تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٣

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

الإنسان بالجنة أمام عينيه في الآيات التي تتحدث عن الجنة ، وبالنار تقترب من وجهه حتى لتكاد تلفحه في حرارتها ، في الآيات التي تتحدث عن النار ، كما يلتقي بالله في استغراقه في معنى الألوهية في ذاته ليعيش في آفاق معاني رحمته وغضبه وقوّته وجبروته ولطفه وعظمته ، ليتمثل حضوره في كل روحه وقلبه وشعوره ، وتتحول العقيدة عنده إلى جزء من حركة الذات في الفكر والإحساس .. وهذا ما يمكن أن يوحي به الترتيل الذي يقف بك عند كل كلمة ، ويطوف بك في كل إيحاء ، وينطلق بك في كل المعاني التي تتّسع آفاقها في معنى الحياة ، فتتجاوز مدلول الكلمات.

* * *

إنّا سنلقي عليك قولا ثقيلا

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) وهو القرآن الذي يحمل في داخله كل مفاهيم الرسالة وخطوطها الفكرية والعملية في الحياة ، مما يدفع الإنسان إلى الالتزام في دائرة المسؤولية التي تثقل عليه من خلال تحويل الحياة في وجدانه الحركيّ ، من ساحة للاسترخاء واللّامبالاة والسكون والحرية الغارقة في بحار الشهوات ، والمتخبطة في وحول الجريمة ، إلى ساحة للدعوة إلى تصحيح الفكر واستقامة القصد ، ووضوح الهدف ، وطهارة الوسائل ، وتنظيم الحياة ، وتوجيه الإنسان نحو القضايا الكبيرة التي تلتقي برضى الله في مواقع رحمته وحكمته في الدنيا والآخرة.

على ضوء ذلك ، فإن القول الثقيل لا يتمثل في الثقل المادي كما توحي بعض الروايات التي تعبر عن الضغط والتأثيرات الشديدة التي كان يتعرض لها النبي في جسده عند نزول الوحي عليه ، بل يتمثل في ثقل المسؤولية التي

١٨١

تضغط على كل الواقع الإنساني لتدفعه إلى الالتزام الفكري والعملي الذي يقف عند حدود الله فلا يتجاوزها ، ويتحمل ثقل الأعباء الملقاة على عاتق الإنسان المسلم الذي يواجه التحديات من موقع الإيمان الرسالي الذي يثبت في كل حالات الاهتزاز الروحي الهادف إلى إسقاط الواقع من حوله.

وهذا ما يحتاج إلى التربية الطويلة ، والمعاناة الشديدة ، والقوّة الروحية التي ترتفع بالإنسان إلى الآفاق الواسعة ، فلا تضيق به مشكلة ، ولا تضعفه مصيبة ، ولا تخنقه عقدة ، ولا يثيره انفعال ، ليكون إنسان الفكر الهادىء ، والعاطفة المتزنة ، والحركة العاقلة ، والواقع المتوازن ، والكلمة الحلوة الهادئة ، لأن الرسالة لا تنمو في عقل الإنسان إلا من خلال الشخصية الإنسانية التي تجمع ذلك كله.

وتلك هي قيمة القيام بالليل الذي يملأ الروح بالصفاء والنقاء والهدوء والاتّزان العقلي والروحي ، عند ما يتكرر لقاء الإنسان بربّه في أجواء الليل الذي يحوّل الظلام من حالة تثقل الروح بسوادها إلى حالة تبعث الصفاء في الروح من خلال الاسترخاء الذي يبعثه في مشاعرها ، فيدفعها إلى الهدوء في الحركة والفكر ، كما يوحي له بارتفاع مستوى الإحساس بالقوّة التي يستمدها من صلته بالله.

