«جُعِلَتْ الخَبَائِثُ في بَيتٍ وَجُعِلَ مِفتَاحُها الكِذْبُ» (١).
ونختم هذا الموضوع ، بحديثٍ عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، حيث جاء رجل إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال له : يا رسول الله إنّي إرتكبت في السّر أربع ذنوبٍ ، الزّنا وشرب الخمر والسّرقة والكذب ، فأَيّتَهُنَّ شِئتَ تَركتُها لك ، (لم يكن يريد أن يقلع عنها أجمع ، وإكراماً للرّسول ؛ يريد أن يقلع عن واحدةٍ فقط؟!.
فقال له الرسول صلىاللهعليهوآله : «دَع الكَذِبَ».
فذهب الرجل ، وكلما أراد أن يهمّ بالخطيئة ، يتذكر عهده مع الرسول صلىاللهعليهوآله ، ويقول ربّما سألني ، وعليّ أن أكون صادقاً في الجواب ، فيجري عليّ الحدّ ، وإن كذبت فقد نقضت العهد مع الرسول صلىاللهعليهوآله ، ممّا إضطّره أخيراً لتركها أجمع.
فرجع ذلك الرجل للرسول صلىاللهعليهوآله ، وقال له :
«قَدْ أَخَذتَ عَليَّ السَّبِيلَ كُلَّهُ فَقَد تَركتُهُنَّ أجمع» (٢).
ونستنتج ممّا ذُكر آنفاً : أنّه في كثيرٍ من الموارد ، ولأجل تربية وتهذيب النّفوس والأخلاق ، أو لإصلاح بعضها ، يجب أن نبدأ من الجُذور ، وكذلك الإستعانة بالمقارنات والأخلاق الاخرى المتعلقة بها.
__________________
١ ـ بحارالأنوار ؛ ج ٦٩ ، ص ٢٦٣.
٢ ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ؛ ج ٦ ، ص ٣٥٧.
٨
من أين نبدأ؟
تعرفنا على كلّيات علم الأخلاق ، ونتائجه وآثاره ومقاصده وفُروعه ، والآن آن الأوان ، وبما لدينا من المعلومات والمعارف الكلّية ، البِدء في طريق تهذيب النّفس ، أو الإنتقال من المسائل الذهنيّة إلى ميدان الممارسة والتّطبيق ، ومن الكلّيات إلى الجزئيات.
ويجب التّوقف هنا ، لتهيئة لوازم سفرنا الروحاني ، حتى لا نصاب في سلوكنا لذلك الطّريقُ بالحيرة والضّلالة وعدم التّنظيم والتّنظير ، وعليه فلا بدّ من الإلتفات إلى امور :
١ ـ ثلاثة رُؤى في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة.
٢ ـ هل يحتاج الإنسان في كل مرحلة إلى استاذٍ ومرشدٍ؟
٣ ـ دور الواعظ الخارجي والواعظ الداخلي.
٤ ـ الامور التي تُساعد الإنسان في عملية الوصول إلى هذا الهدف ؛ مثل ذكر الله والعبادة والأدعية ، الزّيارات ، النصائح المتكررة ، التلقين.
٥ ـ طهارة المحيط.
ثلاث نظريّات في كيفيّة التعامل مع المسائل الأخلاقيّة :
النظريّة الأولى :
رأيٌ يقول : إنّ تهذيب النفس ، نوع من الجهاد ومحاربة أعداء الداخل ، الّذين يتحرّكون
لإيقاع الإنسان في مستنقع الرّذيلة ، وشراك الخطيئة.
هذا الرأي مقتبسٌ في الأصل ، من حديث الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، المعروف ، عند ما خاطب الرسول صلىاللهعليهوآله ، قومٌ من المجاهدين ، رجعوا لتوّهم من الغزو فقال :
«مَرحَباً بِقَومٍ قَضَوا الجِهادَ الأَصغَرَ وَبَقيَ عَلَيهِم الجِهادُ الأَكبَرُ ، فَقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ ، ما الجِهادُ الأكبرُ ، قالَ : جِهادُ النَّفسِ» (١).
وجاء في البحار في ذيل هذا الحديث : ثُمّ قَالَ صلىاللهعليهوآله :
«أَفضَلُ الجِهادِ مَنْ جاهدَ نَفْسَهُ الَّتي بَينَ جَنْبَيهِ» (٢).
هذا وقد فُسّرت بعض الآيات التي وردت في دائرة الجهاد ، بالجهاد الأكبر ، إمّا لأنّها تخصّ الجهاد مع النفس ، أو لمدلولها العام في حركة السياق القرآني ، الذي يتناول القِسمين للجهاد.
وجاء في تفسير القمي ، في ذيل الآية (٦) من سورة العنكبوت : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ، قَالَ عليهالسلام : «ومن جاهد نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَواتِ وَاللَّذَّاتِ وَالمَعاصِي» (٣).
ويمكن أن نستوحي هذا المعنى من هذه الآية ، من حيث إنّ فائدة الجهاد تعود على الإنسان نفسه ، ويتّضح ويتجلّى أكثر في الجهاد مع النفس ، وخصوصاً أنّ الآية التي جاءت قبلها ، تكلّمت عن لقاء الله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ...) ، ونعلم أنّ لقاء الله ، والشهود والقرب منه ، هو الهدف الأصلي للجهاد مع النفس.
