أحكام القرآن - ج ٣

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٣

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٨

وله متعلقات أعظمها عقوبة الكذب على الله في ذاته ، أو صفاته أو أفعاله ، وهو الشّرك. ويلحق به الكذب على النبىّ صلى الله عليه وسلم ، لأنه على الله ، إذ بكلامه يتكلم.

المتعلق الثاني (١) ـ الشهادة ، وهو تصوير الباطل بصورة الحقّ في طريق الحكم ، ولهذا عظّم النبىّ صلى الله عليه وسلم أمرها ، فذكر الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وشهادة الزور ، ثم قال : وقول الزور ، ألا وقول الزور. فما زال يكرّرها حتى قلنا : ليته سكت.

ومن طريق آخر عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ، ثم قرأ : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).

ثم تتفاوت متعلقات الكذب بحسب عظم ضرره وقلّته.

الآية الثامنة ـ قوله تعالى (٢) : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (شَعائِرَ اللهِ) ، واحدها شعيرة ، ولم يختلفوا أنها المعالم. وحقيقتها أنها فعيلة ، من شعرت ، بمعنى مفعولة. وشعرت : دريت ، وتفطّنت ، وعلمت ، وتحققت ، كله بمعنى واحد في الأصل ، وتتباين المتعلقات في العرف ، هذا معناها لغة.

فأما المراد بها في الشرع ، وهي :

المسألة الثانية ـ ففي ذلك أربعة أقوال :

الأول ـ أنها عرفة ، والمزدلفة ، والصّفاء ، والمروة ، ومحل الشعائر إلى البيت العتيق ، قاله ابن القاسم ، عن مالك.

الثاني ـ أنها مناسك الحجّ ، وتعظيمه استيفاؤها.

الثالث ـ أنها البدن ، وتعظيمها استسمانها.

الرابع ـ أنه دين الله وكتبه ، وتعظيمها التزامها.

والصحيح أنها جميع مناسك الحج.

__________________

(١) عد قوله : أعظمها عقوبة ـ الأول ، ولهذا قال المتعلق الثاني.

(٢) آية ٣٢ ، ٣٣. (١٦ ـ أحكام ـ ٣)

٢٤١

المسألة الثالثة ـ قوله : (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).

يريد فإنّ حالة التعظيم إذا كست العبد باطنا وظاهرا فأصله تقاة القلب بصلاح السرّ وإخلاص النية ، وذلك لأنّ التعظيم فعل من أفعال القلب ، وهو الأصل لتعظيم الجوارح بالأفعال.

المسألة الرابعة ـ قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ).

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها التجارة ، ويكون الأجل على هذا القدرة على الحج.

الثاني ـ أنّ المنافع الثواب ، والأجل يوم الدين.

الثالث ـ أن المنافع الركوب ، والدرّ ، والنّسل ، والأكل ، وهذا على قول من قال : إنها البدن ، والأجل إيجاب الهدى.

والصحيح أنها البدن ، وتدل على غيرها إمّا من طريق المماثلة ، وإما من طريق الأولى.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

يريد أنها تنتهي إلى البيت العتيق ، وهو الطّواف ، وهذا قول مالك : إنّ الحج كلّه في كتاب الله ، يعنى أنّ شعائر الحجّ كلّها تنتهي إلى الطواف بالبيت.

وقال عطاء : تنتهي إلى مكة ، وهذا عموم لا يفيد شيئا ، فإنه قد صرح بذكر البيت ، فلا معنى لإلغائه ، وكذلك قول الشافعى : إنه إلى الحل والحرم (١) ، وهذا إنما بنوه على أنّ الشعائر هي البدن ، ولا بدّ فيها من الجمع بين الحلّ والحرم ، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها.

الآية التاسعة ـ قوله تعالى (٢) : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ. فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ قرئ منسك ـ يكسر السين وفتحها ، وباب مفعل في اللغة يختلف

__________________

(١) في القرطبي : وقال الشافعى : إلى الحرم.

(٢) آية ٣٤ ، ٣٥.

٢٤٢

حال دلالته باختلاف حال فعله ، فإذا كان مكسور العين في المستقبل فاسم المكان منه مفعل ، والمصدر مفتوح العين ، واسم الزمان منه كاسم المكان ، قالوا : أتت الناقة على مضربها ومحلبها. وما كان العين في المستقبل منه مفتوحا فالمصدر والمكان مفتوحان ، كالمشرب والملبس ، ويأتى لغيره كالمكبر (١) من كبر يكبر ، وما كان على فعل يفعل بضم العين فبمنزلة ما كان على يفعل مفتوحا ، لم يقولوا فيه مفعل ـ بضم العين. وقد جاء المصدر مكسورا في هذا الباب ، قالوا مطلع الشمس ، والحجازيون يفتحونه ، وقد كسروا اسم المكان أيضا ، فقالوا : المنبت لموضعه ، والمطلع لموضعه ، فعلى هذا قل : منسكا ومنسكا ـ بالفتح والكسر.

المسألة الثانية ـ إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في معناه ، فقيل : معنى منسكا حجّا ، قاله قتادة.

وقيل : ذبحا ، قاله مجاهد. وقيل : عيدا ، قاله الفرّاء ، واشتقاقه من نسكت ، وله في اللغة معان :

الأول ـ تعبّدت ، ومنه قوله تعالى (٢) : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) ، خصّ في الحج على عادة اللغة.

