السيّد سامي البدري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفقه للطباعة والنشر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-499-295-7
الصفحات: ٦١٤
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبي سعيد عقيصا قال : قلت للحسن بن علي ابن أبي طالب عليهالسلام : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته؟ قال عليهالسلام : علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله صلىاللهعليهوآله لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل.
أقول : معنى ذلك ان السبب الموجب للصلحين واحد ، وهذا يستلزم وحدة الخلفيات التي سبقت الصلح ثم وحدة الظرف الموجب له ثم وحدة الموقف ازاءه ثم وحدة النتائج المترتبة وقد تكفلت بحوث الكتاب في تجلية ذلك.
وقد اعترض بعض الباحثين الشيعة على عنوان كتاب صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين قائلا : ان الحسن عليهالسلام لم يصالح بل هادن ، وهو اعتراض لا وجه له ، لان (الهدنة) في اللغة تعني (الصلح) ، قال ابن منظور في لسان العرب مادة (هدن) ويقال للصلح بعد القتال والموادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين : هُدْنَةٌ ، وربما جعلت للهُدْنة مُدّة معلومة ، فإذا انقضت المدة عادوا إلى القتال ، وبذلك فان هادن وصالح مترادفان كما ورد في الرواية اعلاه في سؤال ابي سعيد ثم اجاب الامام عليهالسلام بقوله علة مصالحتي لمعاوية ...
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين.
استضافتي جماعة العلماء العراقية في مدينة قم سنة ١٤١٠ هجرية لإلقاء محاضرة في موسم ثقافي أقامته في شهر رمضان واخترت ليلة الخامس عشر منه ليكون الحديث عن صلح الحسن عليهالسلام حيث لم أكن سابقا قد بحثته ، وأمضيت أربع عشرة ليلة ابحث في المصادر الأساسية.
ورأيت نفسي :
أمام قضية جديدة لم يشر إليها أحد من الباحثين قبلي وهي أن كلَّ ما سجّلتْه كتب التاريخ من ترويع وقتل وسجن وتهجير لشيعة الكوفة من قبل ولاة معاوية لم يكن قد وقع أيام الحسن عليهالسلام بل كان بعد وفاته ، وهذا يعني ان عشر سنوات من حياة الحسن عليهالسلام بعد الصلح كانت سنوات أمان تام للشيعة لم يُروَّع فيها شيعي واحد.
استوقفتني هذه الحقيقة ؛ الكبيرة ؛ المغيَّبة ؛ لأكثر من اثني عشر قرنا. وقد علق استاذي العلامة العسكري رحمهالله في حينها لما عرضت عليه ذلك قائلا : لقد جئت بشيء جديد من أسرار صلح الحسن عليهالسلام.
ورأيت نفسي أيضا أمام معلومات أخرى لم تأخذ طريقها عند الباحثين في تأسيس الرؤية المناسبة حول موقف العراقيين من الحسن عليهالسلام من قبيل قوله حين ترك الكوفة :
وما عن قلى فارقت دار معاشري |
|
هم المانعون حوزتي وذماري |
ومن قبيل قول عبد الله بن الزبير لمعاوية لما اشتكى من قلة تردده عليه عند قدومه إلى المدينة : أنَّ مع الحسن مائة ألف سيف لو شاء لضربك بها ، وقوله : والله ان أهل العراق لأبَرّ بالعراق من أم الحوار بحوارها.
وأمام رواة عرفوا بوضع الأخبار ؛ أمثال عوانة بن الحكم الذي روى عنه الطبري قصة الصلح ؛ التي تؤكد : أنَّ هدف الحسن عليهالسلام من الصلح هو مسألة الحصول على الأموال! وان السبب الذي دعاه للصلح هو خيانة الجيش! وان الذي حصل على أمان الشيعة هو قيس بن سعد! وليس الحسن عليهالسلام!
وأدركت من خلال ذلك أنني أمام (مشروع قراءة جديدة للصلح) تستند على معلومات جديدة وليس مجرد رأي وتحليل للمعلومات القديمة ، ثم فرضت هذه القراءة نفسها عليَّ أن أواصل متابعتها بحثاً ومناقشةً ومحاضرةً مدة ثلاث وعشرين سنة تقريبا في مناسبات شهر رمضان وغيره من الشهور في مدينة قم ولندن وسوريا ، وأسبانيا وبغداد واخيرا النجف الأشرف والحلة الفيحاء ونشرت خلالها ملخصا للبحث في صحيفة الراصد سنة ٢٠٠٣ م التي كانت تصدر في بغداد وجريدة البقية ومجلة النجف الاشرف التي تصدر في النجف عن مؤسسة المرتضى للثقافة والإرشاد ثم نشرت ملخصاً في كراس مستقل طبع عدة مرات.