وكذلك جاء في آخر آيةٍ من سورة العنكبوت : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
وهذه الآية أيضاً ناظرةٌ حسب الظاهر إلى الجهاد الأكبر ، وذلك لقرينة : (فينا) ، وجملة : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، أو تتضمن مفهوماً عاماً يستوعب كلا النَّحوين من الجهاد.
وجاء أيضاً في الآية (٧٨) من سورة الحج : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما
__________________
١ ـ وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ١٢٢ (باب ١ ، جهاد النفس).
٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٥.
٣ ـ تفسير القمي ، ج ٢ ، ص ١٤٨ ؛ بحار الانوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٥.
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
فقد فسّر أغلب المفسّرين كلمة الجهاد بمعناها ومفهومها العام ، الذي يشمل الجهاد الأصغر والأكبر ، أو بخصوص معنى الجهاد الأكبر ، وكما قال المرحوم العلّامة الطّبرسي في كتابه مجمع البيان ، أنّ أكثر المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من حقّ الجهاد ، هو إخلاص النيّة والأعمال والطّاعات لله تعالى (١).
وقد ذكر العلّامة المجلسي رحمهالله هذه الآية ، في زمرة الآيات النّاظرة للجهاد الأكبر (٢) كذلك.
وجاء في الحديث المعروف عن أبي ذرّ رحمهالله أنّه قال : قُلتُ يا رسُولَ اللهِ أَيُّ الجِهادِ أَفضَلُ؟
فَقالَ صلىاللهعليهوآله : «أَنْ يُجاهِدَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ وَهَواهُ» (٣).
وكما ورد في حديث : جنود العقل وجنود الجهل ، هذا المعنى أيضاً ، إذ يُشبّه حياة الإنسان بساحةِ حربٍ ، العقلُ جنوده في جهةٍ ، والجهلُ وهوى النّفس وجنودهما في الجهة المقابلة ، فهذان المعسكران ، يعيشان دائماً في حالة حربِ سِجالٍ ، ومن خلال هذا النّزاع ، ومعطيات حالات الصّراع في أعماق النّفس ، تتولد الكمالات المعنويّة للإنسان ، وذلك عند ما ينتصر العقل وجنوده ، والنّصر الآني ، هو السّبب في التّقدم النّسبي للكمالات الإنسانيّة.
النظريّة الثّانية : نظريّة الطّب الرّوحاني
فقد ذهبوا إلى أنّ الرّوح كجسم الإنسان ، تُصاب بأنواع الأمراض ، ولأجل الشّفاء يتوجب اللّجوء إلى أطبّاء النّفس والرّوح ، والاستعانة بأدوية الأخلاق الخاصّة ، حتى تبقى الرّوح سالمةً ونشطةً وفعّالةً.
والجدير بالذكر ، أنّ القرآن الكريم أشار إلى الأمراض الأخلاقية والروحية ، في إثنى عشر موضعاً ، وعبّر عَنها بالمرض (٤) ، ومنها الآية (١٠) من سورة البقرة ، إعتبرت النِّفاق من
__________________
١ ـ مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٩٧.
٢ ـ بحار الأنوار ، ج ٦٧ ، ص ٦٣.
٣ ـ ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ١٤١.
٤ ـ سورة البقرة ، الآية ١٠ ؛ سورة المائدة ، الآية ٥٢ ؛ سورة الأنفال ، الآية ٤٩ ؛ سورة التوبة ، الآية ١٢٥ ؛ سورة الحج ، الآية ٥٣ ؛ سورة النور ، الآية ٥٠ ؛ سورة الأحزاب ، الآية ١٢ و ٣٢ و ٦٠ ؛ سورة محمد ، الآية ٢٠ و ٢٩ ؛ سورة المدثر ، الآية ٣١.
زمرة الأمراض الروحية ، فقالت : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ؛ بسبب إصرارهم على النّفاق.
وفي الآية (٣٢) من سورة الأحزاب ، وصفت عبيد الشّهوة بمرضى القلوب ، الذين يتحيّنون الفرص لإصطياد النّساء العفيفات ، حيث خاطب الباري تعالى نساء النبي صلىاللهعليهوآله ، فقال : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ).
وجاء في الآيات الاخرى نفس هذا المعنى ، أو أوسع منه ، بحيث تناولت الآيات ، جميع الإنحرافات الأخلاقيّة والعقائديّة.
وفي معنى عميق آخر ، عبّر القرآن الكريم ، عن القلوب المليئة بنور المعرفة والأخلاق والتّقوى : بالقلوب السليمة. وجاء ذلك على لسان النّبي إبراهيم عليهالسلام ، حيث قال : (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(١).
«السّليم» من مادة «السّلامة» ، وتقع في مقابل الفساد والإنحراف والمرض ، و «القلب السّليم» كما جاء في الرّوايات عن المعصومين عليهمالسلام ، في تفسير هذه الآية ، أنّه القلب الذي خَلا من غير الله تعالى ، (منزّه من كلّ مرضٍ أخلاقي وروحي).
وقال القرآن الكريم في مكانٍ آخر : إنّ إبراهيم عليهالسلام عند ما طلب من الباري تعالى : القلب السّليم ، (كما أشارت الآيات الآنفة الذّكر) ، تحقّق له ما يُريد ، وشملته رحمة ولطف الله تعالى ، وأصبح ذا قلبٍ سليمٍ ، فنقرأ في الآيات (٨٣ و ٨٤) من سورة الصافات :
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ* إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).
