أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-331-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٣٠
وقد جعل اللّه للعلم أهلاً ، وفرض على العباد طاعتهم بقوله : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) .
وبقوله : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (٢) .
وبقوله : ( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٣) .
وبقوله : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٤) .
وبقوله : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (٥) ، والبيوت هي بيوت العلم الّتي استودعها الأنبياء ، وأبوابها أوصياؤهم ، فكلّ عمل من أعمال الخير يجري على غير أيدي أهل الاصطفاء ، وعهودهم ، وحدودهم ، وشرائعهم ، وسننهم ، ومعالم دينهم مردود غير مقبول ، وأهله بمحل كفر وإن شملتهم صفة الإيمان ؛ ألم تسمع قول اللّه تعالى : ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ) (٦) ( وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) (٧) .
فمن لم يهتد من أهل الإيمان إلى سبيل النجاة لم يغن عنه إيمانه باللّه مع دفعه حقّ أوليائه ، وحبط عمله ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
وقد قال اللّه عزوجل : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (٨) ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) في هذا الموضع هم المؤتمنون
__________________
(١) سورة النساء ٤ : ٥٩ .
(٢) سورة النساء ٤ : ٨٣ .
(٣) سورة التوبة ٩ : ١١٩ .
(٤) سورة آل عمران ٣ : ٧ .
(٥) سورة البقرة ٢ : ١٨٩ .
(٦) سورة التوبة ٩ : ٥٤ .
(٧) سورة التوبة ٩ : ١٢٥ .
(٨) سورة المائدة ٥ : ٥٦ .
على الخلائق من الحجج والأوصياء في عصر بعد عصر .
وليس كلّ من أقرّ من أهل القبلة بالشهادتين كان مؤمناً ، إنّ المنافقين كانوا يشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، ويدفعون عهد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بما عهد به من دين اللّه وعزائمه وبراهين نبوّته إلى وصيّه ، ويضمرون من الكراهة لذلك والنقض لما أبرمه عند إمكان الأمر لهم فيما قد بيّنه اللّه لنبيّه بقوله : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (١) .
وبقوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (٢) .
ومثل قوله : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) (٣) ، أي : لتسلكنّ سُبُلَ من كان قبلكم من الاُمم في الغدر بالأوصياء بعد الأنبياء ، وهذا كثير في كتاب اللّه [تعالى ] .
وقد شقّ على النبيّ صلىاللهعليهوآله ما يؤول إليه عاقبة أمرهم ، واطّلاع اللّه إيّاه على بوارهم ، فأوحى اللّه عزوجل إليه بقوله : ( فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) (٤) ، ( فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (٥) » (٦) الخبر ، ومعناه واضح .
وستأتي أخبار من كتب القوم في تفسير بعض هذه الآيات بما فسّره
__________________
(١) سورة النساء ٤ : ٦٥ .
(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤ .
(٣) سورة الانشقاق ٨٤ : ١٩ .
(٤) سورة فاطر ٣٥ : ٨ .
(٥) سورة المائدة ٥ : ٦٨ .
(٦) الاحتجاج ١ : ٥٨٠ ـ ٥٨٤ / ١٣٧ ، بحار الأنوار ٦٨ : ٢٦٤ / ٢٣ .
الإمام عليهالسلام في الفصل التاسع من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل ، فتأمّل .
التاسع : ما نقلوه أيضاً عن أمير المؤمنين عليهالسلام في روايات نحن نجمعها ونذكرها باختصار بعض منها ، ولنقدّم قوله المشهور المسلّم وروده :
قال عليهالسلام : «أيّها الناس ، سلوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو سألتموني عن أيّة آية في ليل اُنزلت أو في نهار اُنزلت ، مكّيّها ومدنيّها ، سفريّها وحضريّها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وتأويلها وتنزيلها ، لأنبأتكم (١) ، وقد أقرأنيها رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وعلّمني تأويلها ، فواللّه ، لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة» (٢) .
سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين . . . ولولا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما كان ، وبما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي قوله تعالى : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) .
أما واللّه ، لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم ، حتّى ينطق كلّ كتاب من كتب اللّه فيقول : صدق عليّ عليهالسلام لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ ، وأنتم تتلون القرآن ليلاً ونهاراً فهل فيكم أحد يعلم ما أنزل اللّه فيه ؟ » (٤) .
وسيأتي مثله منقولاً من كتب القوم في الفصل الأوّل من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل مع مؤيّدات كثيرة .
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب ٢ : ٤٧ ـ ٤٨ ، وفيه : لأخبرتكم ، بدل : لأنبأتكم .
(٢) الاحتجاج ١ : ٦١٠ ، ٦١٧ ، ٦١٨ / ١٣٨ ، ١٤٠ ، ١٤١ .
(٣) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .
(٤) الاحتجاج ١ : ٦١٠ / ١٣٨ . وفيه بعضه .
ثمّ قال بعد الجواب عن مسائل كثيرة غريبة سألوها : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، سبعون منها في النار وواحدة ناجية في الجنّة ، وهي التي اتّبعت يوشع بن نون وصيّ موسى عليهالسلام .
وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، إحدى وسبعين فرقة في النار وواحدة في الجنّة ، وهي التي اتّبعت شمعون وصيّ عيسى عليهالسلام .
وتفترق هذه الاُمّة على ثلاث وسبعين فرقة ، اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنّة ، وهي التي اتّبعت وصيّ محمّد صلىاللهعليهوآله » وضرب بيده على صَدره ، ثمّ قال : «ثلاث عشرة فرقة من الثلاث والسبعين فرقة كلّها تنتحل مودّتي ومحَبّتي ، واحدة منها في الجنّة ، وهي النمط الأوسط ، واثنتا عشرة في النار» (١) .
وسيأتي أمثاله من كتب القوم في الفصل الرابع من الباب الرابع من المقدّمة .
ثمّ قال عليهالسلام : «أيّها الناس ، عليكم بالطاعة والمعرفة بمن لا تعتذرون بجهالته ، فإنّ العلم الذي هبط به آدم عليهالسلام وجميع ما فضّلت به النبيّون إلى خاتم النبيّين في عترة نبيّكم محمّد صلىاللهعليهوآله فأنّى يُتاه بكم ؟ بل أين تذهبون ؟
يا من نُسخ من أصلاب أصحاب السفينة ! هذه مثلها فيكم فاركبوها ، فكما نجا في هاتيك من نجا فكذلك ينجو في هذه من دخلها ، أنا رهين بذلك قسماً حقّاً وما أنا من المتكلّفين ، والويل لِمَن تخلّف ، ثمّ الويل لِمَن تخلّف .
أما بلغكم ما قال فيكم نبيّكم صلىاللهعليهوآله ، حيث يقول في حجّة الوداع : إنّي
__________________
(١) كتاب سُليم بن قيس ٢ : ٨٠٣ ، الأمالي للطوسي : ٥٢٣ / ١١٥٩ ، الاحتجاج ١ : ٦٢٥ / ١٤٥ .
تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا (١) : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ؟ ألا هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح اُجاج فاجتنبوا» (٢) .
ثمّ قال عليهالسلام : «إنّ أبغض الخلائق إلى اللّه تعالى رجلان : رجل وكله اللّه إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل مشعوف (٣) بكلام بدعة ، ودعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هَدْي (٤) من كان قبله ، مضلّ لِمَن اقتدى به في حياته وبعد وفاته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته .
ورجل قَمش (٥) جهلاً ، فوضع في جهّال الاُمّة قد سمّاه أشباه الرجال عالماً وليس به ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ، حتّى إذا ارتوى من آجن ، وأكثر من غير طائل ، جلس بين الناس قاضياً ضامناً لتخليص ما التبس على غيره ، إن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من يأتي بعده ، كفعله بمن كان قبله ، فإن نزلت به إحدى المُبهمات هيّأ لها حشواً رثّاً من رأيه ، ثمّ قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ؟ جاهل خبّاط (٦) جهالات ،
__________________
(١) في «م» زيادة : أبداً .
(٢) الإرشاد ١ : ٢٣٢ ، الاحتجاج ١ : ٦٢٤ / ١٤٤ .
(٣) كذا في النسخ ، وفي نهج البلاغة والاحتجاج : مشغوف . وكلاهما متقارب المعنى . الشعَفُ محرّكة : شدّة الحبّ . انظر : صحاح اللغة ٤ : ١٣٨١ و١٣٨٢ ، مجمع البحرين ٥ : ٧٥ و٧٦ ، لسان العرب ٩ : ١٧٧ و١٧٩ .
(٤) الَهدْيُ : السيرة والهيئة والطريقة .
انظر : النهاية لابن الأثير ٥ : ٢٥٣ .
(٥) القَمش : جمع الشيء من هنا ومن هنا .
انظر : صحاح اللغة ٣ : ١٠١٦ ، ومجمع البحرين ٤ : ١٥١ .
(٦) الخبط : حركة على غير النحو الطبيعي وعلى غير اتّساق .
انظر : النهاية لابن الأثير ٢ : ٨ ، ومجمع البحرين ٤ : ٢٤٤ .
غاشٍ (١) ركّاب عَشَوات ، لم يعضّ على العلم بضرس قاطع ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره ، وإن قاس شيئاً بشيء لم يكذّب رأيه ؛ كيلا يقال : لا يعلم» الخبر ، إلى أن قال عليهالسلام : «إلى اللّه أشكو من معشر يعيشون جهّالاً ويموتون ضلاّلاً» (٢) .
وقال عليهالسلام أيضاً : «ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم ، فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلههم واحد ! ونبيّهم واحد ! وكتابهم واحد ! أفأمرهم اللّه سُبحانه بالاختلاف فأطاعوه ! أم نهاهم عنه فعصوه ! أم أنزل اللّه سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه ! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ! أم أنزل اللّه سبحانه ديناً تامّاً فَقَصَّر الرسول صلىاللهعليهوآله عن تبليغه وأدائه ! واللّه سُبحانه يقول : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) (٣) وفيه تبيان لكلّ شيء ، وذكر ( عزوجل ) أنّ الكتاب يُصدّق بعضه بعضاً ، وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سُبحانه : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) (٤) . فإنّ القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تنكشف الظلمات إلاّ به» (٥) .
