بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

الشيخ حسن الجواهري

بحوث في الفقه المعاصر - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن الجواهري


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الذخائر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٣
  الجزء ١   الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والثمن ) اي انه عقد على توريد سلع او مواد محددة الاوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع على اقساط.

فالتوريد يختلف عن السلم في كون دفع الثمن اقساطاً ، وهو يشبه السلم من ناحية أنَّ المثمن له أجال معلومة ، اذن يمكن القول بان التوريد اشبه شيء بعقد الاستصناع ( المعروف عند الحنفية ) لأنهم اجازوا فيه عدم تعجيل الثمن. لكنه يختلف عن الاستصناع حيث إن الاستصناع يقدم فيه المقاول العمل والمواد معاً ، بينما عقد التوريد قد يقدم فيه المورِّد السلع او المواد فقط من دون عمل.

ومن هنا نفهم ان علاقة المناقصة بالتوريد هي عبارة عن العموم والخصوص من وجه حيث يجتمعان ، كما اذا كانت المناقصة هي عبارة عن توريد سلع او مواد معينة ، وقد يفترقان كما اذا كانت المناقصة عبارة عن مقاولة عمل ، كما قد يوجد عقد توريد بلا مناقصة كما اذا كان العقد بين فردين على نحو المباشرة.

المهم هنا هل يصح عقد التوريد ؟

الجواب إن المانع هنا هو صدق بيع الدين بالدين ( الكالي بالكالي ) الذي ورد فيه النهي ولكن هذا الحديث ليس بسليم السند كما ذكر ذلك جماعة منهم الامام احمد حيث قال : « ليس في هذا حديث يصح » (١) كما أن دلالته لا تشمل : « لما صار ديناً في العقد بل المراد منه ما كان ديناً قبله والمسلّم فيه ( هو المورّد ) من الاول لا الثّاني الذي هو كبيع ماله في ذمة زيد بمال آخر في ذمة عمرو ونحوه مما كان ديناً قبل العقد » (٢) وحينئذ يكون دليل المنع عن بيع الدين بالدين هو الاجماع ويقتصر فيه على مورد الاتفاق وليس هذا من مورد الاتفاق. وحينئذ اذا لم يدخل تحت المنع ولم يكن فيه ربا بالضرورة لأن عقد التوريد : مبادلة سلعة بنقد ، فالبدلان مختلفان لا يدخلهما الربا. ويسمى بيعاً عرفاً شملته العمومات

__________________

(١) نيل الاوطار ، ج ٥ ، ص ١٧٧.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٤ ، ص ٢٩٣.

٣٤١

فيكون صحيحاً.

نعم يكون المتقدم بالعطاء في المناقصة موجباً ، لانه يملَّك ماله بثمن معين وهو معنى الايجاب ، ثم إننا وإن قبلنا ( قياساً على المزايدة ) بأن الذي تقدم بعرض سلعته بثمن معين هو الموجب ، فان بذل آخر عمله او سلعته بأقل من الأول فقد سقط الايجاب الاول ووجد ايجاب ثاني ( وهو البذل الثاني ) استناداً الى التعريف الذي تقدم للمناقصات القائل بأنه : باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد. وحينئذ يكون البذل بالأقل هو أفضل من الاول للتعاقد ، وقد التزم الداعي الى المناقصة باختياره فيكون ملزَماً به ومعرِضاً عن البذل الأول فيسقط البذل الاول ، فاننا وإن قبلنا كل ذلك الا أننا لا نقبل ذلك وفيما اذا كان البذل الثاني قد صدر من القاصر او المحجورِ عليه (١) ، لان هذا البذل الأخير ليس ملزِماً للداعي الى المناقصة وإن تصوره ملزِماً.

وعلى هذا يمكن القول بعدم وجود بذل ثاني أفضل من الاول في هذه الصورة الاخيرة.

علاقة المناقصة بالمقاولة : (٢)

إن علاقة المناقصة بالمقاولة من حيث ان المناقصات هي قسم من المقاولات التي تكون ملزِمة للطرفين ، فان المقاولة ربما تكون مع طرف خاص من غير ان تسبق بعرض ذلك المشروع على الآخرين ، وبعبارة اوضح ان المناقصة والمقاولة كلاهما تعهد من قبل مَنْ يشترك في المناقصة والمقاولة ، إلا أن الاختلاف من ناحية

__________________

(١) مصادر الحق في الفقه الاسلامي ، ج ٢ ، ص ٦٦.

(٢) المقاولة معناها اللغوي هو : المفاوضه والمجادلة ، وفي الاصطلاح الحديث : عقدٌ بين طرفين يصنع فيه المقاول شيئاً لآخر ويقدم له عملاً في مقابل مبلغ معلوم. وبهذا يتضح أنَّ المقاولة أعم من المناقصة من هذه الناحية.

٣٤٢

ان المقاولات عامة تشمل المناقصات التي هي مقاولات خاصة وتشمل غير المناقصات التي يكون التقاول مع طرف خاص من غير ان تسبق هذه المقاولة بعرض المشروع على الآخرين. فالعلاقة بينهما هي علاقة العموم والخصوص المطلق ، إذ كل مناقصة هي مقاولة وليست كل مقاولة هي مناقصة ، فالمقاولات اعم من المناقصات التي هي مقاولات خاصة (١).

