إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٥

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ٥

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٤٠

ثانيا لسواك ، وأعربه بعضهم تمييز. (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) لكنا الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة المحذوفة على النون وأدغمت النون في النون والجيد حذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف لأن أنا كذلك والألف فيه زائدة لبيان الحركة وانا مبتدأ وهو أي ضمير الشأن مبتدأ ثان والله مبتدأ ثالث وربي الخبر والياء عائدة على المبتدأ الأول ولا يجوز أن تكون لكن المشددة لعاملة نصبا إذ لو كان كذلك لم يقع بعدها هو لأنه ضمير مرفوع ويجوز أن يكون اسم الله بدلا من هو ومثل هذا التركيب قول القائل :

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب

وتقلينني لكن إياك لا أقلى

ولكن أصله لكن أنا فنقلت حركة الهمزة الى النون ثم حذفت ثم أدغمت النون في النون بعدها وحذفت الألف الأخيرة في الرسم كاللفظ ولو أجرى الوصل مجرى الوقف لثبتت وقدم المفعول وهو إياك للاهتمام ببراءتها من قلاه وتخصيصها بذلك دون غيرها من النساء وواضح ان قوله ترمينني بالطرف استعارة تصريحية لأنه شبه اطلاق البصر بإطلاق الحجر. والواو استئنافية ولا نافية وأشرك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبربي متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به.

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) ولو لا الواو عاطفة ولو لا حرف تحضيض أي هلا وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بقلت وما شاء الله ما موصولة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الذي شاءه الله من بدائع الجمال وتهاويل النعم وتعاجيب المنن والآلاء أو نعرب ما مبتدأ والخبر محذوف تقديره كان والجملة مقول القول وجملة شاء

٦٠١

الله صلة والعائد محذوف كما قدرناه ويجوز أن تكون شرطية منصوبة الموضع بفعل الشرط والجواب محذوف أي كان والمعنى أي شيء شاءه الله كان والجملة كلها مقول القول ولا نافية للجنس وقوة اسمها المبني على الفتح وإلا أداة حصر وبالله خبر لا. (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) إن شرطية وترني فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والنون للوقاية والياء مفعول به وحذفت في رسم المصحف وأنا ضمير فصل وأقل مفعول به ثان لترني ويجوز أن تعرب أنا توكيدا للياء ومنك متعلقان بأقل ومالا تمييز وولدا عطف عليه. (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه اقترن بفعل الرجاء وهو جامد وقد تقدمت مواضع وجوب ربط الجواب بالفاء المجموعة في قول بعضهم :

اسمية طلبية وبجامد

وبما ولن وبقد وبالتنفيس

وربي اسم عسى وان وما في حيزها في محل نصب خبرها وخيرا مفعول ثان ليؤتيني ومن جنتك متعلقان بخير. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) ويرسل عطف على يؤتيني والفاعل مستتر تقديره هو وعليها متعلقان بيرسل وحسبانا مفعول به فتصبح الفاء عاطفة على ما تقدم وتصبح فعل مضارع منصوب لأنه عطف على ما تقدم واسم تصبح مستتر تقديره هي وصعيدا خبر تصبح وزلقا نعت لصعيد من باب الوصف بالمصدر. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أو حرف عطف ويصبح معطوف على ما قبله وماؤها اسم يصبح وغورا خبرها والفاء عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويستطيع منصوب بلن والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وله متعلقان