نعم ، فإنّ إبراهيم عليهالسلام كان يتمنى أن يكون ذا قلبٍ سليمٍ ، وبالسّعي والإيثار ومحاربة الشرك ، وهو النفس من موقع عبادة الله ، إستطاع أن يصل بالنّهاية إلى ذلك المقام.
ونجد في الأحاديث الإسلامية ، إشاراتٌ كثيرةٌ حول هذا الموضوع ، ومنها :
__________________
١ ـ سورة الشعراء ، الآية ٨٧ الى ٨٩.
١ ـ يصف الإمام علي عليهالسلام ، الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله في نهج البلاغة ، فيقول : «طَبِيبٌ دَوّارٌ بِطِبّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَراهِمَهُ وَأَحمَى مَواسِمَهُ يَضَعُ ذِلِكَ حَيثُ الحاجة إِلَيهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمى وآذانٍ صُمٍّ وَأَلسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدوَائِهِ مَواضِعَ الغَفلَةِ وَمَواطِنَ الحَيرَةِ» (١).
٢ ـ ورد في تفسير القلب السّليم ، الذي ذُكر في الايتين الشّريفتين أعلاه ، رواياتٌ كثيرةٌ ، فنقرأ أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ، سئل : ما القَلبُ السّلِيم.
فقال صلىاللهعليهوآله : «دِينٌ بِلا شَكٍّ وَهُوىً ، وَعَمَلٌ بِلا سُمْعَةٍ وَرِياءٍ» (٢).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليهالسلام : «لا عِلْمَ كَطَلَبِ السَّلامَةِ ، ولا سَلامَةَ كَسَلامَةِ القَلبِ» (٣).
وجاء في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين عليهالسلام : «إِذا أَحَبَّ اللهُ عَبداً رَزَقَهُ قَلبَاً سَلِيماً وَخُلْقاً قَويمَاً» (٤).
٣ ـ وقد ورد التعبير عن الأخلاق الرّذيلة ، في الروايات بأمراض القلب.
فورد في حديث عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، أنّه قال :
«إِيّاكُم وَالمراءَ وَالخُصُومَةَ فإنّهما يُمرِضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ ، وَيَنْبُتُ عَلَيهما النِّفاقَ» (٥).
وجاء أيضاً عن الإمام الصّادق عليهالسلام أنّه قال :
«ما مِنْ شَيءٍ أَفْسَدَ لِلقَلبِ مِنْ خَطِيئَتِهِ» (٦).
٤ ـ ونقرأ عن الإمام علي عليهالسلام أيضاً :
«أَلا وَمِنَ البَلاءِ الفاقَةُ ، وَأَشَدُّ مِنَ الفاقَةِ مَرَضُ البَدَنِ ، وَأَشَدُّ مِنْ مَرَضِ البَدنِ مَرَضُ القَلبِ». (٧)
__________________
١ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٨.
٢ ـ مستدرك الوسائل ، ج ١ ، ص ١٠٣ (الطبعة الجديدة).
٣ ـ بحارالأنوار ، ج ٧٥ ، ص ١٦٤.
٤ ـ غُرر الحِكم ، ج ٣ ، ص ١٦٧ ، (طبعة جامعة طهران).
٥ ـ بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٣٩٩.
٦ ـ المصدر السابق ، ص ٣١٢.
٧ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، كلمة ٣٨٨.
٥ ـ وجاء أيضاً عن الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، في معرض حديثه عن الحسد ، وأنّه كان ولا يزال على طول التأريخ مرضٌ نفسي عضال ، فقال :
«أَلا إنَّهُ قَدْ دَبَّ إِلَيكُم داءُ الامَمِّ مِنْ قَبلِكُم وَهُوَ الحَسَدُ ، لَيسَ بِحالِقِ الشَّعْرِ ، لَكِنَّهُ حالِقُ الدِّينِ ، ويُنجِي فِيهِ أَنْ يَكُفَّ الإِنسانُ يَدَهُ وَيَحْزُنَ لِسانَهُ وَلا يَكُونَ ذا غَمزٍ عَلَى أَخِيهِ المُؤمِنُ» (١).
٦ ـ وقد ورد في التّعبير عن الرذائل الأخلاقيّة ، في كثيرٍ من الرّوايات ب : «الدّاء» ومفهومها المرض ، وجاء مثلاً في الخطبة (١٧٦) من نهج البلاغة ، حيث يصف الإمام عليهالسلام فيها القرآن الكريم :
«فَإسْتَشفُوهُ مِنْ أَدواءِكُم ... فَإِنَّ فِيهِ شِفاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ وَهُوَ الكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالغيُّ والضَّلالُ».
ونرى أيضاً هذا التعبير في روايات كثيرة اخرى.
وخلاصة القول ، إنّ الفضائل والرّذائل ، وطبقاً لهذه النظرية والرؤية ، علامةٌ لسلامة ومرض الرّوح عند الإنسان ، والأنبياء عليهمالسلام والأئمّة المعصومين عليهمالسلام ، كانوا معلمي أخلاق ، وأطباء نفسيين ، وتعاليمهم تجسّد في مضمونها الدّواء النّافع والعلاج الشافي.