توضيح لعقود المناقصات المعاصرة :

إن ما يجري في الخارج لعقود المناقصات قد يحتوي على عمليات متعددة يكون لفهمها الاثر الخاص في تشخيص الحكم الذي نحن بصدده ، لذا من المستحسن أن نستعرض سير عملية المناقصة من اول ما يدعى الى المشاركة فيها وحتى نهاية العقد فنقول :

١ ـ إن أول ما يصدر منشوراً في الصحف الكثيرة الانتشار هو وجود عزم عند جهة معينة لتأسيس مشروع معين او شراء سلع موصوفة ، ولكن طريقة تمامية العقد تكون على طريقة المناقصة التي هي : « التزام بالتعاقد مع افضل من يتقدم بالتعاقد معه » ، ويذكر عادة في هذا المنشور الدعوة الى الاشتراك في المناقصة وذكر آخر موعد لتسلّم المضاريف التي فيها الاستعداد الكامل لتقبل الصفقة بسعر معين.

٢ ـ قد يُشترط لأجل الاشتراك في عملية المناقصة شراء المعلومات التي أعدتها الجهة الداعية الى المناقصة حول المشروع ، وهنا لابدّ لأجل الاشتراك في عملية

__________________

(١) واذا نظرنا الى ان المقاولة هي عبارة عن عقد بين طرفين يقدم فيه المقاول صناعة لآخر أو عملاً في مقابل مبلغ معلوم ، عرفنا ان المناقصات قد تكون في البيع والسلم وحينئذ تكون العلاقة بين المناقصة والمقاولة هي العموم والخصوص من وجه حيث يلتقيان كما في المقاولة التي وجدت من طريق المناقصة فهي مقاولة ومناقصة وقد يفترقا حيث توجد مقاولة ليست بمناقصة كما في المقاولة المباشرة بين الاطراف وقد توجد مناقصة ليس بمقاولة كما اذا حصلت مناقصة على شراء كمية من السلع تسلّم نجوماً.

٣٤٣

المناقصة لمن يرغب بها من شراء تلك المعلومات. وهذا عقد مستقل قبل الاشتراك في المناقصة ولا ارتباط له بعقد المناقصة الذي لم تبدأ أيُّ مرحلة من مراحله لحدِّ الآن. وقد يشترط في هذا العقد تقديم خطاب ضمان ابتدائي يدفعه البنك اذا رست المعاملة على أحد المتناقصين ولم يلتزم بها.

٣ ـ يبدأ عقد المناقصة من حين تسلّم المضاريف وفتحها ( وقد يكون من حين كتابة المضاريف ) ، وبما أن في كل مضروف استعداد صاحبه لتقبل المشروع بسعر معين ، فهو يكون ايجاباً من قبل صاحبه للالتزام بما يريده صاحب الطلب « وفي حالة كون المناقصة علنية وعلى وجه المباشرة بين البائع او المقاولين وبين الراغب في تمامية المشروع له ، تكون المناداة بالاستعداد بسعر معين هي الايجاب ». ولكن بما أن الداعي الى المناقصة قد التزم بانه يختار أفضل من يتقدمون للتعاقد معه ، فحينئذ يكون بذل السلعة او العمل بسعر أقل من الأول موجباً لسقوط الايجاب الاول وبقاء الثاني وهكذا اذا حصل من يبذل أقل من الثاني ، الا أن هذه المرحلة يبدأ بها العقد ولكنه لم يتم الا بعد إرساء المناقصة على أحد الافراد وهو الأقل من غيره.

٤ ـ واذا رست المعاملة على أحد المتناقصين باعتباره الأفضل للتعاقد ، فقد حصل القبول وتمّ العقد في هذه اللحظة وإن كان قد بدأ قبل ذلك. وفي هذه المرحلة لا يوجد ايّ إشكال في هذه المعاملة حيث يكون الثمن معلوماً للمشتري ، كما لا بأس بالفاصل بين الايجاب والقبول هنا كما لا نرى بأساً به فيما اذا حصل الايجاب بواسطة الرسالة التي تستغرق مدّة ( أكثر من المدة التي تكون بين كتابة المضاريف وفتحها وارساء المناقصة على افضلها ) غير قليلة حتى يتحقق القبول ويتم العقد.

ولكن قد يكون سير المناقصة بصورة اخرى : خلاصتها : « تقديم القبول على الايجاب » كأن يقول الداعي الى المناقصة ( كما تقدم في تعريفها ) أنا التزم باختيار أفضل من يتقدم للتعاقد معي حول هذا المشروع الموصوف بهذه

٣٤٤

الاوصاف المعينة ، ويعتبر هذا قبولاً متقدماً على الايجاب. وعلى هذا فسوف يكون فتح المضاريف والاطلاع على اقل من تقدم للتعاقد هو الايجاب المقبول سابقاً.

وفرق هذه الصورة عن سابقتها هو في تحديد بدء العقد وانتهائه. ففي الصورة الاولى كان بدء العقد بكتابة المضاريف او فتحها وانتهائه بالقبول مع أفضل من تقدم للتعاقد ، أما في الصورة الثانية فيكون بدء العقد من حين الدعوة الى المناقصة وختامها بفتح المضاريف ومعرفة افضل من تقدم للتعاقد.

