بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ينقسم البيع في الفقه الإسلامي بلحاظ التأجيل وعدمه في الثمن والمثمن الى أربعة أقسام :

١ ـ أن يكون الثمنان معجَّلين ، وهو المسمّى بالبيع النقدي أو ( يداً بيد ).

٢ ـ ان يكون الثمنان مؤجَّلين ، وهو المسمّى ببيع الدين بالدين او ( بيع الكالي بالكالي ).

٣ ـ ان يكون الثمن معجَّلاً ، والمبيع مؤجَّلاً ، وهو المسمّى ببيع السلم ( السلف ).

وهذا البيع مستثنى من عدم صحَّة بيع ما ليس عندك.

٤ ـ أن يكون المبيع معجّلاً ، والثمن مؤجّلاً وهو المسمّى ببيع النسيئة ، او بيع التقسيط وهو محلُّ كلامنا الآن.

نقول : كلُّ هذه الأقسام صحيحة في الفقه الإسلامي إلاّ القسم الثاني وهو بيع الدَّين بالدَّين حيث ورد النهي عن هذا البيع.

بيع التقسيط :

هو مصداق من مصاديق بيع النسيئة ، حيث يعجَّل فيه المبيع ويؤجَّل فيه الثمن كلُّه او بعضه على أقساط معلومة ( متساوية المبلغ أوْلا ) ، لآجال معلومة

٤١

( منتظمة المدة ، أوْلا ).

وليس هذا البيع هو الجديد الذي لم يُعرف حكمه كما ادُّعي ذلك من قبل البعض ، بل قد ذكره فقهاء الإمامية على أنه من مصاديق بيع النسيئة ، فقد ذكر صاحب الجواهر قدس‌سره ( المتوفى ١٢٦٦ ه‍ ) قال : « إن اشترط التأجيل للثمن جميعه او بعضه ولو نجوماً متعددة صحّ إجماعا بقسميه ونصوصاً ( عموماً وخصوصاً ) في البعض وهو المسمى بالنسيئة ، من غير فرق بين طول المدة وقصرها ، خلافاً للاسكافي فمنع فيما حكي عنه أكثر من ثلاث سنين في السلف وغيره » (١).

أهميته :

قد انتشر هذا البيع في الأزمنة الأخيرة بصورة واسعة ، لفائدته التي تعود للبائع حيث إنه يزيد من مبيعاته حتى على من ليس عنده النقد المالي ، فيبيعه الى أجل. وهو مفيد للمشتري أيضا حيث يمكنه من الحصول على السلعة مع أن دخله الشهري لا يسمح له بابتياعها بالنقد ، فبدلاً من أن يدخر فيشتري بعد ذلك ، أخذ الفرد يشتري ويستمتع بالسلعة ثم يدّخر للوفاء ، وبهذا تمكن الفرد أن يستمتع بالحاجات قبل أن يمكِّنه دخله الشهري من شرائها بالنقد.

وبعد أن عرفنا معنى بيع التقسيط واهميته نريد أن نبحث في نقطتين :

النقطة الاولى : ما هو الدليل على صحة بيع النسيئة ( التقسيط ) ؟.

النقطة الثانية : إذا كان بيع التقسيط صحيحاً ، فكيف نفسر التأجيل الذي فيه مع زيادة الثمن لأجل هذا التأجيل ، كما ذكر الفقهاء ، وكيف نفرّق بين هذا الذي هو حلال وبين التأجيل الذي تكون فيه الزيادة محرمة ؟

__________________

(١) جواهرالكلام في شرح شرائع الاسلام ، لشيخ الطائفة صاحب الجواهر ، ج ٢٣ ، ص ٩٩.

٤٢

النقطة الاُولى : ما هو الدليل على صحة بيع النسيئة ؟

نقول : لقد وردت الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام في جواز هذا البيع ، وقد اتفقت الإمامية على صحته. نعم الإسكافي خالف في طول المدة ، إذ منع من صحة البيع نسيئة لأكثر من ثلاث سنين (١) ، وله روايات يستند اليها ، إلاّ أنها محمولة على الإرشاد. فمن النصوص الخاصة الدالة على الصحة :

١ ـ موثق عمار بن موسى الساباطي عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « في رجل اشترى من رجل جارية بثمن مسمّى ثم افترقا ، فقال عليه‌السلام : وجب البيع والثمن إذا لم يكونا اشترطا فهو نقد » (٢) ومفهوم هذا الحديث يدل على أنهما اذا اشترطا أن يتأخّر الثمن فهو ليس بنقد وهو معنى النسيئة ، او إذا اشترطا أن يتأخر المثمن فهو معنى بيع السلم.

٢ ـ صحيح هشام بن الحكم عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « في رجل يشتري المتاع الى أجل قال عليه‌السلام : ليس له أن يبيعه مرابحة إلاّ الى الأجل الذي اشتراه إليه ، وإن باعه مرابحة فلم يخبره كان للذي اشتراه من الأجل مثل ذلك » (٣). وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن بيع النسيئة كان مفروغاً من صحته في ذلك الوقت ، وإنما أخَذَ الإمام عليه‌السلام يبين حكماً آخر وهو عبارة عن أن الذي اشتراه نسيئة لا يجوز له أن يبيعه مرابحة إلاّ بذكر الأجل الذي اشترى به. وهناك روايات اُخر تدل على صحة هذا البيع أعرضنا عن ذكرها لكفاية ما تقدم مع وجود الإتفاق من الإمامية على صحة هذا البيع فلا نطيل ، بالاضافة الى وجود العمومات الدالّة على صحة هذا البيع مثل ( أوفوا بالعقود ) و ( أحل الله البيع ) ، إذا لا إشكال في

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ١ من احكام العقود / ح ٢.

(٣) الكافي للكليني ، ج ٥ ، ص ٢٠٨.

