبة التي |
|
لها الحجر (٢) المسنيّ في حسنها المبدا |
وقالت ألا أين مكلّلي ، قصدوا إلى (٣) |
|
جمالي فقد أبدى الحجاب الذي أبدا |
فلبّت لها العشّاق من كل جانب |
|
يؤمّونها يستقربون لها البعدا |
فمن ندف أشفى على تلف ومن |
|
محبّ على قرب يهيم بها وجدا |
ومن ساهر على النجوم ولم يذق |
|
بعينيه طعم النور أو يبلغ القصدا |
يسائل عن بدر وبدر تجاهه |
|
كذاك (٤) اشتراك اللفظ قد ينغص الخدا |
ومن مستهام لا يقرّ قراره |
|
كأنّ به من حرّ أشواقه وقدا |
يقلّب قلبا بين جنبيه موريا |
|
أوار الأسى فيه فتحسبه زندا |
إذا ما حدا حادي الرّكاب ركابه |
|
كأنّ قلوب الراكبين له نجدا |
أحاد بها إن أنت جئت بها منى |
|
ونلت المنى والأمن فانزل ورد وردا |
ولا خوف هذا الخيف (٥) والتربة التي |
|
سرت بهما (٦) قد عيّن المصطفى عدّا |
وفي عرفات فاعترف وانصرف إلى |
|
مشاعر (٧) فيها يرحم المالك العبدا |
وإن كنت من أوفى العبيد جرائما |
|
فحسّن نبيل العقد من ربّك العقدا |
لئن صدقت فيك الوعيد جرائم |
|
فعفوا جميل (٨) الصفح يصدقك الوعدا |
وعد مفضيا للبيت طف واستلم وقم |
|
بها للمقام الرحب واسجد وكن عبدا |
ورد في الثنا والحمد والشكر واجتهد |
|
فمن عرف الإحسان زادته حمدا |
وعج نحو فرض الحب واقض حقوقه |
|
وزر قبر من أولاك من هديه رشدا |
قال : وكنت في زمن الحداثة ، أفضّل الأصيل على السّحر ، وأقول فيه رقّة المودّع ورقّة المعتذر. فلمّا كان أوان الأسفار ، واتصلت ليالي السير إلى أوقات
__________________
(١) عجز هذا البيت مختل الوزن والمعنى معا.
(٢) كلمة «الحجر» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(٣) صدر هذا البيت مختل المعنى والوزن معا.
(٤) في الأصل : «كذلك» وكذا ينكسر الوزن.
(٥) الخيف : غرّة بيضاء في الجبل الأسود الذي هو خلف جبل أبي قبيس ، وبها سمي مسجد الخيف. محيط المحيط (خيف).
(٦) كلمة «بهما» ساقطة في الأصل ، وقد أضفناها ليستقيم المعنى والوزن معا.
(٧) المشاعر : مناسك الحج ، مفردها مشعر. محيط المحيط (شعر).
(٨) في الأصل : «لجميل» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
الأسحار ، رأيت أفق الشرق ، ووجدت القائل بفضل السّحر أصدق ، فابتدأت راكبا ، فلمّا جئت لذكر الجناب العليّ النبوي ، أتممت ماشيا ، وأنا في رملة بين مصر وعقبة إيله ، وقلت : [البسيط]
ما أحسن الأفق الشرقيّ إسفارا |
|
فكم هذا في دجى الإدلاج أسفارا |
إذا بدا سارت الأظعان هادية |
|
له وصارت به الظلماء أنوارا |
يجلو غياهب ليل طالما سدلت |
|
على المحبين في الظلماء أستارا |
ونمّ منه نسيم ثم ذا بعد |
|
على أحاديث كانت ثمّ أسرارا |
سرت سحيرا فبرّت سرّ ذي سحر |
|
أهدت له ريح من يهواه معطارا |
سرت ببانات أكناف اللّوى فغدت |
|
كأنّ دارين قد أصبحت دارا |
طابت بطيبة أرواح معطرة |
|
بها فأصبح أفق الشوق عطّارا |
كأنما فلق الإصباح حين بدا |
|
خدّ وبهجة (١) حسن الشمس قد وارى |
حقي بدت وتبدّت حسن صورتها |
|
فعمّت (٢) الأرض أنجادا وأغوارا |
كأنه دعوة المختار حين بدت |
|
دانت لها الخلق إعلانا وإصرارا |
من نوره كل نور أنت تبصره |
|
ونوره زاد للأبصار (٣) إبصارا |
هدا به الله أقواما به سعدا (٤) |
|
لولاه كانوا مع الكفر كفّارا |
هو الشّفيع الذي قالت شفاعته |
|
للموبقين ألا لا تدخلوا النّارا |
هو العفوّ (٥) عن الجاني وإن عظمت |
|
من المسيء ذنوب كان غفّارا |
هو الكريم الذي ما ردّ سائله |
|
يوما ولو كرّر التّسآل تكرارا |
هو الحبيب الذي ألقى محبته |
|
في كل قلب فقلبي نحوه طارا |
أحبّه كلّ مخلوق وهام به |
|
حتى الجمادات أحجارا وأشجارا |
وانشقّ بدر الدّجى من نور غرّته |
|
وانهلّت السّحب من كفّيه أنهارا |
ومن مقطوعاته ، قال : ومما نظمته في ليل السّرى ، وتخيل طيف الكرى ، مبدأ قصيد قصدته ، أي معنى أردته ، أشغل عنه ما بي منه : [الخفيف]
منع الهجر من سليمى هجوعا |
|
فانثنى طبعها يريد الرّجوعا |
__________________
(١) في الأصل : «خدر بهجة» وكذا لا يستقيم الكلام ولا الوزن.
