الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-197-4
الصفحات: ٤٨٥
الشرط السادس : عدم النهي.
اعلم أنّ النهي قد يقتضي الفساد وقد لا يقتضيه ، والثاني قد يكون للتحريم وقد يكون للكراهة ، وقد مضى بعض ذلك ، وقد وقع الخلاف في كثير من الباقي ، ونحن نبيّن بعون الله تعالى جميع ذلك على التفصيل. ويحصره أقسام :
الأوّل : بيع ما لم يقبض. والنظر فيه يتعلّق بأمور ثلاثة :
الأوّل : ماهيّة القبض.
قال الشيخ : القبض فيما لا ينقل ويحوّل هو التخلية ، وإن كان ممّا ينقل ويحوّل ، فإن كان مثل الدراهم والدنانير والجواهر وما يتناول باليد ، فالقبض هو التناول ، وإن كان مثل الحيوان ، فالقبض نقل البهيمة وغيرها إلى مكان آخر. وإن كان ممّا يكال أو يوزن ، فالقبض فيه الكيل أو الوزن (١).
وبه قال الشافعي في أظهر القولين ، وأحمد في أظهر الروايتين (٢) ، لقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله » (٣).
وسئل الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ، فقال : « ما لم يكن كيل أو وزن فلا يبعه حتى يكيله أو يزنه إلاّ أن
__________________
(١) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ١٢٠.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٧٠ ، المجموع ٩ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦ و ٢٨٣ ، الوسيط ٣ : ١٥٢ ، الوجيز ١ : ١٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٧ ، الحاوي الكبير ٥ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، المغني ٤ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٤ : ١٣١ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٨ ـ ١٩.
(٣) صحيح مسلم ٣ : ١١٦٢ ، ١٥٢٨.
يوليه الذي قام عليه » (١) فجعل عليهالسلام الكيل والوزن هو القبض ، لأنّا أجمعنا على بيع الطعام بعد قبضه.
وسئل عليهالسلام عن رجل اشترى متاعا من آخر وأوجبه غير أنّه ترك المتاع عنده ولم يقبضه وقال : آتيك غدا إن شاء الله ، فسرق المتاع ، من مال من يكون؟ فقال عليهالسلام : « من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته ، فالمبتاع ضامن لحقّه حتى يردّ ماله إليه » (٢) فجعل القبض هو النقل.
ولقضاء العرف بذلك ، وعادة الشرع ردّ الناس إلى العرف فيما لم يضع له الشارع لفظا.
وقال أبو حنيفة : « القبض التخلية مطلقا في المنقول وغيره ـ وهو قول (٣) لنا وللشافعي ، وقول مالك ، ورواية عن أحمد ـ مع التمييز ، لأنّه خلّى بينه وبين المبيع ، فكان قبضا له ، كالعقار (٤).
ونمنع المساواة ، للعرف.
وفي رواية عن الشافعي : تكفي التخلية لنقل الضمان إلى المشتري ، لأنّ البائع أتى بما عليه ، فيخرج عن ضمانه ، والتقصير من المشتري ، حيث لم ينقل ، فيثبت ما هو حقّ البائع. ولا تكفي لجواز التصرّف (٥).
__________________
(١) التهذيب ٧ : ٣٥ ، ١٤٦.
(٢) الكافي ٥ : ١٧١ ـ ١٧٢ ، ١٢ ، التهذيب ٧ : ٢١ ، ٨٩ ، و ٢٣٠ ، ١٠٠٣.
(٣) من القائلين به : المحقّق في شرائع الإسلام ٢ : ٢٩.
(٤) بدائع الصنائع ٥ : ٢٤٤ ، المجموع ٩ : ٢٨٣ ، الحاوي الكبير ٥ : ٢٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٥ و ١٧٦ ، الوسيط ٣ : ١٥٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٦ ، المغني ٤ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٤ : ١٣١.
(٥) المجموع ٩ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٦ ، الوسيط ٣ : ١٥٢.
مسألة ٥٩ : هل يشترط في القبض كونه فارغا عن أمتعة البائع؟ قال الشافعي : نعم (١).
والأقرب عندي : المنع مع التخلية وتمكينه من اليد والتصرّف بتسليم المفتاح إليه ، فلو باع دارا أو سفينة مشحونة بأقمشة ومكّنه منها بحيث جعل له تحويله من مكان إلى غيره ، كان قبضا.
ولا يشترط في التخلية حضور المتبايعين عند المبيع ، وهو أظهر وجوه الشافعي (٢).
وآخر : اشتراطه ، فإذا حضرا وقال البائع للمشتري : دونك هذا ، ولا مانع ، حصل القبض (٣).
وآخر : اشتراط حضور المشتري دون البائع ليتمكّن من إثبات اليد عليه ، وإذا حصلت التخلية ، فإثبات اليد والتصرّف إليه (٤).
وهل يشترط زمان إمكان المضيّ إليه؟ أصحّ الوجهين للشافعيّة : نعم (٥).