ولكن إشكال هذه الطريقة الثانية يكمن في عدم معرفة الثمن حين القبول المتقدم ، حيث أن المشتري او صاحب المشروع قد قبل افضل مَنْ يتقدم للتعاقد معه ، وهو لا يعرف الثمن الذي يكون في مقابل المشروع او السلعة المشتراة ، نعم يعرف الثمن حين تمامية العقد ومجيء الايجاب ، فهل هذا يضرّ بصحة العقد ؟

والجواب : قد يقال بأنّ جهالة الثمن عند القبول المتقدم لا يضر بصحة العقد ، حيث ان معلومية الثمن وكذا المثمن هي شرط لصحة العقد ، وحينما يتم العقد يتضح الثمن ، جهالة بالثمن عندتمامية العقد ، نعم هناك جهالة بالثمن قبل تمامية العقد وهي لا تضر.

وبعبارة اخرى : اذا قلنا أن جهالة الثمن مضرّة بصحة العقد لأنها تؤدي الى الضرر المنهي عنه ، فإن الضرر غير موجود بعد تمامية العقد ، حيث أن المشتري قد علم بالثمن حين رسوّ المعاملة.

ثم إننا اذا لم نقبل ما تقدم كتوجيه لصحة الصورة الثانية للمناقصات ، فنقول : إن القبول المتقدم إن لم يكن مقبولاً ، فبعد فتح المضاريف ومعرفة أفضل من تقدم للتعاقد يحصل القبول من المشتري الآن ، فيكون ابتداء العقد وإنتهائه كالصورة الاولى وقد عرفنا أنه لا إشكال فيها.

٢ ـ انواع المناقصات :

ان المناقصات التي توجد في الخارج يمكن ان تكون على انواع متعددة :

٣٤٥

الاول : مناقصات للبيع والشراء : فان الجهة الداعية الى عقد المناقصة تريد الشراء لما ترغب فيه بمواصفات معينة ، والذي يبذل ما يريده المشتري يكون بائعاً. وهذا هو بيع الكلي المضمون حالاًّ.

الثاني : مناقصات الاستصناع والسلم : حيث تعقد المناقصة لشراء الكلي الموصوف الذي يسلّم بعد ستة اشهر مثلاً ، فيتعاقد المشتري مع أفضل من يتقدم من الناحية المالية والالتزامية ، فهي مناقصة سلم اذا كانت على سلعة لابدّ من تحويلها بعد الاجل ، ومناقصة استصناع اذا كان المراد تحويله عبارة عن شيء كوّنه العمل مع المواد الاولية التي يوفرها المستصنَع.

الثالث : مناقصات لعقد الاجارة : لإنشاء مشروع معين ، على ان تكون مواد المشروع من الجهة الداعية الى المناقصة.

الرابع : عقد مناقصة لأجل الاستثمار : ولهذ القسم انواع متعددة تبدو في كل من :

أ ـ عقد المضاربة.

ب ـ عقد المزارعة.

ج ـ عقد المساقاة.

فإنَّ المموّل في المضاربة الشرعية ، وصاحب الارض والبذر الذي يريد زراعة أرضه بنسبة من الربح ، وصاحب الاصول الذي يرغب في أن يسقي غيره اصوله المغروسة قد يعقدون مناقصة لمن يكون شريكاً لهم في الربح ، فيعلن ( المضارب والمزارع والمساقي ) رغبته للتعاقد مع أفضل من يتقدم للشركة معه.

ونحن لا نحتاج الى سرد دليل خاص على مشروعية المناقصات حيث انها كما اتضحت داخلة :

اما في بيع الكلي حالاًّ.

او بيع الكلي سلماً.

٣٤٦

او بيع الاستصناع.

او الاجارة.

او الاستثمار على طريقة المشاركة.

وبهذا سوف تكون ادلة هذه العقود هي الادلة على صحتها.

ثم انه كما يكون البيع في الحيوان والصرف والسلف والاستصناع ، كذلك تكون المناقصة فيها على حدّ سواء. وعلى هذا فسوف تكون المناقصات شاملة للبيع وللاجارة وللاستثمار عن طريق المشاركة في الربح ، فهي عبارة عن عنوان عام يمكن أن نطلق عليه عنوان عقود المناقصات.

وعلى هذا فان المناقصات لما كانت تختلف عن البيوع العادية في اعتبار أنَّ المشتري ملتزم بالتعاقد مع أفضل من يتقدم بالتعاقد معه ، وكذا البائع قد التزم بذلك كما في التعريف فمعنى ذلك أن العقد الحاصل من تلك المناقصة قد اشترط فيه اسقاط الخيارات ، حيث ان الالتزام في العقد بالتعاقد مع أفضل من يتقدم للتعاقد ليس معناه عرفاً هو الالتزام بالتعاقد حتى يتمّ ثم يُفسخ بعد ذلك بخيار مجلس مثلاً ، فإنَّ هذا المعنى وإن كان له وجه دقيق الا أنه ليس عرفياً لمن يصرح بانه ملزَم بالعقد مع غيره ، كما اذا حلف أن يبيع داره من فلان ، فانه لا يحق له أن يبيعها منه ثم يفسخ البيع بخيار المجلس ، وحينئذ يكون التصريح معناه بقاء العقد بدون فسخ ، اما اذا وجد فسخ بعد ذلك فلا معنى للالتزام بالعقد.