(٢) في الأصل : «فعمّته» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(٣) في الأصل : «الأبصار» وكذا ينكسر الوزن.
(٤) في الأصل : «سعداء» وكذا ينكسر الوزن.
(٥) العفوّ ، بفتح العين وضمّ الفاء : العافي الكثير العفو. محيط المحيط (عفا).
بعثته ليلا يعلّل قلبا |
|
مستهاما بها محبّا ولوعا |
لم يجد غير طرف جفن قريح |
|
شاخصا نحوها يذرّ الدّموعا |
وكتب إلى صديقه شيخنا أبي بكر بن شبرين من بجاية ، وهو معتقل بقصبتها ، وقد امتحنه بذلك أبو عبد الله بن سيد الناس : [الخفيف]
شرح حالي لمن يريد سؤالي |
|
إنني في اعتقال مولى الموالي (١) |
مطلق الحمد والثناء عليه |
|
وهو للعطف والجميل موال |
لا أرى للولاة فيّ احتكاما |
|
ووليّ مال على كل وال |
أرتجي بالمصاب تكفير ذنبي |
|
حسبما جاء في الصّحاح العوالي (٢) |
لا تدوم الدّنا ولا الخير فيها |
|
وكذا الشّرّ ذا وذا للزوال |
فاغتنم ساعة الوصال وكم من |
|
محنة وهي منحة من نوال |
فإذا غبت عنك فاحضر تجدها |
|
للجواب المفيد عن السؤال (٣) |
فهي نور النهار (٤) والنور منها |
|
وهي الأنس في الليالي الطوال |
فاستدمها تدم ولا تضج منها |
|
وأدرها على اليمين ووال |
فإنّ الكأس مجراها على اليمين ، ومسراها لفي الصبح المبين ، تغني عن الإصباح والمصباح ، وتدني لهم معنى النور المشرق في الوجوه الصّباح ، وتجري في الأشباح ، فتسري في الأرواح. وهذه الرسالة طويلة ، فيها كل بديع من نظم ونثر.
فأجابه رحمه الله : [الخفيف]
أرغمن هذه القيود الثّقال |
|
ربّ ودّ مصيره للتّغالي (٥) |
طال صبري على الجديدين حتى |
|
كدت مما لقيت أن يشفقا لي (٦) |
إنّ بعض الرضا لديه فسيح |
|
أيّ مدّ (٧) به وأيّ ابتقال |
حاش لله أن أكون لشيء |
|
شاده الصانع القديم بغال |
إن عندي من الثناء عليه |
|
لأماني لم يملهنّ القالي (٨) |
يا إمامي الذي بودّي لو أم |
|
كن نصلي (٩) إليه أوّار قال |
__________________
(١) في الأصل : «الموال» بدون ياء.
(٢) في الأصل : «العوال» بدون ياء.
(٣) عجز البيت منكسر الوزن.
(٤) في الأصل : «للنهار» وكذا ينكسر الوزن.
(٥) في الأصل : «للتغال» بدون ياء.
(٦) في الأصل : «ل» بدون ياء.
(٧) في الأصل : «مدد» وكذا ينكسر الوزن.
(٨) في الأصل : «القال» بدون ياء.
(٩) في الأصل : «نصي» ، ولا معنى له.