مسألة ٦٠ : إذا كان المبيع في موضع لا يختصّ بالبائع ، كفى في المنقول النقل من حيّز إلى آخر. وإن كان في موضع يختصّ به ، فالنقل من زاوية إلى أخرى بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرّف ، ويكفي لدخوله في ضمانه. وإن نقل بإذنه ، حصل القبض ، وكأنّه استعار البقعة المنقول إليها.
ولو اشترى الدار مع الأمتعة فيها صفقة وخلّى بينهما ، حصل القبض في الدار. وفي الأمتعة إشكال ، أصحّ وجهي الشافعي : عدم القبض بدون
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٥ ، المجموع ٩ : ٢٧٦ ، منهاج الطالبين : ١٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٥.
(٢ ـ ٥) المجموع ٩ : ٢٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٥.
نقلها ، كما لو بيعت وحدها. والثاني : أنّ القبض يحصل فيها تبعا (١).
ولو أحضر البائع السلعة فقال المشتري : ضعه ، ففعل ، تمّ القبض ـ وبه قال الشافعي (٢) ـ لأنّه كالوكيل في الوضع.
ولو لم يقل المشتري شيئا ، أو قال : لا أريد ، حصل القبض ، لوجود التسليم ، كما إذا وضع الغاصب المغصوب بين يدي المالك ، يبرأ عن الضمان ، وهو أصحّ وجهي الشافعي. والضعيف : لا يحصل ، كما في الإيداع (٣).
وللمشتري الاستقلال بنقل المبيع إن كان الثمن مؤجّلا أو [ وفّاه ] (٤) ـ كما أنّ للمرأة قبض الصداق من دون إذن الزوج إذا سلّمت نفسها ـ وإلاّ فلا ، وعليه الردّ ، لأنّ البائع يستحقّ الحبس لاستيفاء الثمن ، ولا ينفذ تصرّفه فيه لكن يدخل في ضمانه.
وإذا كان المبيع معتبرا تقديره ، كما لو اشترى ثوبا مذارعة ، أو أرضا كذلك ، أو متاعا موازنة ، أو حنطة مكايلة ، أو معدودا بالعدد ، لم يكف النقل والتحويل ، بل لا بدّ من التقدير على إشكال. وهذا كلّه كقول الشافعي (٥).
فروع :
أ ـ لو قبض جزافا ما اشتراه مكايلة ، دخل المقبوض في ضمانه. فإن باعه كلّه ، لم يصحّ ، لأنّه ربما يزيد على قدر ما يستحقّه.
ولو باع ما يستحقّه ، فالوجه عندي : الجواز ـ وهو أضعف وجهي
__________________
(١) المجموع ٩ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٥.
(٢) المجموع ٩ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٦.
(٣) المجموع ٩ : ٢٧٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٧.
(٤) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك » وظاهر الطبعة الحجريّة : وزنه. وما أثبتناه يقتضيه السياق وكما هو مفاد المصادر للفقه الشافعي.
(٥) المجموع ٩ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٧.
الشافعي (١) ـ لحصول القبض. وأصحّهما عنده : المنع ، لأنّه لم يجر قبض مستحقّ بالعقد (٢). وهو ممنوع.
ب ـ لا اعتبار بالقبض الفاسد ، بل الصحيح ، لسقوط الأوّل عن نظر الشرع ، فلا يكون شرطا في صحّة شرعيّ (١).
والصحيح : أن يسلّم المبيع باختياره أو يوفّي المشتري الثمن ، فله القبض بغير اختيار البائع. والفاسد : أن يكون الثمن حالاّ وقبض المبيع بغير اختيار البائع من غير دفع الثمن ، فللبائع المطالبة بالردّ إلى يده ، لأنّ له حقّ الحبس إلى أن يستوفي.
ج ـ لو كان لزيد طعام على عمرو سلما ، ولخالد مثله على زيد ، فقال زيد : اذهب إلى عمرو واقبض لنفسك ما لي عليه ، فقبضه ، لم يصحّ لخالد ، عند أكثر علمائنا (٤) ـ وبه قال الشافعي وأحمد (٥) ـ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام حتى يجري فيه الصاعان ، يعني صاع البائع وصاع المشتري (٦) ، وسيأتي ، بل ينبغي أن يكتال لنفسه ويقبضه ثمّ يكيله على مشتريه.
وهل يصحّ لزيد؟ الوجه : المنع ـ وبه قال الشافعي وأحمد في رواية (٧) ـ لأنّه لم يجعله نائبا في القبض ، فلم يقع له ، بخلاف الوكيل.
__________________
(١) المجموع ٩ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٧.
(٢) المجموع ٩ : ٢٧٨ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٧.
(٣) كذا في « ق ، ك » والطبعة الحجرية.
(٤) منهم : الشيخ الطوسي في المبسوط ٢ : ١٢٢ ، والقاضي ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨.
(٥) المجموع ٩ : ٢٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٨.