أثارت القراءة الجديدة ردود فعل كان أكثرها إيجابيا ، ولا زلت أذكر حماسة العلامة الحجة الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمة الله عليه لطبعه مبكرا وقوله : «إنها قراءة جديدة سوف تهدم أمورا كثيرة تسالم عليها الباحثون». ولم أكن في حينها عجولا في نشر البحث التفصيلي ؛ رغم أني كنت أصحر بالقراءة الجديدة في المناسبات كما أسلفت لعلي أفوز بملاحظة أو مناقشة تغير من وجهة البحث.
ثم حانت الفرصة لمراجعة فصول البحث التي كتبت في فترات زمنية مختلفة لتقديمه للطبع ، فاضفت فصلا آخر الى الباب الثاني وبابا آخر بخمسة فصول ولا يفوتني ان اشكر قرة عيني ولدي السيد حسين الذي اشرف على اخراج الكتاب وتصحيحه وطباعته ، وأخيرا ليس لي إلا أن أقول بقول العلامة المحقق الشيخ راضي آل ياسين رحمهالله في مقدمة كتابه :
(وهي ـ بعد ـ بضاعتي المزجاة التي لا أريد منها إلا أن تكون مفتاح بحوث جديدة ، من شأنها أن تكشف كثيرا من الغموض الذي دار مع قضية الحسن عليهالسلام في التاريخ. فان هي وُفِّقَتْ إلى ذلك ، فقد أوتيتُ خيراً كثيرا. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب). (١)
|
السيد سامي البدري ١٤٣٣ هـ / حي الكرامة / النجف الاشرف |
__________________
(١) آل ياسين ، الشيخ راضي ، صلح الحسن عليهالسلام ص ٢٢.
الفهرس الاجمالي
المدخل : التمهيد وسير البحث
تمهيد.................................................................... ١٥
خلاصة الرؤية المشهورة في تعليل الصلح...................................... ١٦
ثلاث ملاحظات أساسية حول الرؤية المشهورة................................. ٢٣
صلح الحسن عليهالسلام في الاعلام الاموي والعباسي وروايات أهل البيت عليهمالسلام........ ٢٧
الرؤية الجديدة............................................................. ٣٣
أبواب البحث وفصوله..................................................... ٣٩
الباب الأول : الرؤية المشهورة : صلح الحسن مع معاوية انهيار مبين
الفصل الأول : المستشرقون : الحسن عليهالسلام شخصية ضعيفة منهارة............... ٤٦
الفصل الثاني : الإسلاميون : الكوفيون متفرقون متخاذلون...................... ٥١
الباب الثاني : القراءة الجديدة صلح الحسن عليهالسلام مع معاوية فتح مبين
الفصل الأول : خلفيات الصلح............................................. ٨٠
الفصل الثاني : سنوات الفتح المبين لمشروع علي عليهالسلام.................. ١١٤
الفصل الثالث : سيرة الامام الحسن عليهالسلام................................... ١٦٣
الفصل الرابع : الغدر المبين لمعاوية في السنوات العشر الثانية من حكمه......... ١٨٩
الفصل الخامس : تعليقات على موارد من كتاب صلح الحسن عليهالسلام للشيخ راضي آل ياسين ٢٣٨
الفصل السادس : مسار الإمامة الإلهية لأربعين سنة.......................... ٢٥٦
الفصل السابع : مقارنة بين صلح النبي صلىاللهعليهوآله وصلح الحسن عليهالسلام.............. ٢٨١
الفصل الثامن : مقتطفات من تاريخ الكوفة من سنة ١٤ هـ ـ ١٤٨ هـ.......... ٢٩١
الباب الثالث : العباسيون يحذون حذوّ الأمويين في تحريف التاريخ
الفصل الأول : تحريف الأمويين للتاريخ..................................... ٣٥١
الفصل الثاني : انشقاق العباسيين عن الحسنيين والأئمة من أهل البيت عليهمالسلام.... ٣٧١