الثاني ـ قال ثعلب : هو مأخوذ من النسيكة ، والنسيكة : المخلصة من الخبث ، ويقال للذبح نسك ، لأنه من جملة العبادات الخالصة لله ، لأنه لا يذبح لغيره.

وادعى ابن عرفة أنّ معنى نسكت ذهبت ، وكلّ من ذهب مذهبا فقد نسك ، ولا يرجع إلّا إلى العبادة والتقرّب ، وهو الصحيح.

ولما رأى قوم أنّ العبادة تتكرّر قال : إنّ نسكت بمعنى تعهدت. والذي ذهب إليه الفراء من أنه العيد روى عن ابن عباس ، وهو من أفضل المناسك.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ).

يعنى يذبحونها لله دون غيره في هدى أو ضحيّة حسبما تقدم بيانه في سورة الأنعام(٣).

المسألة الرابعة ـ في إقامة الصلاة. وقد تقدم.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، وقد تقدم في مواضع كثيرة.

__________________

(١) ضبط في اللسان بفتح الباء وكسرها. هذا من كبر ـ بضم الباء. أما من كبر ـ بكسر الباء ، فهو بالكسر فقط (اللسان).

(٢) سورة البقرة ، آية ١٢٨.

(٣) صفحة ٧٣٧.

٢٤٣

الآية العاشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

فيها ثماني عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

البدن : جمع بدنة ، وهي الواحدة من الإبل ، سمّيت بذلك من البدانة وهي السّمن ، يقال بدن الرجل ـ بضم العين (٢) : إذا سمن ، وبدّن ـ بتشديدها : إذا كبر وأسنّ ، وإنما سماها بصفتها لينبّه بذلك على اختيارها ، وتعيين الأفضل منها ، فإنّ الله أحقّ ما اختير له.

وقد روى عن جابر وعطاء أنّ البقرة يقال لها بدنة. وحكى ابن شجرة أنه يقال في الغنم ، وهو قول شاذّ ، والبدن هي الإبل. والهدى عامّ في الإبل ، والبقرة ، والغنم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

وهذا نص في أنها بعض الشعائر ، كما تقدم بيانه.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ).

يعنى منفعة اللباس والمعاش والركوب والأجر ، فأما الأجر فهو خير مطلقا ، وأمّا غيره فهو خير إذا قوّى على طاعة الله.

المسألة الرابعة ـ (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ).

فيها ثلاث قراءات : صوافّ بفاء مطلقة ، قراءة الجمهور. صوافن بنون ، قراءة ابن مسعود. صوافي بياء معجمة باثنتين من تحتها ، قراءة أبىّ بن كعب.

فأما قوله صوافّ فمن صفّ يصفّ إذا كانت جملة ، من قيام أو قعود ، أو مشاة ، بعضها إلى جانب بعض على الاستواء ، ويكون معناها هاهنا صفّت قوائمها في حال نحرها ، أو صفّت أيديها ، قاله مجاهد.

وأما صوافن فالصافن هو القائم. وقيل : هو الذي يثنى إحدى رجليه.

__________________

(١) آية ٣٦.

(٢) أى عين الفعل : بدن.

٢٤٤

وأما صوافي فهو جمع صافية ، وهي التي أخلصت لله نيّة وجلالا ، وإشعارا وتقليدا.

وقال أبو حنيفة : لا إشعار ، وهو بدعة ، لأنه مثلة ، وكأنه لا خبر عنده للسنة الواردة في ذلك ، ولا للأحاديث المتعاضدة ، فهي فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ومعه والخلفاء للإشعار.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ).

يعنى انحروها ، كما تقدم أنّ ذكر الله اسم صار كناية عن النّحر والذبح ، لما بينا من أنه شرط فيه وأصل معه.

المسألة السادسة ـ في كيفية نحر الهدى ، وفيه أقوال :

الأول ـ قال ابن وهب : أخبرنى ابن أبى ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصواف ، فقال : يقيّدها ثم يصفّها.

وقال لي مالك بن أنس مثله. وقال : فينحروها قائمة ، ولا يعقلها ، إلا أن يضعف إنسان فيتخوّف أن تتفلّت بدنته ، فلا بأس بأن ينحرها معقولة ، وإن كان يقوى عليها فلينحرها قائمة مصفوفة يداها بالقيود.

قال : وسألت مالكا عن البدنة تنحر وهي قائمة هل تعرقب؟ قال : ما أحبّ ذلك إلا أن يكون الإنسان يضعف عنها ، فلا يقوى عليها ، فيخاف أن تتفلّت منه ، فلا أرى بأسا أن يعرقبها ، وهذه الأقوال الثلاثة للعلماء :

الأول ـ يقيمها. الثاني ـ يقيدها أو يعقلها. الثالث ـ يعرقبها.

وزاد مالك أن يكون الأمر يختلف بحسب قوّة الرجل وضعفه.

وروى عن بعض السلف مثله. والأحاديث الصحاح في ذلك ثلاثة :

الأول ـ في نحرها مقيّدة : في الصحيح عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته فنحرها ، قال : ابعثها قياما مقيّدة سنة محمد.

الثاني ـ في نحرها قائمة : في الصحيح ، عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نحر بيده سبع بدن قياما.