* * *

الروحانية الصادقة الصافية في اللّيل والنهار للعمل

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) الظاهر أن المراد بكلمة (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) ، ما ينشأ من الليل بعد العشاء ، كما قيل ، وهي كناية عن صلاة الليل التي تندمج في الزمن لتحمل للإنسان معناها الروحي والعملي ، نتيجة الجهد الكبير والمشقة الشديدة بسبب سهر الليل ، والتمرد على حاجة النفس للنوم والراحة والاسترخاء الهادىء ، وبذلك كانت أشد وطئا وتأثيرا على الجسد ، من أيّة

١٨٢

صلاة أخرى ومن أيّ عمل آخر. وإذا كان الليل هو زمن الصفاء والهدوء عند ما تخلد كل الموجودات الحيّة للراحة ، ويبسط الظلام ظلّه على الأرض ليمنحها الاستغراق في الاسترخاء الهادىء ، فإن الكلمة عند ما تتحرك فيه من بين الشفتين ، تمثل العذوبة والحلاوة والروحانية والصفاء والنقاء التي تفتح النفس على الحقيقة ، فلا يشوبها غموض ولا تعقيد ، ولا يقترب منها الباطل ، وبذلك تكون أقوم في المعنى ، وفي الجوّ وفي الحركة ، لأنها لا تنطلق من بين الضجيج ، بل تتحرك من عمق الهدوء الذي يمنح الفكر انطلاقه وانفتاحه وعمقه وامتداده في الحياة ... وهكذا يريد الله لنبيه وللدعاة معه ومن بعده أن يستغرقوا في قيام الليل ، لتوحي له الصلاة بالروح القوية التي تثبّت الإنسان في مواقف الاهتزاز ، وفي مواقع التحديات ، ولتفتح له الفكر القويم من خلال الشخصية القوية التي تواجه الضعف من قاعدة الإيمان.

(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) من جهة ما يخوض فيه الناس من أشغال ومهمات وأوضاع على مستوى الدعوة والحركة والعلاقة والتحدي والصراع ، تماما كما هي السباحة في الماء التي يواجه فيها السابحون التيارات القويّة ، فينزلون إلى الأعماق تارة ، ويمتدون مع التيار أحيانا ، ويرتفعون مع الأمواج الطاغية أحيانا أخرى ، لتأخذ كل الحركة من جهدهم البدني ، ومن هدوئهم النفسي ، مما لا يدع لهم أيّ شعور بالفراغ ، وأيّ إحساس بالانفتاح على الذات وعلى الحياة ، ولهذا كان الليل ساحة الذكر والقيام والروحانية ، والهدوء المنساب مع صفاء الظلام.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) لأن الذكر المتواصل الدائم يفتح في قلبك نافذة على الله ، فلا يتطلّع القلب إلى غيره ، ولا يغفل عنه ، فينبض بمحبته وبالرغبة إليه في مواقع الرجاء ، وبالخشية منه في مواقع الخوف ، وبذلك تتصل حياتك بالله ، وتندمج بوحيه المتحرك في أوامره ونواهيه ، وتتربّى على الروحية التي تنساب في كل معاني العظمة والجلال والجمال في ذاته ، لتكون في أفكارك

١٨٣

ومشاعرك ومواقفك إنسان الله ، كما يحب الله ويريد.

* * *

أقبل على الله واتخذه وكيلا

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) قيل إن التبتل مأخوذ من البتل ، وهو القطع مثل البت ، ويراد منه هنا الانقطاع إلى الله ، بالانصراف عن الدنيا والإقبال عليه. وقد جاء في بعض أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، أن التبتل رفع اليد إلى الله والتضرع إليه ، وربما كان ذلك بلحاظ الجانب التعبيري عن الانقطاع إلى الله في مواقع العبادة الروحية في معانيها على مستوى الشكل والمضمون ، أي انقطع إليه انقطاعا كاملا بالكلمة والإشارة والحركة والروح والفكر والوجدان.