(٦) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٥٠ ، ٢٢٢٨ ، سنن الدار قطني ٣ : ٨ ، ٢٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٣١٦ ، ولم ترد فيها كلمة « بالطعام ».
(٧) المغني ٤ : ٢٤٠ ، وانظر : المجموع ٩ : ٢٧٩ ، وروضة الطالبين ٣ : ١٧٨ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٨.
وفي رواية : يصحّ ، لأنّه أذن له في القبض ، فأشبه الوكيل (١).
وليس بجيّد ، لأنّه قبضه لنفسه باطلا ، فحينئذ يكون باقيا على ملك عمرو.
وكذا لو دفع إليه مالا وقال : اشتر لي به طعاما ، فإن قال : اقبضه لي ثمّ اقبضه لنفسك ، صحّ الشراء والقبض للموكّل.
وهل يصحّ لنفسه؟ منعه الشيخ ، لاتّحاد المقبوض والقابض (٢). وهو وجه للشافعي (٣).
وفي آخر : الجواز ، لأنّ الباطل أن يقبض من نفسه لغيره (٤).
ولو قال : اقبضه لنفسك ، منع الشافعيّة منه ، لأنّه لا يتمكّن من قبض مال الغير لنفسه ، فإنّ فعله فهو مضمون عليه (٥).
وإن قال : اشتر لنفسك ، لم يصحّ الشراء ، لأنّه لا يصحّ أن يملك الإنسان بثمن لغيره. ولا يتعيّن له بالقبض ، وبه قال الشافعي (٦).
وقال أحمد : يصحّ الشراء ، كالفضولي (٧).
وتكون الدراهم أمانة في يده ، لأنّه لم يقبضها ليتملّكها.
فإن اشترى ، نظر إن اشترى في الذمّة ، وقع عنه ، وأدّى الثمن من ماله. وإن اشترى بعينها ، للشافعيّة وجهان : الصحّة والبطلان (٨).
ولو كان المالان أو المحال به قرضا أو إتلافا ، جاز عندنا ، خلافا
__________________
(١) المغني ٤ : ٢٤٠.
(٢) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ١٢١.
(٣ و ٤) المجموع ٩ : ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٩ ـ ١٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٠.
(٥ و ٦) المجموع ٩ : ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٠.
(٧) المغني ٤ : ٢٤١.
(٨) المجموع ٩ : ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٠.
للشافعي (١).
د ـ لو أبقى زيد الطعام في المكيال لمّا اكتاله لنفسه وسلّمه إلى مشتريه ، جاز ، وينزّل استدامته في المكيال منزلة ابتداء الكيل ، وهو أظهر وجهي الشافعي ، وبه قال أحمد (٢).
ولو اكتاله زيد ثمّ كاله على مشتريه فوقع في المكيال زيادة أو نقصان بما يعتاد في المكيال ، فالزيادة لزيد والنقصان عليه ، وإن كان كثيراً ، ردّت الزيادة إلى الأوّل ورجع عليه بالنقصان.
هـ ـ يجوز التوكيل في القبض من المشتري وفي الإقباض من البائع. وهل يجوز أن يتولاّهما الواحد؟ منعه الشيخ (٣) ـ وبه قال الشافعي في وجه (٤) ـ لأنّه لا يجوز أن يكون قابضا مقبضا.
والوجه : الجواز ـ وبه قال أحمد والشافعي في وجه (٥) ـ كما لو باع الأب من ولده الصغير.
وكذا يجوز أن يوكّل المشتري من يده يد البائع ، كعبده.
و ـ لو أذن لمستحقّ الطعام أن يكتال من الصبرة حقّه ، فالوجه عندي : الجواز ـ وهو أضعف وجهي الشافعيّة (٦) ـ لأنّ القصد معرفة القدر.
وأصحّهما : المنع ، لأنّ الكيل أحد ركني القبض ، فلا يجوز أن يكون
__________________
(١) المجموع ٩ : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.
(٢) المجموع ٩ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٩ ، المغني ٤ : ٢٤١.
(٣) انظر : المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ٣٨١.
(٤) المجموع ٩ : ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٠.
(٥) المغني ٥ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٥ : ٢٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١١.
(٦) المجموع ٩ : ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٠.
نائبا فيه عن البائع متأصّلا لنفسه (١).
ز ـ لو قال من عليه طعام من سلم وله مثله لمستحقّه : احضر اكتيالي وأقبضه لك ، ففعل ، فالوجه : الجواز.
ومنع منه الشافعي وأحمد ، للنهي (٢) (٣).
وهل يكون قابضا لنفسه؟ لأحمد وجهان :
أقواهما : نعم ، لأنّ قبض المسلم فيه قد وجد في مستحقّه ، فصحّ القبض له ، كما لو نوى القبض لنفسه ، فإذا قبضه غريمه ، صحّ. وإن قال : خذه بهذا الكيل فأخذه ، صحّ ، لأنّه قد شاهد كيله وعلمه ، فلا معنى لاعتبار كيله مرّة ثانية.