٢٤٥

وقد كان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أيده (١) فينحر بها في صدرها ويخرجها على سنامها ، فلما أسنّ كان ينحرها باركة لضعفه ، ويمسك معه رجل الحربة ، وآخر بخطامها.

والعقل بعض تقييد ، والعرقبة تعذيب لا أراه إلا لو ندّ ، فلا بأس بعرقبته.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها).

يعنى سقطت على جنوبها ، يريد ميتة ، كنى عن الموت بالسقوط على الجنب ، كما كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله ، والكنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح ، قال الشاعر (٢) :

لمعفّر قهد ينازع شلوه

غبس كواسب ما يمنّ طعامها (٣)

وقال آخر (٤) :

فتركنه جزر السّباع ينشنه (٥)

ما بين قلّة رأسه والمعصم

في معناه ، وذلك كثير.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها).

ولا يخلو أن يكون الهدى تطوّعا أو واجبا ، فأما هدى التطوع فيأكل منه ، وأما الهدى الواجب فللعلماء فيه أقوال ، أصولها ثلاثة :

الأول ـ لا يأكل منه بحال ، قاله الشافعى.

الثاني ـ أنه يأكل من هدى التمتّع والقرآن ، ولا يأكل من الواجب بحكم الإحرام ، قاله أبو حنيفة.

الثالث ـ أنه يأكل من الواجب كلّه إلا من ثلاث : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، ونذر المساكين.

وتعلق الشافعىّ بأنه وجب عليه إخراجه من ماله ، فكيف يأكل منه؟

__________________

(١) الأيد : القوة.

(٢) هو لبيد. اللسان ـ مادة عفر.

(٣) المعفر ولدها الذي افترسته الذئاب الغبس ، فعفرته في التراب ، أى مرغته (اللسان).

(٤) البيت من معلقة عنترة.

(٥) ينشنه : يتناولنه.

٢٤٦

وتعلّق أبو حنيفة بأنّ ما وجب بسبب محظور التحق بجزاء الصيد.

وتعلق مالك بأنّ جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله (١) : (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ) ، وحكم البدل حكم المبدل ، وقال في فدية الأذى (٢) : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم في فدية الأذى : وأطعم ستة مساكين مدّين لكل مسكين ، ونذر المساكين مصرّح به ، وأما غير ذلك من الهدايا فهو على أصل قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ).

وهذا نصّ في إباحة الأكل ، وقد ثبت في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنه ، وأمر من كل بدنة ببضعة ، فطبخها وأكل منها ، وشرب من مرقها ، وكان من هديه واجبا ، وهو دم القران الذي كان عليه في حجّه ، وإنما أذن الله تعالى في الأكل لأجل أنّ العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها ، فأمر الله نبيه بمخالفتهم ، فلا جرم كذلك شرع وبلغ ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم.

وما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح ، فليست العلّة ما ذكر من الحظر ، وإنما هو دعوى لا برهان عليها.

المسألة التاسعة ـ اختلف الناس في حكم قوله تعالى : (فَكُلُوا) ، (وَأَطْعِمُوا) على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنهما واجبان ، قاله أبو الطيب بن أبى ثعلبة.

الثاني ـ أنهما مستحبّان ، قاله ابن شريح.

الثالث ـ أن الأكل مستحبّ ، والإطعام واجب ، قاله الشافعى ، وهو صريح قول مالك ، فأما من قال : إنهما واجبان فتعلّق بظاهر القول ، مع ما فيه من مخالفة الجاهلية ، ففيه غريبة من الفقه لم يقع لي ، مذ قرأت العلم ، لها نظير ، وذلك أن قول القائل : إنهما جميعا يتركان ،

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٩٨.

(٢) سورة البقرة ، آية ١٩٦.

٢٤٧

لأنهما مستحبّان لم يتصوّر شرعا ، فإنه ليس وراء ذلك إلا إتلافها ، وذلك لا يجوز ، فلا يصح استحبابهما معا ، وإنما يقال أحدهما واجب على البدل ، أو يقال الأكل مستحب ، والإطعام واجب ، كما قال مالك.

والأصحّ عندي أنّ الأكل واجب ، وقد احتجّ علماؤنا بأمثلة وردت بصيغة الأمر ، ولم تكن واجبة ، وليس في ذلك حجة ، لأنه إذا سقط أمر بدليل لا يسقط غيره بغير دليل.

المسألة العاشرة ـ إذا أكل من لحم الهدى الذي لا يحلّ له أكله ، ففيه لعلمائنا قولان: أحدهما ـ ما وقع في المدينة أنه إن كان جهل فليستغفر الله ، ولا شيء عليه ـ قال مالك: وقد كان ناس من أهل العلم يقولون : يأكل منه. وقال في المشهور من مذهبنا : أنه إذا أكل من جزاء الصيد أو فدية الأذى بعد أن بلغ محلّه غرم ، وما ذا يغرم؟ قولان :

أحدهما ـ يضمن الهدى كلّه ، قاله ابن الماجشون.

الثاني ـ ليس عليه إلّا غرم قدر ما أكل ، وهذا هو الحق ، لا شيء غيره. وكذا لو نذر هدى المساكين ، فأكل منه بعد أن بلغ محلّه لا يغرم إلا ما أكل خلافا للمدوّنة ، لأنّ الصحيح عندي ما ذكرته لكم ، إذ النّحر قد وقع ، والتعدّى إنما هو في اللحم ، فيغرم بقدر ما تعدّى فيه.