٤٣

صدق البيع على بيع النسيئة ، فيجب الوفاء به وهو معنى صحته ، وهو حلال بمنطوق آية ( احلّ الله البيع ). ثم إن من نافلة القول التلويح إلى أن الأجل ينبغى أن يكون معلوماً بحيث لا يتطرق إليه احتمال الزيادة او النقيصة ، كما إذا قلنا إن موعد الإستحقاق يكون في الشهر التاسع من سنة ١٩٩٠ م ، أو أن الثمن اقساط معينة يستحق كل قسط معين القدر في أول الشهر الميلادي او الهجري ، أما إذا لم يكن الأجل معلوماً للمتعاقديْن فيبطل العقد للجهالة التي تستتبع غرراً في الثمن.

مصاديق بيع النسيئة :

نذكر هنا ثلاثة مصاديق لبيع النسيئة لنعرف ما هو حكمها :

١ ـ قد يحصل بيع النسيئة في الخارج على سلعة بنفس القيمة التي تباع بها حالاًّ ، وهذا البيع صحيح بلا إشكال ، وهو مستحب للبائع لما فيه من إعانة المشتري على شراء حاجته من دون زيادة لقاء الأجل.

٢ ـ وقد يحصل البيع نسيئة ، ولكن على ثمن هو أكبر من ( قيمة السلعة نقداً ) كما إذا كانت السلعة تباع نقداً بدينار ، ونسيئة الى شهر بدينار ودرهم ، فهنا قد ذكرت الروايات صحة هذا البيع إذا وقع على الدينار والدرهم ، كأن يقول المشتري اشتريت نسيئة بدينار ودرهم ، فيقبل البائع ، او بالعكس. ومن الروايات الدالّة على صحة هذا البيع صحيحة محمد بن قيس عن الإمام الباقر عليه‌السلام : قال في ذيلها : « قال اميرالمؤمنين عليه‌السلام ... من ساوم بثمنين أحدهما عاجلاً والآخر نظرة ، فليسمِّ أحدهما قبل الصفقة » (١).

٣ ـ قد يحصل البيع نسيئة ، بأن يقول : بعتك هذه السلعة بدرهم نقداً ، وبدرهمين الى شهرين وبثلاثة الى ثلاثة أشهر ، فيأخذ المشتري السلعة من دون تعيين البيع على احد هذه المحتملات ، وكذا لم يعيِّنه البائع ، ففي هذه الصورة قالوا

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٢ من احكام العقود ، ح ١.

٤٤

ببطلان البيع ، وقد ذكروا أدلَّة للبطلان ، منها :

أ ـ إن العقد باطل : لوجود الإبهام الناشئ من الترديد القاضي بعدم وقوع الملك حال العقد على أحد الاُمور بالخصوص ، وهذا ينافي اقتضاء العقد وسببيته الى أحد الاُمور ، اما النقد ، او النسيئة الى الاجل الاول ، او النسيئة الى الأجل الثاني بالثمن الثالث. ولكن لنا أن نقول : لا يوجد هنا جهالة ولا غرر ، حيث إن الثمن معلوم (١) ، نعم الزيادة وقعت في مقابلة التأخير على وجه الشرط فتفسر الزيادة ، وهذا لا يؤدي الى بطلان العقد. ومما يؤيد الحكم بالصحة حكمهم بصحة الإجارة لو قلت له : خط هذا الثوب اليوم بدينار وبنصف دينار إن خطته في غد ( مع اشتراك الإجارة والبيع في اعتبار عدم الغرر والجهالة ) ، فالصحة هنا كما ذكر غير واحد تكون مؤيداً للقول بعدم وجود غرر ولا جهالة. وكذا الامر اذا قلت له : إن خطته فارسياً فلك دينار ، وإن خطته رومياً فلك نصف دينار. وقَبِلَ المستأجر الامر على الترديد ، فقالوا بصحة الإجارة وما ذاك إلاّ لعدم الضرر ولعدم الجهالة.

ب ـ ذكروا دليلاً ثانياً على بطلان هذا العقد وهو الروايات التي رويت عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي تنهى عن بيعين في بيع ، او عن شرطين في بيع. كموثقة عمار الساباطي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث : « أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث رجلاً الى أهل مكة وأمرهم أن ينهاهم عن شرطين في بيع » (٢). وعن سليمان بن صالح عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع وعن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن » (٣) وقد فسر هذان الحديثان بما نحن فيه او بما يشمله حيث : « روى أحمد بسند رجال ثقات ، عن ابن

__________________

(١) حيث إن العُرف يرى أن الثمن غير مجهول كما اذا قلتُ لك : إن سعر هذه الآنية دولار او مئة تومان ، فالثمن محدد إلاّ أنه غير مشخَّص في اي الفردين ، وهذا ليس بجهالة تمنع من صحة البيع.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٢ من احكام العقود ، ح ٣.

(٣) نيل الاوطار ٥ / ١٧٢ ، وعون المعبود ، ٣٣٣ ـ عن البيع بالتقسيط د. علي السالوس ، ص ١.

٤٥

مسعود قال : « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن صفقتين في صفقة ». قال سماك ـ راوي الحديث ـ هو الرجل يبيع البيع فيقول : هو بنسأ بكذا ، وهو بنقد بكذا وكذا. وقال الشافعي وأحمد في تفسير هذا : بأن يقول بعتك بألف نقداً أو ألفين الى سنة ، فخذ أيهما شئت أنت وشئت انا » (١).

ولكن هناك روايات تقول بأنَّ البيع صحيح ويكون للبائع أقل الثمنين الى أبعد الأجلين ، فمن الروايات :

١ ـ صحيحة محمد بن قيس عن الباقر عليه‌السلام انه قال : « قال اميرالمؤمنين عليه‌السلام من باع سلعة فقال : إن ثمنها كذا وكذا يداً بيد ، وثمنها كذا وكذا نظرة فخذها بأي ثمن شئت واجعل صفقتها واحدة ، فليس له إلاّ أقلهما وإن كانت نظرة » (٢).