الفصل الثالث : سياسة الاعلام العباسي................................... ٣٨٠
الفصل الرابع : الروايات الطاعنة في عقيدة الوصية بعلي عليهالسلام.................. ٤٠١
الفصل الخامس : كتاب أبي مخنف في مقتل الحسين عليهالسلام..................... ٤٠٥
الفصل السادس : الروايات الطاعنة في أهل الكوفة على لسان علي والحسن عليهالسلام ٤١٢
الفصل السابع : الروايات الطاعنة في الحسن عليهالسلام........................... ٤٤١
الفصل الثامن : ملاحظات نقدية حول رواية البخاري في الصلح وشرح ابن حجر لها ٤٥٣
الفصل التاسع : الروايات التي تطعن في أهل الكوفة.......................... ٤٩١
الباب الرابع : الخلاصة والخاتمه
الفصل الأول : شخصية الحسن عليهالسلام بين الافتراء والواقع..................... ٥٠٧
الفصل الثاني : القراءة السائدة للصلح والمشكلات التي أمامها................. ٥١٧
الفصل الثالث : صلح الامام الحسن عليهالسلام قراءة جديدة....................... ٥٢٠
الفصل الرابع : مسار ثقافة الامة المسلمة................................... ٥٧١
الفصل الخامس : خلاصة في المقارنة بين مراحل سير مشروعين................. ٥٧٩
المدخل
التمهيد وسير البحث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١٥ تمهيد
١٦ خلاصة الرؤية المشهورة في تعليل الصلح
٢٣ ثلاث ملاحظات أساسية حول الرؤية المشهورة
٢٧ صلح الحسن عليهالسلام في الاعلام الاموي والعباسي وروايات اهل البيت عليهمالسلام
٣٣ الرؤية الجديدة
٣٩ أبواب البحث وفصوله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد
تعد قضية صلح الإمام الحسن عليهالسلام مع معاوية / كما تصورها لنا المصادر التاريخية الأولى / من أشد القضايا غموضا وتشوها في تاريخ أهل البيت عليهمالسلام من جهة ، وفي تاريخ العراق الإسلامي المبكر من جهة أخرى ، وذلك لان القراءة الأولية للمصادر التاريخية الإسلامية حول الموضوع تفرض على القارئ ان يخرج بانطباعين سلبيين هما :
الأول : الانطباع السلبي الشديد عن العراقيين الأوائل الذين عاصروا عليا والحسن والحسين عليهماالسلام في الكوفة خاصة ، وهو الانطباع السائد لدى كل من درس الموضوع أو كتب فيه ، وهو : كونهم متفرقين متخاذلين / طالما تمنى علي عليهالسلام فراقهم / غير قادرين على النهوض بدولة مستقلة بهم نظير ما صنعه الشاميون مع معاوية ، بل كان بعض العراقيين / كما في بعض الروايات / يفكر بتسليم الحسن عليهالسلام حيا إلى معاوية ، ولذلك اضطر الحسن عليهالسلام إلى تسليم الأمر لمعاوية ، وهذا الانطباع يستوي فيه القراءة المسلمون بغض النظر عن مذاهبهم.
الثاني : الانطباع السلبي عن شخصية الحسن عليهالسلام لدى القارئ الذي لا تربطه معه رابطة الاعتقاد بإمامته وعصمته أو رابطة الاعتقاد بوجوب محبته واحترامه لأنه من أهل البيت عليهمالسلام الذين أوجب الله تعالى مودتهم ، كالمستشرقين وقد كادوا يجمعون على كون الحسن عليهالسلام شخصية غير جديرة بان تكون ابنا لعلي عليهالسلام وانه باع الخلافة بدراهم من اجل شهواته.
أما القارئ المؤمن بعصمة الإمام الحسن عليهالسلام فلم يؤثر عليه ذلك الركام الهائل من الروايات الطاعنة في شخصيته لإيمانه المسبق ان الحسن عليهالسلام منزَّه عن ذلك وان تلك الروايات لا بد ان تكون موضوعة من قبل أعدائه لتشويه صورته.