وعلى هذا ، فكما هو الحال في الطّب المادي ، ولأجل الوصول إلى الشّفاء الكامل ، يحتاج المريض إلى الدواء ، ويحتاج إلى الحُمية من بعض الأكلات ، فكذلك في الطّب النّفسي والرّوحي الأخلاقي ، يحتاج إلى الإمتناع عن أصدقاء السّوء ، والمحيط الملّوث بالمفساد الأخلاقيّة ، وكذلك الإمتناع عن كلّ ما يَساعد على تفّشي الفساد ، في واقع الإنسان النفسي ، ومحتواه الداخلي.
فالطّب المادي جعل العمليّة الجراحيّة كعلاجٍ لبعض الحالات ، وكذلك جعل الطّب
__________________
١ ـ ميزان الحكمة ، ج ١ ، ص ٦٣٠.
الرّوحي الحدود والتّعزيرات والعُقوبات كوسيلةٍ ، ودواءٍ رادعٍ ، عن الأعمال المنافيَة للأخلاق ، وهي بِمنزلة إجراء العمليّة الجراحيّة في الطّب المادي.
وكما نرى في الطّب المادي ، أنّه جعل العلاج في مرحلتين ، مرحلة الوقاية : وهي المحافظة على الصّحة البدنيّة ، والثّانية : مرحلة العلاج للمريض ، فكذلك في الطّب الرّوحي والأخلاقي ، يمرّ بمرحلتين : مرحلة الإرشاد والتعليم من قبل معلمي الأخلاق ، للمحافظة على نفوس الناس من التلّوث بالرذائل ، والثّانية : مرحلة العلاج للمذنبين الملوّثين بالرّذائل.
وما جاء في الخطبة (١٠٨) من نهج البلاغة ، في وصف الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، ومعالجاته بالمراهم والكيّ للجروح ، يبيّن مدى التّنوع في الطّب الرّوحي ، كما هو الحال في الطّب المادي.
ففي الطّب المادي (الجسماني) ، توجد مجموعة إرشاداتٍ وأوامر كليّة لعلاج الأمراض ، وقسمٌ من الأوامر التي تخص كلّ مرض بذاته ، فكذلك الطّب الرّوحي ، فالتّوبة وذكر الله والعبادات الاخرى ، والمحاسبة والمراقبة للنفس ، هي اصولٌ كليّةٌ للعلاج ، وكلّ مرضٍ أخلاقي ، نجد الأوامر والإرشادات الخاصة به ، مذكورةٌ في الكتب الإسلاميّة والأخلاقيّة.
النظريّة الثالثة : نظريّة السّير والسّلوك
وقد شبّه الإنسان في هذه النظريّة ، بمسافر إنطلق من نقطةِ العدم ، إلى لقاء الله تعالى ، ويتحرك في سلوكه بهدف لقاء الله ، والقرب من الذّات المقدّسة اللّامتناهية.
ففي هذا السّفر ، وكما هو الحال بالنسبة لأسفارنا الماديّة ، يجب تحضير المركب والمتاع ، وإزالة الموانع التي تقف في الطّريق ، والتّفكير في كيفية التّصدي للّصوص وقطاع الطّريق والأعداء ، للمحافظة على المال والأرواح ، فهذا السّفر الرّوحاني والمعنوي ، فيه منازل وطرق ملتوية وصعبة العبور ، ومطبّاتٌ خطرةٌ ، ولا يمكن العبور منه بسلامة ، إلّا بمعونة الدليل المطّلع والعارف بالطّريق ، والعُبور منها واحداً بعد واحدٍ حتّى الوصول إلى محطّ الرّحال ومنزل المقصود.
ويصرّ البعض أنّ السّير والسّلوك إلى الله تعالى ، ومعرفته ومنازله ، وزاده وأدلّائه ، و
الطّريق الموصل إليه ، هو علمٌ غير علم الأخلاق ، ومنفصلٌ عنه ، ولكن وبنظرةٍ أوسع ، نرى أنّ السير والسّلوك الرّوحي ، يلتقي في نفس الطّريق التي تهدف إليه التربية الأخلاقية ، وتحصيل الفضائل في خط التّكامل المعنوي ، أو على الأقل أنّ الأخلاق الإلهيّة هي أحد أبعاد السّير والسّلوك الرّوحاني.
وعلى أيّة حال ، فإنّ الآيات والروايات ، أشارت إلى هذه النّظرية أيضاً ، ومنها : الآية (١٥٦) من سورة البقرة ، حيث تقول : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).
فمن جهةٍ ، يرى الإنسان نفسه أنّه مُلكٌ لله تعالى ، ومن جهةٍ اخرى ، يرى نفسه أنّه مُسافر ، ويتحرّك بإتّجاه الله تعالى شأنه.
ونقرأ أيضاً في سورة العَلق : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)(١).
وجاء في سورة الإنشقاق : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)(٢).
وجاء في سورة الرّعد : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ... يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)(٣).
ويوجد أكثر من (٢٠ آية) ، تحدثت عن أن لقاء الله تعالى ، في الواقع هو مقصود السّالكين إلى الله والعارفين به ، ويعني اللّقاء المعنوي والرّوحي مع المحبوب ، والمقصود الذي لا مثيل له.
وصحيحٌ أنّ هذه الآيات ، وآياتُ الرّجوع إلى الله تعالى ، تستوعب جميع هذه المعاني ، ولكن هذا لا يمنع من أنّ سير وسلوك المؤمن والكافر ، من ناحية الفِطرة والخلقة ، هو بإتّجاه الباري تعالى ، فبعضٌ ينحرف عن طريق الفطرة ، فيسقط في وادٍ سحيقٍ ، ولكن أولياء الله ومع إختلافهم بالمراتب ، يصلون إلى المقصود ، مثل الحيامن التي تسير جميعاً في عالم الرّحم لِتكوين الجَنين ، فبعضها تموت في المراحل الأولى بسبب بعض الآفات ، وتتوقف عن الحركة ، وبعضها يستمر في طريقه ، ليصل أحدها إلى الهدف.