٢ ـ رواية السكوني عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام « ان علياً عليه‌السلام قضى في رجل باع بيعاً واشترط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا ، فاخذ المتاع على ذلك الشرط فقال عليه‌السلام هو بأقل الثمنين وأبعد الأجلين » (٣). وواضح أن هاتين الروايتين تقولان بصحة البيع على أقل الثمنين الى أبعد الأجلين ، بينما الروايات المتقدمة التي تنهى عن بيعين في بيع استدلوا بها على بطلان البيع ، فما هو الحل ؟

نقول : لا منافاة بين الادلة الناهية عن هذا البيع ، والادلة التي تقول بصحته بأقل الثمنين الى أبعد الأجلين وذلك : فإنَّ ما نفهمه من النهي هو حرمة هذا العمل ( نقداً بكذا ونسيئة بكذا ) إذا صدر من البائع ولم يقع البيع على احدهما لانه عبارة عن كون الزيادة في مقابل الاجل ، ويحرم على المشتري ايضاً قبولها لنفس السبب ،

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٢ من احكام العقود ، ح ١.

(٣) المصدر السابق ، ح ٢.

٤٦

وبعبارة اخرى كأن البائع يقول : إذا سددت المبلغ الآن فهو بدرهم ، وإن سددته بعد شهر فهو بدرهمين ، فيكون درهم واحد في مقابل الإنساء ( الأجل ) ، وإن سددت المبلغ بعد شهرين فلابد من اعطاء درهمين في مقابل الأجل ، وهذا هو حقيقة الربا الجاهلي الذي هو عبارة عن « أتقضي ام تربي » او « أنظرني أزدك » وهو عمل حرام من قبل البائع ويحرم على المشتري قبوله ، أما إنّ العقد ـ بعد أن حرمت هذه العملية ـ فهل هو باطل ام لا ؟ فلا تقول الروايات الناهية بذلك ، وحينئذ تأتي الروايات القائلة للبائع أقل الثمنين الى أبعد الأجلين فتقول : إن البيع صحيح على أن يأخذ البائع أقل الثمنين الى أبعد الأجلين ، وهذا هو مورد التعبد بالروايات فتكون ملزمة للطرفين. ومعنى ان هذا هو مورد التعبد بالروايات ، هو ان القاعدة تقول : إن حِلّ المال الآخرين متوقف على الرضا وطيب النفس ، اما الاكل والتصرف في المال لا عن تراض هو اكل للمال بالباطل فلا يجوز ، ولكن في هذه الصورة حَكَمَ الشارع بأنَّ البائع القائل ( نقداً بكذا ونسيئة بكذا ) نلزمه بان يكون له اقل الثمنين لأبعد الاجلين ، وهذا لم يرض به ، ولم تقع المعاملة عليه ، فإذا الزمناه به كان هذا على وفق تخصيص هذه القاعدة ( لا يحل مال المسلم إلاّ بطيب نفسه ورضاه ) بغير هذه الصورة. او نقول : إن الروايات تقول : اذا وقع العقد على نحو الترديد ، وقبل المشتري العقد على هذا الوجه ، وانتهت المدة ، « فبما أن شرط الزيادة في مقابل الأجل باطلة ، لم يبق إلاّ استحقاق البائع الأقل ، وبما أنه لم يقبضه قبل الآن فالآن له حق أخذ الاقل عند انتهاء أبعد الأجلين » وهذا القول لا يلزم البائع بالاقل عند عدم انتهاء ابعد الأجلين ، بينما القول الاول يلزمه كما هو ظاهر الروايات.

الخلاصة :

١ ـ إن ادلة النهي عن اشتراط هذا الشرط ( نقداً بكذا ونسيئة بكذا ) تدل على أن هذا الشرط في هذا البيع حرام ، ويحرم قبوله من قبل المشتري ايضاً ، إلاّ أن هذه الروايات لا تقول إن البيع فاسد.

٤٧

٢ ـ لو صدر هذا الشرط في المعاملة ( الذي هو حرام ) وقد قُبِلَ من قِبَلِ المشتري على وجه الترديد ، فهنا تأتي الروايتان القائلتان إن البيع صحيح على هذه الكيفية ( أقل الثمنين لأبعد الاجلين ) ، اذن لا منافاة بين الروايات.

٣ ـ اما اذا صدر هذا الشرط من البائع ، وقد قبل المشتري احدهما على وجه التعيين ، فهذا خارج عن محل النزاع وعن مضمون الروايتين ، ونحتمل هنا صحة العقد لشمول الاطلاقات (١) لهذا الفرد.

النقطة الثانية : كيف نفسر التأجيل في بيع النسيئة مع الزيادة ؟

قد يقال : إن الزيادة التي حصلت في بيع النسيئة كما عرفنا ذلك في المصداق الثاني لبيع النسيئة هي من أجلِ الأَجل فهي محرمة ، لعدم الفرق بينها وبين الزيادة في الأجل في عقد القرض. وهذه الشبهة اخذت تجري مجرى الماء في كتابات بعض علماء العامة ، فقد ذكر بعض تحريمها ، وذكر البعض تحليلها وكل ذلك له ادلة ، مع اننا لا نرى اصل الشبهة واردة ، وتوضيح ذلك : إن الأجل الذي حصل في بيع النسيئة لم يكن في مقابله مال حتى تأتي الشبهة وتقول ( إن المال إذا صار في مقابلة الأجل فهو حرام او شبيه بالزيادة في مقابلة الأجل في عقد القرض ولابد من تحريمه سداً لذريعة الربا وما شاكل ذلك من كلام ) ، بل إن الاجل في بيع النسيئة كان داعياً لزيادة ثمن السلعة وما أكثر الدواعي لإرتفاع الثمن ، فمثلاً قد يكون قلة السلعة في السوق بنسبة لا تساوي الطلب الذي عليها يكون داعياً لزيادة ثمنها في الحالات المتعارفة ، كما ان عدم سقوط الامطار في الفصول المتوقع سقوط المطر فيها يكون داعياً لزيادة سعر الحاجيات المتوقف زيادتها او انتاجها على سقوط الامطار. وإذا ثبت أن زيادة الثمن في بيع النسيئة كان الداعي له هو الأجل ، فهذا يختلف اختلافاً

__________________

(١) ( احل الله البيع ) و ( أوفوا بالعقود ).