ويعد كتاب صلح الحسن عليهالسلام (١) للباحث المحقق الشيخ راضي آل ياسين رحمهالله الذي صدرته الطبعة الأولى منه سنة ١٣٧٢ هـ ـ ١٩٥٢ م افضل واشهر كتاب معاصر في الموضوع ، وقدم له في وقته الحجة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين رحمهالله صاحب التآليف القيمة بكلمة تصدرت الكتاب زادت من قيمته وأهميته ، ومن ثَمَّ سادت الرؤية التي قدمها الكتاب في النقد والتحليل وأخذ بها كلُّ من جاء بعده من الباحثين الشيعة.
ولما كنت في دراستي التي أعرضها بين يديك أيها القارئ الكريم قد خرجت برؤية مخالفة للرؤية السائدة بل هادمة لمرتكزاتها ، مع نتائج جديدة للصلح وأَلَقٍ كبيرٍ في شخصية الحسن عليهالسلام وإمامتمه الإلهية رأيت ان ألخص الرؤية القديمة للصلح بقلم علمين كبيرين من أعلامنا ثم اعرض خلاصة الرؤية الجديدة قبل البدء ببحوث الكتاب.
خلاصة الرؤية المشهورة
في تعليل الصلح
قال العلامة الحجة السيد عبد الحسين شرف الدين رحمهالله : «ومن الغريب بقاء الناس في عشواءَ غمّاءَ من هذا الصلح إلى يومهم هذا ، لا يقوم أحد منهم في بيان وجهة الحسن في صلحه ، بمعالجة موضوعية مستوفاة ببيانها وبيناتها ، عقلية ونقلية ، وكم كنت أحاول ذلك ، لكن الله عز وجل شاء بحكمته أن يختص بهذه المأثرة من هو أولى بها ، وأحق بكل فضيلة ، ذلك هو مؤلف هذا السفر البكر «صلح الحسن» فإذا هو في موضوعه فصل الخطاب ، ومفصل الصواب ، والحد الفاصل بين الحق والباطل. أما المؤلف (أي الشيخ راضي آل ياسين) ـ أعلى الله مقامه ـ فإنك تستطيع أن تستشف ملامحه ، وافر الذهن ، غزير الفهم والعلم ، واسع الرواية ، عليما زاخرا بعلوم آل محمد ، علامة بحاثة ، أمعن
__________________
(١) ظهرت الطبعة الأولى منه سنة ١٣٧٢ هـ ١٩٥٢ م.
في التنقيب عن أسرارهم ، يستجلي غوامضها ، ويستبطن دخائلها ، لا تفوته منها واردة ولا شاردة ، إلى خصائص في ذاته وسماته يمثلها كتابه هذا بجلاء».
ثم قال رحمهالله يلخص الرؤية السائدة عن الصلح :
«ومن أمعن فيما اشتمل عليه هذا الكتاب ، من أحوال الحسن ومعاوية ، علم انهما لم ترتجلهما المعركة ارتجالا ، وإنما كانا في جبهتيهما خليفتين ، استخلفهما الميراث على خُلُقين متناقضين.
وقد وقف الحسن والحسين من دهاء (معاوية) ومكره إزاء خطر فظيع ، يهدد الإسلام باسم الإسلام ، ويطغى على نور الحق باسم الحق ، فكانا في دفع هذا الخطر ، أمام أمرين لا ثالث لهما : اما المقاومة ، واما المسالمة. وقد رأيا أن المقاومة في دور الحسن تؤدي لا محالة إلى فناء هذا الصف المدافع عن الدين وأهله ، والهادي إلى الله عز وجل ، والى صراطه المستقيم. إذ لو غامر الحسن يومئذ بنفسه وبالهاشميين وأوليائهم ، فواجه بهم القوة التي لا قِبَل لهم بها (١) مصمما على التضحية ، تصميم أخيه يوم «الطف» لانكشفت المعركة عن قتلهم جميعا ، ولانتصرت «الأموية» بذلك نصرا تعجز عنه إمكانياتها.
ومن هنا رأى الحسن عليهالسلام أن يترك معاوية لطغيانه ، ويمتحنه بما يصبو إليه من الملك ، لكن أخذ عليه في عقد الصلح ، أن لا يعدو الكتاب والسنة في شيء من سيرته وسيرة أعوانه ومقوية سلطانه ، وأن لا يطلب أحدا من الشيعة بذنب أذنبه مع الأموية ، وأن يكون لهم من الكرامة وسائر الحقوق ما لغيرهم من المسلمين ، وأن ، وأن ، وأن. إلى غير ذلك من الشروط التي كان الحسن عالما بأن معاوية لا يفي له بشيء منها وأنه سيقوم بنقائضها.