وأفضل وأوضح من هذه التّعابير ، هو تعبير القرآن الكريم ، حيث يقول : «(فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
__________________
١ ـ سورة العلق ، الآية ٨.
٢ ـ سورة الإنشقاق ، الآية ٦.
٣ ـ سورة الرّعد ، الآية ٢.
التَّقْوى) ، (وعادةً كلمة : الزّاد ، تقال للطعام الذي يحمله المسافر معه ، ولكنّها في الأصل موضوعةٌ لمعنى أشمل : بحيث تشمل كلَّ ذخيرةٍ).
وعلى هذا الأساس يقول : إنّ التّقوى هي خيرُ الزّاد ، وهي إشارةٌ إلى سير الإنسان في طريق التّوحيد الخالص ، وعلى كلّ حال فإنّ هذا السّفر الرّوحاني يحتاج إلى زادٍ ، وزاده لا بدّ وأن يكون معنوياً أيضاً.
ونرى مثل هذا التعبير ، واردٌ بكثرةٍ في الرّوايات الإسلاميّة.
وفي موارد متعدّدةٍ من نهج البلاغة ، أتى ذكر التّزود للآخرة :
ففي الخطبة (١٥٧) يقول الإمام عليهالسلام : «فَتَزَوَّدوا فِي أَيّامِ الفَناءِ لأَيَّامِ البَقَاءِ».
وفي الخطبة (١٣٢) نرى تعبيراً أوضح ، فيقول عليهالسلام :
«إِنّ الدُّنيا لَمْ تُخْلَقُ لَكُم دارَ مُقامٍ ، بَل خُلِقَتْ لَكُم مَجازاً لِتَزَوَّدُوا مِنها الأَعمَالَ إِلَى دارِ القَرارِ».
وجاء في الخطبة (١٣٣) ، تعبير ألطَف وأدَق ، فقال عليهالسلام :
«وَالبَصِيرُ مِنها مُتَزَوُّدُ والأَعمى لَها مُتَزَوُّدُ».
وهناك آيات في القرآن الكريم ، يمكن أن تحمل في مضمونها إشاراتٌ لهذه النظريّة ، ومنها :
(صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(١) ، و (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)(٢) ، و (سَبِيلِ اللهِ) ، موجودةٌ في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم ، و (لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ)(٣) ، وأمثالها يمكن الإشارة بها إلى هذه النظرية.
__________________
١ ـ سورة إبراهيم ، الآية ١.
٢ ـ فاتحة الكتاب ، الآية ٦.
٣ ـ سورة الأنفال ، الآية ٣٦.
٩
تنوع الطّرق لأرباب السّير والسّلوك
من الجدير بالذكر ، أنّ أرباب السّير والسّلوك ، والعلماء الذين سلكوا هذا الطريق ، واتخذوا من القرآن الكريم والسّنة الشّريفة دليلاً لهم ، (لا الصّوفيين الذين تأثروا بالمذاهب غير الإسلاميّة الأجنبيّة) ، فكلّ واحد من اولئك الأفاضل إقَتَرح طريقةً تختص به ، أو بتعبيرٍ أدق ، إتّخذوا منازل ومراحل ، سنأتي بها بصورةٍ ملخّصة ، حتّى يكتمل البحث ، ويكون أكثر فائدة :
١ ـ السّير والسّلوك المنسوب : «للسيد بحر العلوم»
هناك كتاب منسوب للعلّامة الفقيه العالم : «السيد بحر العلوم» ، ورغم أنّ بعض أبحاثه لا يمكن القول بصدورها منه ، إلّا أنّ بعض أقسامه والحقّ يقال ، في غاية الأهميّة ، فقد ذكر السّيد في هذا الكتاب أربعة عوالم ومنازل ، مهمّة للسّير والسّلوك إلى الله تعالى ، والقرب منه ، وهي :
١ ـ الإسلام.
٢ ـ الإيمان.
٣ ـ الهجرة.
٤ ـ الجهاد.
وكلّ واحد من هذه العوالم الأربعة ، ذكر له ثلاث مراحل ، فيصبح المجموع إثني عشرةَ مرحلةً ، وبعد تجاوز هذه المراحل الإثني عشر ، يصل السّالك إلى الله ، وإلى عالم الخُلوص والفناء ، والمراحل أو المنازل الإثني عشر هي :
المنزل الأول : الإسلام الأصغر ، والقصد منه هو إظهار الشّهادتين والتّصديق بهما في الظّاهر ، وأداء الوظائف الدينيّة.
المنزل الثاني : الإيمان الأصغر ، وهو عبارة عن التّصديق القلبي والاعتقاد الباطني بكل المعارف الإسلاميّة.
المنزل الثالث : الإسلام الأكبر ، وهو عبارةٌ عن التّسليم في مقابل كلّ حقائق الإسلام ، والأوامر والنّواهي الإلهيّة.
المنزل الرابع : الإيمان الأكبر ، وهو عبارةٌ عن روح ومعنى الإسلام الأكبر ، والّذي ينتقل من مرتبة الطاعة ، إلى مرتبة الشّوق والرّضا والرّغبة.