٦٠٢

بطلبا وطلبا مفعول به. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب مدلول الكلام أي فانقضت الصواعق على جنته وغارت الأمواه فيها وأحيط بثمره بالهلاك أيضا وأحيط فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وبثمره متعلقان بأحيط فأصبح عطف واسمها مستتر تقديره هو وجملة يقلب كفيه خبرها وعلى ما متعلقان بيقلب لأنه ضمن معنى يندم وسيأتي سر هذا التعبير في باب البلاغة ويجوز أن يتعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال من فاعل كفيه أي نادما. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ : يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) الواو للحال وهي مبتدأ وخاوية خبر وعلى عروشها خبر ثان وقد تقدم إعرابه ويقول عطف على يقلب أو الواو للحال وجملة يقول حال من فاعل يقلب وجملة يا ليتني لم أشرك مقول القول ولم حرف نفي وقلب وجزم وبربي متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به وقوله يا ليتني تقدم بحثه مرارا وهو أن تكون يا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف. (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) الواو للعطف ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم وله خبرها المقدم وفئة اسمها المؤخر وجملة ينصرونه صفة لفئة وذكّرت الصفة وجمعت لأن الفئة تتضمن الجمع وهو يتضمن الذكور والإناث ومن دون الله حال والواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها المستتر ومنتصرا خبرها. (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) هنالك اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم والولاية مبتدأ مؤخر ولله متعلقان بما في معنى اسم الاشارة أو بمتعلقه والحق صفة لله ويجوز أن يتعلق اسم الاشارة بمعنى الاستقرار في لله والولاية مبتدأ ولله خبره أي مستقرة لله ويجوز أن يتعلق بالولاية نفسها لأنها مصدر بمعنى النصرة وهو مبتدأ

٦٠٣

وخير خبر وثوابا تمييز وخير عقبا عطف على خير ثوابا وعقبا بمعنى عاقبة.

البلاغة :

حفلت هذه الآية بأفانين متعددة من فنون البلاغة وهذا هو التفصيل :

١ ـ التتميم والاحتراس والكناية :

التتميم أو التمام وقد تقدم بحثه مستوفى في سورة البقرة عند قوله تعالى : «أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب» الآية وهو هنا في وصف الجنتين فإن قوله تعالى «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين» يحتمل أن تكون الجنتان مجرد اجتماع شجر متكانف يستر بظل غصونه الأرض كما تقتضيه الدلالة اللغوية على معنى الجنة أو يكون النفع منها ضئيلا كشجر الأثل والخمط ونحوهما فيكون أسفه عليها أقل من أن تكون الجنتان من نخيل وأعناب ينتفع بما تثمرانه عليه ثم تمم ذلك أيضا بقوله «وجعلنا بينهما زرعا» لئلا يتوهم أن الانتفاع قاصر على النخيل والأعناب ولتكون كل من الجنتين جامعة للأقوات والفواكه متواصلة العمار على الشكل الحسن والترتيب الأنيق ثم تمم ذلك بقوله «وفجرنا خلالهما نهرا» للدلالة على ديمومة الانتفاع بهما فإن الماء هو سر الحياة وعامل النمو الاول في النباتات وإذن فقد استكمل هذا الرجل كل الملاذّ واستوفى ضروب النعم ، ثم تمم ذلك بقوله «كلتا الجنتين آتت آكلها» لاستحضار الصورة التامة للانتفاع بالموارد واحترس بقوله «ولم تظلم منه شيئا» من أن يكون

٦٠٤

ثمة نقص في الأكل الذي آتته وليكون كناية عن تمام الجنتين ونموهما دائما وأبدا وانهما ليستا على عادة الأشجار حيث يتم ثمرها فتؤتيه ببعض السنين دون بعض أو تأتي بالثمر ناقصا عاما بعد عام فهي فيّاضة المورد في كل حين فقد استوفى وصف الجنتين هذه الفنون الثلاثة جميعا.

٢ ـ اللف والنشر المشوش :

وذلك في قوله تعالى : «فقال لصاحبه وهو يحاوره» الآية وحاصل ما قاله هذا الكافر ثلاث مقالات شنيعة وهي : ١ ـ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ، ٢ ـ عند ما دخل جنته متكبرا مزهوا ظالما لنفسه قال وقد رنحه الغرور «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» ، ٣ ـ والثالثة : بادئا بالآخرة لأنها الأهم قائلا «أكفرت بالذي خلقك» وثنى بالثانية ناصحا لأنها تأتي في المرتبة بعدها فقال : «ولو لا إذا دخلت جنتك» إلخ وثلث بالأولى مقرعا فقال «فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك» فهو لف ونشر مشوش وقد تقدم ذكره.

٣ ـ عودة الى التتميم والكناية :

ثم عاد الى التتميم فصور الاطاحة بالجنتين وبالثمر معا فقال «وأحيط بثمره» ثم وصف حالته فقال «فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها» وتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن كما كنى عن ذلك بعض الأنامل والسقوط في اليد.