والمنع ـ وبه قال الشافعي ـ للنهي (٤) (٥).
النظر الثاني : في وجوبه (١)
يجب على كلّ واحد من المتبايعين تسليم ما استحقّه الآخر بالبيع ، فإن قال كلّ منهما : لا أدفع حتى أقبض ، قال الشيخ : يجبر البائع أوّلا (٧).
وأطلق ، وهو أحد أقوال الشافعي ، الأربعة ، وأحمد في رواية ، لأنّ تسليم
__________________
(١) المجموع ٩ : ٢٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٠.
(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٥٠ ، ٢٢٢٨ ، سنن الدار قطني ٣ : ٨ ، ٢٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٣١٦.
(٣) المجموع ٩ : ٢٧٩ ، روضة الطالبين ٣ : ١٧٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣٠٨ ، المغني ٤ : ٢٤٠.
(٤) راجع المصادر في الهامش (٢).
(٥) المغني ٤ : ٢٤٠ ـ ٢٤١.
(٧) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ١٤٧ ـ ١٤٨.
المبيع يتعلّق به استقرار البيع وتمامه ، فإنّ ملك المشتري في المبيع إنّما يستقرّ بتسليمه إلى البائع ، لأنّه لو تلف قبل القبض ، بطل.
وثانيها ـ وبه قال أبو حنيفة ومالك ـ : أنّه يجبر المشتري على تسليم الثمن أوّلا ، لأنّ حقّه متعيّن في المبيع ، فيؤمر بدفع الثمن ليتعيّن حق البائع أيضا.
وثالثها : لا يجبران لكن يمنعان من التخاصم ، فإن سلّم أحدهما ما عليه ، اجبر الآخر.
ورابعها : أنّ الحاكم يجبرهما معا على التسليم (١).
هذا إذا كان الثمن في الذمّة ، وإن كان معيّنا أو تبايعا عرضا بعرض ، فقولان للشافعيّة خاصّة : عدم الإجبار لهما (٣) (٤) ، والإجبار لهما معا ، وبه قال الثوري وأحمد (٤).
والأخير عندي على التقديرين أجود ، لأنّ كلّ واحد منهما قد وجب له حقّ على صاحبه.
مسألة ٦١ : إذا ابتدأ البائع بالتسليم إمّا تبرّعا أو بالإجبار على القول به ، أجبر المشتري على التسليم في الحال إن كان الثمن حاضرا في
__________________
(١) الوسيط ٣ : ١٥٦ ، الوجيز ١ : ١٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢ و ٣١٤ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨١ ، المغني ٤ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٢.
(٢) كلمة « لهما » لم ترد في « ق ، ك ».
(٣) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة زيادة : وبه قال أحمد. وحذفناها لأجل السياق ، مضافا إلى عدم وجود قول له بعدم الإجبار في المغني والشرح الكبير.
(٤) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨١ ـ ١٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، المغني ٤ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٢.
المجلس ، وإن كان في البلد ، فكذلك.
وأظهر وجهي الشافعي : الحجر عليه في المبيع (١) عند بعض الشافعيّة (٢) ، ومطلقا عند آخرين ، لئلاّ يتصرّف في أملاكه بما يفوت حقّ البائع (٣).
والأقرب : عدم الحجر ، وهو أضعفهما (٤).
وإن كان غائبا قدر مسافة القصر ، قال الشافعي : لا يكلّف البائع الصبر إلى إحضاره ، بل في وجه يباع المبيع ويوفى حقّه من ثمنه.
والأظهر عنده : أنّ له الفسخ ، كما لو أفلس المشتري (٥).
وعند علمائنا : له الفسخ بعد ثلاثة أيّام مع انتفاء الإقباض ثمنا ومثمنا ، وسيأتي.
وإن قصر عنها ، فهل هو كالبلد أو مسافة القصر؟ للشافعي وجهان (٦).
وإن كان معسرا ، فهو مفلس ، فإن حجر عليه الحاكم ، فالبائع أحقّ بمتاعه إن شاء فسخ وإن شاء ضرب مع الغرماء.
وقال الشافعي : إن كان معسرا ، فالبائع أحقّ بمتاعه في أحد الوجهين.
__________________
(١) في « ق ، ك » : « البيع » بدل ما أثبتناه ، والمثبت ـ كما في المصدر أيضا ـ هو الصحيح.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٢.
(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٢ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٢ ، منهاج الطالبين : ١٠٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٣ ، المغني ٤ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٣.
(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٢.
(٥) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٢ ، منهاج الطالبين : ١٠٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٤ ، المغني ٤ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٣.
(٦) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٤ ، المغني ٤ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٣.
وفي الآخر : يباع ويوفى حقّ البائع من ثمنه (١) ، فإن فضل ، فللمشتري (٢).