ثمّ قال عليهالسلام : «وقد قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : رحم اللّه امرأً علم حقّاً فقال
__________________
(١) كذا في النسخ ، وفي نسخة «ش» وفي نهج البلاغة : عاش .
(٢) نهج البلاغة : ٥٩ الخطبة ١٧ ، الكافي ١ : ٤٤ / ٦ (باب البدع والرأي والمقاييس) بتفاوت ، نثر الدر لأبي سعد الآبي ١ : ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، الاحتجاج ١ : ٦٢١ / ١٤٣ بتفاوت .
(٣) سورة الأنعام ٦ : ٣٨ .
(٤) سورة النساء ٤ : ٨٢ .
(٥) نهج البلاغة : ٦٠ الخطبة ١٨ ، الاحتجاج ١ : ٦٢٠ / ١٤٢ .
فغنم ، أو سكت فسلم ، نحن أهل البيت نقول : إنّ الأئمّة منّا ، وإنّ الخلافة لا تصلح إلاّ فينا ، وإنّ اللّه تبارك وتعالى جعلنا أهلها في كتابه وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، وإنّ العلم فينا ونحن أهله ، وهو عندنا مجموع كلّه بحذافيره ، وإنّه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلاّ وهو عندنا مكتوب بإملاء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله » (١) .
وقال عليهالسلام : «اللّهمّ إنّي لأعلم أنّ العلم لا يأرز (٢) كلّه ولا ينقطع موادّه ، وإنّه لابدّ لك من حجج في أرضك حجّة بعد حجّة على خلقك ، يهدونهم إلى دينك ويعلّمونهم علمك ؛ كيلا يتفرّق أتباع أوليائك ، ظاهر ليس بالمطاع ، أو مكتتم يترقّب ، إن غاب عن الناس شخصهم في حال هدنتهم فلم يغب عنهم قديم ، مبثوث علمهم ، وآدابهم في قلوب المؤمنين مثبتة ، اُولئك الأقلّون عدداً الأعظمون عند اللّه أجراً» (٣) .
والأخبار عنه عليهالسلام من هذا القبيل كثيرة ، كفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، وسنذكر كثيراً منها في مواضعها إن شاء اللّه تعالى .
وفي روايات عن سُليم بن قيس (٤) ، وكذا في كتاب سليم أنّه قال
__________________
(١) الاحتجاج ٢ : ٥٦ / ١٥٥ ، في ضمن الحديث ص ٦٢ .
(٢) يأرِز : ينضمَّ إلى بعضه ويجتمع ، ولا ينبسط .
انظر : النهاية لابن الأثير ١ : ٣٧ ـ أرز ـ .
(٣) الكافي ١ : ٢٧٤ / ١٣ (باب في الغيبة) ، الغيبة للنعماني : ١٣٦ / ٢ ، بحار الأنوار ٢٣ : ٥٤ / ١١٦ بتقديم وتأخير وتفاوت يسير .
(٤) سُليم بن قيس الهلالي العامري الكوفي ، يكنّى أبا صادق ، عدّوه من أصحاب أمير المؤمنين والحسن والحسين والسجّاد والباقر عليهمالسلام ، كان موثّقاً عندهم عليهمالسلام مقتبساً من علومهم الفيّاضة ، وهو من العلماء المشهورين بين العامّة والخاصّة .
انظر : روضات الجنات ٤ : ٦٥ ، مجمع الرجال ٣ : ١٥٥ ، تنقيح المقال ٢ : ٥٢ ، أعيان الشيعة ٧ : ٢٩٣ ، الأعلام للزركلي ٣ : ١١٩ .
لعليّ عليهالسلام : إنّي سمعت من سلمان (١) وأبي ذر (٢) والمقداد (٣) شيئاً من تفسير القرآن والرواية عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنتم تخالفونهم [فيها (٤) ] وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفَتَرى الناس يكذبون متعمّدين على نبيّ اللّه صلىاللهعليهوآله ويفسّرون القرآن بآرائهم ؟
__________________
(١) هو روزبه ، وقيل ماهو ، وقيل مابه بن بهبود بن بدخشان من ولد منوجهر الملك ، وقيل : بهودان بن بودخشان بن موسلا بن فيروز بن مهرك ، كنيته أبو عبداللّه ، وكان إذا قيل له : من أنت ، يقول : أنا سلمان ابن اسلام ، من أعاظم أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وأمير المؤمنين عليهالسلام ، حاله في علوّ الشأن وجلالة القدر ووفور العلم والتقوى والزهد أشهر من الشمس وأبين من الأمس ، وهو أوّل الأركان الأربعة ، وممّن شهد الصلاة على فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وفي حقّه ورد الحديث المعروف عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : «سلمان منّا أهل البيت» ، توفّي سنة ٣٦ هـ .