وبالجملة فان هذه الخطة ثورة عاصفة في سلم لم يكن منه بد ، أملاها ظرف الحسن ، إذ التبس فيه الحق بالباطل ، وتسنى للطغيان فيه سيطرة مسلحة ضارية. ما كان الحسن ببادئ هذه الخطة ولا بخاتمها ، بل أخذها فيما أخذه من إرثه ، من صلح «الحديبية» فيما أُثِر من سياسة جده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وله فيه أسوة حسنة ،
__________________
(١) كما أوضحه الشيخ آل ياسين في كتابه صلح الحسن عليهالسلام.
إذ أنكر عليه بعض الخاصة من أصحابه ، كما أنكر على الحسن صلح «ساباط» بعض الخاصة من أوليائه ، فلم يهن بذلك عزمه ، ولا ضاق به ذرعه.
تهيأ للحسن بهذا الصلح أن يغرسَ في طريق معاوية كميناً من نفسه يثور عليه من حيث لا يشعر فيُرديه ، وتسنى له به أن يُلغم نصرَ الأموية ببارود الأموية نفسها. فيجعل نصرها جفاءا ، وريحا هباءا. لم يطل الوقت حتى انفجرت أولى القنابل المغروسة في شروط الصلح ، انفجرت من نفس معاوية يوم نشوته بنصره ، إذ انضم جيش العراق إلى لوائه في النخيلة. فقال ـ وقد قام خطيبا فيهم ـ : «يا أهل العراق ، إني والله لم أقاتلكم لتصلوا ولا لتصوموا ، ولا لتزكوا ، ولا لتحجوا ، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون!. ألا وان كل شيء أعطيته للحسن بن علي جعلته تحت قدمي هاتين!» (١).
فلما تمت له البيعة خطب فذكر عليا فنال منه ، ونال من الحسن ، فقام الحسين ليرد عليه ، فقال له الحسن : «على رسلك يا أخي». ثم قام عليهالسلام فقال : «أيها الذاكر عليا! أنا الحسن وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول الله وجدك عتبة ، وجدتي خديجة وجدتك فتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما ، وأقدمنا كفرا ونفاقا!» فقالت طوائف من أهل المسجد : «آمين».
ثم تتابعت سياسة معاوية ، تنفجر بكل ما يخالف الكتاب والسنة من كل منكر في الإسلام ، قتلا للأبرار ، وهتكا للإعراض ، وسلبا للأموال ، وسجنا للأحرار ، وتشريدا للمصلحين ، وتأييدا للمفسدين الذين جعلهم وزراء دولته ، كابن العاس ، وابن شعبة ، وابن سعيد ، وابن أرطأة ، وابن جندب ، وابن السمط ، وابن الحكم ، وابن مرجانة ، وابن عقبة ، وابن سمية الذي نفاه عن أبيه الشرعي عُبيد ، وألحقه بالمسافح أبيه أبي أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويفرقهم عباديد ، تحت كل كوكب ، ويحرق بيوتهم ، ويصطفي أموالهم ، لا يألو جهدا في ظلمهم بكل طريق. ختم معاوية منكراته هذه
__________________
(١) سيأتي التعليق على هذه الرواية والتي بعدها.
بحمل خليعة المهتوك على رقاب المسلمين ، يعيث في دينهم ودنياهم ، فكان من خليعه ما كان يوم الطف ، ويوم الحَرَّة ، ويوم مكة إذ نصب عليها العرادات والمجانيق!. هذه خاتمة أعمال معاوية ، وانها لتلائم كل الملاءمة فاتحة أعماله القاتمة. وبين الفاتحة والخاتمة تتضاغط شدائد ، وتدور خطوب ، وتزدحم محن ، ما أدري كيف اتسعت لها مسافة ذلك الزمن ، وكيف اتسع لها صدر ذلك المجتمع؟ وهي ـ في الحق ـ لو وزعت على دهر لضاق بها ، وناء بحملها ، ولو وزعت على عالم لكان جديرا أن يحول جحيما لا يطاق.
ومهما يكن من أمر ، فالمهم أن الحوادث جاءت تفسر خطة الحسن وتجلوها.