فروع :
أ ـ كلّ موضع قلنا : له الفسخ ، فله ذلك بغير حكم حاكم ـ وبه قال أحمد (٣) ـ لأنّه فسخ المبيع (٤) للإعسار بثمنه ، فملكه البائع ، كالفسخ في عين ماله إذا أفلس. وكلّ موضع قلنا : يحجر عليه ، فذلك إلى الحاكم ، لأنّ ولاية الحجر إليه.
ب ـ إنّما يثبت للبائع حقّ الحبس إذا كان الثمن حالاّ ، وليس له الحبس إلى أن يستوفي الثمن المؤجّل. وكذلك ليس له الحبس إذا لم يتّفق التسليم إلى أن حلّ الأجل ، وبه قال الشافعي (٥).
ج ـ لو ابتدأ المشتري بالتسليم إمّا تبرّعا أو إجبارا على تقدير وجوبه ، فالحكم في البائع كالحكم في المشتري في المسألة.
د ـ لو هرب المشتري قبل وزن الثمن وهو معسر مع عدم الإقباض ، احتمل أن يملك البائع الفسخ في الحال ، لتعذّر استيفاء الثمن. والصبر ثلاثة أيّام ، للرواية (٦). والأوّل أقوى ، لورودها في الباذل.
__________________
(١) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : ثمنها. وتأنيث الضمير باعتبار السلعة. وما أثبتناه لأجل السياق.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٤ ، المغني ٤ : ٢٩٢ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٣.
(٣) المغني ٤ : ٢٩٣ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٣.
(٤) كذا ، والظاهر : البيع.
(٤) كذا ، والظاهر : البيع.
(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٣١٥ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٣.
(٦) الكافي ٥ : ١٧١ ، ١١ ، الفقيه ٣ : ١٢٧ ، ٥٥٤ ، التهذيب ٧ : ٢١ ، ٨٨.
وإن كان موسرا ، أثبت البائع ذلك عند الحاكم ، ثمّ إن وجد الحاكم له مالا ، قضاه ، وإلاّ باع المبيع وقضى منه ، والفاضل للمشتري ، والمعوز عليه.
مسألة ٦٢ : ليس للبائع الامتناع من تسليم المبيع بعد قبض الثمن لأجل الاستبراء ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد (١).
وحكي عن مالك ذلك في القبيحة ، أمّا الجميلة فتوضع على يدي عدل حتى تستبرأ ، لأنّ التهمة تلحقه فيها فمنع منها (٢).
وليس بجيّد ، فإنّه مبيع لا خيار فيه ، قبض ثمنه فوجب دفعه إليه كغيره. والتهمة لا تمنعه من التسلّط ، كالقبيحة.
ولو طالب المشتري البائع بكفيل لئلاّ تظهر حاملا ، لم يكن له ذلك ، لأنّه ترك التحفّظ لنفسه حال العقد.
النظر الثالث : في حكمه.
وله حكمان : انتقال الضمان إلى المشتري ، وتسويغ التصرّفات. فهنا مطلبان :
الأوّل : الضمان. ولا خلاف عندنا في أنّ الضمان على البائع قبل القبض مطلقا ، فلو تلف حينئذ ، انفسخ العقد ، وسقط الثمن ـ وبه قال الشافعي وأحمد في رواية (٣) ، وهو محكي عن الشعبي وربيعة (٤) ـ لأنّه
__________________
(١) المغني ٤ : ٢٩٣ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٣ ـ ١٢٤.
(٢) المغني ٤ : ٢٩٣ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٤.
(٣) الوسيط ٣ : ١٤٣ ، الوجيز ١ : ١٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٥٩ ، منهاج الطالبين : ١٠٢ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٩ ، المغني ٤ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٨.
(٤) لم نعثر على قولهما فيما بين أيدينا من المصادر.
قبض مستحقّ بالعقد ، فإذا تعذّر ، انفسخ البيع ، كما لو تفرّقا قبل القبض في الصرف.
وقال أبو حنيفة : كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع إلاّ العقار (١).
وقال مالك : إذا هلك المبيع قبل القبض ، لا يبطل البيع ، ويكون من ضمان المشتري ، إلاّ أن يطالبه به فلا يسلّمه ، فيجب عليه قيمته للمشتري ـ وبه قال أحمد وإسحاق ـ لقوله عليهالسلام : « الخراج بالضمان » (٢) ونماؤه للمشتري ، فضمانه عليه. ولأنّه من ضمانه بعد القبض فكذا قبله ، كالميراث (٣).
ولا حجّة في الخبر ، لأنّه لم يقل : « الضمان بالخراج » والخراج : الغلّة ، والميراث لا يراعى فيه القبض وهنا يراعى ، فإنّه يراعى في الدراهم والدنانير ، بخلاف الميراث فيهما ، وهذا مذهب مالك ، وهو اختيار أحمد (٤).
ونقل عنهما معا أنّ المبيع إذا لم يكن مكيلا ولا موزونا ولا معدودا ، فهو من ضمان المشتري ، ومنهم من أطلق (٥) ، كما تقدّم.