وإذا كان ذكر اسم الله بالقلب واللّسان هو الخط في الحركة ، والانقطاع الكامل إليه هو العمق في الروح والشعور ، فلا بدّ من أن يسبق ذلك التصور الشامل للقدرة المطلقة ، والهيمنة الكلية ، والوحدة الإلهية ، ليكون الذكر والانقطاع ناشئين من قاعدة الوعي الإيماني المنفتح على حقائق الكون والحياة.

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) بما يعنيه ذلك من ربوبيته للعالم كله ، باعتبار أن المشرق والمغرب يمثلان الجهتين اللتين يتوجه إليهما الوجود المتحرك ، مما يدل على أنه يتجه إلى الله في كل وجهة يتجه إليها ، لأن الله هو رب الجهات كلها ، بحسب المعنى الكنائي في هذا أو ذاك ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو وحده الإله ، لأن كل من عداه في الكون فهو مألوه له ، وخاضع لإرادته ، ومنقاد لتدبيره ، فكيف يكون إلها معه ، وذلك هو التصوّر الذي يوحي بالثقة والاستسلام له في كل شيء ، والاعتماد عليه في كل قضية ، والرجوع إليه في كل مشكلة ، (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) على أساس قدرته وحكمته ورحمته وربوبيته في تدبيره.

* * *

١٨٤

الآيات

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١٩)

* * *

معاني المفردات

(هَجْراً جَمِيلاً) : الهجر الجميل : إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعوة إلى الحق على وجه المناصحة.

(وَذَرْنِي) : يذر ويدع بمعنى يترك. يقال : دعني وفلانا وذرني وفلانا ، أي : لا تحل بيني وبينه حتى أنتقم منه (١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٧٣.

١٨٥

(أَنْكالاً) : الأنكال : القيود ، ونكلته : قيدته. والنكل ـ بالكسر فالسكون ـ قيد الدابة وحديدة اللجام لكونهما مانعين ، والجمع : أنكال.

(غُصَّةٍ) : تردد اللقمة في الحلق ولا يسيغها آكلها. يقال : غصّ بريقه يغص غصّا ، وفي قلبه غصّة من كذا ، وهي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام والشراب.

(تَرْجُفُ) : الرّجف : الاضطراب الشديد. يقال رجفت الأرض والبحر.

(كَثِيباً) : الرّمل المجتمع الكثير.

(مَهِيلاً) : الرمل الذي إذا حرك أسفله سال أعلاه.

(وَبِيلاً) : الوبيل : الشديد.

(مُنْفَطِرٌ) : الانفطار : الانشقاق.

* * *

اصبر على ما يقولون

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) مما يوجهونه إليك من كلمات السباب والإيذاء والسخرية ، وما يثيرونه حولك من اتهامات بالجنون والسحر والشعر والكهانة ونحو ذلك مما قد يثقل صدرك ، ويزيد في أذاك ، لأن الرسالة الثقيلة في التزاماتها ومسئولياتها ونتائجها التغييرية في مستوى حياة الناس تستثير ذلك كله ، (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) والهجر الجميل : إظهار الموجدة عليهم من غير ترك الدعوة إلى الحق على وجه المناصحة ، وهو يمثّل الأسلوب القرآني الحكيم في الإعراض عن الكافرين في لحظات التمرد على الرسالة والرسول ، إذ لا يضعف أمامهم في أسلوب الردّ العملي السلبي ، لأن الهجر ينطلق من