ارج دنياك وارج مولاك واعلم |
|
أنّ راجي سواه غير مقال |
وابتغاء الثواب من ربّك اعمل |
|
فهو يجزي الأعمال بالمثقال |
واغتنم غيبة الرّقيب ففيها |
|
لقلوب الرجال أيّ صقال |
وأحل في الوجود فكر غنيّ |
|
عن ضروب الإنعام والأحقال |
وإذا الوقت ضاق وسّعه بالصّب |
|
ر ولا تنس من شهير المقال |
ربما تكره النفوس من الأم |
|
ر له فرحة كحلّ العقال |
لا غرو أن وقع توان ، أو تلوّم دهر ذو ألوان ، فالأمر بين الكاف والنون ، ومن صبر لم يبوء بصفقة المغبون ، وللسعداء تخصيص ، ومع التقريب تمحيص ، وما عن القضاء محيص ، والمتصرف في ماله غير معتوب ، وقديم الحقيقة إلى الحيف ليس بمنسوب. وقد ورد خطاب عمادي أطاب الله محضره ، وسدّد إلى المرامي العليّة نظره ، ناطقا بلسان التفويض ، سارحا من الرّضا في الفضاء العريض ، لائذا بالانقياد والتسليم ، قائما على أسكفّة (١) باب الأدب لمثابة حكم الحكيم.
ومنها : والوقائع عافاكم الله وعّاظ ، ونحن هجود وفي الحيّ أيقاظ ، وما كل المعاني تؤديها الألفاظ. وهذا الفنا الذي نشأ عن الوقت ، هو إن شاء الله عين البقيا. وإذا أحبّ الله عبدا حماه الدنيا ، وما هي إلّا فنون ، وجنون فنون ، وحديث كله مجون. وقد يجمع الله الشتيتين ، ولن يغلب عسر يسرين ولا باس ، ويا خطب لا مساس ، وأبعد الله الياس ، وإنما يوفي الأجر الصابرون ، ولا ييأس من روح الله إلّا القوم الكافرون. وهي طويلة بديعة.
أسمع بحضرة غرناطة لما قدم عليها وارتسم في جملة الكتاب بها ، وحدّث عن رضي الدين أبي أحمد إبراهيم الطهري ، بسماعه من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي ، بسماعه من أبي الوقت طرّاد. وعن الإمام سراج الدين أبي حفص عمر بن طراد المعري القاضي بالحرم الشريف ، وعن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد الهمداني ، وعن الإمام بهاء الدين الخميري عن أبي الطاهر السّلفي ، وعن جماعة غيرهم ، وكان وروده على الأندلس في أوائل عام خمسة عشر وسبعمائة ، وحضر بها غزوات ، ولقي من كان بها من الأعلام. ثم انصرف عنها في أوائل عام ثمانية عشر ، وأحلّ بسبتة ، فأكرم رئيسها أبو عمر يحيى بن أبي طالب العزفي قدومه ، وأنزله بدار جليلة كان بها علو مطلّ على البحر ، لم يتمكن من مفتاحه ، لأمر اقتضى
__________________
(١) أسكفّة الباب : خشبته التي يوّطأ عليها. محيط المحيط (سكف).
ذلك ، فكتب إليه : [الكامل]
يا صاحب البلد المليح المشرق |
|
ما مثله في مغرب أو مشرق |
منها :
وخفضت عيشي فيه فارفع منزلي |
|
حتى أرى الدنيا بطرف مطرق |
وتجول في البلاد ، ولقي من بها ، واتصل بالأمير أبي علي بسجلماسة ، ومدحه بقصيدة حفظ له منها : [الطويل]
فيا يوسفيّ الحسن والصّفح والرّضا |
|
تصدّق على الدنيا بسلطانك العدل |
ثم اتصل بوطنه.
وفاته : نقلت من خط شيخنا أبي بكر المذكور : وفي عام أربعين وسبعمائة ، توفي بتونس صاحبنا الحاج الفاضل المتصوّف ، الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي المليكشي الشهير بابن عمر. صدر في الطلبة والكتاب ، شهير ذو تواضع وإيثار ، وقبول حسن ، رحمه الله.
محمد بن علي بن الحسن بن راجح الحسني (١)
من أهل تونس ، يكنى أبا عبد الله.
حاله : هذا (٢) الرجل الفاضل ، صاحب رواء وأبّهة ، نظيف البزّة ، فاره المركب ، صدوف عن الملّة ، مقيم للرسم ، مطفّف في مكيال الإطراء ، جموح في إيجاب الحقوق ، مترام إلى أقصى آماد التوغّل ، سخيّ اللسان بالثناء ثرثاره ، فكه مطبوع ، حسن الخلق ، عذب الفكاهة ، مخصوص حيث حلّ من الملوك والأمراء بالأثرة ، وممّن دونهم بالمداخلة والصّحبة ، ينظم الشّعر ، ويحاضر بالأبيات ، ويتقدّم في باب التّحسين والتّقبيح ، ويقوم على تاريخ بلده ، ويثابر على لقاء أهل المعرفة والأخذ عن أولي الرواية. قدم على الأندلس في إحدى جمادين ، عام خمسين وسبعمائة ، مفلتا من الوقيعة (٣) بالسلطان أبي الحسن بالجهات الشرقية ، بأيدي بني زيّان وأحلافهم ،
__________________
(١) ترجمة ابن راجح في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩).