واختلف علماؤنا فيما يغرم ـ وهي :

المسألة الحادية عشرة ـ فقال بعض علمائنا : إنه يغرم قيمة اللّحم. وقال في كتاب محمد وابن حبيب ، عن عبد الملك : إنه يغرمه طعاما.

والأول أصحّ ، لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدى كلّه عند تعذّره عبادة ، وليس حكم التعدي حكم العبادة ، فأما إذا عطب الواجب كلّه قبل محلّه فليأكل منه ، لأن عليه بدله ، وهي :

المسألة الثانية عشرة ـ فإن كان تطوّعا فعطب قبل محلّه لم يأكل ، لأنه يتّهم أن يكون أسرع به ليأكله ، وهذا من باب سدّ الذّرائع ، وهي :

المسألة الثالثة عشرة.

٢٤٨

المسألة الرابعة عشرة ـ القانع.

والخامسة عشرة ـ المعتر.

وفي ذلك خمسة أقوال :

الأول ـ قال ابن وهب وابن القاسم : القانع الفقير ، والمعترّ الزائر.

الثاني ـ قال ابن وهب ، وعتبة : السائل ، وقاله زيد بن أسلم.

الثالث ـ المعترّ الذي يعتريك ، قاله مجاهد ، والقانع الجالس في بيته ، قاله مجاهد(١).

الرابع ـ القانع الذي يرضى بالقليل. والمعتر الذي يمرّ بك ولا يبايتك ، قاله القرطبي.

الخامس ـ الذي يقنع هو المتعفّف ، والمعترّ السائل.

المسألة السادسة عشرة ـ هذه الأقوال متقاربة ، فأما القانع ففعله قنع يقنع ، (٢) وله في اللغة معنيان :

أحدهما ـ الذي يرضى بما عنده. والثاني الذي يذلّ ، وكلاهما ينطلق على الفقير ، فإنه ذليل. فإن وقف عند رزقه فهو قانع ، وإن لم يرض فهو ملحف.

وأما المعترّ والمعترى فهما متقاربان معنى ، مع افتراقهما اشتقاقا ، فالمعترّ مضاعف ، والمعترى معتلّ اللام ، ومن النادر في العربية كونهما بمعنى واحد ، قال الحارث بن هشام :

وشيبة فيهم والوليد ومنهم

أميّة مأوى المعترين وذي الرّحل

يريد بالمعترين من يقيم للزيارة ، وذو الرّحل من يمرّ بك فتضيفه. وقال زهير (٣) :

على مكثريهم رزق من يعتريهم

وعند المقلّين السماحة والبذل

ويعضد هذا قوله تعالى (٤) : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) ، يريد نزل بك ، فهذا كلّه في المعتل.

وأما ما ورد في المضاعف ، فكقول الشاعر :

يعطى ذخائر ماله

معترّه قبل السؤال

وقال الكميت :

أيا خير من يأته الطارقو

ن إما عيادا وإما اعترارا

__________________

(١) في ا : القرطبي.

(٢) الفعل كمنع (القاموس).

(٣) ديوانه : ١١٤.

(٤) سورة هود آية ٥٤.

٢٤٩

وقال آخر (١) :

لمال المرء يصلحه فيغنى

مفاقره أعفّ من القنوع

قال القاضي الإمام : والذي عندي فيه أنّ المعنى فيهما متقارب كتقارب معنى الفقير والمسكين.

وحقيقة ذلك أنّ الله أمر بالأكل وإطعام الفقير. والفقير على قسمين : ملازم لك ، ومارّ بك ، فأذن الله في إطعام الكلّ منهما مع اختلاف حالهما ، ومن هاهنا وهم بعض الناس فيه ، فقال ـ وهي :

المسألة السابعة عشرة ـ أنّ القانع هو جارك الغنىّ ، وليس لذلك وجه كما بيناه.

المسألة الثامنة عشرة ـ قال بعضهم : إن الهدى يقسّم أثلاثا : قسم يأكله صاحبه ، وقسم يأخذه القانع ، وقسم يأخذه المعترّ ، وإنما يقسم قسمين : قسم يأخذه الآكل ، وقسم يأخذه القانع والمعترّ ، ولهذا قال ابن القاسم ، عن مالك : ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف.

قال مالك في حديثه : بلغني عن ابن مسعود شيء ليس عليه العمل عندنا ، وهو الذي أشرنا إليه قسّمها أثلاثا. وقد قال تعالى (٢) : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ. فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ، ولم يكن ذلك ليجزّأ أثلاثا ، ذلك لتعلموا أنّ هذا التقدير ليس بأصل يرجع إليه.

وفي صحيح مسلم (٣) عن ثوبان : ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال لي : أصلح لحمها ، فما زال يأكل منه ، حتى قدمنا المدينة ، ولم يذكر صدقة. وهذا نص في المسألة.

الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى (٤) : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

__________________

(١) هو الشماخ (ديوانه : ٥٦).

(٢) سورة النحل ، آية ٥.

(٣) صحيح مسلم : ١٥٦٣.