٤٨

أساسياً عن قولنا إن الزيادة هي في مقابل الأجل ، بل يكون قولنا ( في بيع النسيئة ان الزيادة في مقابل الأجل ) تسامحاً من قبل العلماء ، بل الصحيح في بيع النسيئة هو أنَّ الثمن كله قد وقع في مقابل السلعة ، وكان الأجل داعياً لزيادة الثمن.

اذن لا أساس للشبهة هنا ، حيث إن الشبهة مبنية على قولنا إن الزيادة في بيع النسيئة هي في مقابل الأجل ، وقد اتضح أن الأمر ليس كذلك فلا شبهة أصلاً ، ولا مبرر للقول بأنَّ بيع النسيئة يشبه الزيادة في القرض من اجْلِ الأَجل الذي هو محرم ، إذ كما عرفنا أن بينهما بون شاسع. ثم لو تنزلنا وقلنا إن الشبهة واردة ، وهي : « إنَّ حصول الزيادة في بيع النسيئة هو في مقابل الأجل » إلاّ أننا نقول كما قال البعض : إنه لم يثبت بنحو القاعدة الكلية أن جعل الثمن في مقابل الاجل حرام. نعم ثبت في بعض الموارد فنلتزم بها ، كالثمن في مقابل الاجل في القرض ، وكالزيادة في مقابل الأجل في بيع المتجانسين وبيع الصرف.

الشراء نسيئة ( مع قدرته على الشراء نقداً ) هل هو مكروه ؟

نتكلم اولاً في كراهة القرض من الغير ( مع عدم احتياجه الى القرض ) ، واما مع ضرورة الفرد الى القرض فلا كراهة في الامر ، فقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على كراهة القرض مع عدم الحاجة اليه فمنها ما روي عن أبي الحسن الليثي عن جعفر بن محمد ( الإمام الصادق عليه‌السلام ) عن آبائه ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الدَين راية الله عزوجل في الارضين ، فاذا أراد أن يذل عبداً وضعه في عنقه » (١). ولكن اذا كان الدَين لضرورة فلا كراهة في الامر ، ففي صحيحة معاوية بن وهب قال قلت للإمام الصادق عليه‌السلام : « ... أن رجلاً من الأنصار مات وعليه ديناران دَيناً ، فلم يصلِّ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : صلُّوا على صاحبكم ، حتى ضمنهما عنه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ١ من ابواب الدين ، ح ١٠.

٤٩

بعض قرابته فقال الإمام الصادق عليه‌السلام ذلك الحق ، ثم قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله انما فعل ذلك ليتعضوا ( ليتعاطوا ) وليرد بعضهم على بعض ولئلا يستخفوا بالدَين ، وقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليه دَين ، وقُتِل اميرالمؤمنين عليه‌السلام وعليه دَين ، ومات الحسن عليه‌السلام وعليه دَين ، وقتل الحسين عليه‌السلام وعليه دَين » (١).

هذا كله في القرض ، اما الشراء نسيئة مع قدرته على الشراء نقداً فليس بمكروه ، حيث لا يوجد نص خاص ولا يدخل تحت عنوان ان يكون للبائع منَّة على المشتري فيما اذا باع نسيئة بأكثر من الثمن الحال ( كما هو الغالب ) ، وحتى اذا دخل بيع النسيئة تحت هذا العنوان ( المنّة من البائع على المشتري ) بأنْ باع البائع سلعته نسيئة بقدر الثمن الحال ، ولكن هذا لوحده لا يوجب أن يكون العمل من جانب المشتري مكروهاً ، حيث إن المكروه هو ما يبغضه الله سبحانه بغضاً خفيفاً لم يصل الى حد الحرمة ، ومجرد حصول منّة ـ في البيع للبائع على المشتري ـ لا يوجب هذه الحزازة في الفعل من جانب المشتري ، نعم يكون الفعل مستحباً من قبل البائع وهذا تقدَّم.

الفروق بين بيع النسيئة وغيره من البيوعات :

ولأجل ان يتضح بيع النسيئة بصورة أوضح ، سوف نذكر الفرق بينه وبين غيره من البيوعات التي يمكن أن يشتبه بيع النسيئة بها ، وبذلك يشتبه علينا حكم بيع النسيئة لاشتباه الحكم في غيرها فنقول :

١ ـ هل يوجد فرق بين بيع النسيئة وبيع المرابحة للآمر بالشراء ؟

نقول : قد يبيع الإنسان سلعته الى المشتري بثمن مؤجل ( بأكثر من قيمتها نقداً ) وهذا هو بيع النسيئة. وقد يبيع البائع نقداً ، ولكن يلجأ المشتري الى البنك

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٢ من ابواب الدين ، ح ١.

٥٠

فيقول له : اشتر هذه السلعة وانا اربحك كذا وكذا مؤجلاً. فما هو الفرق بين هذين المثالين ؟

الجواب : اما المثال الاول ، فبما أن البيع قد وقع على السلعة بثمن معين الى أجل معين فهو بيع صحيح وقد تقدمت الادلة على ذلك. واما المثال الثاني ففيه تفصيل ، وتوضيح ذلك : إن البنك إذا اشترى السلعة نقداً ، والتزم بكل احكام البيع مع البائع له ، من ثبوت خيار للطرفين في المجلس ، او وجود خيار غبن للمغبون منهما ، او وجود خيار عيب لمن انتقل إليه المعيب ، وهكذا بقية احكام البيع ، ثم وبعد ذلك يبيع البنك هذه السلعة الى شخص ثالث مؤجلاً بثمن أعلى من الثمن الحال بحيث يتمكن المشتري الثالث أن لا يشتري منه ذلك ، ففي مثل هذه الحالة تكون علاقة البنك بالشخص الثالث هي علاقة بائع ـ وهو البنك ـ بالمشتري الذي اشترى نسيئة ، ولا توجد أي علاقة بالمشتري الذي هو الفرد الثالث بالبائع الاول الذي باع للبنك نقداً ، ففي هذه الحالة تصح هذه المعاملة ، وذلك لأنَّ المعاملة الثانية هي بيع نسيئة قد دل الدليل على جوازها ، كما تقدم ، وعليها الاتفاق الذي ذكرناه من الإمامية بشرط أن يكون قصد البنك والمشتري منه هو بذل المال المؤجل في مقابلة السلعة وان كان الأجل داعياً لزيادة ثمنها ، بحيث يلتزم المتبايعان بكل أحكام البيع وهذا هو معنى أن يكون للمتبايعين قصد جدي للبيع. اما اذا لم يقصد البنك شراء السيارة ( السلعة ) من البائع ، ولم يقصد بيعها الى المشتري منه بثمن مؤجل ، بل قصد البنك أن يعطي ثمن السيارة الى البائع ويأخذ من المشتري اكثر منه مؤجلا ، وكذا قصد المشتري ان يكون هو المشتري من البائع للسيارة ولكن البنك يدفع عنه المال وهو يعطي الى البنك اكثر مما دفع ، بالاقساط ، وحينئذ يكون في هذه الصورة ان البيع قد وقع بين البائع للسيارة والمشتري ، اما وظيفة البنك فقد اصبح وسيطاً في دفع المال عن المشتري وأخذ فوائد عن التأخير ، ولا يكون هناك علاقة بين البائع للسيارة وبين البنك ، ولا تطبق احكام البيع

