الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤
إذا كان فيها زيادة على الدين ، كما يشير اليه كلام الشيخ فيما تقدم من عبارته ، وقوله «وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم» فان حاصل كلامه أنهم ان لم يفعلوا ذلك أى ان لم يضمنوا الدين لم يكن لهم القود ، بل تعين عليهم أخذ الدية ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم من الدية بعد الدين ، بحمل ذلك على زيادة الدية على الدين.
ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن أسلم عن على بن أبي حمزة (١) عن أبى الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام ، قال : «قلت له : جعلت فداك رجل قتل رجلا متعمدا أو خطأ وعليه دين ومال فأراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ فقال : ان وهبوا دمه ضمنوا الدين ، قلت : فإنهم أرادوا قتله فقال : ان قتل عمدا قتل قاتله ، وأدى عنه الامام الدين من سهم الغارمين ، قلت : فان هو قتل عمدا وصالح أولياؤه قاتله على الدية فعلى من الدين؟ على أوليائه من الدية أو على امام المسلمين؟ فقال : بل يؤدوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه فإنه أحق بديته من غيره».
وأجاب الشهيد (قدسسره) في كتاب نكت الإرشاد عن رواية أبي بصير التي برواية الشيخ خاصة ، لأنها هي المتضمنة لمحل البحث ، بضعف السند وندورها ، فلا تعارض الأصول ، وحملها الطبرسي المتقدم ذكره على ما إذا بذل القاتل الدية ، فإنه يجب على الأولياء قبولها ، ولا يجوز للأولياء القصاص الا بعد الضمان ، حسبما قدمنا من نقل كلامه.
وأنت خبير بأن رد الخبر بضعف السند غير مرضى على رأينا ولا معتمد ، وكذا ارتكاب تأويله من غير معارض ، ولا معارض له الا ما نقلناه عنهم آنفا من العمومات ، والواجب تخصيصها به ، إذ لا منافاة بين المطلق والمقيد والخاص والعام ، وهذا مقتضى قواعدهم في غير مقام.
ويؤيد الخبير المذكور ما دل من الخبرين المذكورين ، على أنه ليس لأولياء الدم هبته حتى يضمنوا الدين ايضا (٢).
__________________
(١) الفقيه ج ٤ ص ٨٣.
(٢) وجه التأييد هو أن ظاهر هذه الاخبار مراعاة تقديم أداء الدين وبراءة
وإذا عرفت ذلك فاعلم ان الأشهر الأظهر أن الدية في حكم المال المقتول يقضى منها دينه ويقضى منه وصاياه وترثها ورثته ، وقيل انها لا تصرف في الدين لتأخر استحقاقها عن الحياة التي هي شرط الملك ، والدين كان متعلقا بالذمة حال الحياة ، وبالمال بعدها ، والميت لا يملك بعد وفائه.
ولا يخفى ما فيه ، فإنه اجتهاد في مقابلة النصوص ، وجرءة على أهل الخصوص ، وقد عرفت دلالة الروايات المتقدمة على وجوب أداء الدين منها.
ونحوها ما رواه في الكافي في الصحيح عن يحيى الأزرق (١) وهو مجهول عن أبى الحسن عليهالسلام «في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا فأخذ أهله الدين من قاتله أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : نعم قال : قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : قال : إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه».
ونحوها رواية أخرى له ، وأصرح من ذلك ما ورد من الاخبار الدالة على انه يرثها الورثة على كتاب الله وسنة نبيه (٢) صلىاللهعليهوآله مثل صحيحة سليمان بن خالد وصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة محمد بن قيس وفي بعضها عدم إرث الأخوات من الام من الدية.
وبالجملة فإن القول المذكور ظاهر القصور ، وقيل : أيضا بالفرق بين دية الخطاء ودية العمد ، إذا رضي الوارث بها معللا بأن العمد انما يوجب القصاص ، وهو حق للوارث فإذا رضي بالدية كانت عوضا عنه ، فكانت أبعد من استحقاق الميت
__________________
ذمة الميت ، فليس لهم عفو عن الدم أو قصاص حتى يضمنوا الدية ، إيثارا لبراءة ذمته وخلو عهدته من الدين ، فلعل استيفاء القصاص وان كان حقا لهم كما دلت عليه الآيات والروايات ، لكنه ينبغي في تقييدها بغير صورة الدين مع انحصار المال في الدية ، كما هو فرض المسألة ، فيجب أخذ الدية البتة ومع عدم أخذها باختيار القصاص أو العفو عن الدم فيجب عليهم ضمانها كما ذكرنا منه ـ رحمهالله.