انظر : اختيار معرفة الرجال ١ : ٢٦ ـ ٩٦ ، نفس الرحمن في فضائل سلمان : ٤ ، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة : ١٩٨ ، الأعلام للزركلي ٣ : ١١١ .
(٢) هو جُندب بن جُنادة ، وقيل : جُندب بن السكن ، يكنّى أبا ذرّ الغفاري ، أسلم والنبيّ صلىاللهعليهوآله بمكة ، وهو أوّل من حيّا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بتحيّة الإسلام ، من أكابر الصحابة جليل القدر عظيم الشأن ، ومن أحد الأركان الأربعة ، يكفي في جلالته الحديث المعروف عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذرّ» ، توفّي سنة ٣٢ هـ بالربذة .
انظر : الكنى والألقاب ١ : ٧٠ ، اُسد الغابة ١ : ٣٥٧ / ٨٠٠ ، سير أعلام النبلاء ٢ : ٤٦ / ١٠ ، الأعلام للزركلي ٢ : ١٤٠ .
(٣) هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد الأسود ، قديم الإسلام من السابقين ، من أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وأمير المؤمنين عليهالسلام وثاني الأركان الأربعة ، جلالة قدره ووثاقته بين الخاصّة والعامّة أشهر من الشمس ، وأوّل من أظهر الإسلام بمكة وشهد اُحداً والمشاهد كلّها مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، توفّي بالمدينة في خلافة عثمان سنة ٣٣ هـ .
انظر : اُسد الغابة ٤ : ٤٧٥ / ٥٠٦٩ ، تهذيب التهذيب ١٠ : ٢٥٤ /٥٠٥ ، الأعلام للزركلي ٧ : ٢٨٢ .
(٤) أثبتناها من المصدر ، ولعلّها سقطت سهواً .
فأقبل عليهالسلام عليه وقال له : «قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّاً وباطلاً ، وصدقاً وكذباً ، وناسخاً ومنسوخاً ، وعامّاً وخاصّاً ، ومحكماً ومتشابهاً ، وحفظاً ووهماً ، وقد كُذب على رسول اللّه [ صلىاللهعليهوآله ] وهو حيّ ، حتّى قام خطيباً ، فقال : أيّها الناس ، قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ كُذب عليه من بعده ، وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :
رجل : منافق يظهر الإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّداً ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره اللّه عن المنافقين بما أخبره ، ووصفهم بما وصفهم ، فقال عزوجل : ( وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (١) ، ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبُهتان ، فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم اللّه ، فهذا أحد الأربعة.
ورجل : سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئاً لم يحفظه على وجهه ووَهَم فيه ، ولم يتعمّد كذباً ، فهو في يده ، يقول به ويعمل به ويرويه ، ويقول : أنا سمعته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، فلو علم المسلمون أنّه وَهم [فيه (٢) ] لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وَهم [فيه (٣) ] لرفضه.
ورجل ثالث : سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئاً أمر به ثمّ نهى عنه وهو
__________________
(١) سورة المنافقين ٦٣ : ٤ .
(٢ و ٣) أضفناها من المصدر .
لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لَرَفضوه .
وآخَر رابعٍ : لم يكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، مبغض للكذب خوفاً من اللّه وتعظيماً لرسوله صلىاللهعليهوآله ، ولم يَسْهَ ، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ وتجنّب عن المنسوخ ، وعرف العامّ والخاصّ فوضع كلّ شيء موضعه ، وعرف المتشابه والمحكم . فإنّ أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه .
وقد كان يكون من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله الكلام له وجهان : كلام عامّ ، وكلام خاصّ مثل القرآن ، فيشتبه على من لم يعرف ، ولم يدر ما عنى اللّه به ورسوله صلىاللهعليهوآله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه ، حتّى أن كانوا لَيحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول صلىاللهعليهوآله حتّى يسمعوا .
وقد كنت أدخل على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كلّ يوم دخلةً وكلّ ليلة دخلةً ، فيخليني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ .
وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا أمسكت عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطّي ،
وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وعامّها وخاصّها ، ودعا اللّه أن يعطيني فهمها وحفظها ، فما نسيت آيةً من كتاب اللّه ولا علماً أملاه عليّ وكتبته مُنذ دعا اللّه لي بما دعا ، وما ترك شيئاً علّمه اللّه ، من حلال ، ولا حرام ، ولا أمر ، ولا نهي كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفاً واحداً منذ دعا لي» (١) ، الخبر ، وستأتي بقيّته وشواهده في الفصل الأوّل ، والحادي عشر من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل .
ودلالته على ما سبق ، مع الدلالة على بطلان الرأي وضلالة الاختلاف ، وكون حكم اللّه واحداً مأخوذاً من اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله مودوعاً عند أهله ، وعلى عدم حُسن حال كلّ الصحابة ، ووجود الكذّابين والمنافقين والمتوهّمين فيهم ، وأن لا اعتماد على كلّ ما رووه عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ظاهرة .
وسيأتي ما يوضّح كلاًّ ممّا ذكره مفصّلاً ، كلّ واحد في محلّه ، فلا تغفل .