٥١

بالنسبة اليهما ، لعدم قصد البيع بين البائع والبنك ، ففي مثل هذه الحالة تكون المعاملة في الحقيقة ربوية بين المشتري والبنك حيث يكون البنك قد أقرض المشتري قيمة السيارة نقداً ولكنه يجب عليه أن يدفع أكثر من هذا لقاء الأجل ، وهو الربا الصريح المحرم. اما البيع الذي وقع بين البائع للسيارة وبين المشتري فهي معاملة صحيحة.

٢ ـ ما هو الفرق بين بيع النسيئة وبيع العينة ؟

نقول : عرفنا بيع النسيئة. اما بيع العينة : فهو عبارة عن بيع سلعتي نقداً ثم شرائها منه نسيئة بثمن اكبر ، او يبيعني سلعته بثمن مؤجل ثم يشتريها بثمن أقل نقدا ، فهنا قد حصل بيعان من الطرفين ونتيجتهما هو حصول صاحب السلعة على نقد ( وقد رجعت اليه سلعته ) ويدفع اكثر مما أخذ ، او حصول البائع على سلعته وحصول المشتري على نقد بحيث يدفع اكثر منه نسيئة. وهذا البيع يسمى ببيع التورق أي ينتج منه حصول ( الورق ) لأحد الطرفرفين ويسدد اكثر منه نسيئة ويسمى أيضا بعقد المخاطرة (١). وخلاصة ما ذهبنا إليه هو : أن اشتراط البيع الثاني في البيع الاول بأقل من البيع الأول او بأكثر يوجب بطلان المعاملة ، وبطلانها ليس من أجل وجود زيادة في مقابل بيع النسيئة ( الأجل ) ، بل لأن النص الخاص دل على عدم جواز بيع السلعة عند اشتراط البيع الثاني في البيع الاول بأقل أو أكثر ، ولعل النص ينظر الى أن هذا الشرط الحاصل في البيع الاول يفرِّغ البيع الأول والثاني عن معنى البيع ، فتكون المعاملة حقيقة هي القرض الربوي مع الزيادة لكن دخلت فيه سلعة في الوسط ، وحينئذ تكون هذه العملية القرضية محرمة. والذي يؤيد هذا النظر هو عدم حرمة شرط البيع الثاني للسلعة في البيع الاول اذا كان

__________________

(١) راجع كتابنا الربا فقهياً واقتصادياً ص ٢٤٥ وقد فصلنا الكلام في بيع العينة على مذهب أهل السُنَّة وعلى مذهب الإمامية.

٥٢

بنفس الثمن ، اذ هنا يكون حقيقة الامر هو القرض مع ارجاع نفس القدر المقترض وهو جائز بلا كلام.

اما اذا حصل هذان البيعان ( اللذان ينتج منهما حصول أحدهما على نقد مع رجوع السلعة الى صاحبها ويسدد أكثر مما حصل عليه نسيئة ) من دون اشتراط البيع الثاني في البيع الاول ومن دون تبان من المتبايعين ، فالبيعان صحيحان كما دلت عليه الروايات الصحيحة عن أهل البيت عليهم‌السلام منها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحل ؟ قال عليه‌السلام : اذا لم يشترط ورضيا فلا بأس » (١) ومعناها إذا شرط ذلك فالبيع الاول غير صحيح كما هو ظاهر من كلمة البأس في المعاملات ، اي إذا كان ملزماً بالبيع الثاني فلا يصح البيع الأول ، لا أن الشرط فقط غير صحيح ، لأنَّ السؤال عن حلية البيع والشراء.

نقول : ولعل عدم اشتراط البيع الثاني في البيع الاول وعدم التباني عليه يجعل القصد الى البيع الاول قصداً جدياً وكذا القصد الى البيع الثاني ، فحينئذ لا يوجد قرض مع الزيادة فلا يكون ربا.

٣ ـ ما هو الفرق بين بيع التقسيط والبيع الايجاري ؟

نقول : إن بيع التقسيط قد تقدم وهو عبارة عن تملك المشتري السلعة فوراً ويبقى ثمنها كله في ذمة المشتري يدفعه بعد مدة او نجوماً ( أقساطاً ). وهذه العملية قد يكون فيها ضرر على البائع كما في صورة تأخر المدين عن سداد ديونه في موعدها ، فلأجل أن يتوثق ( البائع بالتقسيط ) من سداد المشتري كل أقساط الثمن بدون تأخير ، ومن دون أن يتضرر الدائن في صورة عدم سداده الاقساط ، يلجأ الى ما يسمى ( بالبيع الايجاري ) الذي سنوضحه فيما بعد. وقد يلجأ البائع الى البيع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٥ من احكام العقود ، ح ٦ ، ص ٣٧١.