وعلى هذا فسوف يكون معنى الالتزام بالعقد مع مَنْ يتقدم بأحسن الشروط هو عدم جواز الفسخ بخيار المجلس مثلاً ، وهو معنى إرتكازية عدم الفسخ في عقد المناقصات. ومما ينبهنا على ذلك أخذ خطاب الضمان الابتدائي الذي يكون لصالح من يلتزم بالعقد ضدّ من لم يلتزم به بعد رسوّ المعاملة ، وسوف يأتي توجيه ذلك بكونه شرطاً في فسخ المعاملة ، ومعنى ذلك عدم جواز الفسخ بدونه ، ونستطيع أن نستنتج من كل ذلك : أن الخيار موجود للمتبايعين ولكن لا يحق لكل

٣٤٧

واحد شرعاً الفسخ الا في صورة أن يكون خطاب الضمان لصالح الآخر. بالاضافة الى أن المشتركين في هذه العقود هم من أهل الخبرة الذين لهم سابقة جيدة في هذه المعاملات السوقية فيكون ادعاء الغبن مثلاً هنا غير مسموع عادة ، فلا يثبت خيار الغبن فيها من هذه الناحية أيضاً.

اختلاف المناقصة عن البيع :

واذا نظرنا بمنظار آخر للمناقصات نراها انها عبارة عن قسم من البيوع ، حيث ان البيع قد يكون مع طرف خاص من غير أن يُعرَض المشروع في شراء السلع للاخرين. كما تكون المناقصات قسماً من بيع السلم او الاستصناع او الاجازة او الاستثمار حيث قد تكون هذه العقود الأخيرة من غير ان يعرَض مشروعها للاخرين .. وبهذا اتضح ان المناقصات قد تكون اعم من البيع كما قد تكون اخص منه من ناحية اخرى. فبين المناقصة والبيع عموم وخصوص من وجه ، فيتفقان ويختلفان ، وكذا تكون هذه النسبة بين المناقصة والسلم ، والمناقصة والشركة ( مضاربة ، مساقاة ، مزارعة ).

التكييف الشرعي للمناقصات

إن المناقصات التي قد لا يكون لها أثر شرعي خاص في كتب الحديث ، يمكن الاستدلال على صحتها ومشروعيتها بعمومات ( أحَلَّ اللهُ البَيْع ) و ( تِجارَةً عَن تَراض ) و ( أوْفُوا بِالعُقُود ) بعد وضوح كونها من مصاديق البيع والتجارة والعقد عرفاً ، حيث أن المشتري اراد الوصول الى مقصوده ، وكذا المستأجرِ ، وكذا الطرف الآخر البائع او مقدّم الخدمات الى الاخرين يريد الحصول على نتيجة عمله متمثلاً في النقد او اي شيء آخر ، واذا إتضح ان المعاملة الجارية بصورة المناقصة هي بيع او اجارة او مزارعة او مضاربة او مساقاة او غير ذلك ، فالدليل الذي دلّ

٣٤٨

على صحة هذه العقود من الادلة العامة او الخاصة هو نفسه الدليل على صحة هذه المناقصة بشرط أن تسلم اصول العقد وتحقق اغراضه. وسوف نرى فيما يأتي ان ما اشترط في عقد المناقصة هل يخلّ بأصل العقد او لا ؟.

ثم إن المناقصات تستهدف في حقيقتها المحافظة على المنافسة الشريفة في خفض الاسعار لصالح طالب السلعة ، او خفض الاجرة لصالح طالب العمل ، وهذا العمل قد يتعين في الشريعة الاسلامية اذا كان الغرض منه الشراء للايتام بواسطة الحاكم او الوصي او القيّم ، لما فيه من توقع الشراء بأقل ودفع التهمة. وكذا قد يتعين هذا العمل في الشراء او انجاز العمل لمؤسسات الدولة كالاوقاف والمؤسسات العامة كالمدارس ، وان لم يتعيّن فلا اقل من استحبابه في مثل الصور المتقدمة لما فيه من تحقيق المصلحة العامة او مصلحة المتولى عليهم او دفع التهمة على المباشر في بعض الصور.

هل هناك تعارض بين صحة عقود المناقصات والنهي عن الدخول في سوم الاخ ؟

هناك طائفتان من الروايات قد يقال بتعارضها مع عقد المناقصة وهما :

طائفة النهي عن بيع الرجل على بيع اخيه.

طائفة النهي عن سوم الرجل على سوم أخيه.

الطائفة الاولى :

١ ـ فقد ورد عن عبدالله بن عمر رضي‌الله‌عنه ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا يبيع بعضكم على بيع أخيه » (١).

٢ ـ عن أبي هريرة قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبيع حاضر لباد ... ولا

__________________

(١) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ، ج ٤ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣ باب ٥٨ ، حديث رقم ٢١٣٩.

٣٤٩

يبيع بعضكم على بيع اخيه » (١).

وقد روى هذا الحديث ايضا مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي‌الله‌عنه بلفظ : « لا يبع بعضكم على بيع بعض ».

وعنه أيضاً : « لا يبع الرجل على بيع اخيه ولا يخطب على خطبته الا أن يأذن له ».

ولما كان البيع حقيقة هو في صورة انعقاده ، فيكون البيع على البيع حقيقة في صورة انعقاد البيع الاول وهذه الحقيقة هنا منتفية ، فحُمِل على اقرب المجازات اليها ، وأقرب المجازات هي المراكنة التي يركن فيها المشتري الى البائع وتنشر السلعة له (٢).

اقول : ان حقيقة البيع على البيع هنا موجودة ، فلا حاجة الى حمل الروايتين على أقرب المجازات ، وتوضيح ذلك هو أن البيع الاول عندما يتم يأتي البائع الآخر فيقول للمشتري في زمن خيار المجلس : « اذا فسخت بيعك فانا ابيعك مثله بأقله ، منه او يقول مشتر آخر للبائع اذا فسخت بيعك ، فأنا أشتري منك بأكثر منه ».