١٨٦

موقع قوّة دون أن يقطع العلاقة معهم بحيث لا يترك لنفسه مجالا للدعوة ، ولا لهم مجالا للرجوع إلى الحق ... وهذا ما ينبغي للداعية أن يعيشه في نفسه من أخلاق واسعة كريمة في أسلوب الدعوة ، وفي صفات الشخصية الرسالية التي لا تملك مزاجها الذاتي في حرية الحركة من جهة الفعل وردّ الفعل ، بل تخضع في مشاعرها وأحاسيسها وحركتها المزاجية لمصلحة الرسالة وروحية الانفتاح على الناس من خلالها ، بالعقل المفتوح ، والصدر الواسع ، والقلب الكبير ، والسلبية التي تمتزج بالإيجابية.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) من هؤلاء المكذبين برسالتك الذين يملكون النعمة في حياتهم ، بفضل ما أعطيتهم من مال أو جاه ، جعلوه أساسا للتمرد على الرسالات ، فلا تشغل نفسك بهم وبالطريقة التي يمكن أن تواجه فيها مواقفهم السلبية العدوانية ، فإن جزاءهم على الله الذي قد يتركهم مدّة تبعا للحكمة في التأخير ، ولكنهم لا يفوتونه ، مهما طال الزمن ، (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) فسوف يأتيهم العذاب والذلّ في الدنيا قبل الآخرة ، وقد ذكر في كتب التفسير أنه لم يكن إلا اليسير من الزمن حتى كانت وقعة بدر التي أهلكت الكثير منهم ، والله العالم.

* * *

جزاء المتقوّلين المكذّبين

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) أي قيودا في الآخرة عظاما لا تفك أبدا ـ كما قيل ـ أو أغلالا ، (وَجَحِيماً) بما تمثله نار جهنم من إيحاءات العذاب ، (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) وقيل إنه الشوك الذي يأخذ بالحلق فلا يدخل ولا يخرج ، وقيل إنه طعام يأخذ بالحلق لخشونته وشدة تكرّهه ، (وَعَذاباً أَلِيماً) أي عقابا موجعا ، ينزله الله بهم في يوم القيامة ، (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) في زلزالها الهائل الشديد (وَكانَتِ الْجِبالُ) التي تضطرب حتى تزول من مكانها بالرغم من قوتها وصلابتها ،

١٨٧

(كَثِيباً مَهِيلاً) أي رملا سائرا متناثرا ، وقيل : المهيل الذي إذا وطئته القدم زلّ من تحتها ، وإذا أخذت أسفله أنهار أعلاه ، والمقصود أن الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل.

* * *

أخذ العبرة من عذاب فرعون

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) كما هم الأنبياء الذين يرسلهم الله برسالاته ليبلّغوها للناس ، وليؤكدوا عليهم السير في خطها المستقيم ، وليراقبوا التجربة الحيّة على الطبيعة في عملية ملاحقة لكل أوضاعها السلبية أو الإيجابية ، ليشهدوا غدا أمام الله أنهم قد قامت عليهم الحجة في وصول الرسالة إليهم بكل ما فيها من مواقف الحق النازل من الله ، (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) عند ما اقتضت الحكمة الإلهية أن يرسل موسى عليه‌السلام إلى فرعون ليصدم جبروته وكبرياءه ، وليحطّم الحاجز الذي كان يضعه أمام الناس المستضعفين ، ليمنعهم من الانفتاح على الإيمان بالله في أفكارهم ، ومن الوعي لمواقع الحرية والعزة في حياتهم ، ليخرجوا من الظلمات إلى النور ، وليتحرّروا من سيطرة طغيانه وجبروته.

وانفتحت كل ساحات الصراع في حركة الرسالة ضد الكفر والظلم والاستكبار ... وكان التحدي الرسالي سيّد الموقف ، فوقف موسى عليه‌السلام الموقف القويّ الذي يستمد حيويّته وقوته من قوة الإيمان بالله.

(فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ولم يخضع لكل ما قدّمه إليه من بيّنات ودلائل على صدقه في الرسالة ، بل استكبر وتمرّد وحاول أن يخطط للقضاء على موسى عليه‌السلام والمؤمنين معه ، ويلاحقهم في محاولتهم التحرر من سيطرته للخروج من دائرة ملكه ، (فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا ثقيلا ، فغرق وجنده في البحر ، وانتصر موسى عليه‌السلام عليه ، وتحركت الرسالة بعيدا عن كل

١٨٨

الضغوط الفرعونية لتبدأ عهدا مع مجتمعها الذي يحمل الكثير من العقد والمشاكل.