(٢) راجع نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩ ـ ٢٢٠).
(٣) هي الوقيعة التي دارت بين أبي الحسن المريني ، صاحب المغرب ، وبين بني زيان ، أصحاب تلمسان ، وقد هزم فيها أبو الحسن المذكور.
فمهّد له سلطانها ، رحمه الله ، كنف برّه ، وأواه إلى سعة رعيه ، وتأكّدت بيني وبينه صحبة.
شعره : كتبت إليه لأول قدومه بما نصّه : أحذو حذو أبيات ، ذكر أنّ شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها (١) : [الطويل]
أمن جانب الغربيّ نفحة بارح |
|
سرت منه أرواح الجوى في الجوانح (٢) |
قدحت بها زند الغرام وإنما |
|
تجافيت في دين السّلوّ لقادح |
وما هي إلا نسمة حاجريّة |
|
رمى الشوق منها كلّ قلب بقادح |
رجحنا لها من غير شكّ كأنها |
|
شمائل أخلاق الشّريف ابن راجح |
فتى هاشم سبقا إلى كلّ عليّة (٣) |
|
وصبرا مغار الفتل (٤) في كلّ فادح (٥) |
أصيل العلا ، جمّ السيادة ، ذكره |
|
طراز نضار في برود المدائح |
وفرقان مجد يصدع الشّكّ نوره |
|
حبا الله منه كلّ صدر بشارح |
وفارس ميدان البيان إذا انتضى |
|
صحائفه أنست مضاء الصّفائح |
رقيق كما راقتك نغمة ساجع |
|
وجزل كما راعتك صولة جارح |
إذا ما احتبى مستحفزا (٦) في بلاغة |
|
وخيض (٧) خضمّ القول منه بسابح |
وقد شرعت في مجمع الحفل نحوه |
|
أسنّة حرب للعيون اللّوامح |
فما ضعضعت منه لصولة صادح (٨) |
|
ولا ذهبت منه بحكمة ناصح |
تذكّرت قسّا قائما في عكاظه |
|
وقد غصّ بالشّمّ الأنوف الجحاجح |
ليهنك شمس الدين ما حزت من علا |
|
خواتمها (٩) موصولة بالفواتح |
رعى الله ركبا أطلع الصبح مسفرا |
|
لمرآك من فوق الرّبى والأباطح (١٠) |
ومنها :
أقول لقومي عندما حطّ كورها |
|
وساعدها السّعدان وسط المسارح (١١) |
__________________
(١) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٠ ـ ٢٢١).
(٢) في النفح : «الجوارح».
(٣) في النفح : «غاية».
(٤) في الأصل : «معار الحبل» والتصويب من النفح.
(٥) الفادح : الخطب الذي يثقل حمله. يقول امرؤ القيس من معلقته : [الطويل]
فيا لك من ليل كأنّ نجومه |
|
بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل |
ديوان امرئ القيس (ص ١٩).
(٦) في النفح : «مستحضرا».
(٧) في النفح : «وخوض».
(٨) في النفح : «صادع».
(٩) في النفح : «خواتمه».
(١٠) في الأصل : «والبطائح».
(١١) في النفح : «الأباطح».
ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها |
|
بمعرض سوء فهي ناقة صالح |
إذا ما أردنا القول فيها (١) فمن لنا |
|
بطوع القوافي وانبعاث القرائح |
بقيت منى نفس وتحفة رائد (٢) |
|
ومورد ظمآن وكعبة مادح |
ولا زلت تلقى الرحب (٣) والبرّ حيثما |
|
أرحت السّرى من كلّ غاد ورائح |
فأجابني بما نصه (٤) : [الطويل]
أمن مطلع الأنوار لمحة لامح |
|
تعار لمفقود (٥) عن الحيّ نازح؟ |
وهل بالمنى من مورد الوصل يرتوي |
|
غليل عليل للتواصل جانح؟ |
فيا فيض عين الدمع ما لك والحمى |
|
ورند الحمى والشّيح شيح المشايح (٦) |
مرابع آرامي ومورد ناقتي |
|
فسقيا لها سقيا لناقة صالح |
سقى الله ذاك الحيّ ودقا (٧) فإنه |
|
حمى لمحات العين عن لمح سامح (٨) |
وأبدى لنا حور الخيام تزفّ في |
|
حلى الحسن والحسنى وحلي الملامح |
ترى حيّ تلك الحور للحور مهيع (٩) |
|
يدلّ ، وهل حسم لداء التّبارح؟ |
ويا دوحة الريحان (١٠) هل لي عودة |
|
لعقر عقار (١١) الأنس بين الأباطح؟ |
وهل أنت إلّا طلّة (١٢) حاتميّة |
|
تغصّ نواديها بغاد ورائح |
أقام بها الفخر الخطيب (١٣) منابرا |
|
لترتيل آيات النّدى والمنائح |
وشفّع بالإنجيل حمد مديحه |
|
وأوتر بالتّوراة شفع المدائح |
وفرّق بالفرقان كلّ فريقة |
|
نأت عن رشاد فيه معنى (١٤) النصائح |
وهل هو إلّا للبريّة مرشد |
|
لكلّ هدى هاد لأرجح راجح |
فبشرى (١٥) لسان الدين ساد بك الورى |
|
وأورى الهدى للرّشد أوضح واضح |
__________________
(١) في النفح : «فيه».
(٢) في النفح : «قادم».
(٣) في النفح : «البرّ والرحب».
(٤) القصيدة في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢١ ـ ٢٢٣).
(٥) في النفح : «تعاد لمفؤود».
(٦) في النفح : «الأشايح».
(٧) الودق : المطر. لسان العرب (ودق).
(٨) في النفح : «لامح».
(٩) المهيع : الطريق الواضح. محيط المحيط (هيع).
(١٠) في الأصل : «الرّويحان» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(١١) في النفح : «لعفر عفار».
(١٢) في النفح : «حلة».
(١٣) في الأصل : «ابن الخطيب» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(١٤) في النفح : «محض».
(١٥) في الأصل : «فبشراك شمس الدين» والتصويب من النفح.
متى قلت لم تترك مقالا لقائل |
|
فإن (١) لم تقل لم يغن حمد (٢) لمادح |
فمن حام بالحيّ الذي أنت أهله (٣) |
|
وعام ببحر من عطائك (٤) طافح |
يحقّ له أن يشفع الحمد بالثّنا |
|
ويغدو بذاك البحر أسبح سابح |
ويا فوز ملك دمت صدر صدوره |
|
وبشرى له قد راح أربح رابح |
بآرائك التي تدلّ على الهدى |
|
وتبدي لمن خصصت سيل (٥) المناجح |
ملكت خصال السّبق في كل غاية |
|
وملّكت من (٦) ملكت يا ابن الجحاجح (٧) |
مطامح آمال لأشرف همّة |
|
أقلّ مراميها أجلّ المطامح |
فدونكها يا مهدي المدح مدحة |
|
أحببت بها عن مدح أشرف مادح |
تهنّيك (٨) بالعام الذي عمّ حمده (٩) |
|
مواهب هاتيك البحار الطوافح |
فخذها سميّ الفخر يا خير مسبل |
|
على الخلق إغضاء (١٠) ستور التسامح |
ودم خاطب العليا لها خير خاطب |
|
وأتوق توّاق وأطمح طامح |
وتلقاني بمالقة عند قدومي من الرّسالة إلى المغرب ، في محرم عام ستة وخمسين وسبعمائة ، ونظم لي هذه الأبيات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله : [الطويل]
قدومك ذا أبدى لذي الراية الحمرا |
|
ثغور الرّضى تعبر عن شنب البشرا |
وأينع فجر الرّشد من فلق الهدى |
|
وكوّنه نهرا وفجّره فجرا |
سرينا له كي يحمد السّير والسّرى |
|
ونرقب شمس الدين من فرعك الفجرا |
ونصبح في أحياء للمنّ (١١) نستلم |
|
مواطنكم شفعا وآثاركم وترا |
ونخطب ما ، يا ابن الخطيب ، تشاء (١٢) من |
|
كرائم ذاك الحيّ إذ نهز الشّعرى |
فقابلت بالإقبال والبرّ والرّضى |
|
وأقريت من يقرا وأقررت من قرّا |
فأبناء قدس الحمد حضرة قدسنا |
|
وأقدامنا تملا وأمداحكم تقرا |
__________________
(١) في النفح : «وإن».
(٢) في النفح : «مدح».
(٣) في النفح : «ربّه».
(٤) في النفح : «عطاياك».
(٥) في النفح : «سبل».
(٦) في النفح : «ما».
(٧) الجحاجح : جمع جحجاح وهو السيد السمح الكريم. لسان العرب (جحجح).