المنزل الخامس : الهجرة الصّغرى ، وهي الإنتقال من «دار الكفر» ، إلى «دار الإسلام» ، وهي شبيهةٌ بهجرة المسلمين ، من مكّة التي كانت مقرّ للكفار إلى المدينة.
المنزل السّادس : الهجرة الكبرى ، وهي الهجرة والابتعاد عن أهل الذنوب والعصيان ، وعدم الجلوس مع الظّالمين والملّوثين.
المنزل السابع : الجهاد الأكبر ، وهو عبارةٌ عن محاربة جنود الشّيطان ، بالإستمداد من جنود الرّحمان ، وهي جنود العقل.
المنزل الثامن : منزل الفتح والظّفر على جنود الشيطان ، والتّحرر من سلطتهم ، والخروج من عالم الجهل والطّبيعة.
المنزل التاسع : الإسلام الأعظم ، وهو عبارةٌ عن الغلبة على جنود الشّهوة والآمال البعيدة ، فتنتصر العوامل الموقظة الخارجية ، على العوامل الإنحرافيّة الداخليّة ، وهنا يكون القلب ، مركزاً للأنوار الإلهيّة ، والإضافات الرّبانيّة.
المنزل العاشر : الإيمان الأعظم ، وهو الفناء في الله تعالى ، ومرحلة الدّخول في عالم :
(فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ، وعندها تظهر حقيقة العبوديّة لله تعالى في واقع النّفس.
المنزل الحادي عشر : الهجرة العظمى ، وهي هجرة الذّات ونسيانها ، والسّفر إلى عالم الوجود المطلق ، والتّوجه الكامل للذّات المقدّسة للباري تعالى ، وهي الّتي تدخل في جملة خطاب : (وَادْخُلِي جَنَّتِي).
المنزل الثّاني عشر : الجهاد الأعظم ، فبعد هجرة الذّات ، يتوسل بالله تعالى أن يمحو كلّ آثار الأنا ، ويضع القدم على بساط التّوحيد المطلق.
فبعد أن تُطوى هذه العوالم الإثنا عشر ، يدخل في عالم الخُلوص ، ويكون مصداقاً لقوله تعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ). (١)
كيفية السّير والسّلوك في هذه الطريقة :
في رسالة السّير والسّلوك المنسوبة للعلّامة بحر العُلوم ، وبعد ذكره للعوالم والمنازل المذكورة آنفاً ، يتطرق إلى كيفية السّير في هذا الطريق الصعب ، والملىء بالمفاخر ، ويذكر (٢٥) أمراً للوصول إلى المقاصد العليا ، ونذكرها بشكل مختصر :
فالسّالك إلى الله تعالى ، والمريد للقرب منه ، لأجل الوصول إلى هذه العوالم ، وبعد إطّلاعه الكامل على اصول الدين وفروعه ، وأحكامه الإسلامية من الطُرق المعتبرة ، يشدُّ الرحال ويأخذ طريقه في عملية السّلوك ، من خلال الإلتزام بالمراحل ال (٢٥) ، ليصل إلى المقصود :
أولاً : ترك الآداب والرّسوم والعادات التي تقف عقبةً في الطريق ، وتغرقه في بحر الآثام.
ثانياً : العزم القاطع للسّير في هذا الطّريق ، فلا يخاف شيئاً ، ولا يتردّد ، وليعتمد على لُطف الله تعالى.
ثالثاً : الرّفق ومُداراة النّفس ، فلا يحمّلها أكثر من طاقتها ، كي لا تنفر ولا تنطفيء جذوتها ،
__________________
١ ـ للإطّلاع ، يرجى مراجعة : رسالة السّير والسّلوك للمرحوم السيّد بحر العلوم قدسسره ، وفيه تفاوت وإختلاف بينه وبين رسالة العلّامة الطباطبائي ، لبّ اللّباب ، وهنا في الواقع تلفيق من الإثنين.
ولئلّا تنقطع عن المسير.
رابعاً : الوفاء ، وهو الوفاء بالبقاء على العهد في التّوبة ، وتركه للذّنوب وَعدم العودة إليها ، وليكون وفيّاً مع استاذه أيضاً.
خامساً : الثّبات والدّوام ، يعني الدّوام على ما إختاره من برامج لنفسه ، حتى تُصبح عادةً عنده ، وليغلق طريق العودة على نفسه.
سادساً : المُراقبة ، وهي عبارة عن الإنتباه لنفسه في كل الامور والأحوال ، ولِئلا تصدر منه المخالفة.
سابعاً : المحاسبة ، كما جاء في حديث : «لَيسَ مِنّا مَنْ لَم يُحاسِبْ نَفسَهُ كُلَّ يَوم» (١).
ثامناً : المؤآخذة ، حيث يوآخذ نفسه في كلّ خطأ يصدر منه ويعاقبها.
تاسعاً : المسارعة ، يعني يعمل بمقتضى أمر : (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(٢) ، الوارد في القرآن الكريم ، فيُسارع في كلّ خير ، لئلّا يسبقه الشّيطان ويوسوس له في تركه.
عاشراً : خُلوص الباطن ، وهو تطهير الباطن ، بحيث لا يكون أدنى غش في قلبه ، والحب التام لرسول الله صلىاللهعليهوآله صاحب الشّريعة ، والأوصياء المعصومين عليهمالسلام.