٦٠٥

قصة الرجلين الأخوين :

وهو أن أحد الرجلين اللذين ضرب بهما المثل وقد رويت قصتهما على طرق شتى وخلاصتها أن رجلين أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن : اللهم إن أخي اشترى أرضا بألف دينار وأنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم اني أشتري منك دارا في الجنة فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال :اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال : اللهم إني اشتريت الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقيل غير ذلك وإنما أوردنا القصة على خلاف شرطنا في هذا الكتاب لطرافتها ولتكون نبراسا للمبدعين من الكتاب.

٤ ـ المبالغة :

وفي قوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» فن يقال له المبالغة والإفراط في الصفة كما سماها ابن المعتز والتسمية الأولى لقدامة وهو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده وقد جاءت المبالغة في الكتاب العزيز على ضروب نذكر ما ورد منها فيه :

أولا ـ فمنها المبالغة في الصفة المعدولة وقد جاءت على ستة أمثلة :

آ ـ فعلان كرحمن ، عدل عن راحم للمبالغة ولا يوصف به إلا الله ولم تنعت العرب به أحدا في جاهلية ولا إسلام إلا مسيلمة الكذاب

٦٠٦

نعتوه به مضافا فقالوا رحمان اليمامة وأنشد شاعر من بني حنيفة يمدح به مسيلمة :

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

ب ـ فعّال معدول عن فاعل للمبالغة كقوله تعالى «وإني لغفار لمن تاب».

ج ـ وفعول عدل عن فاعل للمبالغة كغفور وشكور.

د ـ فعيل عدل عن فاعل للمبالغة كعليم وحكيم.

وهذه الصيغ الأربع وردت في القرآن وهناك صيغتان : مفعل كمطعن ومفعال كمطعام ومبطار.

ثانيا ـ إخراج الكلام مخرج الاخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة والاخبار عنه مجاز وقد جاء منه في القرآن قوله تعالى «وجاء ربك والملك صفا صفا» فجعل مجيء جلائل آياته مجيئا له للمبالغة.

ثالثا ـ إخراج الممكن من الشرط إلى الممتنع ليمتنع وقوع المشروط وقد تقدم ذكر هذا النوع في قوله تعالى «ولا يدخلون الجنة حتى بلج الجمل في سم الخياط».

رابعا ـ ما كان مجازا فصار بالقرينة حقيقة كقوله تعالى «يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار» فإن قتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الحقيقة والإمكان.

٦٠٧

خامسا ـ وقسم أتى بصيغة اسم التفضيل وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» وهو الذي نحن في صدده.

سادسا ـ ما بولغ بصفته على طريق التشبيه كقوله تعالى «إنها نرمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر».

المبالغة في الشعر :

هذا ما ورد من المبالغة وضروبها في الكتاب العزيز. أما هي في الشعر ففنون تتشعب وأنواع اختلفت مقاييسها ومعاييرها كما اختلفت آراء الناس فيها فمنهم من يستجيدها ويراها الغاية القصوى في الجودة ومنهم نابغة بني ذبيان وهو القائل : «أشعر الناس من استجيد كذبه ، وضحك من رديئه» وقد أورد صاحب العمدة مثالا على ذلك ما جرى بين النابغة وحسان بن ثابت ومطالبته حسان بن ثابت بالمبالغة واتهامه بالتقصير في قوله :

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وهي مشهورة مستفيضة في كتب الأدب وأورد صاحب العمدة من أبيات المبالغة التي اختلفت الآراء فيها قول امرئ القيس :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر القطر

٦٠٨

يعملّ به برد أنيابها

إذا غرد الطائر المستحرّ

فوصف فاها بهذه الصفة سحرا عند تغير الأفواه بعد النوم فكيف تظنها أول النوم؟ وفي أول الليل ، وقال امرؤ القيس :

تنورتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عال

وبين المكانين بعد أيام.

وقال أيضا يصف نارها :

نظرت إليها والنجوم كأنها

مصابيح رهبان تشبّ لقفّال

يقول : نظرت إلى نار هذه المرأة تشب لقفال والنجوم كأنها مصابيح رهبان وانما يرجع القفال من الغزو والغارات وجه الصباح فإذا رأوها من مسافة أيام وجه الصباح وقد خمد سناها وكل موقدها فكيف كانت أول الليل؟ وشبه النجوم بمصابيح الرهبان لأنها في السحر يضعف نورها كما يضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع فربما نعسوا في ذلك الوقت.