تذنيب : لو أبرأ المشتري البائع عن ضمان المبيع ، لم يبرأ ، وحكم العقد لا يتغيّر ـ وبه قال الشافعي (٦) ـ فلو تلف المبيع قبل القبض ، انفسخ
__________________
(١) المغني ٤ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٨.
(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ٧٥٤ ، ٢٢٤٣ ، سنن أبي داود ٣ : ٢٨٤ ، ٣٥٠٨ ـ ٣٥١٠ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٢١ و ٣٢٢ ، مسند أحمد ٧ : ٧٤ ، ٢٣٧٠٤.
(٣) الوسيط ٣ : ١٤٣ ، المحلّى ٨ : ٣٧٩ ، المغني ٤ : ٢٣٧ و ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٧ و ١٢٩.
(٤) انظر : المغني ٤ : ١٩٢ ، والشرح الكبير ٤ : ١٧٩ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ٧٦.
(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٧.
(٦) منهاج الطالبين : ١٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٧.
العقد ، وسقط الثمن عن المشتري إن لم يكن دفعه ، وإن كان قد دفعه ، استعاده.
وللشافعي قول آخر : إنّه لا ينفسخ العقد ، ولا يسقط الثمن عن المشتري (١).
مسألة ٦٣ : إذا انفسخ العقد ، كان المبيع تالفا على ملك البائع ، فلو كان عبدا ، كان مئونة تجهيزه عليه ، وبه قال الشافعي (٢).
وهل يقدّر أنّه ينتقل الملك إليه قبيل التلف ، أو يبطل العقد من أصله؟ فيه احتمال. وأصحّ وجهي الشافعيّة : الأوّل (٣) ، فالزوائد الحادثة في يد البائع ـ كالولد والثمرة والكسب (٤) ـ للمشتري ، وللبائع على الثاني.
مسألة ٦٤ : إذا تلف المبيع قبل القبض ، فإن تلف بآفة سماويّة ، فهو من مال البائع على ما تقدّم.
فإن أتلفه المشتري ، فهو قبض منه ، لأنّه أتلف ملكه ، فكان كالمغصوب إذا أتلفه المالك في يد الغاصب ، يبرأ من الضمان ، وبه قال الشافعي (٥).
وله وجه : أنّه ليس بقبض ولكن عليه القيمة للبائع ، ويستردّ الثمن ، ويكون التلف من ضمان البائع (٦).
وإن أتلفه البائع ، قال الشيخ : ينفسخ البيع ، وحكمه حكم ما لو تلف
__________________
(١ و ٢) روضة الطالبين ٣ : ١٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٧.
(٣) روضة الطالبين ٣ : ١٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٨.
(٤) أي : كسب العبد المبيع مثلا.
(٥) الوسيط ٣ : ١٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦١.
(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦١.
بأمر سماويّ ، لامتناع التسليم (١). وهو أصحّ وجهي الشافعي ـ وبه قال أبو حنيفة ـ لأنّ المبيع مضمون عليه بالثمن ، فإذا أتلفه ، سقط الثمن (٢).
والآخر له ـ وبه قال أحمد ـ : لا ينفسخ البيع ، ويكون كالأجنبي يضمنه بالمثل في المثلي ، وبالقيمة في غيره ، لانتقال الملك عنه إلى المشتري وقد جنى على ملك غيره ، فأشبه إتلاف الأجنبي (٣).
وإن أتلفه أجنبيّ ، قال الشيخ : لا يبطل البيع ، بل يتخيّر المشتري بين الفسخ فيسترجع الثمن من البائع ، لأنّ التلف حصل في يد البائع ، وبين الإمضاء فيرجع على الأجنبي بالقيمة إن لم يكن مثليّا ، ويكون القبض في القيمة قائم مقام القبض في المبيع ، لأنّها بدله (٤). وبه قال أبو حنيفة وأحمد والشافعي في أحد القولين (٥).
وهل للبائع حبس القيمة لأخذ الثمن؟ يحتمل ذلك ، كما يحبس المرتهن قيمة الرهن. والعدم ، لأنّ الحبس غير مقصود بالعقد حتى ينتقل إلى البدل ، بخلاف الرهن.
وللشافعي (٦) كالوجهين.
__________________
(١) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ١١٧.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٩.
(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٩ ، المغني ٤ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٦.
(٤) المبسوط ـ للطوسي ـ ٢ : ١١٧.
(٥) المغني ٤ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٥ ـ ١٢٦ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦١ ـ ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، حلية العلماء ٤ : ٣٤٣.
(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٢.
فروع :
أ ـ لو استغلّ البائع المبيع قبل القبض ثمّ تلف ، فلا اجرة عليه إن جعلنا إتلافه كالسماويّة ، وإلاّ فعليه الأجرة.
وللشافعي (١) كالوجهين.