وأما ما ذكر من المراكنة فقد وردت فيها روايات الطائفة الثانية.

الطائفة الثانية :

روى عن الحسين بن زيد عن الامام الصادق عليه‌السلام عن آبائه في حديث المناهي انه قال : « ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم » (٣).

__________________

(١) المصدر السابق ، حديث رقم ٢١٤٠.

(٢) ذهب الى هذا العلاّمة ابو عبدالله محمد بن خلفة الوشتاني الآبي المالكي في كتابه إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٧٨ ، بيروت دار الكتب العلمية ، ذكر ذلك صاحب كتاب « عقد المزايدة بين الشريعة الاسلامية والقانون د. عبدالوهاب ابوسليمان ، ص ١٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٤٩ من ابواب التجارة ، ح ٣.

٣٥٠

ومعناه : ان يطلب غيره من المسلمين ابتياع الذي يريد أن يشتريه ، ويبذل زيادة عنه ليقدمه البائع او يطلب البائع بيع سلعته بسعر اقل مما اتفق عليه البائع مع المشتري او يبذل شخص آخر غير المتساومين الى المشتري متاعاً غير ما اتفق هو والبائع عليه. فنرى أن احد المتبايعين قد ركن في المعاملة الى الآخر ولم يبق الا العقد والصفقة ، فاذا أراد أحد أن يدخل في ما بين المتراكنين ليفسد عليهما صفقتهما فيكون مشمولاً لهذا النهي ، وهذا النهي دالٌ على الحرمة ظاهراً ، فقد يقال بتعارضه مع صحة عقد المناقصة.

ولكن اقول : بعد الغضِّ عن ضعف سند الحديث :

ان هذا النهي وإن كان ظاهراً يدل على الحرمة ، الا أن ارتكازية « تسلط الناس على أموالهم » التي ورد فيها النص تدلّ على أن السلطنة على مال الانسان تمتدّ الى تمامية البيع او العقد ، ومادام هنا في المساومة لا يوجد بيع ولا عقد فتكون قرينة على ان المراد من النهي المتقدم هو الكراهة ، ولذا اورد الفقهاء هذه الرواية في باب الآداب ، وعلى هذا فلا تكون معارضة لصحة عقد المناقصة بناء على وردها في مورد عقد المناقصة. ولكننا نقول ان المناقصة التي نحن بصدد الكلام عنها تختلف اختلافاً اساسياً عن مورد النهي عن بيع الرجل على بيع أخيه ، ومورد النهي عن الدخول في سوم الاخ المسلم وذلك :

لان المناقصات التي توجد في الخارج ويحصل التوارد على المناقصة في العملية الواحدة لا يوجد فيها بيع حتى يكون بيع الرجل على بيع أخيه ، ولا يوجد ركون حتى يكون دخول على سوم الاخ المسلم ، وانما هي عروضات تحصل من المتناقصين ، للمشتري أن يختار احدها الموافق له وحينئذ تكون هاتان الطائفتان من الروايات خارجتين عن صحة المناقصات التي نحن بصدد الكلام عنها.

على انه قد صرح عض الفقهاء (١) بعدم شمول النهي في الدخول على سوم

__________________

(١) الشهيد الاول ، الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، ج ٣ ، ٢٩٦.

٣٥١

الاخ المسلم للدِلالة التي يتعارف وجودها في المزايدات والمناقصات حيث أنها موضوعة عرفاً لطلب الزيادة أو النقيصة ، فما دام الدلال يطلب الزيادة او النقيصة لا يكون هناك سوم او ركون حتى يأتي النهي عن الدخول في سوم الاخ المسلم.

ويمكن توجيه عدم التنافي بشكل اخر وهو ان يقال : ان حديث النهي عن الدخول في السوم ناظر الى المعاملة الخاصة الجارية بين طرفين خاصين ولا يشمل مثل بيع المناقصة التي تكون المعاملة فيه مبنية من الاول على عدم السوم مع شخص واحد بل مع جماعة.

٣ ـ الدخول في المناقصة لمن لا يمتلك السلعة أهو من المواعدة ؟ او الإستصناع ؟ او بيع ما ليس عند الانسان ؟

لابد لنا من التفرقة بين الاستصناع او السلم وبين بيع ماليس عند الانسان الذي روي فيه النهي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لنرى أن ما نحن فيه ( بيع المناقصة ) من اي القسمين. ثم لابدّ من التفرقة بين ما نحن فيه وبين المواعدة التي تحصل بين اثنين على أمر من بيع او عمل.

بيع ما ليس عندك :

إن الروايات الواردة في بيع ما ليس عندك على طوائف :

الطائفة الاولى : روايات حاكية لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندك بيع ما ليس عند فقد روى سليمان بن صالح عن الامام الصادق عليه‌السلام انه قال : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن » (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٧ من احكام العقود ، ح ٢ ، وكذا ح ٥.

٣٥٢

وهذه الروايات مطلقة لبيع ما ليس عند الانسان سواء كان بيعاً كلياً او شخصياً.

ولكن يتعين علينا رفع اليد عن الاطلاق وحمله على صورة كون المبيع شخصيا ، وذلك لورود الروايات المعتبرة الدالة على جواز بيع الكلي على العهدة مع عدم ملك الشخص حال البيع كما سيأتي.