تعريف آخر للمبالغة :

وذهب قوم الى أن المبالغة افراط في وصف الشيء الممكن عادة القريب وقوعه وسنورد من بديع المبالغة ما يستهوي الألباب فمن ذلك ما رواه أحمد بن حمدون قال : كان الفتح بن خاقان يأنس بي ويطلعني على الخاص من أموره فقال لي مرة : يا أبا عبد الله لما دخلت البارحة الى

٦٠٩

منزلي استقبلتني جارية من جواريّ فلم أتمالك دون أن قبلتها فوجدت بين شفتيها هواء لو رقد فيه المخمور صحا فكان ذلك مما يستظرف ويستملح من الفتح بن خاقان وقد اقتبسه بعضهم فقال :

سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه

فأنحلته حتى الصباح عناقا

بطيب نسيم منه يستجلب الكرى

ولو رقد المخمور فيه أفاقا

وذهب أبو تمام في المبالغة مذهبا عجيبا فقال وأبدع متغزلا :

تلقّاه طيفي في الكرى فتجنّبا

وقبلت يوما ظله فتغضّبا

وخبر أني قد مررت ببابه

لأخلس منه نظرة فتحجّبا

ولو مرت الريح الصبا عند أذنه

بذكري لسب الريح أو لتعتّبا

ولم تجرمني خطرة بضميره

فتظهر إلا كنت فيه مسببا

وما زاده عندي قبيح فعاله

ولا الصدّ والإعراض إلا تحببا

وله أيضا :

قد قصرنا دونك الأبصار خوفا أن تذوبا

كلما زدناك لحظا

زدتنا حسنا وطيبا

مرضت ألحاظ عينيك فأمرضت القلوبا

الفوائد :

١ ـ كلا وكلتا :

كلا وكلتا لفظان يعربان إعراب المثنى إن أضيفا الى الضمير فإن

٦١٠

أضيفا إلى الاسم الظاهر أعربا إعراب الاسم المقصور أي بحركات مقدرة على الألف على كل حال وهما اسمان ملازمان للاضافة ولفظهما مفرد ومعناهما مثنى ولذلك يجوز الإخبار عنهما بما يحمل ضمير المفرد باعتبار لفظهما وضمير المثنى باعتبار معناهما وقد اجتمعا في قول الشاعر :

كلاهما حين جدّ الجري بينهما

قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي

إلا أن اعتبار اللفظ أكثر وبه جاء القرآن الكريم قال تعالى : «كلتا الجنتين آتت أكلها» قال ابن هشام في مغني اللبيب : «وقد سئلت قديما عن قول القائل : زيد وعمر كلاهما قائم أو كلاهما قائمان فكتبت إن قدر كلاهما توكيد قيل قائمان لأنه خبر عن زيد وعمرو وإن قدر مبتدأ فالوجهان ، والمختار الافراد ويتعين مراعاة اللفظ في نحو :كلاهما محب لصاحبه لأن معناه كل واحد منهما وقوله :

كلانا غني عن أخيه حياته

ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا

ومن الأبيات التي أتى فيها ذكر «كلتا» قول حسان بن ثابت :

إن التي ناولتني فرددتها

قتلت ، قتلت ، فهاتها لم تقتل

كلتاهما حلب العصير فعاطني

بزجاجة أرخاهما للمفصل

أخبر عن التي بالمفرد فوحد ثم قال كلتاهما فثنى ، وما معنى كلتاهما حلب العصير ولم يذكر إلا خمرة واحدة وأخبر عن كلتاهما بأرخاهما والصحيح الإخبار عنهما بمفرد لأنهم لحنوا من قال : كلا الرجلين قاما وكلتا المرأتين حضرتا على اللغة الفصيحة ويدل على ذلك

٦١١

قوله تعالى «كلتا الجنتين آتت أكلها» وأيضا فالرواية صحت في المفصل انه بكسر الميم وفتح الصاد وانما يقال مفصل بفتح الميم وكسر الصاد.