* * *

كيفية اتّقاء عذاب الاخرة

(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) أي كيف تتخلصون من العذاب الذي أعده الله للكافرين في ذلك اليوم الذي تحتشد فيه الأهوال ، وتشتد فيه المخاوف بالمستوى الذي تشيب فيه الأطفال من شدة الرعب.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) لأن السماء تتشقق في الأجواء التي تسبق يوم القيامة ، مما يوحي بشدة هذا الحدث العظيم ، وقد ذكر أن تذكير الصفة بلحاظ أن كلمة السماء تذكّر وتؤنث.

(كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) لأن الله هو الذي ينطلق قضاؤه من مواقع إرادته ، فإذا أراد شيئا كان ، وإذا وعد بشيء كان حتما مقضيّا ، فهو أصدق الواعدين ، حين يقضي ويريد.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) لأنها تهز القلب والشعور ، وتدفع بالإنسان إلى أن يخرج من غفلته ، في هزّة روحيّة يواجه فيها حقائق الوجود بمسؤولية تجاه الموقف الحاسم أمام الله ، ممّا يدعوه إلى أن يكتشف الطريق المستقيم الذي ينتهي به إلى الله ، في إيمانه وانتمائه ، وفي حركته وعلاقاته على جميع المستويات ، وهذا ما يريد الله من الإنسان أن يؤكده تأكيدا جدّيا حاسما في الانسجام بين الوعي والواقع ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ليصل من خلاله إلى مواقع طاعته ، وآفاق رضاه ، ورحاب رحمته ... فهذه هي الغاية التي ينتهي إليها كل مؤمن في حياته الفكرية والعملية.

* * *

١٨٩

الآية

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٠)

* * *

معاني المفردات

(أَدْنى) : اسم تفضيل من الدنوّ بمعنى القرب. وقد جرى العرف على استعمال (أدنى) في ما يقرب من الشيء وهو أقل ، فيقال : إن عدّتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلا دون ما لو كانوا أحد عشر.

(يُقَدِّرُ) : التقدير : تحصيل مقدار الشيء وعدده والإحاطة به.

١٩٠

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) : توبة الله على العبد انعطافه بالرحمة عليه.

* * *

الله يخفّف عن رسوله والمؤمنين معه قيام اللّيل

لقد دلت السورة في صدرها على صلاة الليل ، كفريضة لازمة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى من معه من المؤمنين ، وقد دأب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه على القيام بها ، وكانوا يلاقون من ذلك عناء شديدا لأنهم كانوا يبغون الدقة في التوقيت ، بما لم يكن متيسرا لهم ، حتى أن بعضهم كان يقوم الليل كله ليبلغ الوقت المحدّد ، فأنزل الله هذه الآية حسبما تتحدث به بعض الروايات في أسباب النزول ، ليخفف عنهم ثقلها وليجعلهم في حلّ من الإلزام ، فتكون مستحبّة بشكل خفيف ، مما يجعل من هذه الآية ـ كما يذكر البعض ـ نسخا للآية المتقدمة في صدر السورة.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى) أي أقرب وأقل (مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) ، أي أنك تقوم في بعض الليالي قريبا من الثلثين ، وفي بعضها قريبا من نصف الليل ، وفي بعضها قريبا من ثلثه ، (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) من المؤمنين الذين يسيرون في ضوء هداك ، فقد كنتم موضع عناية الله وقبوله ، لأنكم من العباد الصالحين الذين يتركون النوم والراحة والاسترخاء ، ويعانون الجهد البدني والروحي ، ليقفوا بين يدي الله في خشوع العابد ، وخضوع العبد ، وروحية التقوى ... وقد رأى الله في مواقع علمه المنفتح على رحمته كل هذا العناء والثقل ، فأراد أن يخفّف عنكم هذا العبء الثقيل من الإلزام ، (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) في حساباته الدقيقة للنظام الذي يحكمها في طول هذا ، وقصر ذاك ، في عملية تبادليّة متحركة ، وهو وحده المطّلع على الدقة في الحركة والتقدير ، (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي لن تستطيعوا تحديد الوقت بدقة ، (فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي خفف