ويتعيّن علينا أيضاً رفع اليد عن اطلاق بطلان بيع ما ليس عنده بالاضافة الى مالك المال ، لما ورد من الادلة الدالة على صحة بيع الفضولي باجازة المالك ، وهذا واضح.

فالخلاصة : ان النهي المتقدم هو في ( خصوص المبيع الشخصي لغير المالك ) ، وهذا النهي يدل على عدم حصول النقل والانتقال شرعاً ( اي فساد البيع باعتبار اشتراط الملك في البيع الشخصي اذا باعه لغير المالك ).

الطائفة الثانية : روايات تصحح البيع بعد ان يشتري العين الخارجية وتبطله اذا باعها قبل الشراء ، منها :

١ ـ صحيحة يحيى بن الحجاج قال : سألت الامام الصادق عليه‌السلام عن رجل قال لي « اشتر لي الثوب او هذه الدابة ، وبعنيها ، أربحُك فيها كذا وكذا ، قال : لا بأس اشترها ولا تواجبه البيع قبل ان تستوجبها او تشتريها » (١) والاستيجاب عام لمطلق التملك ولو بغير الشراء ، بينما الشراء خاص لخصوص التملك بالشراء.

٢ ـ روى ثقة الاسلام الكليني (٢) في باب ( لا تبع ما ليس عندك ) عن ابن

__________________

(١) المصدر نفسه ، باب ٨ من احكام العقود ، ح ١٣.

(٢) روى هذه الرواية الشيخ الطوسي في باب ( النقد والنسيئة ) ولعل الذي جعله يرويها في هذا الباب هو احتمال ان الحديث بصدد بيان تحصيل الانسان مالاً بدون محذور الربا وهو ما يسمى به ( بيع العينة ) وحينئذ فان لم يكن البيع الثاني مشروطاً في البيع الاول فلا بأس به.

٣٥٣

عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن الحجاج قال قلت للصادق عليه‌السلام : « الرجل يجيئني ويقول : اشتر هذا الثوب واربحك كذا وكذا ، فقال عليه‌السلام : أليس إن شاء اخذ وإن شاء ترك ؟ قلت بلى ، قال عليه‌السلام لا بأس : انما يحلل الكلام ، ويحرم الكلام » (١).

فكأن الامام الصادق عليه‌السلام لا يرى بأساً بالمواعدة والمقاولة ما لم يوجب بيع المتاع قبل أن يشتريه من صاحبه ، وانما المانع اذا باع الثوب ثم اشتراه من صاحبه ، ودفعه الى المشتري ، فان هذا باطل. اقول : وإذا ناقشنا بكون طائفة الروايات الاولى ضعيفة وطائفة الروايات الثانية غير ظاهرة في المفروض (٢) لاحتمال كونها في من اراد الحصول على المال بدون محذور الربا وهو ما يسمى ( بيع العينة ) فان كان البيع الثاني مشروطاً في الاول فهو باطل ، ولا ربط لها في من باع ثم ملك ، فتاتي.

الطائفة الثالثة : وهي روايات تصحح البيع بعد أن يشتري المتاع ، سواء كان كليا او شخصياً ، منها :

١ ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الامام الباقر عليه‌السلام : قال : « سألته عن رجل أتاه رجل فقال له : ابتع لي متاعاً لعلّي اشتريه منك بنقد او نسيئة ، فابتاعه الرجل من أجله ، قال عليه‌السلام : ليس به بأس ، انما يشتريه منه بعدما يملكه » (٣).

٢ ـ صحيحة منصور بن حازم عن الامام الصادق عليه‌السلام : « في رجل أمر رجلاً يشتري له متاعاً ، فيشتريه منه ؟ قال عليه‌السلام : لا بأس بذلك انما البيع بعد ما يشتريه » (٤).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٨ من احكام العقود ، ح ٤.

(٢) هذا الاحتمال غير وارد في الصحيحة الاولى ، لانه يقول « اشتر لي هذا الثوب او هذه الدابة وانا اربحك فيها كذا وكذا » فوجود كلمة ( لي ) تبعد الاحتمال المذكور وهي ظاهرة في ارادة أن يشتري له ملك الغير.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٨ من احكام العقود ، ح ٨.

(٤) المصدر السابق ، ح ٦.

٣٥٤

وهاتان الروايتان تقضيان بأنَّ الجواز بعد ان يشتري الشيء وبعد ما يملكه ، اما بيع الشيء قبل تملكه فهو باطل. ولكن لابد من تخصيصهما بصورة العين الخارجية ، وذلك : لورود الروايات الصحيحة الدالة على صحة بيع الكلي كما سيأتي.

بيع الكلي ( بيع ما في الذمة ) :

وهو يتصور على قسمين :

الأول : بيع السلم.

الثاني : بيع الكلي.

اما الاول : فهو عبارة عن ابتياع مال مضمون الى أجل معلوم بمال حاضر او ما في حكمه ) (١). والدليل على صحته بالاضافة الى عمومات صحة البيع والتجارة عن تراض هو :

١ ـ ما رواه زرارة في الصحيح عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بالسلم في الحيوان اذا وصفت أسنانها » (٢).

٢ ـ صحيحة الحلبي عن الامام الصادق عليه‌السلام قال : « سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى ؟ قال : لا بأس » (٣).

٣ ـ موثقة سماعة قال : « سئل الامام الصادق عليه‌السلام عن السلم في الحيوان ؟ فقال : « اسنان معلومة واسنان معدودة الى أجل مسمى لا بأس به » (٤).