وكان أهم ما يرمي إليه سلام الله عليه ، أن يرفع اللئام عن هؤلاء الطغاة ، ليحول بينهم وبين ما يبيتون لرسالة جده من الكيد. وقد تم له كل ما أراد ، حتى برح الخفاء وآذن أمر الأموية بالجلاء والحمد لله رب العالمين.
الفضل في كشف هذه الحقيقة انما هو لمولانا ومقتدانا علم الأمة ، والخبير بأسرار الأئمة ، حجة الإسلام والمسلمين ، شيخنا المقدس الشيخ راضي آل ياسين أعلى الله مقامه. ذلك لان أحدا من الاعلام لم يتفرغ لهذه المهمة تفرغه لها في هذا الكتاب الفذ الذي لا ثاني له ، وها هو ذا مُشرِف من القمة على الأمة ، ليسُدَّ في مكتبتها فراغا كانت في فاقة إلى سده ، فجزاه الله عن الأمة وعن الأئمة ، وعن غوامض العلم التي استجلاها ، ومخبآته التي استخرجها ، ومحص حقائقها ، خير جزاء المحسنين ، وحشره في أعلى عليين [مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا].
حرر في صور (جبل عامل). في الخامس عشر من رجب سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة والف من الهجرة (١٩٥٢ م). انتهى كلام العلامة المصلح السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي العاملي.
وقال العلامة الشيخ راضي آل ياسين رحمهالله في مقدمة كتابه صلح الامام الحسن عليهالسلام : «... هأنذا مقدم ـ الآن ـ بين يدي قارئي الكريم ، عصارة بحوث تستملي حقايقها من صميم الواقع غير مدخول بالشكوك ، ولا خاضع للمؤثرات عن الحقبة المظلومة التاريخ ، التي
لم يحفل في عرضها ، بما تستحق ـ مؤرخونا القدامى ، ولم يعن في تحليلها ـ كما يجب ـ كتابنا المحدثون.
تلك هي قطعة الزمن التي كانت عهد خلافة الحسن بن علي في الإسلام والتي جاءت بين دوافع الأولين ، وتساهل الآخرين ، صورة مشوهة من صور التاريخ.
وتعرضت في مختلف أدوارها لما كان يجب ان يتعرض له أمثالها من الفترات المطموسة المعالم ، المنسية للحقائق ، المقصودة ـ على الأكثر ـ بالإهمال أو بالتشويه.
فإذا بالحسن بن علي (عليه وعلى أبيه أفضل الصلاة والسلام) في عرف الأكثرين من المتسرعين بأحكامهم ـ من شرقيين وغربيين ـ الخليفة الضعيف السياسة! المتوفر على حب النساء! الذي باع «الخلافة» لمعاوية بالمال!! ... إلى كثير من هذا الهذر الظالم ، الذي لا يستند في مقاييسه على منطق ، ولا يرجع في تحكماته إلى دليل ، ولا يعنى في ارتجالياته بتحقيق أو تدقيق.
وعَمَدَتْ هذه الفصول إلى تفلية هذه الحقبة القصيرة من الزمن بما هي ظرف احداث لا تقل بأهميتها ـ في ذاتها ـ ولا بموقعها «الاستراتيجي» في التاريخ ـ إذا صح هذا التعبير ـ عن أعظم الفترات التي مر بها تاريخ الإسلام منذ وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والى يوم الناس ...
لأنها بداية اقرار القاعدة الجديدة في التمييز بين السلطات الروحية والسلطات الزمنية في الإسلام.
ولأنها الفترة التي تبلورت فيها الحزازات الطائفية لأول مرة في تاريخ العقائد الإسلامية.
كانت النقود التي جَرح بها وُقّاح الرأي سياسةَ الحسن عليهالسلام ، أبعد ما يكونون ـ في تجريحهم ـ عن النَّصَف والعمق والإحاطة بالظرف الخاص ، هي التي نسجت كيان المشكلة التاريخية في قضية هذا الامام عليهالسلام ، وكان للشهوة الحزبية من بعض ، ولمسايرة السياسة الحاكمة من آخر ، وللجهل بالواقع من ثالث ، أثره فيما أسفَّ به المتسرعون إلى أحكامهم. ونظروا إليه نظرتهم إلى زعيم أخفق في زعامته.
وفاتهم أن ينظروا إلى دوافع هذا الإخفاق المزعوم ، الذي كان ـ في حقيقته ـ