١٩١

عنكم فلم يلزمكم بقيام الليل ، فلو تركتموه لم يكن عليكم حرج ، كما هو الأمر بالنسبة إلى التائب الذي لا يبقى عليه شيء من ذنبه بعد التوبة ، (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) في الصلاة أو في غيرها بما لا يشقّ عليكم أمره ، لأن الله يريد لكم أن تعبدوه عبادة منفتحة على طاقة الجسد وتوجّه القلب ، وحيويّة الروح ، كما يريد لكم أن تعيشوا روحيّة القرآن وفكره ، لترتفعوا إلى مستوى المعرفة الفكرية والروحية والعملية في وحي الله الذي أرسل رسوله ليزكّيكم ويعلّمكم الكتاب والحكمة ، ولتهتدوا إلى مواقع رضاه في خط طاعته.

* * *

مسوّغات تخفيف قيام اللّيل

(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ) لا يطيقون الجهد الكبير الشاقّ الذي يثقل الجسد ، (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) في أسفار بعيدة شاقة (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ليطلبوا الرزق من مواضعه ، ويقوموا بمسؤولياتهم المالية تجاه أنفسهم وعيالهم ، وما كلّفهم الله من الإنفاق في مجتمعهم ، (وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فيعانون الكثير من الحركة في طريق الجهاد بما قد يعطّل عليهم الكثير من القيام ببعض الأعمال العادية ، مما قد يفرض التفرّغ والتخفف في نظام الواجبات العادية.

وقد لا يكون هذا من النسخ في الحكم ، بل هو يشتمل ـ كما يقول صاحب الميزان ـ على «التخفيف في قيام الليل من حيث المقدار لعامّة المكلّفين تفريعا على علمه تعالى أنهم لن يحصوه ، ولازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام الليل من حيث المقدار ، حتى يسع لعامّة المكلّفين الشاق عليهم إحصاؤه دون النسخ ، بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين لمن استطاع ذلك بدعة محرّمة ، وذلك أن الإحصاء المذكور إنما لا يتيسر لمجموع المكلّفين ، لا لجميعهم ، ولو امتنع لجميعهم ولم يتيسّر لأحدهم لم

١٩٢

يشرّع من أصله ، ولا يكلّف الله نفسا إلا وسعها.

على أنه تعالى يصدّق لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطائفة من الذين معه ، قيام الثلث والنصف والأدنى من الثلثين ، وينسب عدم التمكن من الإحصاء إلى الجميع ، وهم لا محالة هم القائمون وغيرهم ، فالحكم إنما كان شاقا على المجموع من حيث المجموع دون كل واحد ، فوسّع في التكليف بقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وسهّل الأمر بالتخفيف ليكون لعامة المكلّفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكن من الإحصاء وأراده ، والحكم استحبابي لسائر المؤمنين وإن كان ظاهر ما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطاب الوجوب ، كما تقدمت الإشارة إليه (١).