وأما الثاني ( بيع الكلي حالاً ) : فقد ذكر الفقهاء ان بيع الكلي في الذمة حالاً صحيح تشمله الادلة العامة لصحة البيع مع خصوص صحيح ابن الحجاج قال : « سألت الامام الصادق عليه‌السلام عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٤ ، ص ٢٦٧.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، باب ١ من السلف ، ح ٣.

(٣) المصدر السابق ، ح ٤.

(٤) المصدر والباب نفسه ، ح ٧.

٣٥٥

فيشتري منه حالاً ؟

قال : ليس به بأس.

قلت : إنهم يفسدونه عندنا.

قال : فأيّ شيء يقولون في السلم ؟

قلت : لا يرون فيه بأساً ، يقولون : هذا الى أجل فاذا كان الى غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح.

قال : اذا لم يكن أجل كان احق به.

ثم قال : لا بأس ان يشتري الرجل الطعام وليس هو عند صاحبه الى أجل ، وحالاً لا يسمي له أجلاً إلا ان يكون بيعا لا يوجد ، مثل العنب والبطيخ في غير زمانه ، فلا ينبغي شراء ذلك حالاً » ونحوه آخر (١).

النتيجة : أن المناقصة ليست من بيع ما ليس عندك :

وبعد ان اتضحت هذه الامور :

١ ـ ان المراد من لاتبع ما ليس عندك هو في خصوص العين الشخصية التي تكون ملكاً للغير ، فلا يجوز لغير صاحبها أن يبيعها ثم يشتريها ويسلمها الى المشتري.

٢ ـ وان بيع الكلي في الذمة صحيح ، سواء كان سلماً ( مؤجلاً ) او حالاً ، مادام تسليمه الى المشتري مقدوراً.

نأتي الى ما نحن فيه وهو بيع المناقصة فنقول :

اذا كانت المناقصة عبارة عن رغبة المشتري في الحصول على شيء كلي له مواصفاته الخاصة فيكون المناقص بائعاً لهذا الكلي بثمن يعرضه ، فان رست عليه العملية فهو صحيح لصحة بيع الكلي.

أ ـ فان كان هذا الكلي سلعة مؤجلة الى اجل معين فهو بيع سلم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٧ من احكام العقود ، ح ١ و ح ٣.

٣٥٦

ب ـ وان كان هذا الكلي سلعة حالّة فهو بيع الكلي الحال.

ج ـ وان كان هذا الكلي عبارة عن صنع شيء معين الى اجل معين فهو بيع الاستصناع الذي هو قسم من السلم.

د ـ وان كان هذا الكلي عملاً في المستقبل كالزرع والسقي والضرب في الارض بحصة من الربح فهو مزارعة ومساقاة ومضاربة.

ه‍ ـ واذا كان هذا الكلي عملاً له شرائطه كالبناء والخياطة والطباخة بأجرة معينة فهو اجارة ، وهكذا. وعلى هذا تبيّن ان المناقصة التي يدعو لها فرد او جهة معينة لا تتصور في الرغبة في شراء شيء معين خارجي له مالك واحد او متعددون ، بل يتصور هنا المساومة والمراوضة معهم للوصول الى الاتفاق على شيء خاص وهو غير المناقصة.

إذن تبين أنَّ علاقة الاستصناع بالمناقصة هي علاقة الخاص بالعام ، اذ قد تكون المناقصة استصناعاً وقد لا تكون.

الفرق بين المواعدة والمناقصة :

بقي أن نعرف الفرق بين المواعدة والمناقصة ، فنقول : اذا كانت المناقصة ( عبارة عن بذل سلعة كلية او عمل كلي بمواصفات معينة بثمن معين ، وهو معنى الايجاب وصاحبها يكون هو البائع ، وارساء المناقصة على أي واحد من المتناقصين هو القبول من قبل المشتري فمعنى ذلك : أن العقد يتم ويكون ملزِماً بهذه الامور التي تكون على صورة الجزم والبت ) (١) فقد اتضح فرقها عن المواعدة التي لا تكون ملزمة للطرفين ، بل يكون صاحباها بالخيار إن شاءا عقدا وإن شاءا تركا ، كما ذكرت ذلك الروايات كصحيحة معاوية بن عمار قال : « قلت للصادق عليه‌السلام

__________________

(١) وانما يبرم العقد بعد ذلك ، بمعنى كتابته كوثيقة.

٣٥٧

يجيئني الرجل يطلب منّي بيع الحرير وليس عندي منه شيء ، فيقاولني عليه ، واقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شيء ، ثم اذهب فاشتري له الحرير ، فادعوه اليه ، فقال عليه‌السلام أرأيت إن وجد بيعا هو أحبُّ اليه مما عندك أيستطيع أن ينصرف اليه ويدعك ، أو وجدت انت ذلك اتستطيع أن تنصرف اليه وتدعه ؟

قلت : نعم. قال : فلا بأس » (١).

والمفهوم من هذه الصحيحة هو أن الرجل الذي طلب الحرير من الآخر لم يحصل بينهما البيع الكلي في الذمة وانما تقاولا ، وبما ان التقاول قد يكون ملزِماً كالعهد ، وقد لا يكون ملزِماً كالوعد ، اراد الامام عليه‌السلام أن يُفهمه بأنَّ التقاول غير الملزِم وهو المواعدة او الوعد الذي ليس لها صفة الزام في البيع او الشراء ، بينما الذي له صفة الالزام هو العهد او البيع الكلي ولم يحصل أياً منهما.