(٤) آية ٣٧.

٢٥٠

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ) من الألفاظ المشكلة ، فإنّ النيل لا يتعلّق بالبارئ سبحانه ، ولكن عبّر به تعبيرا مجازيّا عن القبول ، فإنّ كل ما نال الإنسان موافق أو مخالف ، فإن ناله موافق قبله ، أو مخالف كرهه ، ولا عبرة بالأفعال بدنية كانت أو مالية بالإضافة إلى الله تعالى ، إذ لا يختلف في حقه إلا بمقتضى نهيه وأمره ، وإنما مراتبها الإخلاص فيها والتقوى منها. ولذلك قال : لن يصل إلى الله لحومها ولا دماؤها ، وإنما يصل إليه التقوى منكم ، فيقبله ويرفعه إليه ويسمعه.

المسألة الثانية ـ (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ).

امتنّ علينا سبحانه بتذليلها لنا وتمكيننا من تصريفها ، وهي أعظم منّا أبدانا ، وأقوى أعضاء ، ذلك ليعلم العبد أنّ الأمور ليست على ما تظهر إلى العبد من التدبير ، وإنما هي بحسب ما يدبرها (١) العزيز القدير ، فيغلب الصغير الكبير ، ليعلم الخلق أنّ الغالب هو الله وحده القاهر فوق عباده.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ).

ذكر سبحانه ذكر اسمه عليها في الآية قبلها فقال : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) ، وذكر هاهنا التكبير ، فكان ابن عمر يجمع بينهما إذا نحر هديه ، فيقول : بسم الله ، والله أكبر. وهذا من فقهه رضى الله عنه.

وقد قال قوم : التسمية عند الذبح والتكبير عند الإحلال بدلا من التلبية عند الإحرام ، وفعل ابن عمر أفقه. والله أعلم.

الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

__________________

(١) في القرطبي : ما يريدها.

(٢) آية ٣٩.

(٣) أسباب النزول للسيوطي : ١٢٠.

٢٥١

وفي ذلك ثلاثة أقوال :

الأول ـ روى عن ابن عباس أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم ، إنا لله وإنّا إليه راجعون! ليهلكنّ. فأنزل الله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا).

قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال ، خرجه الترمذي وغيره.

الثاني ـ قال مجاهد : الآية مخصوصة ، نزلت في قوم مهاجرين ، وكانوا يمنعون ، فأذن الله في قتالهم ، وهي أول آية نزلت في القتال.

الثالث ـ قال الضحاك : استأذن أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم في قتال الكفار ، فقيل (١) : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). فلما هاجر نزلت : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ، وهذا ناسخ لكل ما في القرآن من إعراض وترك وصفح ، وقد بيناه في قسم النسخ الثاني من علوم القرآن.

المسألة الثانية ـ معنى «أذن» أبيح ، فإنه لفظ موضوع في اللغة لإباحة كلّ ممنوع ، وهو دليل على أن الإباحة من الشرع ، وأنه لا يحكم قبل الشرع ، لا إباحة ولا حظرا إلّا ما حكم به الشرع ، وبيّنه ، وقد أوضحناه في أصول الفقه ، ألا ترى أنّ الله قد كان بعث رسوله ودعا قومه ، ولكنهم لم يتصرفوا إلّا بأمر ، ولا فعلوا بإذن.

المسألة الثالثة ـ بيّنا أنّ الله سبحانه لما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحجة دعا قومه إلى الله دعاء دائما عشرة أعوام ، لإقامة حجّة الله سبحانه ، ووفاء بوعده الذي امتنّ به بفضله في قوله (٢) : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، واستمر الناس في الطغيان ، وما استدلّوا بواضح البرهان ، وحين أعذر الله بذلك إلى الخلق ، وأبوا عن الصدق أمر رسوله بالقتال ، ليستخرج الإقرار بالحق منهم بالسيف.

المسألة الرابعة ـ قرئ يقاتلون بكسر التاء وفتحها ، فإن كسرت التاء كان خبرا عن فعل المأذون (٣) لهم ، وإن فتحتها كان خبرا عن فعل غيرهم بهم (٤) ، وإن الإذن وقع

__________________

(١) سورة الحج ، آية ٣٨.

(٢) سورة الإسراء ، آية ١٥.

(٣) أى يقاتلون عدوهم (القرطبي).

(٤) أى يقاتلهم المشركون ، وهم المؤمنون (القرطبي).

٢٥٢

من أجل ذلك لهم ، ففي فتح التاء بيان سبب القتال ، وقد كان الكفّار يتعمّدون النبىّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالإذاية ، ويعاملونهم بالنّكاية : لقد خنقه المشركون حتى كادت نفسه تذهب ، فتداركه أبو بكر ، وقال (١) : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)! وقد بلغ بأصحابه إلى الموت ، قد قتل أبو جهل سميّة أم عمار بن ياسر. وقد عذّب بلال ، وما بعد هذا إلا الانتصار بالقتال.

والأقوى عندي قراءة كسر التاء ، لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بعد وقوع العفو والصفح عما فعلوا أذن الله له في القتال عند استقراره بالمدينة ، فأخرج البعوث ، ثم خرج بنفسه ، حتى أظهره الله يوم بدر ، وذلك قوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ).

الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قال علماؤنا رحمهم الله : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ، ولم تحلّ (٣) له الدماء ، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله ، والصبر على الأذى ، والصّفح عن الجاهل ، [مدة عشرة أعوام ، لإقامة حجة الله تعالى عليهم ، ووفاء بوعده الذي امتن به بفضله في قوله (٤) : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، فاستمر الطغيان وما استدلوا بواضح البرهان] (٥).

وكانت قريش قد اضطهدت من اتّبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ، ونفوهم عن بلادهم ، فهم بين مفتون في دينه ، ومعذّب ، وبين هارب في البلاد مغرّب ، فمنهم من فرّ إلى الأرض الحبشة ، ومنهم خرج إلى المدينة ، ومنهم من صبر على الأذى ،

__________________

(١) سورة المؤمن ، آية ٢٨.

(٢) آية ٤٠.

(٣) في ا : تحلل.

(٤) سورة الإسراء ، آية ١٥.

(٥) من القرطبي (١٢ ـ ٦٩).

٢٥٣

فلما عتت قريش على الله ، وردّوا أمره وكرامته ، وكذّبوا نبيه ، وعذّبوا من آمن به ، وعبده ووحّده ، وصدّق نبيه ، واعتصم بدينه ، أذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم ، فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب وإحلاله له الدماء : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ـ إلى قوله ... (الْأُمُورِ) (١).

أى إنما أحللت لهم القتال ، لأنهم ظلموا ، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس إلا أن يعبدوا الله ، وأنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة.

ثم أنزل الله عليهم (٢) : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، وقد تقدم (٣) بيان ذلك.

وعن هذا عبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرنا نصر بن إبراهيم الزاهد ، قال : حدثنا على بن موسى ، أنبأنا المروزى ، حدثنا الفربري (٤) ، حدثنا البخاري ، حدثنا عبد الله بن محمد المسندى ، حدثنا حرمي بن عمارة ، حدثنا شعبة عن واقد بن محمد : سمعت أبى يحدّث عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) دليل على نسبة الفعل الموجود من الملجأ المكره إلى الذي ألجأه وأكرهه ، ويترتب عليه حكم فعله ، ولذلك قال علماؤنا : إن المكره على إتلاف المال يلزمه الغرم ، وكذلك المكره على فتل الغير يلزمه القتل.

وروى في مختصر الطبري أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استأذنوه في قتال الكفار ، إذ آذوه بمكة غيلة ، فنزلت (٥) : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ). فلما هاجر إلى

__________________

(١) أى آخر آية ٤١.

(٢) سورة الأنفال ، آية ٣٩.

(٣) صفحة ٨٤٣.

(٤) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح الفربري راوية صحيح البخاري (اللباب : ٢ ـ ٢٠٢)

(٥) سورة الحج ، آية ٣٨.

٢٥٤

المدينة أطلق قتالهم ، وهذا إن كان صحيحا فقد نسخه الحديث الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لكعب بن الأشرف ، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله ، أتحبّ أن أقتله؟ قال : نعم ، فقتله مع أصحابه غيلة.

وكذلك بعث النبىّ صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبى رافع عبد الله بن أبى الحقيق ، فقتلوه غيلة.

الآية الرابعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

في ذلك روايات مختلفة ، أظهرها وما فيها ظاهر : أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم جلس في ناد من أندية قومه ، كثير أهله ، فتمنّى يومئذ ألّا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه يومئذ ، فأنزل الله عليه : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله (٣) : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق (٤) : العلا ، وإن شاعتهنّ لترتجى.

فتكلّم بها ، ثم مضى بقراءة السورة كلها ، ثم سجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعا معه ، ورفع الوليد بن المغيرة ترابا إلى جبهته وسجد عليه ، وكان شيخا كبيرا ، فلما أمسى أتاه جبريل ، فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين قال : ما جئتك بهاتين ، فأوحى الله إليه (٥) : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً.

__________________

(١) آية ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٤ من السورة.

(٢) أسباب النزول للسيوطي : ١٢٠ ، وأسباب النزول للواحدي : ١٧٨

(٣) آية ٢٠ من سورة النجم.

(٤) الغرانيق هاهنا : الأصنام ، وهي في الأصل الذكور من طير الماء ، واحدها غرنوق وغرنيق. وكانوا يزعمون أن الأصنام تقربهم من الله وتشفع لهم فشبهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع (النهاية).

(٥) سورة الإسراء ، آية ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥.

٢٥٥

وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً).

فما زال مغموما مهموما حتى نزلت : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ).

وفي رواية أنّ جبريل قال له : لقد تلوت يا محمد على الناس شيئا لم آتك به ، فحزن وخاف خوفا شديدا ، فأنزل الله عليه : إنه لم يكن قبله رسول ولا نبىّ تمنى كما تمنّى ، وأحب كما أحب ، إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته كما ألقى الشيطان على لسانه.