* * *

مناقشة مع العلامة الطباطبائي في الميزان

وقد نلاحظ على ما ذكره العلامة الطباطبائي ، بأن الظاهر من قيام المؤمنين معه في نداء التشريع الأوّل في صدر السورة ، أنهم لم يفهموا من خلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختصاص التشريع به ، سواء كان إلزاميا أو استحبابيا ، على أساس أن الله يخاطبه في القرآن في كثير من الحالات ، بما يريد للمؤمنين أن يقوموا به ، لأن التشريع شامل للجميع. وقد يكون عدم تيسّر الإحصاء لمجموع المكلّفين من باب الحكمة للتخفيف ، فلا يكون التشريع الأول مختصا بجماعة خاصّة ، بل إن الظروف الأولى للدعوة كانت تقتضي نوعا من التشديد لأن طبيعة الظروف الصعبة التي تحيط بالدعوة الإسلامية ، تفرض التعبئة الروحية بالمستوى الكبير ، أو يكون أخذ المؤمنين له مع النبي على أنفسهم بأسلوب الشدّة للاستغراق في روحية التقوى لا من جهة اقتضاء

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٨٢ ـ ٨٣.

١٩٣

التكليف ذلك ، والله العالم.

* * *

قراءة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ليستمر التشريع العبادي الليلي في جوّ التيسير والتسهيل على أساس إرجاع الأمر إلى المكلّفين من جهة ما يختارونه منه ، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) باعتبارهما الفريضتين الأساسيتين اللتين تتحركان في حياة الناس بشكل إلزاميّ ، بما يترتّب عليهما من الارتفاع بمستوى المسؤولية الروحية في الشعور الدائم بحضور الله في وعي الإنسان ، والمسؤولية التكافلية في حركة الإنسان بمواجهة المشاكل الإنسانية في دائرة الحرمان.

(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) في ما تقدمونه من الإنفاق الخاص والعام ، في غير الزكاة المفروضة ، ممّا يقرض به الإنسان الناس المحتاجين إليه ، أو مما يعيرهم من أدوات وأشياء ، أو مما يقضي به حاجاتهم ونحو ذلك.

* * *

مع صاحب الميزان في تفسير الاية

وقد جاء في الميزان أن «عطف الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض ، للتلويح إلى أنّ التكاليف الدينية على حالها في وجوب الاهتمام بها والاعتناء بأمرها ، فلا يتوهّمنّ متوهّم سريان التخفيف والمسامحة في جميع التكاليف ، فالآية نظير قوله تعالى في آية النجوى: (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ

١٩٤

فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة : ١٣](١).

ونلاحظ أن الظاهر هو أن ذكر هذه التكاليف إلى جانب قراءة ما تيسر من القرآن للإيحاء بأنّه يدخل في عداد التكاليف العامة التي تتكامل في بناء شخصية الإنسان المسلم ، بما تشتمل عليه من عناصر متنوعة ذات صلة وثيقة به ، كما أن أهمية هذه التكاليف تجعل القرآن يكرر الحديث عنها ليوجّه الناس إليها بأدنى مناسبة لذكرها ، وليس في الآية إشعار بما ذكر ، أما آية النجوى فقد كانت دلالتها بلحاظ قوله تعالى : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا) ، الدالّة على أن عليهم أن يتابعوا الواجبات العامة ، ولا يتراجعوا عنها بعد رفع التصدق عنهم ، لأن الصلاة والزكاة ليستا من هذا القبيل ، والله العالم.

* * *

ثواب عمل الخير

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) وهذا هو الخط الذي يريد الله أن يؤكده للناس الذين يبحثون عن النتائج الإيجابية الحاسمة في المصير الذي ينتظرونه في الآخرة ، فهناك عنوان كبير لا بدّ من أن يكون العنوان الذي تخضع له كل أعمال الإنسان وأقواله ، في ما يعبّر عن كل الخطوط الشرعية التي شرّعها الله لعباده في دينه ، فإذا سار الناس في حياتهم العامة والخاصة على هذا الخط تحت عنوان الخير ، فإنهم يقدّمون لأنفسهم خير الآخرة في رضوان الله ورحمته ونعيمه في جنته ، ولا يضيع أيّ عمل من أعمالهم مهما كان صغيرا (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) فهذا هو العمل الذي لا يوافقه أيّ عمل من أعمال الدنيا مهما كان حجمها كبيرا ، لأن القيمة ليست للطبيعة الذاتية للعمل ، بل هي

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٨٤.