٥٣

الايجاري بدلاً من البيع بالتقسيط لفائدة ثانية وهي تتضح فيما اذا أفلس ( المشتري بالاقساط ) وهو بعد لم يسدد الثمن او لم يسدد بعضه ، فإنَّ القانون الإسلامي ( ولعله حتى الوضعي ) يقول : إن البائع يكون كأحد الديّان ، حيث تباع سلعته التي باعها نسيئة كما تباع بقية السلع التي هي ملك للمشتري وتقسم الاموال على الديّان بالنسبة ، ولكن فيما اذا بقيت السلعة ملكاً للبائع ( كما في البيع الإيجاري ) ولم تملك للمشتري إلاّ بعد سداد آخر قسط من الثمن. فهنا لو فرضنا ان المشتري قد أفلس ، فان البائع يتمكن أن لا يخسر أي شيء ولا تباع سلعته كبقية أموال المفلس ، بل له الحق في أخذها ويدفع ما استلمه من اقساط ، وبذلك يتفادى الضرر الذي قد يلحقه في هذه الصورة لو كان قد باع سلعته نسيئة.

اما البيع الايجاري : فهو اللجوء ( عند بيع الارض او الدار أو السيارة أو غير ذلك ) الى أن يحتفظ صاحب السلعة بملكيته للسلعة الى حين تسديد المشتري كل أقساط الثمن فيعقد عقداً صورته الإيجار ويشترط ان يملكه السلعة عند دفع آخر قسط ، وحينئذ لا تنتقل الملكية الى الطرف الآخر إلاّ بعد سداد الثمن المقسط كاملاً. ونلاحظ على صورة عقد البيع الإيجاري نقطتين :

الاولى : إن الاقساط التي تدفع الى المالك ليست هي أقساط إيجار ، وانما هي أقساط بيع ، لان القسط المأخوذ بعنوان أنه قسط إيجار هو أعلى من قسط الاجارة الحقيقية بكثير.

الثانية : إن المالك يقول انا مالك للسلعة المأجورة ، ولكنه يتنصل بكل طريق عن تحمل مخاطر الملك وصيانته. فنفهم من الأمر الاول أن الإيجار صوري ، وحقيقة الأمر هو البيع نسيئة مع ضمان سداد الثمن بصورة كاملة ، ونفهم من الامر الثاني أن ملكية صاحب السلعة لها هي ملكية صورية أيضا ، اذن حقيقة الأمر هو ( بيع نسيئة لكن مع عدم نقل الملكية إلاّ بعد سداد الأقساط جميعا ) وهذا البيع قد

٥٤

أجازه القانون الروماني وبعض القوانين الحديثة الوضعية (١).

ونحن وان امكننا تصحيح النقطة الاُولى بقولنا إن السلعة التي تؤجر ( مع اشتراط المستأجر على المؤجر أن يملكها له ـ بعد آخر قسط من الإيجار ـ مجاناً ) يكون مقدار القسط الإيجاري مرتفعاً جداً ، فالشرط الذي يكون في المعاملة يكون داعياً لزيادة القسط الإيجاري ، وحينئذ تكون الاجارة صحيحة. ولكن الامر الثاني لا يمكن تصحيحه ، باعتبار أن مالك السلعة اذا كان هو المالك لها كما هو مقتضى الامر الاول فيلزمه حينئذ أن يتحمل مخاطر الملك وصيانته ، فعدم تحمله مخاطر الملك وصيانته دليل على أن قوله أنا المالك هو ملك صوري وانما المالك حقيقة هو المستأجر الصوري ، فيكون البيع نسيئة هو الحقيقة لكن مع ضمان تسديد كل الاقساط.

نقول : أفلا يمكن للمالك ( المؤجر للسلعة مع اشتراطه على نفسه أن يملّكها للمستأجر ) ان يشترط على المستأجر أن يقوم بضمان وتحمل مخاطر الملك وصيانته ؟

الجواب : قد يقال : إن هذا الشرط غير صحيح لانه يجعل الاجارة غررية ، بالاضافة الى مخالفة هذا الشرط لاصل عقد الاجارة ، حيث إن المستأجر الذي يدفع قيمة الاجارة لابد أن يستفيد من المحل الذي استأجره ، وطبيعي أن يستهلك هذا المحل المؤجَّر ، فاذا كانت صيانة محل الاجارة عليه ، فمعنى ذلك أنه يدفع قيمة الاجارة ولا مقابل لها فيكون اكلاً للمال بالباطل.

والتحقيق : إن شرط تحمّل مخاطر الملك وصيانته لا يجعل الاجارة غررية ، حيث إن الاجارة قد وقعت على شيء محدد غاية الامر قد اشترط المالك تلافي ما

__________________

(١) د. ابراهيم دسوقي ابو الليل ، ص ٩٠ و ١٤٨ و ١٨٩ و ٢٧٠ ، عن ( بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي ) د. رفيق يونس المصري ص ١٨.

٥٥

يحدث من اضرار على المستأجر ، وهذا لا يوجب كون الاجارة غررية ، وكذلك لا يكون هذا الشرط مخالفاً لأصل عقد الاجارة وذلك : لأنَّ استحقاق الاُجرة يكون في مقابل انتفاع المستأجر او تمكنه من الإنتفاع بلا مانع ، وهذا يكفي لتصحيح عقد الاجارة فلا يكون اكلاً للمال بالباطل.

ولكن الإشكال المهم هو : لو تلفت هذه الدار في وسط المدة ( كما إذا احترقت ) فهل يجب على المستأجر أن يدفع القسط او الاقساط المتأخرة عن وقت تلف الدار او لا يجب ؟ فان قلنا إنه لا يجب ، فالاجارة صحيحة ، وإن قلنا إنه يجب عليه أن يدفع اتضح حينئذ إن العملية هي عملية بيع بالاقساط ، وتكو الاجارة صورية باطلة (١).

إذن حقيقة الامر هي ( بيع نسيئة ) فإذا اشترط على المشتري ان لا يملك السلعة حتى يسدِّد آخر قسط من أقساط الثمن ، فيكون هذا الشرط منافياً لمقتضى البيع حيث إن التمليك بشرط أن لا تملك هو تناقض فيكون العقد باطلاً. وهنا سؤال يطرح نفسه وهو : هل يستغنى عن البيع الايجاري ، ببيع التقسيط مع تقديم ( كفالة او ضمان ) (٢) او رهن رسمي للبائع بمفهوم عدم امكان البيع من قبل المشتري للملك إلاّ بعد سداد الدين ويتمكن المرتهن أن يأخذ حقه من السلعة المرهون ببيعها ولكن السلعة غير مجازة للراهن ويسمى هذا ب‍ ( الرهن الرسمي غير الحيازي ).