(٨) في الأصل : «يهنيك» ، وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(٩) في النفح : «مدحه».
(١٠) في الأصل : «أغضا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(١١) في الأصل : «في أحيان المنّ» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(١٢) في الأصل : «تشا» وكذا ينكسر الوزن.
هنيّا لنا نلنا ونلنا ولم نزل |
|
ننال ولكن هذه المنّة الكبرا |
رأينا وزير الملد والملك واللّوى |
|
وحزب اللّوى كلّ يشدّ به أزرا |
سجدنا وكبّرنا وقلنا : رسولنا |
|
أتى بالذي يرضي بشرى لنا بشرى |
ويهني الورى هذا الإياب فإنّ في |
|
نتائجه للدّهر ما يسهر الدّهرا |
أرانا سنا ذا اليوم أجمل منظر |
|
وجلّى لنا من وجهك الشمس والبدرا |
أما والذي أوليت من نعمة غدت |
|
تعلّمنا للمنعم الحمد والشكرا |
لأنت لسان الدّين للدّين حجّة |
|
تؤيّده سرّا وتعضده جهرا |
بقيت لنا كتفا منيعا مشرفا |
|
ودمت له عضدا ودمت له نصرا |
ودمنا بكم في كلّ أمن ومنّة |
|
ندير المنى خمرا ونصلي (١) العدا جمرا |
ومن أمثل ما مدح به السلطان لأول قدومه بالنسبة إلى غير ذلك من شعره : [الطويل]
أما والعيون النّجل ترمق عن سحر |
|
وورد رياض الخدّ والكأس والخمر |
وريحانه والرّاح والطّلّ والطّلى |
|
ونرجسه والزّهر والنّور والنّهر |
ونور جبين الشمس في رونق الضّحى |
|
وهالة بدر التّمّ منتصف الشّهر |
لقد قلّدت آراء يوسف ملكه |
|
قلائد نصر لن تبيد مع الدّهر |
وقد أيّد (٢) الإسلام منه بناصر |
|
نصير وخير النصر نصر بني نصر |
هم القوم أنصار النبيّ محمد |
|
به (٣) عصبة الأعلام في اليسر والعسر |
وحسبك من قوم حموا سيّد الورى |
|
وقاموا بنصر الحقّ في السّرّ والجهر |
سقى شرعة الإسلام ودق سيوفهم |
|
رحيق الأماني طيّب العرف والنّشر |
فأصبح روض الرّشد يعبق طيبه |
|
ودوح الهدى بالزّهر أزهاره تزري |
فيا سائلي عنه وعن سطواته |
|
إذا لاح محفوفا براياته الحمر |
وجزّ (٤) مع الإقدام جيشا عرمرما |
|
وشرّد بالتأييد شرذمة (٥) الكفر |
__________________
(١) في الأصل : «أو نصلي» وكذا لا يستقيم الوزن ولا المعنى.
(٢) في الأصل : «أيده» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.
(٣) في الأصل : «وحزبه وعصبة ...» وكذا ينكسر الوزن.
(٤) في الأصل : «وجز» وكذا ينكسر الوزن ، ولا معنى له.
(٥) الشّرذمة : الجماعة القليلة من الناس. محيط المحيط (شرذم).
لخلّيلة تنبيك عما وراءها |
|
ولا غرو فالإفصاح يعرف بالعجز |
فيا فوز من أدناه بالغنم والغنى |
|
ويا ويل من أقصاه للقفر والفقر |
يمينا بما اختارت يداك وأحرزت |
|
من الملك والتأييد والنّهي والأمر |
لقد أصعدت مجدي مدائحك التي |
|
ومجدك والعليا مدحت بها شعري (١) |
وحقّ لمثلي يشفع الحمد بالثّنا |
|
ويتلو معانيه مع الشّفع والوتر |
فأجني ثمار الأنس من روضة المنى |
|
وأقطف زهر (٢) الحمد من شجر الشكر |
وأشرب ماء الفوز عذبا ختامه |
|
رحيق براح السّمح في أكؤس البشر |
ولا برحت أمداحكم تعجز النهى |
|
وإلّا فكم تنجني من العسر لليسر |
ولا زالت الأقدار تخدم رأيكم |
|
وراياتكم ما دام نجم للسّرا يسري |
وكتب إليّ في غرض يظهر منه نصّ المراجعة ، وحسبنا الله (٣) : [الطويل]
أما والذي لي في حلاك من الحمد |
|
وما لك ملّاكي عليّ (٤) من الرّفد |
لقد أشعرتني النفس أنك معرض |
|
عن المسرف اللائي لفطرك يستجدي (٥) |
فإن زلّة منّي (٦) بدت لك جهرة |
|
فصفحا فما والله إذ كنت عن عمد (٧) |
فراجعته بقولي (٨) : [الطويل]
أجلّك عن عتب يغضّ من الودّ |
|
وأكرم وجه العذر منك عن الرّدّ |
ولكنني أهدي إليك نصيحتي |
|
وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد |
إذا مقول الإنسان جاوز حدّه |
|
تحوّلت الأغراض منه إلى الضّدّ |
فأصبح منه الجدّ هزلا مذمّما |
|
وأصبح منه الهزل في معرض الجدّ |
فما اسطعت (٩) فيضا (١٠) للعنان فإنه |
|
أحقّ السجايا بالعلاء (١١) والمجد |
__________________
(١) في الأصل : «شعر» بدون ياء.