وأجاب الحريري وغيره عن هذه الاعتراضات بأن قال : أما قوله :ان التي ناولتني فرددتها قتلت فانه خاطب به الساقي الذي كان ناوله كأسا ممزوجة لأنه يقال : قتلت الخمرة إذا مزجتها فكأنه أراد أن يعلمه أنه فطن لما فعله ثم انه دعا عليه بقوله : قتلت وقوله أرخاهما للمفصل يعني به اللسان وسمي مفصلا لأنه يفصل به بين الحق والباطل.

وقال أبو بكر محمد بن القاسم الانباري : اجتمع قوم على شراب فغناهم المغني البيتين المتقدمين فقال بعضهم امرأتي طالق إن لم أسأل الليلة القاضي عبيد الله بن الحسن عن علة هذا الشعر لم قال إن التي فوحّد ثم قال كلتاهما فثنّى فأشفقوا على صاحبهم وتركوا ما كانوا عليه ومضوا يتخطون القبائل حتى انتهوا الى بني شقرة وعبيد الله يصلي فلما أتم صلاته شرحوا له وسألوه الجواب عن ذلك فقال لهم : إن التي عنى بها الخمر الممزوجة بالماء ثم قال من بعد : كلتاهما حلب العصير يريد الخمر المتحلبة من العنب ، والماء المتحلب من السحاب المكنى عنه بالمعصرات في قوله تعالى : «وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا».

٢ ـ الحال الثابتة :

الأصل في الحال أن تكون منتقلة لأنها مأخوذة من التحول وهو التنقل وتقع ثابتة في مواضع يرجع إليها في المطولات ومنها أن يدل عاملها على تجدد ذات صاحبها وحدوثه أو تجدد صفة له : نحو «ثم سوّاك رجلا» إذ كان من الجائز أن يسويه غير رجل وقولهم خلق الله

٦١٢

الزرافة يديها أطول من رجليها فيديها بدل من الزرافة بدل بعض من كل وأطول حال ملازمة من يديها ومن رجليها متعلقان بأطول لأنه اسم تفضيل وعامل الحال خلق وهو يدل على تجدد المخلوق.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ

٦١٣

عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١))

اللغة :

(هَشِيماً) : يابسا متفرق الأجزاء وقال الزمخشري الهشيم :ما تهشم وتحطم الواحدة هشيمة ، وقال ابن قتيبة : كل ما كان رطبا ويبس فهو هشيم ، ويقال صارت الأرض هشيما أي صار ما عليها من النبات والشجر قد يبس وتكسّر وللهاء مع الشين فاء وعينا خاصة التكسر والتحطيم والرخاوة وكل ما هو غير مقاوم فالهش الرخو اللين من كل شيء وخبزة هشة : رخوة المكسر ويقال فلان هشّ المكسر أي سهل الجانب فيما يطلب عنده من الحوائج يكون ذلك مدحا وذما والهشيش كالهشيم وهشر الناقة حلب ما في ضرعها أجمع وشجرة هشرة وهشور : يسقط ورقها سريعا والهيشر من الرجال الرخو الضعيف الطويل والهشم من الجبال الرخوة وتهشمت الأرض أجدبت لانقطاع المطر عنها.

(تَذْرُوهُ) : تفرقه وتنثره وذرت الريح التراب وأذرت العين دمعها وعيناه تذريان الدموع وطعنته فأذريته عن فرسه وأذراه الفرس عن ظهره رمى به وذرا حدّ نابه : انسحقت أسنانه وسقطت أعاليها ، وبلغني عنه ذرو من قول أي طرف منه وأخذ في ذرو من الحديث إذا عرّض ولم يصرح قال صخر بن حبناء :

أتاني عن مغيرة ذرو قول

وعن عيسى فقلت له كذاك

٦١٤

(نُغادِرْ) : نترك يقال غادر وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل والغديرة الشعر الذي نزل حتى طال والجمع غدائر.

الاعراب :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) الواو استئنافية واضرب فعل أمر ولهم متعلقان باضرب ومثل الحياة الدنيا مفعول به أول والكاف مفعول به ثاني وجملة أنزلناه من السماء صفة لماء ويجوز أن تكون اضرب بمعنى اذكر فينصب مفعولا واحدا فتكون الكاف خبرا لمبتدأ محذوف أو متعلقة بمعنى المصدر أي ضربا كماء.

(فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) الفاء حرف عطف واختلط فعل ماض وبه متعلقان باختلط ونبات الأرض فاعل وسيأتي سر هذا التشبيه في في باب البلاغة. (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) فأصبح عطف على اختلط واسم أصبح مستتر يعود على نبات الأرض وهشيما خبر أصبح وجملة تذروه الرياح صفة لقوله هشيما وكان الواو استئنافية أو حالية وكان واسمها ومقتدرا خبرها وعلى كل شيء متعلقان بمقتدرا. (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) المال مبتدأ والبنون عطف على المال وزينة الحياة مضاف اليه والدنيا صفة.

(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) الواو استئنافية والباقيات مبتدأ والصالحات صفة وخير خبر الباقيات والتفضيل ليس على بابه لأن زينة الدنيا ليس فيها خير أو هو على بابه في زعم الجاهلين والمغرورين وعند ربك متعلقان بمحذوف حال وثوابا تمييز وخير أملا عطف على خير ثوابا. (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ

٦١٥

بارِزَةً) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة نسير مضاف إليها الظرف والفاعل مستتر تقديره نحن والجبال مفعول به وترى الأرض عطف على ما تقدم وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والأرض مفعول به وبارزة حال لأن الرؤية بصرية. (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) الواو هنا للحال وحشرناهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب حال أي نفعل التسيير في حال حشرهم ليشاهدوا بأعينهم تلك الأهوال أو الواو عاطفة وأريد بالماضي المستقبل أي ونحشرهم ومن المفيد أن نورد هنا ما قاله الزمخشري بهذا الصدد وهو : «فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى قلت للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظام» فلم الفاء حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ونغادر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن ومنهم حال لأنه كان صفة لأحدا وأحدا مفعول به (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) الواو عاطفة على وحشرناهم داخلة في حيزها وعرضوا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعلى ربك متعلقان بعرضوا وصفا حال من الواو في وعرضوا. (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئتمونا فعل وفاعل ومفعول به ، وكما نعت لمصدر محذوف أو حال ، وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها وأول مرة نصب على الظرف متعلق بخلقناكم وجملة لقد جئتمونا حالية أو مقول لقول محذوف.

(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) بل حرف إضراب وزعمتم فعل وفاعل وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونجعل مضارع منصوب بلن وفاعله مستتر تقديره نحن والجملة خبر أن ولكم مفعول به ثان وموعدا مفعول به أول لنجعل وموعدا يحتمل الزمان والمكان وإذا كان الجعل مجرد الإيجاد كانت لكم متعلقة به وموعدا هي المفعول به. (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ

٦١٦

مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) الواو عاطفة ووضع فعل ماض مبني للمجهول والكتاب نائب فاعل فترى الفاء عاطفة وترى فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت والمجرمين مفعول به أول ومشفقين مفعول به ثان والرؤية هنا علمية ولك أن تجعلها بصرية فتكون مشفقين حالا ومما متعلقان بمشفقين وفيه متعلقان بمحذوف صلة الموصول.

(وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) ويقولون عطف ويا حرف نداء وويلتنا منادى ينادون هلكتهم التي هلكوها وسيأتي مزيد بيان لهذا النداء في باب البلاغة وما اسم استفهام مبتدأ ولهذا خبره والكتاب بدل وجملة لا يغادر حالية وصغيرة مفعول به ولا كبيرة عطف على صغيرة وإلا أداة حصر وجملة أحصاها صفة لصغيرة ويجوز أن تكون مفعولا ثانية ليغادر لأنها بمعنى ترك وهي تنصب مفعولين والمراد بالاستفهام هنا مجرد التعجب من الكتاب في هذا الإحصاء الدقيق. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الواو عاطفة ووجدوا فعل وفاعل وما مفعول به وجملة عملوا صلة أو ما مصدرية والمصدر المؤول مفعول به أي وجدوا عملهم وحاضرا مفعول به ثان ولا يظلم الواو حالية ولا نافية ويظلم ربك أحدا فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب على الحال.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة قلنا مضافة للظرف وللملائكة متعلقان بقلنا واسجدوا فعل أمر وفاعل ولآدم متعلقان باسجدوا فسجدوا فعل وفاعل وإلا أداة استثناء وإبليس مستثنى والاستثناء منقطع وقيل متصل وقد تقدم تقرير ذلك. (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأنه جواب سؤال مقدر وهو لم لم يسجد فقيل : كان ، واسم كان مستتر