المسألة الثانية ـ اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه ، ويسّر لكم مقصد التوحيد ومغزاه ـ أنّ الهدى هدى الله ، فسبحان من يتفضّل به على من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء ، وقد بيّنا معنى الآية في فصل تنبيه الغبىّ على مقدار النبىّ بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى ، في مقام الزّلفى ، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء ، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء ، إلى بقاع العلماء في عشرة مقامات :

المقام الأوّل ـ أن النبىّ إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه ، فإنه يخلق له العلم به ، حتى يتحقق أنه رسول من عنده ، ولو لا ذلك ما صحّت الرسالة ، ولا تبيّنت النبوة ، فإذا خلق الله له العلم به تميّز عنده من غيره ، وثبت اليقين ، واستقام سبيل الدين ، ولو كان النبىّ إذا شافهه الملك بالوحي لا يدرى أملك هو أم شيطان ، أم إنسان ، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاما ، وبلّغت إليه قولا ـ لم يصح له أن يقول : إنه من عند الله ، ولا ثبت عندنا أنه أمر الله ، فهذه سبيل متيقّنة ، وحالة متحققة ، لا بد منها ، ولا خلاف في المنقول ولا في المعقول فيها ، ولو جاز للشيطان أن يتمثّل فيها ، أو يتشبّه بها ما أمنّاه على آية ، ولا عرفنا منه باطلا من حقيقة ، فارتفع بهذا الفصل اللّبس ، وصحّ اليقين في النفس.

المقام الثاني ـ أنّ الله قد عصم رسوله من الكفر ، وأمنه من الشرك ، واستقرّ ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه ، وإطباقهم عليه ، فمن ادّعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله ، أو يشكّ فيه طرفة عين ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ، بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال ، فضلا عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد ، بل هو المنزّه عن ذلك فعلا واعتقادا. وقد مهّدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل.

٢٥٦

المقام الثالث ـ أنّ الله قد عرّف رسوله بنفسه ، وبصّره بأدلته ، وأراه ملكوت سماواته وأرضه ، وعرّفه سنن من كان قبله من إخوته ، فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم ، ونحن حثالة أمته ، ومن خطر له ذلك فهو ممن يمشى مكبّا على وجهه ، غير عارف بنبيه ولا بربّه.

المقام الرابع ـ تأمّلوا ـ فتح الله أغلاق النظر عنكم ـ إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ، ممن صرح بعداوته ، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنّى ألا ينزل عليه من الله وحى ، فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم آثر وصل قومه على وصل ربه ، وأراد إلّا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحى الذي كان حياة جسده وقلبه ، وأنس وحشته ، وغاية أمنيته.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، فإذا جاءه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة ، فيؤثّر على هذا مجالسة الأعداء.

المقام الخامس ـ أنّ قول الشيطان تلك الغرانقة العلا ، وإنّ شفاعتها ترتجى للنبي صلى الله عليه وسلم ـ قبله منه ، فالتبس عليه الشيطان بالملك ، واختلط عليه التوحيد بالكفر ، حتى لم يفرق بينهما.

وأنا من أدنى المؤمنين منزلة ، وأقلّهم معرفة بما وفقني الله له ، وآتاني من علمه ، لا يخفى علىّ وعليكم أنّ هذا كفر لا يجوز وروده من عند الله. ولو قاله أحد لكم لتبادر الكلّ إليه قبل التفكير بالإنكار والرّدع ، والتثريب والتشنيع ، فضلا عن أن يجهل النبىّ صلى الله عليه وسلم حال القول ، ويخفى عليه قوله ، ولا يتفطّن لصفة الأصنام بأنها الغرانقة العلا ، وأنّ شفاعتها ترتجى. وقد علم علما ضروريا أنها جمادات لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنطق ولا تضر ، ولا تنفع ولا تنصر ولا تشفع ، بهذا كان يأتيه جبريل الصباح والمساء ، وعليه انبنى التوحيد ، ولا يجوز نسخه من جهة المعقول ولا من جهة المنقول ، فكيف يخفى هذا على الرسول؟ ثم لم يكف هذا حتى قالوا : إنّ جبريل لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقى إليه

(١٧ ـ أحكام ـ ٣)

٢٥٧

من الوحى كرّرها عليه جاهلا بها ـ تعالى الله عن ذلك ـ فحينئذ أنكرها عليه جبريل ، وقال له : ما جئتك بهذه. فحزن النبىّ صلى الله عليه وسلم لذلك ، وأنزل عليه (١) : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) ، فيا لله والمتعلمين والعالمين من شيخ فاسد وسوس هامد ، لا يعلم أنّ هذه الآية نافية لما زعموا ، مبطلة لما رووا وتقوّلوا! وهو : المقام السادس ـ وذلك أن قول العربي : كاد يكون كذا : معناه قارب ، ولم يكن ، فأخبر الله في هذه الآية أنهم قاربوا أن يفتنوه عن الذي أوحى إليه ، ولم تكن فتنة ، ثم قال : لتفترى علينا غيره. وهو :

المقام السابع ـ ولم يفتر ، ولو فتنوك وافتريت لاتّخذوك خليلا ، فلم تفتتن ولا افتريت ، ولا عدوّك خليلا. ولو لا أن ثبتناك وهو :

المقام الثامن ـ (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) ، فأخبر الله سبحانه وتعالى أنه ثبّته ، وقرّر التوحيد والمعرفة في قلبه ، وضرب عليه سرادق العصمة ، وآواه في كنف الحرمة. ولو وكله إلى نفسه ، ورفع عنه ظلّ عصمته لحظة لألممت بما راموه ، ولكنا أمرنا عليك بالمحافظة ، وأشرقنا بنور الهداية فؤادك ، فاستبصر ، وأزح عنك الباطل ، وادحر (٢).