(٢) في الأصل : «زهير» وكذا ينكسر الوزن.
(٣) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩).
(٤) في النفح : «لديّ».
(٥) في الأصل : «يستجد» بدون ياء. وفي النفح : «الآتي لفضلك يستجدي».
(٦) كلمة «مني» ساقطة في الإحاطة ، وقد أضفناها من النفح.
(٧) في النفح : «... والله أذنبت عن قصد».
(٨) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢١٩).
(٩) في الأصل : «استطعت» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
(١٠) في النفح : «قبضا».
(١١) في الأصل : «بالعلا» وهكذا ينكسر الوزن ، والتصويب من النفح.
توفي يوم الخميس الثالث لشعبان عام خمسة وستين وسبعمائة ، وقد ناهز السبعين سنة ، ودفن بروضتنا بباب إلبيرة ، وأعفي شارب الشّعر من نابي (١) مقصّه.
وغير هذه الدعوى قرارها تجاوز القضية.
محمد بن علي بن عمر العبدري (٢)
من أهل تونس ، شاطبي الأصل ، يكنى أبا عبد الله ، صاحبنا.
حاله : كان فاضلا من أبناء النّعم ، وأخلاف العافية ، ولّي أبوه الحجابة بتونس عن سلطانها برهة ، ثم عدا عليه الدهر ، واضطر ولده هذا إلى اللحاق بالمشرق ، فاتصل به سكناه وحجّ ، وآب إلى هذه البلاد ظريف النّزعة ، حلو الضّريبة ، كثير الانطباع ، يكتب ويشعر ، ويكلف بالأدب ، ثم انصرف إلى وطنه. وخاطبني إلى هذا العهد ، يعرّفني بتقلّده خطة العلّامة ، والحمد لله.
وجرى ذكره في كتاب «الإكليل» بما نصّه (٣) : غذيّ نعمة هامية ، وقريع رتبة سامية ، صرفت إلى سلفه الوجوه ، ولم يبق بإفريقية (٤) إلّا من يخافه ويرجوه ، وبلغ هو مدة ذلك الشرف ، الغاية من التّرف. ثم قلب الدهر له ظهر المجنّ ، واشتدّ به الخمار (٥) عند فراغ الدّنّ ، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق بعد خطوب مبيرة (٦) وشدّة كبيرة ، فامتزج بسكانه وقطّانه ، ونال من اللّذّات ما لم ينله في أوطانه ؛ واكتسب الشمائل العذاب ، وكان كابن الجهم (٧) بعث إلى الرّصافة ليرقّ فذاب ، ثم حوّم على وطنه تحويم الطّائر ، وألمّ بهذه المدينة (٨) إلمام الخيال الزائر ، فاغتنمت صفقة ودّه لحين وروده ، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده ، فحصلت منه على درّة تقتنى ، وحديقة طيّبة الجنى.
شعره : أنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببرّه (٩) : [الطويل]
لكلّ أناس مذهب وسجيّة |
|
ومذهب أولاد النظام المكارم |
__________________
(١) في نفح الطيب (ج ٨ ص ٢٢٣): «ثاني».
(٢) ترجمة محمد بن علي العبدري في الدرر الكامنة (ج ٤ ص ١٩٨) ونفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).
(٣) النص في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).
(٤) في النفح : «من إفريقية».
(٥) الخمار ، بضم الخاء : الألم في الرأس يصيب شارب الخمر. لسان العرب (خمر).
(٦) مبيرة : مهلكة. لسان العرب (بير).
(٧) هو علي بن الجهم ، من شعراء المتوكل العباسي.
(٨) في النفح : «البلاد».
(٩) الأبيات في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).