١٩٥

للعمق الروحي الذي يربط العمل بالله ، لتتكامل الحياة كلها في الإنسان وفي غيره من مظاهر الوجود ، في تجسيد معنى العبادة لله والتسبيح له.

وهذا ما يفرض عليهم أن يجعلوا كل أعمالهم في الدنيا حركة من أجل الخير في الآخرة ، (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من كل ذنوبكم التي أذنبتموها في ابتعادكم عن مواقع طاعته ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهو الذي يفتح أبواب مغفرته للمستغفرين الذين أخلصوا لله توبتهم ، ويفتح أبواب رحمته للمسترحمين الذين يتطلعون إلى رحمته تطلّع الغريق للنجاة ، فيجدون لديه كل عطف وعفو ورحمة وحنان.

* * *

١٩٦

سورة المدّثّر

مكيّة

وآياتها ستّ وخمسون

١٩٧
١٩٨

في أجواء السورة

وهذه سورة مكيّة من السور الحركية في بداية الدعوة ، وقد ثار هناك حديث حول توقيت نزولها ، فقيل : إنها نزلت في أوائل البعثة وظهور الدعوة ، حتى قيل : إنها أوّل سورة نزلت في القرآن.

وقال بعضهم : إنها نزلت بعد سورة العلق ، وذهب بعضهم إلى أن النازل أولا هي الآيات السبع الواقعة في أوّل السورة ، ولازمه كون السورة لم تنزل دفعة واحدة.

واحتمل بعض آخر أن السورة كانت أوّل سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد انقضاء المدّة السرّية ، أي في أوّل المرحلة العلنية ، حسب ما تحدث بعض مؤرّخي السيرة عن مرحلة سرّية للدعوة سبقت المرحلة العلنية لها ، وبذلك جمع هذا البعض بين الروايات الواردة بأنها أول ما نزل ، وما ورد أنها نزلت بعد سورة العلق ، وما ورد من نزول هذه السورة مع سورة المزّمّل معا ... وقد جاء في صحيح البخاري ـ بسنده عن يحيى بن أبي كثير ـ قال : «سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن؟ فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ، قلت : يقولون : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)؟ [العلق : ١] ، فقال أبو سلمة : سألت

١٩٩

جابر بن عبد الله عن ذلك ، وقلت له مثل ما قلت. فقال جابر : لا أحدّثك إلا ما حدّثنا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري هبطت ، فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة فقلت : دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا قال : فدثّروني وصبّوا على ماء باردا ، قال : فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)» (١). وهناك رواية مماثلة في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله يحدّث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه : «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فرعبت منه ، فرجعت فقلت : زمّلوني ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ). إلى .. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) فحمي الوحي وتتابع» (٢).

ويعلّق صاحب مجمع البيان على ذلك فيقول : «وفي هذا ما فيه ، لأن الله تعالى لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيّرة ، والآيات البيّنة ، الدالة على أن ما يوحي إليه إنما هو من الله تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ، ولا يفزع ولا يفرق» (٣).

ونحن نؤكّد ما ذكره صاحب المجمع ـ في ملاحظته ـ لأن مثل هذا الجو الذي توحي به مثل هذه الروايات ليس هو الجو الذي يتناسب مع وعي النبيّ لدوره الرسالي ولرسالته ، وفي الوقت الذي تفرض فيه النبوّة عليه أن يعيش

__________________

(١) البخاري ، أبو عبد الله ، محمد بن إسماعيل ، الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله (ص) وسننه وأيامه ، دار إحياء التراث العربي. بيروت ـ لبنان ، ج : ٣ ، ص : ٣١٧ ، حديث : ٤٩٢٢.

(٢) (م. ن) ، ج : ١ ، ص : ١٥ ، حديث : ٤.

(٣) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٥٧٩ ـ ٥٨٠.

٢٠٠