العاشر : ما رووه أيضاً عن هشام بن الحكم وغيره ، عن أبي عبداللّه الصادق عليهالسلام ، في جواب الزنديق الذي سأله عن مسائل كثيرة ، منها :
إنّه قال : لأيّ علّة خلق اللّه هذا الخلق وهو غير محتاج إليهم ، ولا مضطرّ إلى خلقهم ، ولا يليق به التعبّث بنا ؟
قال عليهالسلام : «خلقهم لإظهار حكمته ، وإنقاذ علمه ، وإمضاء تدبيره» .
قال : وكيف لم يقتصر على هذه الدار فيجعلها دار ثوابه ومحتبس عقابه ؟
__________________
(١) كتاب سُليم بن قيس ٢ : ٦٢٠ / ١٠ ، الكافي ١ : ٥٠ / ١ ، باب اختلاف الحديث ، الخصال ١ : ٢٥٥ / ١٣١ ، كتاب الغيبة للنعماني : ٧٥ / ١٠ ، تحف العقول : ١٩٣ بتفاوت يسير .
قال عليهالسلام : «إنّ هذه الدار دار ابتلاء ، ومتجر الثواب ، ومكتسب الرحمة ، ملئت آفات ، وطبقت شهوات ؛ ليختبر بها عبيده بالطاعة ، فلا يكون دار عمل دار جزاء» .
قال : فأخبرني عن اللّه كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً ؟
قال عليهالسلام : «لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ؛ لأنّ الطاعة إذا ما كانت من فعلهم لم تكن جنّة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، واحتجّ عليهم برسله ، وقطع عذرهم بكتبه ؛ ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ، ويستوجبون بطاعتهم [له (١) ] الثواب وبمعصيتهم [ إياه (٢) ] العقاب ، وما نهاهم اللّه عن شيء إلاّ وقد علم أنّهم يطيقون تركه ، ولا أمرهم بشيء إلاّ وقد علم أنّهم يستطيعون فعله ، فمن خلقه اللّه كافراً ، يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة» .
ثمّ قال عليهالسلام : «وإنّ اللّه عزوجل اختار من ولد آدم اُناساً فطهّر ميلادهم ، وطيّب أبدانهم ، أخرج منهم الأنبياء والرسل ، فهم أزكى فروع آدم ، ما فعل ذلك لأمر استحقّوه من اللّه ، ولكن علم منهم حين ذرأهم أنّهم يطيعونه ويعبدونه ولا يشركون به شيئاً ، فهؤلاء بالطاعة نالوا من اللّه الكرامة والمنزلة الرفيعة عنده ، وهؤلاء الذين لهم الشرف والفضل والحسب ، وسائر الناس سواء ، ألا من اتّقى اللّه أكرمه ، ومن أطاعه أحبّه ، ومن أحبّه لم يعذّبه بالنار» .
ثمّ قال عليهالسلام أيضاً : «وإنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، ولا تكون الحجّة إلاّ من عقب الأنبياء ، ما بعث اللّه نبيّاً قطّ من غير نسل الأنبياء .
__________________
(١و٢) أضفناها من المصدر .
وذلك أنّ اللّه شرع لبني آدم طريقاً منيراً ، وأخرج من آدم عليهالسلام نسلاً طاهراً طيّباً ، أخرج منه الأنبياء والرسل ، هم صفوة اللّه وخلص الجوهر ، طهروا في الأصلاب ، وحفظوا في الأرحام ، لم يصبهم سفاح الجاهليّة ، ولا شاب أنسابهم ؛ لأنّ اللّه عزوجل جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفاً منه ، فمن كان خازن علم اللّه ، وأمين غيبه ، ومستودع سرّه ، وحجّته على خلقه ، وترجمانه ولسانه ، لا يكون إلاّ بهذه الصفة .
فالحجّة لا يكون إلاّ من نسلهم ، يقوم مقام النبيّ صلىاللهعليهوآله في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول ، إن جحده الناس سكت ، وكان بقاء (١) ما عليه الناس قليلاً ممّا في أيديهم من علم الرسول صلىاللهعليهوآله على اختلاف منهم فيه ، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس ، وإنّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه ، ظهر العدل وذهب الاختلاف والتشاجر واستوى الأمر وأبان الدين وغلب على الشكّ اليقين ، ولا يكاد أن يقرّ الناس به أو نجعوا (٢) له بعد فقد النبيّ ، وما مضى رسول ولا نبيّ قطّ إلاّ وتختلف اُمّته من بعده ، وإنّما كان علّة اختلافهم خلافهم على الحجّة وتركهم إيّاه» .
قال السائل : فما يصنع بالحجّة إذا كان بهذه الصفة ؟
قال : «قد يقتدى به ويخرج عنه الشيء بعد الشيء فيه منفعة الخلق وصلاحهم ، فإن أحدثوا في دين اللّه شيئاً أعلمهم ، وإن زادوا فيه أخبرهم ، وإن نقصوا منه شيئاً أفادهم . . .» (٣) ، الخبر .