فهذه الآية نصّ في عصمته من كل ما نسب إليه ، فكيف يتأوّلها أحد؟ عدّوا (٣) عما نسب من الباطل إليه.

المقام التاسع ـ قوله : فما زال مهموما حتى نزلت عليه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ...) الآية.

فأما غمّه وحزنه فبأن تمكّن الشيطان مما تمكّن ، مما يأتى بيانه ، وكان النبىّ صلى الله عليه وسلم يعزّ عليه أن ينال الشيطان منه شيئا وإن قلّ تأثيره.

المقام العاشر ـ أنّ هذه الآية نصّ في غرضنا ، دليل على صحة مذهبنا ، أصل في براءة النبىّ صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا ، وذلك أنه قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، فأخبر الله تعالى أن من سنته

__________________

(١) سورة الإسراء ، آية ٧١.

(٢) الفعل كجعل. والدحر : الطرد والإبعاد والدفع (القاموس)

(٣) تجاوزوا.

٢٥٨

في رسله وسيرته في أنبيائه أنهم إذا قالوا عن الله قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه ، كما يفعل سائر المعاصي ، كما تقول : ألقيت في الدار كذا ، وألقيت في العكم (١) كذا ، وألقيت في الكيس كذا. فهذا نص في أنّ الشيطان زاد في الذي قاله النبىّ صلى الله عليه وسلم ، لا أنّ النبي قاله ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ تلا قرآنا مقطعا ، وسكت في مقاطع الآي سكوتا محصلا ، وكذلك كان حديثه مترسلا فيه متأنّيا ، فيتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ، وبين قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) ، فقال ـ يحاكى صوت النبي صلى الله عليه وسلم : وإنهن الغرانقة العلا ، وإن شفاعتهنّ لترتجى.

فأما المشركون والذين في قلوبهم مرض ـ لقلّة البصيرة وفساد السريرة ـ فتلوها عن النبىّ صلى الله عليه وسلم ، ونسبوها بجهلهم إليه ، حتى سجدوا معه اعتقادا أنه معهم ، وعلم الذين أوتوا العلم والإيمان أن القرآن حقّ من عند الله فيؤمنون به ، ويرفضون غيره ، وتجيب قلوبهم إلى الحق ، وتنفر عن الباطل ، وكلّ ذلك ابتلاء من الله ومحنة. فأين هذا من قولهم! وليس في القرآن إلّا غاية البيان بصيانة النبىّ صلى الله عليه وسلم في الإسرار والإعلان ، عن الشكّ والكفران.

وقد أوعدنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن إمامكم ، وحروفه أمامكم ، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها ، ولا تربطوا فيها ما ليس منها ، وما هدى لهذا إلا الطبري بجلالة (٢) قدره ، وصفاء فكره ، وسعة باعه في العلم ، وشدة ساعده وذراعه في النّظر ، وكأنه أشار إلى هذا الغرض ، وصوّب على هذا المرمى ، فقرطس (٣) بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلّها باطلة ، لا أصل لها ، ولو شاء ربّك لما رواها أحد ولا سطرها ، ولكنه فعّال لما يريد ، عصمنا الله وإياكم بالتوفيق والتسديد ، وجعلنا من أهل التوحيد بفضله ورحمته.

__________________

(١) العكم ـ بالكسر : نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها (القاموس).

(٢) في القرطبي : لجلالة قدره.

(٣) أصل قرطس : أصاب القرطاس.

٢٥٩

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

حملها ـ كما تقدم بياننا له ـ قوم على أنها سجدة تلاوة ، فسجدوها.

وقال آخرون : هو سجود الصلاة ، فقصروه عليه.

ورأى عمر أنها سجدة تلاوة. وإنى لأسجد بها وأراها كذلك ، لما روى ابن وهب وغيره ، عن مالك ، عن نافع أنّ رجلا من الأنصار أخبره أنّ عمر بن الخطاب قرأ سورة الحج ، فسجد فيها السجدتين ، ثم قال : إن هذه السورة فضّلت بسجدتين.

قال مالك : وحدثني عبد الله بن دينار ، قال : رأيت ابن عمر يسجد في سورة الحج سجدتين. وكان ابن عمر أكثر الخلق بالنبي صلى الله عليه وسلم قدوة.

وروى عقبة بن عامر قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، أفي سورة الحج سجدتان؟ قال : نعم. ومن لم يسجدهما لا يقرأهما ، رواه وهب بن لهيعة ، عن مسرح بن هاعان ، عنه.

الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ الحرج هو الضّيق ، ومنه الحرجة ، وهي الشجرات الملتفّة لا تسلك ، لالتفاف شجراتها ، وكذلك وقع التفسير فيه من الصحابة رضى الله عنهم.

روى أنّ عبيد بن عمير جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس ، فسأله عن الحرج ، فقال : أو لستم العرب؟ فسألوه ثلاثا. كلّ ذلك يقول : أو لستم العرب! ثم قال : ادع لي رجلا من هذيل ، فقال له : ما الحرج فيكم؟ قال : الحرجة من الشجر : ما ليس له مخرج.

__________________

(١) آية ٧٧.

(٢) آية ٧٨.

٢٦٠