ب ـ لو أكلت الشاة ثمنها المعيّن قبل القبض ، فإن كانت في يد المشتري ، فهو كما لو أتلفه. وإن كانت في يد البائع ، فهو كإتلافه. وكذا إن كانت في يد أجنبيّ ، فكإتلافه. وإن لم تكن في يد أحد ، انفسخ البيع ، لأنّه هلك (٢) قبل القبض بأمر لا ينسب إلى آدميّ ، فصار كالسماويّة.
ج ـ إتلاف الثمن المعيّن كالمثمن في الأحكام المذكورة هناك ، أمّا غير المعيّن فلا يبطل البيع بإتلافه. وكذا الثمن المضمون.
د ـ لو باع عينا بأخرى وقبض إحداهما فباعها أو أعتقها أو استحقّت بالشفعة ثمّ تلفت الأخرى قبله ، بطل العقد الأوّل دون الثاني ، ويرجع مشتري التالفة بقيمة عينه ، لتعذّر ردّه ، وعلى الشفيع مثل الثمن ، لأنّه عوض الشقص. ولو تلفت العين الأخرى قبل قبض المشتري الثاني ، بطل البيعان.
مسألة ٦٥ : لو تلف بعض المبيع قبل القبض بآفة سماويّة ، فإن كان للتالف قسط من الثمن ، كعبد من عبدين مات (٣) ، بطل العقد فيه عند كلّ من يبطل البيع بالإتلاف.
وفي الآخر خلاف.
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٩٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٢.
(٢) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : لأنّ المبيع هلك .. والصحيح ما أثبتناه ، لأنّ الفرض أنّ الهالك هو الثمن لا المبيع.
(٣) في « ك » زيادة : أحدهما.
أمّا عندنا فلا يبطل ، بل يتخيّر المشتري في الفسخ ، لتبعّض الصفقة عليه ، والإمضاء.
وللشافعيّة قولان :
أحدهما : الفسخ بناء على الإبطال بتفريق الصفقة.
والآخر : الصحّة على ذلك التقدير فرقا بين الفساد المقترن بالعقد ، والطارئ (١).
وإن لم يكن للتالف قسط من الثمن ، كما لو سقطت يد العبد ، لعلمائنا قولان :
أحدهما : تخيير المشتري بين الفسخ والإمضاء مجّانا مع القدرة على الفسخ ، لأنّه ارتضاه معيبا ، فكأنّه اشتراه معيبا عالما بعيبه ، وبه قال الشافعي وأحمد (٢).
والثاني : أنّ للمشتري مع اختيار الإمضاء الأرش ، لأنّه عوض الجزء الفائت قبل قبضه ، وكما لو تلف الجميع كان مضمونا على البائع فكذا البعض إمّا الجزء أو الوصف. وهو أقواهما عندي.
ولو تعيّب بفعل المشتري ، كما لو قطع يد العبد قبل قبضه ، فلا خيار له ، لأنّه أتلف ملكه ، فلا يرجع به على غيره ، ويجعل قابضا لبعض المبيع حتى يستقرّ عليه ضمانه.
وإن مات العبد في يد البائع بعد الاندمال ، فلا يضمن اليد المقطوعة بأرشها المقدّر ولا بما نقص القطع من القيمة ، وإنّما يضمنها بجزء من
__________________
(١) الوسيط ٣ : ٩٢ ، الوجيز ١ : ١٤٠ و ١٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٤١ و ٢٩٣ ، الحاوي الكبير ٥ : ٢٩٥ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٦.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٣٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٩٢ ، المغني ٤ : ٢٣٧ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٦.
الثمن كما يضمن الكلّ بكلّ الثمن ، وهو أحد وجهي الشافعيّة.
وأصحّ وجهي الشافعيّة في كيفيّته ـ وبه قال ابن سريج ـ : أنّه يقوّم صحيحا ومقطوعا ويؤخذ من الثمن بمثل نسبة التفاوت (١) ، فلو كان صحيحا بعشرين ومقطوعا بخمسة عشر ، فعليه ربع الثمن.
وأضعفهما : أنّه يستقرّ من الثمن بنسبة أرش اليد من القيمة ، وهو النصف ، فلو قطع يديه واندملتا ثمّ مات العبد في يد البائع ، وجب على المشتري تمام الثمن (٢).
والثاني : أنّ إتلافه ليس بقبض ، فلا يكون قابضا بشيء من العبد ، ويضمن بأرشها المقدّر ، وهو نصف القيمة ، كالأجنبي (٣).
ولو تعيّب بفعل أجنبيّ ، تخيّر المشتري بين الفسخ ، ويتبع البائع الجاني ، والإمضاء بجميع الثمن ، ويغرم الجاني.
قال بعض الشافعيّة : إنّما يغرم إذا قبض العبد لا قبله ، لجواز انفساخ البيع بموت العبد في يد البائع (٤).
ثمّ الغرامة الواجبة على الأجنبي نصف القيمة أو ما نقص من القيمة بالقطع؟ قولان للشافعيّة ، أصحّهما : الأوّل (٥).