الحادي عشر : الأدب ، حفظ حُرمة الرّسول الأكرم صلىاللهعليهوآله ، وأوصياءه المعصومين عليهمالسلام ، بحيث لا يلفظ بلفظ يدل على عدم الرّضا منهم ، والإعتراض عليهم عليهمالسلام ، وحفظ حرمة الأكابر ، ولبيان حاجته في الدّعاء لا يستعمل ألفاظاً تدل على الأمر والنّهي.
الثاني عشر : النيّة ، وتعني إخلاص القصد في هذا المسير والحركة ، وجميع الأعمال لله تعالى.
الثالث عشر : الصّمت ، ويعني الإكتفاء بالمقدار اللّازم من الكلام.
الرابع عشر : الجوع وقلّة الأكل ، وهو من الشّروط المهمّة لسلوك هذا الطريق ، ولكن ليس للحدّ الذي يبعث على الضّعف وعدم القدرة.
__________________
١ ـ إرشاد القلوب للديلمي ، باب ٣٩.
٢ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٣٣.
الخامس عشر : الخلوة ، وهي عبارةٌ عن العزلة عن أهل العصيان ، وطلّاب الدنيا وأصحاب العقول الناقصة ، والتّوجه الخالص لله عند العبادة والذّكر ، والإبتعاد عن الضّوضاء وعناصر التّشويش الذهني.
السادس عشر : السّهر ، وخصوصاً في الثّلث الأخير من الليل ، الذي أكدّت عليه الآيات والرّوايات.
السابع عشر : الدّوام على الطّهارة ، وهو أن يكون على وضوء دائماً ، حيث ينوّر الباطن بأنوارٍ خاصّةٍ.
الثامن عشر : التّضرع لله تعالى ، والتحرك على مستوى اظهار الخضوع له ، أكثر وأكثر.
التاسع عشر : عدم إعطاء النفس ما تريد وإن كان مُباحاً ، بالقدر الذي يستطيع.
العشرون : كتمان السّر ، وهو من أهم الشّروط ، وهو ما يؤكد عليه أساتذة هذا الأمر ، حتى لا يجرّ الإنسان للرياء والتّظاهر ، وإذا ما حصلت له المكاشفة ، يجب أن لا يخبر أحد لئلّا يُصاب بالعجب.
الواحد والعشرون : يجب الإلتزام في عمليّة السّلوك المعنوي باستاذ ، سواء كان الأستاذ عامّاً للسّير والسّلوك أو خاصّاً ، وهو رسول الله صلىاللهعليهوآله والأئمّة المعصومين عليهمالسلام.
ويجب على السّالك الإنتباه إلى أنّ هذه المرحلة ، هي مرحلةٌ دقيقةٌ جداً ، حتى لا يختبر أحداً ولا يطّلع على صلاحيّته العلميّة والدينية ، ولا يعمتد على إرشاداته بصورة كليّة ، لأنّه يوجد بعض الشياطين يتلبّسون بلباس الأساتذة ، وذئاب تلبس ثوب الرّاعي ، فتحرف السّالك عن الجادّة.
ويقول المرحوم العلّامة الطباطبائي في هذا المجال : إنّ الإطّلاع على العلوم والأسرار الغريبة ، وما وراء الطّبيعة وأسرار الإنسان ، والمشي على الماء والنار والإخبار بالمغيّبات ، كلّها لا تؤكد أنّ ذلك الإنسان قد وصل إلى مرحلة الكمال ، لأنّ كلّ تلك الامور تحصل في مرتبة المكاشفة الرّوحيّة ، والطّريق طويل حتّى الوصول إلى الكمال.
الثاني والعشرون : «الأوراد» ، وهي عبارةٌ عن الأذكار التي تفتح للسّالك الطّريق والمرور
من المطّبات الصّعبة ، وتعينه في المسير إلى الله تعالى.
الثالث والعشرون : نفي الخواطر ، وهو تسخير القلب ، والحكومة عليه والّتمركز الفكري ، بحيث لا يمر من خاطره شيء ، إلّا بإختياره وإذنه ، أو بتعبير آخر ، لا يشغل تفكيره الأفكار المُشوّشة ، وهو من الامور الصّعبة.
الرابع والعشرون : التّفكر ، والقصد منه أنّ السّالك يسعى من خلال التّفكير الصحيح ، والعميق ، في إكتساب المعرفة الحقّة ، ويحصر تفكيره في عالم الصّفات ، والأسماء الإلهيّة وتجلّياته وأفعاله.
الخامس والعشرون : الذِكّر ، والمراد منه التّوجه القلبي للذّات المقدّسة للباري تعالى ، وليس الذّكر اللّساني الذي يسمّى بالوِرد ، أو بعبارةٍ اخرى ، يكون كلّ نظره جمال الإله ، ولا يرى شيئاً غيره.
هذه هي خلاصة ، ما نسب للعلّامة بحر العلوم في دائرة السّير والسّلوك ، وتبعه في ذلك مع إختلاف يسيرٍ ، العلّامة الطّباطبائي ، وذلك كما جاء في رسالته «لبّ اللباب».
٢ ـ طريقة المرحوم الملكي التّبريزي
وهو المرحوم «الحاج ميرزا جواد الآقا تبريزي» ، وهو من الاساتذة المعروفين في السّير والسّلوك إلى الله ، وقد إنتهج في رسالته (لقاء الله) ، نهجاً يختلف عمّا جاء به في الرّسالة المنسوبة للعلّامّة بحر العلوم.