ودلالته ظاهرة ، ولاسيّما على ذمّ الاختلاف وبطلان العمل بالرأي
__________________
(١) في النسخ : بقائه ، وما أثبتناه من المصدر .
(٢) في «م» : يحقوا ، وكذا في البحار ، وفي الاحتجاج (ولا يطيعوا له أو يحفظوا له) .
(٣) الاحتجاج ٢ : ٢١٢ / ٢٢٣ ، بحار الأنوار ١٠ : ١٦٤ / ٢ بتقديم وتأخير .
والقياس ، وإنّ ذلك إنّما يكـون بعـد كلّ نبيّ وبسبب مخالفة حجج اللّه وترك متابعتهم ، وأنّ اللّه لم يجعل الأرض خالية قطّ عن حجّة عالم بكلّ ما يحتاج إليه الناس ، وأن لا يكون حجّة إلاّ من نسل سابقه من زمان آدم ، وهلّم جرّاً .
وفيه أيضاً دلالة على بطلان الجبر ، وبعض حِكم الخِلقة وأنّ السّبب العمدة إنّما هو الطاعة والعبادة ، وسيأتي أيضاً ما فيه تبيان كلّ ما ذكره عليهالسلام ، لاسيّما في الباب الرابع من المقدّمة ، فتأمّل .
الحادي عشر : ما رواه جماعة من أصحاب الصادق عليهالسلام في روايات عَديدة ، منها : النسخة التي كتبها لهم وأمرهم بحفظها وتعاهدها أوقات الصلوات ، ونحن نذكر من كلّ رواية ما يناسب المقام :
قال عليهالسلام في النسخة التي ذكرناها ـ وقد اختصرناها ـ : «واعلموا أيّتها العصابة المرحومة المفلحة ، أنّ اللّه عزوجل إنّما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهى عمّا نهى عنه ، فمن اتّبع أمره فقد أطاعه وأدرك كلّ شيء من الخير عنده ، ومن لم ينته عمّا نهى اللّه عنه فقد عصاه ، فإن مات على معصيته أكبّه اللّه على وجهه في النار .
واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من اللّه أحد من خلقه شيئاً ، وأنّه ليس بين اللّه وبين أحد من خلقه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ولا من دون ذلك من خلقه كلّهم ، إلاّ طاعتهم له ، فاجتهدوا في طاعة اللّه واجتنبوا معاصيه إن سرّكم أن تكونوا مؤمنين حقّاً حقّاً ، وعليكم باتّباع آثار رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وسنّته وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله من بعده وسنّتهم ، فإنّ من أخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ؛ لأنّهم هم الذين أمر اللّه بطاعتهم وولايتهم .
واعلموا أنّه ليس من علم اللّه ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق اللّه في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، وقد أنزل اللّه القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن ولتعلّم القرآن أهلاً ، لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم اللّه علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، أغناهم اللّه عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصّهم به ووضعه عندهم كرامة من اللّه أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر الذين أمر اللّه هذه الاُمّة بسؤالهم ، وهم الذين مَن سألهم وتتّبع أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى اللّه بإذنه وإلى جميع سبل الحقّ ، وهم الذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الذي أكرمهم اللّه به وجعله عندهم ، إلاّ من سبق عليه في علم اللّه الشقاء ، فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر ، ويأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتّى دخلهم الشيطان ؛ لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند اللّه كافرين ، وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند اللّه مؤمنين ، وجعلوا ما أحلّ اللّه في كثير من الأمر حراماً وما حرّم اللّه حلالاً فذلك أصل ثمرة أهوائهم .
فواللّه ، إنّ للّه على خلقه أن يطيعوه ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلىاللهعليهوآله وبعد موته ، فكما لم يكن لأحد من الناس مع محمّد صلىاللهعليهوآله أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافاً لأمر محمّد صلىاللهعليهوآله ، فكذلك لم يكن ذلك لأحد من الناس بعد محمّد صلىاللهعليهوآله .
ومن زعم أنّ أحداً ممّن أسلم مع محمّد صلىاللهعليهوآله أخذ برأيه ومقائيسه ، فقد كذب على اللّه وضلّ ضلالاً بعيداً .
واعلموا أنّ من لم يجعله اللّه من أهل صفة الحقّ ، فأُولئك هم شياطين الإنس والجنّ ، وأنّ لشياطين الإنس حيلةً ومكراً وخدائع ووسوسة
بعضهم إلى بعض ، يريدون ـ إن استطاعوا ـ أن يردّوا بشبههم أهل الحقّ عمّا أكرمهم اللّه به من النظر في دين اللّه ، الذي لم يجعل اللّه شياطين الإنس من أهله ، إرادة أن يستوي أعداء اللّه وأهل الحقّ في الشكّ والإنكار والتهذيب ، [فيكونون سواء (١) ] كما وصف اللّه تعالى في كتابه من قوله : ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ) (٢) (٣) .
وقال عليهالسلام في حديثٍ آخَر : «اعلموا أنّ اللّه تبارك وتعالى إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه .
وكلّ اُمّة قد رفع اللّه عنهم علم الكتاب حين نبذوه ، وولاّهم عدوّهم حين تولّوه ، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ، وكان أيضاً من نبذهم الكتاب أن ولّوه الذين لا يعلمون فأوردوهم الهوى ، وأصدروهم إلى الردى ، وغيّروا عرى الدين ، ثمّ ورثوه في السفه والصبا . . . » الخبر ، إلى أن قال عليهالسلام :
«فاعرفوا أشباه الأحبار والرهبان الذين ساروا بكتمان الكتاب وتحريفه ( فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (٤) فإنّ أشباههم من هذه الاُمّة الذين أقاموا حروف الكتاب وحرّفوا حدوده ، فهم مع السادة والكبرة ، فإذا تفرّقت قادة الأهواء كانوا مع أكثرهم دنياً وذلك مبلغهم من
__________________
(١) أضفناه من المصدر .
(٢) سورة النساء ٥ : ٨٩ .
(٣) الكافي ٨ : ٢ / ١ (رسالة أبي عبداللّه عليهالسلام إلى جماعة الشيعة) بتقديم وتأخير .
(٤) سورة البقرة ٢ : ١٦ .
العلم [ . . .] ، لا يزال يُسمع صوت إبليس على ألسنتهم بباطل كثير ، يصبر منهم العلماء على الأذى والتعنيف ، ويعيبون على العلماء بالتكليف . . .» الخبر ، إلى أن قال عليهالسلام :
«تركهم رسول اللّه صلىاللهعليهوآله على البيضاء ليلها من نهارها ، لم يظهر فيهم بدعة ولم يبدّل فيهم سنّة ، لا خلاف عندهم ولا اختلاف ، فلمّا غشي الناس ظلمة خطاياهم صاروا إمامين : داعٍ إلى اللّه ، وداعٍ إلى النار ، فعند ذلك نطق الشيطان فعلا صوته على لسانه أوليائه وكثر خيله ورجله ، وشارك في المال والولد من أشركه ، فعمل بالبدعة وترك الكتاب والسنّة ، ونطق أولياء اللّه بالحجّة ، وأخذوا بالكتاب والحكمة ، فتفرّق من ذلك اليوم أهل الحقّ وأهل الباطل . . .» (١) ، الخبر .
وقال عليهالسلام في حديثٍ آخَر : «إنّ اللّه عزوجل جعل في كلٍّ من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون (من ضلّ) (٢) إلى الهدى ويصبرون معهم على الأذى ، يجيبون داعي اللّه ، ويدعون إلى اللّه فأبصروهم رَحمكم اللّه فإنّهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم في الدنيا وضيعة ، إنّهم يحيون بكتاب اللّه الموتى ، ويبصرون بنور اللّه من العمى ، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وكم من تائه ضالّ قد هدوه ، يبذلون دماءهم دون هلكة العباد ، ما أحسن أثرهم على العباد وأقبح آثار العباد عليهم» (٣)
وقال عليهالسلام في حديثٍ آخَر في قوله تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
__________________
(١) الكافي ٨ : ٥٢ / ١٦ (رسالة أبي جعفر عليهالسلام إلى سعد الخير) ، بحار الأنوار ٧٨ : ٣٥٨ / ٢ .
(٢) لم ترد في «م» .
(٣) الكافي ٨ : ٥٦ / ١٧ (رسالة أبي جعفر عليهالسلام إلى سعد الخير) ، بحار الأنوار ٧٨ : ٣٦٢ / ٣ .
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (١) : «واللّه ، ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ، ولو دعوهم ما أجابوهم ، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً ، فاتّبعوهم فعبدوهم من حيث لا يشعرون» (٢) .
وقال عليهالسلام في حديثٍ آخَر : «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب ، فجعل لكلّ شيء سبباً ، وجعل لكلّ سبب شرحاً ، وجعل لكلّ شرحٍ علماً ، وجعل لكلّ علمٍ باباً ناطقاً ، عرفه من عرفه وجهله من جهله ذاك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ونحن» (٣) .
وقال عليهالسلام : «من أصبح من هذه الاُمّة لا إمام له من اللّه عزوجل ظاهر عادل أصبح تائهاً ضالاًّ ، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة جاهلية . . .» (٤) ، الخبر .
والمراد بالظاهر : واضح الحال والإمامة وإن كان شخصه غائباً عن المكلّف .
وقال عليهالسلام : «يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلاً ، وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض فاطلب لنفسك دليلاً» (٥) .
وقال عليهالسلام : «إنّ عيسى عليهالسلام حين تكلّم في المهد كان نبيّاً وحجّةً على
__________________
(١) سورة التوبة ٩ : ٣١ .
(٢) المحاسن ١ : ٣٨٣ / ٨٤٨ بتفاوت يسير ، بحار الأنوار ٢ : ٩٨ / ٥٠ .
(٣) بصائر الدرجات : ٢٦ / ١ ، الكافي ١ : ١٤٠ / ٧ (باب معرفة الإمام والرد إليه) ، بحار الأنوار ٢ : ٩٠ / ١٤.