ولو تعيّب بفعل البائع ، احتمل جعل جنايته كالأجنبي ، فيتخيّر المشتري بين الفسخ والرجوع عليه بالأرش. وكالسماويّة ـ وهو الأشهر من وجهي الشافعيّة (٦) ـ فيتخيّر بين الفسخ والإمضاء مجّانا.
__________________
(١) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : بمثل تلك نسبة التفاوت. والصحيح ما أثبتناه.
(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٤ ـ ١٦٥.
(٤) القائل هو الماوردي في الحاوي الكبير ٥ : ٢٢٥ ، وكما في العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٩٢ ، وروضة الطالبين ٣ : ١٦٥.
(٥ و ٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٥.
فروع :
أ ـ احتراق سقف الدار أو تلف بعض الأبنية كتلف عبد من عبدين ، لأنّه يمكن إفراده بالبيع بتقدير الاتّصال والانفصال ، بخلاف يد العبد ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة. والآخر : أنّه كسقوط يد العبد (١).
ب ـ النقص ينقسم إلى فوات صفة ، وهو العيب ، وإلى فوات جزء ، وينقسم إلى ما لا ينفرد بالقيمة والماليّة ، كيد العبد ، وهو في معنى الوصف ، وإلى ما ينفرد ، كأحد العبدين.
ج ـ المبيع بصفة أو رؤية متقدّمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع ـ وبه قال أصحاب أحمد (٢) ـ وإن لم يكن مكيلا أو موزونا ، لتعلّق حقّ التوفية به ، فجرى مجرى الكيل.
وقال أحمد : لو اشترى من رجل عبدا بعينه فمات في يد البائع ، فهو من مال المشتري ، إلاّ أن يطلبه فيمنعه البائع. ولو حبسه عليه ببقيّة الثمن ، فهو غاصب ، ولا يكون رهنا إلاّ أن يكون قد اشترط في نفس البيع الرهن (٣).
المطلب الثاني : في التصرّفات.
مسألة ٦٦ : لعلمائنا في بيع ما لم يقبض أقوال أربعة :
الجواز على كراهيّة مطلقا ـ وبه قال البتّي (٤) خاصّة ـ للأصل الدالّ
__________________
(١) الوجيز ١ : ١٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٦.
(٢) المغني ٤ : ٢٣٨ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٥.
(٣) المغني ٤ : ٢٣٨.
(٤) المغني ٤ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٥ ، وانظر : بداية المجتهد ٢ : ١٤٤.
على إباحة أنواع التصرّف في الملك ، وقد صار ملكا له بالعقد.
وقول الباقر أو الصادق عليهماالسلام في رجل اشترى الثمرة ثمّ يبيعها قبل أن يقبضها ، قال : « لا بأس » (١).
وقول الصادق عليهالسلام في الرجل يشتري الطعام ثمّ يبيعه قبل أن يقبضه ، قال : « لا بأس ، ويوكّل الرجل المشتري منه بكيله وقبضه » (٢).
والمنع مطلقا ـ وبه قال الشافعي وأحمد في رواية ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، وبه قال محمّد بن الحسن (٣) ـ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى أن تباع السّلع حيث تبتاع حتى يحوزها (٤) التجّار إلى رحالهم (٥).
ولأنّ الملك قبل القبض ضعيف ، لأنّه ينفسخ البيع لو تلف ، فلا يفيد ولاية التصرّف.
ولأنّ المبيع قبل القبض مضمون على البائع للمشتري ، فلو نفّذنا بيعه للمشتري ، لصار مضمونا للمشتري ، ولا يتوالى ضمانا عقدين من شيء واحد.
والمنع في المكيل والموزون مطلقا ، والجواز في غيرهما ـ وبه قال أحمد في رواية ، وإسحاق ، وهو مرويّ عن عثمان وسعيد بن المسيّب
__________________
(١) التهذيب ٧ : ٨٩ ، ٣٧٧.
(٢) الكافي ٥ : ١٧٩ ، ٣ ، التهذيب ٧ : ٣٦ ، ١٥١.
(٣) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٦٩ ، المجموع ٩ : ٢٦٤ و ٢٧٠ ، روضة الطالبين ٣ : ١٦٦ ، منهاج الطالبين : ١٠٣ ، الوجيز ١ : ١٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٢٩٣ ، الحاوي الكبير ٥ : ٢٢٠ ، حلية العلماء ٤ : ٧٧ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٨ ، المغني ٤ : ٢٣٩ ، الشرح الكبير ٤ : ١٢٧ ، بداية المجتهد ٢ : ١٤٤.
(٤) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : يحرزها. وما أثبتناه من المصادر.
(٥) سنن أبي داود ٣ : ٢٨٢ ، ٣٤٩٩ ، سنن الدار قطني ٣ : ١٣ ، ٣٦ ، سنن البيهقي ٥ : ٣١٤.