والجواب : إن هذه التوثيقات للبائع لا بأس بها ، ولكنها لا تقوم مقام البيع

__________________

(١) الظاهر أن البيت لو احترق فان المؤجر لا يأخذ الأقساط المتبقية من المستأجر لأنهم يذكرون ان في : « خلال مدة الاجارة قد توضع لوحة ظاهرة على الشيء المأجور تبين ان هذا الشيء ملك لفلان المالك المؤجر » فعلى هذا ، الظاهر تكون الاجارة صحيحة. بيع التقسيط ، د. رفيق يونس المصري ، ص ١٧.

(٢) الضمان هنا بالمعنى الشرعي وهو نقل ذمة الى ذمة ، بل الضمان بمعنى ان يتعهد الضامن للدائن بالسداد في صورة عدم سداد المدين ، فيكون معناه هو ضم ذمّة الى ذمّة مع كون الذمّة من الضامن تأتي في الدرجة الثانية في المسؤولية عن سداد الدين ، وكذا المراد من معنى الكفالة.

٥٦

الإيجاري بالنسبة للبائع لانَّ الذمة الثانية التي أضيفت الى الذمة الاُولى فصارت مسؤولة عن الدفع عند عدم دفع صاحب الذمة الاُولى ، قد يكون صاحب الذمة هو ايضاً قد تخلف عن هذا الإلتزام وتأخر عن الدفع أو قد فلّس ايضا ، فلا يمكن إلزامه بملزم شرعي او قانوني. واما بالنسبة لرهن الملك المبيع ، فان البائع المرتهن انما يقدم على الديّان في صورة إفلاس المشتري وهذا صحيح ومفيد ، إلاّ أنه يقدم عليه اصحاب الحقوق والإمتيازات العامة ( كالخمس والزكاة وما يكون المفلَّس مسؤولاً عن دفعه للمنصب العام الذي هو راجع الى خزانة الدولة العامة ) وحينئذ يكون البيع الإيجاري أفضل بالنسبة للبائع من بيع التقسيط مع الرهن والكفالة بالمعنى المتقدم ، ولكننا قد عرفنا أنه ليس ببيع صحيح شرعاً ، إذا كان المقصود منه بيع التقسيط مع عدم التمليك الآن.

تنبيه :

إن الخوف الذي يساور البائع بالنسيئة قد لخصناه في نقطتين :

١ ـ تخلف المدين عن الدفع في الموعد المحدد ، فهنا وان أمكن اجبار المدين على الدفع بعد الرجوع الى المحكمة وإدانته بواسطة الحاكم إلاّ أن الضرر الذي توجه للبائع قد حصل ولا يمكن رفعه. نعم الذي يحصل هو رفع استمرار الضرر بحكم الحاكم.

٢ ـ اذا فلس المدين قبل حلول الأجل ، فإنَّ الدُيّان الذي حل أجلهم يأخذون ما عند لمفلس ويقتسمونه ، ويبقى الدائن بالنسيئة عند حلول اجله صفر اليدين من حقه الذي متعلق بذمة المدين ( المشتري بالنسيئة ) ، او على أحسن الاحوال اذا فلس المدين عند حلول اجل دين البائع ، فهنا يكون حاله كحال الديان في اقتسام ما عند المفلس من مال يمكن بيعه ويقع التحاصى بين الديان ، وهذا فيه ضرر على البائع ـ ايضاً ـ.

وقلنا فيما سبق قد يلجأ البائع بالنسيئة ـ تخلصاً من هذين الضررين ـ الى

٥٧

البيع الإيجاري الذي اشكلنا على صحته في صورة تلف البيت ومطالبة ( المالك المؤجر ) بالاقساط الباقية بعد التلف. ولكن هنا نقول : يوجد عندنا طريق صحيح يفي بدفع كلا الضررين وهو بيع الدار نسيئة او بالاقساط ولكن يشترط البائع على المشتري الدفع في الوقت المحدد ، فان لم يدفع يحق له الفسخ ، وكذا يحق له الفسخ إن فُلِّس ، من قبل الحاكم الشرعي ، وهي إذا لم يدفع المشتري بالنسيئة عند حلول الاجل ولم يكن مفلَّساً فيحق للبائع الفسخ فلا يتضرر لانه يرجع إليه ملكه ، وإن فلس المشتري يحق للبائع ايضا الفسخ حسب الشرط ، وحينئذ تكون هذه الصورة مغنية عن البيع الإيجاري ولكن نقول إنها مغنية في صورة كون السلعة موجودة حتى يكون رجوعها اليه بعد فسخه ، اما إذا لم تكن موجودة كما لو تلفت او باعها ، فستكون للبائع قيمتها في ذمة المشتري فيكون البائع دائناً ، فوقع في الضرر الذي فر منه.

٤ ـ الفرق بين بيع النسيئة والربا :

١ ـ هناك كثير من الاحاديث الشرعية ذكرت أن بيع المتجانسين ( المكيلين او الموزونين ) لا تجوز فيه الزيادة ، لأنَّ الزيادة فيه تعتبر ربا فضل ان كانت زيادة حقيقية ، او حكمية مثل أن اُقرِض زيدا مئة دينار الى سنة بشرط ان يؤجل الدين الذي عليَّ وهو الف دينار الى ستة اشهر ، أو أن ابيع شيئاً لزيد بمثله ( مكيل او موزون ) نسيئة بشرط أن يؤخر الدين الذي عليَّ الى سنة ، وهذا شيء واضح لدى جميع المسلمين.