فهو يُذكر في البداية ، أنّ لقاء الله هو الغاية القصوى ، والهدف الأعلى ، للسّير والسّلوك ، ويستشهد لذلك بآياتٍ متعدّدةٍ من القرآن الكريم ، وكذلك بالروايات الكثيرة لُمدّعاه ، ويصرّح بأنّ لقاء الله تعالى ليس هو المشاهدة العينية ، لأنّ الباري تعالى منزّه عن الكيفيات التي توجب رؤيته بالبصر ، ولا هو لقاء النّعيم والثّواب في يوم القيامة ، بل هو نوع من «الشّهود» ، واللّقاء القلبي والروحي والمشاهدة بالبصيرة.
وبعدها يقترح برنامجاً للسّير في هذا الطريق الطويل ، والمحفوف بالمخاطر ، ويتلخص في عدّة امور :
١ ـ العزم والنيّة لسلوك هذا الطريق.
٢ ـ التّوبة النّصوح من الأعمال السّالفة ، وهي التّوبة التي تنفذ في أعماق الوجدان والوعي ، في واقع النفس ، وتعمل على تغييره ، وغسل آثار الذّنوب وأدران الخطايا من جسمه وروحه.
٣ ـ حمل الزّاد للطريق ، وذكرَ له عدّة برامج :
الف : صباحاً ، المشارطة : (يشرط على نفسه أن لا يمضي إلّا في طريق الحق) ، وفي النّهار المراقبة : (الإنتباه لئلّا يحيد عن الطريق) ، ومساءً المحاسبة : (لنفسه على ما فعله في النّهار).
ب ـ التّوجه للأوراد والأذكار ، ووظائف اليقظة والمنام.
ج ـ التّوجه لصلاة اللّيل ، والخَلوة بالله تعالى ، وإحياء الليل وترويض النفس في حالات النوم والأكل ، بحيث لا يتجاوز عن الحدّ الضروري.
٤ ـ الإستفادة من سوط السّلوك ، وهو عبارة عن مُؤاخذة النّفس وتوبيخها ، لتوجُّهِها للدنيا وتقصيرها في طلب الحق ، وعدم وفائها ، وإطاعة الشّيطان في معصية الله تعالى ، ويستغفر الله على كلّ ذلك ويعزم على السّعي في طريق الإخلاص والإيمان والصلاح.
٥ ـ عند التّحول ، وفي هذه المرحلة ، وقبل كلّ شيء ، يجب أن يفكّر في الموت ، ليميت حبّ الدنيا في قلبه ويصلح الصّفات القبيحة عنده ، وهو دواءٌ نافعٌ في هذا المجال ، (وبعدها يفكر في عظمة الله وأسماءه وصفاته ، ويذكر أولياء الحق ، وليسعى بأن يُشابِههم في صفاتهم).
٦ ـ عند القرب من منزل المقصود ، يشير إلى أنّ الإنسان لديه ثلاثة عوالم :
١ ـ عالم الحسّ والطّبيعة.
٢ ـ عالم الخيال والمثال.
٣ ـ عالم العقل والحقيقة.
فعالم الحسّ والطّبيعة كلّه ظلمات ، وإذا لم يعبره فلن يستطيع الوصول لعالم المثال ، وهو العالم الذي تكون فيه الحقائق لها صورٌ عاريةٌ عن المادّة.
وما دام يراوح في عالم المثال ، فلن يستطيع الوصول إلى عالم العقل ، الذي هو عالم الحقيقة والأصل للنفس الإنسانية ، الذي لا صورة ولا مادة فيه ، فإذا وصل لعالم العقل ، وأدرك نفسه خاليةٌ عن المادة والصّورة ، فسيصل إلى معرفة الباري تعالى ، ويكون مصداق لقوله : «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّهُ (١)» (٢).
٣ ـ طريقةٌ اخرَى
في رسالة «لقاء الله» للعالم والمحقق الكبير ، الآقا المصطفوي ، أشار إلى برنامج آخر للسّير والسّلوك ، في رسالته الجامعة والغنية ، والمعتمدة على الآيات والأخبار ، حيث أشار أولاً إلى الآيات المتعلّقة بلقاء الله ، وبعدها شرع في تفسير معنى اللّقاء ؛ أنّ المراد منه اللّقاء المعنوي والرّوحي ، وأضاف أنّ الإنسان ولأجل وصوله للقاء الله تعالى في هذا السير المعنوي ، عليه أن يكسر حدود المادة والمكان والزّمان ، وكذلك الحدود الذّاتية لكلّ المُمكنات ، ويفنى في عالم اللّاهوت ، ويكون المخاطب لقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣).
وأقترح خمسة مراحل للوصول إلى المقصود الأكبر :
المرحلة الاولى : التّحرك على مستوى تكميل وتقوية الإعتقادات ، والتّوجه الخاص لُاصول الدّين.
المرحلة الثانية : التّوبة من الذنوب ، والتّحرك من هذا الموقع للإتيان بالأعمال الصّالحة وأداء الواجبات.
المرحلة الثالثة : السّعي الجاد لتطهير النّفس من الرذائل ، وتحليتها بالفضائل الأخلاقية.
__________________
١ ـ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٣٢.
٢ ـ للتفصيل يرجى الرجوع إلى رسالة لقاء الله المرحوم التبريزي قدسسره.
٣ ـ سورة الفجر ، الآية ٢٧ إلى ٣٠.