(٤) الكافي ١ : ١٤٠ / ٨ (باب معرفة الإمام والرد إليه) ، بحار الأنوار ٨ : ٣٦٩ / ٤١ ، بتفاوت يسير .
(٥) الكافي ١ : ١٤١ / ١٠ (باب معرفة الإمام والرد إليه) .
من سمع كلامه في تلك الحال ، ثمّ صمت فلم يتكلّم حتّى مضت له سنتان ، وكان زكريّا الحُجّة للّه عزوجل على الناس بعد صمت عيسى عليهالسلام بسنتين ، ثمّ مات زكريا فورثه يحيى ابنه الكتاب والحكمة وهو صبي صغير ، فلمّا بلغ عيسى عليهالسلام سبع سنين تكلّم بالنبوّة والرسالة حين أوحى اللّه إليه ، فكان عيسى عليهالسلام الحجّة على الناس أجمعين ، وليس تبقى الأرض يوماً واحداً بغير حجّة للّه على الناس .
وكان عليٌّ عليهالسلام حجّةً من اللّه ورسوله على هذه الاُمّة يوم أقامه للناس ، ونصبه علماً ، ودعاهم إلى ولايته ، ولكنّه صمت فلم يتكلّم مع رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وكانت الطاعة لرسول اللّه صلىاللهعليهوآله على الاُمّة وعلى عليّ عليهالسلام في حياة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، وكانت الطاعة من اللّه ومن رسوله صلىاللهعليهوآله على الناس كلّهم لعلي عليهالسلام بعد وفاة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، وكان عليّ عليهالسلام حكيماً عالماً» (١) .
«والعلم يتوارث فلا يهلك عالم إلاّ بقي من بعده من يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّه (٢).
فقيل له : أفيسع الناس إذا مات العالم أن لا يعرفوا الذي بعده ؟
فقال : «أمّا أهل هذه البلدة ـ يعني المدينة ـ فلا ؛ لأنّ الإمام إذا هلك وقعت حجّة وصيّه على من هو معه في البلد ، وأمّا غيرها من البلدان فبقدر مسيرهم ، إنّ اللّه تعالى يقول : ( فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا ) (٣) ، الآية .
__________________
(١) الكافي ١ : ٣١٣ / ١ (باب حالات الأئمّة عليهمالسلامفي السنِّ) .
(٢) بصائر الدرجات ١٣٨ / ٢ ، الكافي ١ : ١٧٣ / ١ ( باب أنّ الأئمّة عليهمالسلام ورثة العلم ) ، بحار الأنوار ٢٦ : ١٦٩ / ٣٣ .
(٣) سورة التوبة ٩ : ١٢٢ .
فإن نفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم فهو بمنزلة من خرج من بيته مهاجراً إلى اللّه ورسوله صلىاللهعليهوآله ثمَّ يدركه الموت» .
قيل : فإذا قدموا بأيّ شيء يعرفون صاحبهم ؟
قال : «يعطى السكينة والوقار والهيبة» (١) .
وقال : «يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال مع العلم لا تكون في غيره : هو أولى الناس بالذي قبله ، وهو وصيّه ، وعنده سلاح رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ووصيّته . . .» (٢) ، الخبر .
والأخبار منه عليهالسلام ، ومن سائر الأئمّة عليهمالسلام من هذا القبيل كثيرة ، وكفى ما ذكرناه لصاحب البصيرة ، وسيأتي أمثالها في المواضع المناسبة لذكرها سيّما في فصل الوصيّة .
ثمّ إنّ ها هنا حكاية لطيفة مشتملة على رواية شريفة عنه عليهالسلام أحببنا ذكرها ، وهي ما رواه جماعة عن رجل من قريش من أهل مكّة ، قال : قال لي سُفيان الثوري (٣) : إذهب بنا إلى أبي عبداللّه جعفر بن محمّد عليهماالسلام ، قال : فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابّته ، فقال له سفيان : يا أبا عبداللّه حدّثنا بحديث خطبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في مسجد الخيف ، قال : «دعني
__________________
(١) علل الشرائع ٢ : ٥٩١ / ٤٠ .
(٢) بصائر الدرجات : ٢٠٢ / ٢٨ ، بحار الأنوار ٢٦ : ٣٣ .
(٣) هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، كنيته أبو عبداللّه ، وذكر الطريحي في مجمعه أ نّه كان في شرطة هشام بن عبدالملك ، وهو ممّن شهد قتل زيد بن علي ابن الحسين عليهماالسلام ، له كتب منها : الجامع الكبير ، والجامع الصغير ، وكان مولده سنة ٩٧ هـ ، مات بالبصرة مستتراً من السلطان ودفن عشاءً وذلك في سنة ١٦١ .
انظر : الكنى والألقاب ٢ : ١١٩ ، مجمع البحرين ٣ : ٢٣٨ ـ ثور ـ الفهرست لابن النديم : ٢٨١ ، وفيات الأعيان ٢ : ٣٨٦ / ٢٦٦ ، تهذيب التهذيب ٤ : ٩٩ / ١٩٩ .