٢ ـ في بيع الذهب والفضة : قد منعت الاحاديث من بيع الذهب بالذهب مع الزيادة او نسيئة ، وكذلك الامر في بيع الفضة بالفضة ، أما إذا بعت الذهب بالفضة مع الزيادة فهو امر لا بأس به بشرط أن يكون نقداً ( التقابض قبل التفرق ) ، ومعنى ذلك عدم صحة هذا البيع نسيئة ، حيث اشترطت الاحاديث ( التقابض ) قبل التفرق في هذا البيع الذي يسمى ببيع الصرف ، وهذا واضح ايضا لا يحتاج الى ذكر

٥٨

الاحاديث لأنها مسلمة لدى الطرفين.

٣ ـ في القرض لا يجوز الزيادة في مقابل الأجل ، وهذا واضح أيضا للاحاديث الكثيرة من الطرفين على ذلك ، فيثبت أن الزيادة في مقابل الأجل ( الإنساء ) لا يجوز في القرض.

٤ ـ ما نحن فيه وهو بيع السلعة مؤجلاً ( بيع التقسيط ) بالدينار او بغيره من الاثمان ففي هذا البيع وجد نسأ وهو تأجيل الثمن ، ووجد فضل ( كما إذا باع السلعة باكثر من ثمنها النقدي في صورة بيع النسيئة حيث تباع بثمن مقسط اكثر من ثمنها حالاً.

والذي نريد أن نقوله هو : إن الامور الثلاثة الاولى ثابتة بالآثار الشرعية الواضحة ، اما الامر الرابع فلابد فيه من إثبات جواز الانساء وجواز الفضل ، فنقول :

أ ـ أما الامر الاول : وهو جواز بيع التقسيط ( بيع النسيئة ) فقد تقدمت الاحاديث الدالة على جوازه في هذه البيوع المختلفة جنساً ولم تكن من النقدين ( الذهب والفضة ). ولكن لماذا الجواز هنا ، والمنع في بيع الذهب بمثله ، والفضة بمثلها وحتى في بيع الذهب بالفضة ؟

الجواب : إن التعبد الشرعي هو الذي الزمنا بمنع البيع نسيئة في النقدين ( الذهب والفضة ) حيث اشترطت الروايات في بيع الصرف ، القبض قبل التفرق ولو قلنا إن هذا حكم عام لكل نقد وإن لم يكن ذهباً او فضة ( كما هو محتمل ) ، فمع هذا يكون الجواز في بيع السلعة بثمن نسيئة ، للفرق بين بيع الاموال النقدية بالاموال النقدية ، وبيع السلع بالاثمان ، سواء كان الثمن مقدماً والمثمن مؤخرا وهو بيع السلف ( السلم ) الذي دلت الادلة على جوازه من الكل ، أم كان المثمن مقدماً والثمن مؤخراً وهو بيع النسيئة الذي دلت الادلة على جوازه من الكل ايضاً إلاّ النادر.

ب ـ اما الامر الثاني : وهو كيف نحلل جواز الزيادة ( في بيع النسيئة ) عن

٥٩

البيع الحال ؟ وبعبارة اُخرى لماذا جاز أخذ الزيادة في بيع النسيئة بداعي الأجل ولم يجز ذلك في القرض ؟

نقول : إن جمهور الفقهاء من العامة (١) علَّلُوا أخذ الزيادة في بيع النسيئة في

__________________

(١) ذكرهم وذكر عباراتهم بالتفصيل الدكتور رفيق يونس المصري في بحثه المعنون : « بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي » ص ٢٤ ـ ٢٨.

وقد حدث لي حادث في الدورة السابعة لانعقاد مجلس مجمع الفقه الإسلامي ( بجدة ) حيث كنتُ اُشير في مداخلاتي إلى الرأي المخالف للإمامية وعلمائهم بالعامة من دون قصد الاسائة إلى أحد ، كما كانت هذه الطريقة هي التي كتبتُ فيها مقالتي « بيع التقسيط ».

وقد أوجب هذا التعبير في خصوص هذا المجمع استياء لدى البعض ظهر في مداخلاته على الموضوع ، وقد طلب مني رئيس المجمع « الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد » في جلسة الاستراحة أن اُعبر عن الرأي المخالف للإمامية « بأهل السنة » ، لأن مثل هذه المؤتمرات يجب فيها رعاية شعور الآخرين واحترامهم. وقد نزلت إلى تلك لما وجدتُ فيها من الرعاية لمشاعر الآخرين واحترامهم.

ولكن في الدورة العاشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقدة ما بين ٢٣ ـ ٢٨ صفر ١٤١٨ ه‍. ق وفي الجلسة الافتتاحية زفَّ الأمين العام للمجمع « الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة » بشرى طبع المجمع كتاب « المدخل المفصّل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب » لرئيس المجمع الدكتور « بكر بن عبد الله أبو زيد » ، وما أن تصفحت الجزء الأول منه فقط فقد تذكرت الحادثة المتقدمة التي حصلت لي بالخصوص ، حيث وجدتُ أن الرئيس يعبّر عن الامامية وينقل عن الغير التعبير « بالرافضة » و« أهل البدع » ، ويجعلهم خارجين عن جماعة المسلمن حيث يصل به الأمر الى تكفيرهم في بعض المواضع تبعاً لما قاله أحمد بن حنبل. راجع الجزء الأول من الكتاب المذكور ص ١٠٦ و ٣٦٣ و ٣٦٤ و ٣٧٥ و ٣٩١ و ٤١٨ و ٥٤٩ و ٥٨٢ و ٥٨٤.

أفهل يصح من رئيس مجمع للدول الإسلامية حيث يحذر من الفرقة ويدعو إلى احترام مشاعر الآخرين واحترامهم ، وتشترك في هذا المجمع طائفة الإمامية بصورة رسمية كما يدعى خبراء من نفس الطائفة للاشتراك أيضاً ويعبر عن الطائفة الإمامية بتعابير بحيث يصل الأمر إلى تكفيرهم ولا يرضى أن يُعبّر عن المخالفين للإمامية « بالعامة » ؟!

ونحن إذ نضع هذا الأمر بين يدي المنصفين من فقهاء الأمة ، نسأل الله تعالى العفو والارتفاع عما لا يرضي الله سبحانه وتعالى وأن يلهمنا السداد في القول والعمل وان نتبع الهدى والرشد الذي أمرنا به الأئمة عليهم‌السلام.

٦٠