٦١٧

تقديره هو يعود على إبليس ومن الجن خبر ففسق عطف على كان وعن أمر ربه متعلقان بفسق (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) الهمزة للاستفهام الانكاري التعجبي وتتخذونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به وذريته يجوز أن تكون الواو عاطفة وذريته عطف على الهاء ويجوز أن تكون بمعنى مع وذريته مفعول معه وأولياء مفعول به ثان ومن دوني متعلقان بمحذوف صفة لأولياء أو بتتخذونه وهم الواو للحال وهم مبتدأ ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبرهم والجملة حال من مفعول تتخذونه أو فاعله وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم وفاعله مضمر مفسر بنكرة وللظالمين متعلقان ببدلا وبدلا تمييز ويجوز أن يتعلق للظالمين بمحذوف حال والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس البدل إبليس وذريته. (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ما نافية وأشهدتهم فعل وفاعل ومفعول به وخلق السموات والأرض مفعول به ثان ولا خلق أنفسهم عطف على خلق السموات والأرض. (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها ومتخذ خبرها والمضلين مضاف اليه وفيه وضع الظاهر موضع المضمر وعضدا مفعول به ثان لمتخذ وسيأتي الكلام عن هذا التشبيه في باب البلاغة.

البلاغة :

١ ـ في قوله تعالى «واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض» الى آخر الآية تشبيه تمثيلي مقلوب أما التشبيه التمثيلي فهو تشبيه الحياة الدنيا وما فيها من زخارف

٦١٨

تعجب المتلهي برؤيتها والمستمتع بزينتها حتى إذا أفاق من عمايته وجد أن ما كان يتلهى ويستمتع به باطل لا حقيقة ، بالنبات الذي اختلط به الماء الهاطل من السماء فربا والتف ، وزهاورف ، وأنبت من كل زوج بهيج ولم تكد العين تستمتع به والنفس تنشرح بمنظره حتى يبس وتصوّح ثم جف وذبل ثم أصبح هشيما تذروه الرياح فكأنه ما كان ، وأما التشبيه المقلوب فقد كان من حق الكلام أن يقول فاختلط بنبات الأرض ووجهه أنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته وبعبارة أوضح لما كان الاختلاط عبارة عن شيئين متداخلين صدق على كل منهما أنه مختلط ومختلط به لكن في عرف اللغة والاستعمال تدخل الباء على الكثير غير الطارئ فلذا جعل هذا من القلب ، ولما كان القلب مقبولا إذا كان فيه نكتة وهي أن كلا منهما مختلط ومختلط به وهي المبالغة في كثرة حتى كأنه الأصل الكثير فالمراد بالعكس مما قدمناه آنفا هو القلب وهذا من الممتع الرائع فاعرفه.

٢ ـ الاستعارة المكنية في قوله «يا ويلتنا» نداء الويلة قائم على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل : يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك.

٣ ـ التشبيه البليغ في قوله «وما كنتت متخذ المضلين عضدا» فقد شبه المضلين بالعضد الذي يتقوى به الإنسان وأصله العضو الذي هو المرفق الى الكتف ولم يذكر الأداة وقد جعله بعضهم استعارة وهو خطأ لوجود ركني التشبيه وهما المشبه والمشبه به.

٤ ـ استعمال العام في النفي والخاص في الإثبات : وذلك في قوله تعالى : «ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها» فإن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة

٦١٩

فينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأولى أن لا يغادر كبيرة وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرة لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة فينبغي القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة.

٥ ـ وفي قوله تعالى «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» فن الجمع وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم واحد وهو واضح في الآية ومنه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : من أصبح آمنا في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها وهي النواحي والواحد حذفار ومنه في الشعر قول أبي العتاهية :

إن الشباب والفراغ والجدة

مفسدة للمرء أيّ مفسده

وقول ابن خفاجة الأندلسي :

تعلقته ريان من خمر ريقه

له رشفها دوني ولي دونه السكر

وطبنا معا ثغرا وشعرا كأنما

له منطقي ثغر له ولي ثغره شعر

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ

٦٢٠