اذن حصل الفرق بين المناقصة والمواعدة بالالزام وعدمه ، فاذا تمت المناقصة مع احد الاطراف فهي اما بيع ، او بيع خاص ( كالسلم ) ، او استصناع ، او اجارة ، او استثمار على احد الطرق المتقدمة وهذا كله يختلف عن المواعدة التي لا تكون ملزِمة وليست هي من العقود.

٤ ـ بيع وثائق المناقصة بالتكلفة او بأي ثمن للحصول على ربح

اقول : إن المناقصات التي هي عبارة عن قائمة احتياجات ( مشاريع او مقاولات ) يحتاجها المعلِن بمواصفات معينة تسدّ حاجته وتشبع رغبته ، تستدعي توظيف بعض الخبرات والاستشارات التي يُنفق عليها المحتاج مقداراً من المال. ثم

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، باب ٨ من احكام العقود ، ح ٧.

٣٥٨

يقوم المحتاج بتزويد المتناقصين بهذه المواصفات والدراسات التي يرغب في تنفيذ احتياجاته على وفقها ، وهذه الدراسات تفيد المناقص اذا رست عليه المناقصة ، اذ ليس عليه بعد ذلك الا التنفيذ. وهنا قد يقوم المشتري على استعادة هذه التكلفة من الرسوم التي يأخذها من المتقدمين للمناقصة ، أو يأخذ اكثر منها للحصول على ربح ، فهل هذا العمل جائز ؟

اقول : ان هنا معاملتين :

الاولى : يقوم بها المشتري مع الاخصائيين الذين يتصدون لتهيئة المعلومات الكاملة لكي تعرض للمشتركين في المناقصة مثل تهيئة خريطة المشروع او صفة السلعة او نوع الشركة او شروط الاجارة او الاستصناع وما يتربط بهذه المشروعات من امور ، وهذه المعاملة بين المشتري والمُعدِّين لهذه المعلومات يمكن أن تكون على أساس الجعالة ، كما يمكن أن تكون من قبيل استئجار المتصدِّين لتهيئتها ، وهو عقد صحيح.

ثم هناك معاملة ثانية : هي بين من استحق هذه المعلومات لصالحه ـ وهو المشتري ـ وبين من يريد ان تعرض تلك المعلومات له ، فهي معاملة ثانية صحيحة سواء كانت بسعر الكلفة او أزيد لدخولها تحت عنوان التجارة عن تراض ، او احلّ الله البيع ، حيث ان هذه المعلومات قد تكون كراساً صغيراً ذا قيمة ومنفعة بذل في اعداده وقتاً وجهداً ومالاً ، فبيعه على من يريد ان يقتنيه للدخول في المناقصة جائز بلا اشكال.

ولعل هذا من قبيل شراء الجريدة لمن يريد أن يرى اسمه من المقبولين في الجامعة أو من الفائزين في مسابقة أم لا.

ونحن لا نريد بهذا أن نقول : أن بذل هذا الكراس إلى المتناقصين مجاناً أو بسعر التكلفة لا يجوز ، بل كل أمر من الامور الثلاثة جائز ، والله اعلم ، ولا بأس بالتنبيه على أنَّ بيع دفتر المعلومات الى الداخل في المناقصة صحيح وإن لم يكن فيه

٣٥٩

نفع للمناقص ، فإنَّ البيع الصحيح : هو تمليك عين بمال ، سواء كانت العين فيها نفع للمالك أم لا ، ( مع افتراض أنّها فيها نفع حتى يصح البيع ).

٥ ـ طلب المشتري ضماناً بنكياً :

طلب المشتري ضماناً بنكياً من كل من المشتركين في المناقصة وطلبه تأميناً نقدياً منهم ، فهل يحق اخذه كلياً او جزئياً عند النكول ؟

ولايضاح الحقيقة في هذا الامر ينبغي لنا أن نتكلم في عدة نقاط :

الاولى : ما هو الضمان البنكي الذي يطلبه المشتري من كل من المشتركين في المناقصة ؟ وما هو التأمين النقدي منهم ؟

الثانية : ما هي أقسام هذا الضمان البنكي ؟

الثالثة : هل يجوز شرعاً للمشتري أن يأخذ هذا الضمان مطلقاً عند نكول المقاول ؟

اما النقطة الاولى : فخلاصة الكلام فيها هو عبارة عن طلب الجهات التي تقوم بالمناقصة من مطالبة : كل مشترك في هذه العملية. وكل من ترسو عليه العملية ويبرم معه العقد ، بتقديم تأمينات نقدية تبلغ نسبة معينة من قيمة العملية ، بشرط ان تصبح هذه التأمينات من حق الجهة التي قامت بالمناقصة في حالة عدم اتخاذ المشترك الاجراءات اللازمة لرسوّ العملية عليه او عدم تنفيذ العقد.

ولكن بدلاً عن تكليف المشترك بتقديم هذه التأمينات النقدية وتجميدها ، حصل الاتجاه القائل : بأن يتقدم المشترك الى البنك طالباً منه خطاب الضمان (١).

__________________

(١) أقول : إنَّ صورة خطاب الضمان متعددة وهي :

١ ـ الضمان النقدي ، وقد استبعدنا هذه الصورة لأنها تؤدي الى تجميد النقد.

٢ ـ ضمان بحوالة أو شيك مصرفي ، ويشترط أن يقرض عليه المصرف المسحوب عليه بالقبول. وقد

٣٦٠