إذا كنت فيهم ثاويا كنت سيّدا |
|
وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم |
أولئك صحبي ، لا عدمت حياتهم |
|
ولا عدموا السّعد الذي هو دائم! |
أغنّي بذكراهم وطيب حديثهم |
|
كما غرّدت فوق الغصون الحمائم |
ومن شعره يتشوّق إلى تلك الديار ، ويتعلل بالتذكار ، قوله (١) : [الوافر]
أحبّتنا بمصر لو رأيتم |
|
بكائي عند أطراف النهار |
لكنتم تشفقون لفرط وجدي |
|
وما ألقاه من بعد المزار (٢) |
ومن شعره : [الطويل]
تغنّى حمام الأيك يوما بذكرهم |
|
فأطرب حتى كدت من ذكرهم أفنى |
فقلت : حمام الأيك لا تبك جيرة |
|
نأوا (٣) وانقضت أيام (٤) وصلهم عنّا |
فقال ولم يردد جوابا لسائل |
|
ألا ليتنا كنا جميعا بذا حقنا (٥) |
ومن جيد شعره الذي أجهد فيه قريحته ، قوله يمدح السلطان المعظم أبا الحسن في ميلاد عام سبعة وأربعين وسبعمائة : [الطويل]
تقرّ ملوك الأرض أنّك مولاها |
|
وأنّ الدّنا وقف عليك قضاياها |
ومنها :
طلعت بأفق الأرض شمسا منيرة |
|
أنار على كل البلاد محيّاها |
حكيت لنا الفاروق (٦) حتى كأننا |
|
مضينا (٧) بعين لا نكذّب رؤياها |
وسرت على آثاره خير سيرة |
|
قطعنا بأنّ الله ربّك يرضاها |
إذا ذكرت سير الملوك بمحفل |
|
ونادى بها النّادي وحسّن دنياها |
فجودك روّاها وملكك زانها |
|
وعدلك زانها (٨) وذكرك حلّاها |
وأنت لها كهف حصين ومعقل |
|
تلوذ بها أولى الأمور وأخراها |
__________________
(١) البيتان في نفح الطيب (ج ٨ ص ٣٧٧).
(٢) في النفح : «الديار».
(٣) في الأصل : «ناءوا» وكذا ينكسر الوزن ولا يستقيم المعنى.
(٤) كلمة «أيام» ساقطة في الأصل.
(٥) في الأصل : «ألحقنا» وكذا ينكسر الوزن.
(٦) في الأصل : «للفاروق» ، وكذا ينكسر الوزن. والفاروق هنا : هو لقب عمر بن الخطاب ، سمّي بذلك لأنه فرّق بين الحق والباطل. محيط المحيط (فرق).
(٧) كلمة «مضينا» ساقطة في الأصل.
(٨) في الأصل : «زاها» وكذا لا معنى له ، وفي الوقت نفسه يختلّ الوزن.
ومنها بعد كثير :
ومنكم ذوو التّيجان والهمم التي |
|
أناف على أعلى السّماكين أدناها |
إذا غاب منهم مالك قام مالك |
|
فجدّد (١) للبيت المقدّس علياها |
بناها على التقوى وأسّس بيتها |
|
أبو يوسف الزّاكي وسيّر مبناها |
وأورثها عثمن خير خليفة |
|
وأحلم من ساس الأنام وأنداها |
وقام عليّ بعده خير مالك |
|
وخير إمام في الورى راقب الله |
علي بن عمر بن يعقوب ذو العلا |
|
مذيق الأعادي حيثما سار بلواها |
أدام الله وأعطى الخلافة وقتها |
|
ونوّر أحلاك الخطوب وجلّاها |
ووصلني كتاب منه مؤرخ في التاسع عشر من شهر شعبان المكرم من عام أربعة وستين وسبعمائة ، جدّد عهدي من شعره بما نصّه : [الطويل]
رحلنا فشرّقنا وراحوا فغرّبوا |
|
ففاضت لروعات الفراق عيون |
فيا أدمعي منهلّة إثر بينهم |
|
كأنّ جفوني بالدموع عيون |
فيا معهدا قد بنت عنه مكلّفا |
|
بديلي منه أنّة وحنين |
سقتك غوادي المزن كرّ عشيّة |
|
ودادك محلول النطاق هتون |
فإن تكن الأيام لم تقض بيننا |
|
بوصل فما يقضى فسوف يكون |
يعزّ علينا أن نفارق ربعكم |
|
وأنّا على أيدي الخطوب نهون |
ولو بلّغتني العير عنكم رسالة |
|
وساعد دهر باللّقاء ضنين |
لكنّا على ما تعلمون من الهوى |
|
ولكن لأحداث الزمان فنون |
__________________
(١) في الأصل : «مجدّد» وكذا ينكسر الوزن.