(١) التهذيب ج ٩ ص ١٦٧ وص ٢٤٥ الفقيه ج ٤ ص ١٦٧.
(٢) التهذيب ج ٩ ص ٣٧٥.
من دية الخطاء وفيه ما في سابقه من الضعف والقصور ، لعموم جملة من الاخبار المتقدمة وخصوص روايات أبى بصير الثلاثة ولا سيما الأخيرة لقوله فيها «بل يؤدوا دينه من ديته التي صالح عليها أولياؤه فإنه أحق بديته من غيره».
بقي الكلام في أن خبر أبى بصير الثالث ظاهر في أنه مع اختيار الورثة القتل في العمد فالدين على الإمام يؤديه عن الميت من سهم الغارمين ، وخبره الثاني يدل على انه على الورثة كما هو فول الشيخ رحمهالله ، وأنه لا يجوز لهم اختيار القتل الا بعد ضمان الدين ، ويمكن الجمع بينهما بحمل الخبر الثالث على وجود الامام وتمكنه من القيام بذلك وحمل الأخر على عدم ذلك والله العالم.
المسألة التاسعة : إذا جحد المديون المال ولا بينة للمدعى فهنا صورتان الاولى ـ أن يحلف المديون ، والأشهر الأظهر عدم جواز مطالبته ، وان أقام البينة بذلك ، لان اليمين قد ذهب بحقه ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في المسألة الخامسة (١) من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع وأركانه.
وقد ورد بإزائها من الاخبار ما يدل على خلاف ذلك. وقد تقدم وجه الجمع بينها ثمة ، وفي المسألة أقوال آخر شاذة (٢) يأتي ذكرها إنشاء الله تعالى في بابها.
نعم لو رجع الحالف بعد ذلك وأتى بالمال من قبل نفسه من غير طلب ، وأكذب نفسه فإنه يجوز قوله ، صرح بذلك الشيخ في النهاية ، فقال : إذا جحد المديون المال ولا بينة فحلفه المدعى عند الحاكم لم يجز له بعد ذلك مطالبته بشيء ، فإن جاء الحالف ثانيا ورد عليه ماله جاز له أخذه ، فإن أعطاه مع رأس المال ربحا أخذ رأس المال ونصف الربح انتهى. وبه صرح ابن البراج.
__________________
(١) ج ١٨ ص ٤٠٩.
(٢) منها قول الشيخ بسماع البينة مطلقا ، وقول آخر له في موضع آخر بسماعها مع عدم علمه بها أو نسيانها ، واليه ذهب ابن إدريس ، وقول آخر للشيخ المفيد وهو انها تسمع الا مع اشتراط سقوطها ـ منه رحمهالله.
وقال ابن إدريس : ان كان المال دينا أو قرضا أو غصبا واشترى الغاصب في الذمة ، ونقد المغصوب فالربح كله له دون المالك ، وان اشترى بالعين المغصوبة فالصحيح بطلان البيع ، والأمتعة لأصحابها ، والأرباح والأثمان لأصحابها ، وان كان مضاربة شرط له من الربح النصف صح قول الشيخ وحمل عليه ، وخص ما ورد من الاخبار بذلك ، فان العموم قد يخص ، للدلالة ، وقال العلامة في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : أقول : الشيخ رحمهالله لم يتعرض لبيان مستحق الربح ، وانما قال : إذا دفع الحالف المال والربح أخذ المالك المال لاستحقاقه إياه ، وأخذ نصف الربح من حيث ان الحالف أباحه الأخذ ، وكان ينبغي ان يأخذ نصفه على عادات العاملين في التجارات انتهى.
أقول : الذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق والشيخ في كتابيهما عن مسمع (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انى كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي ، ثم انه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي كنت استودعته إياه ، فقال : هذا مالك فخذه ، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك ، واجعلني في حل فأخذت المال منه ، وأبيت أن آخذ الربح منه ، ووقفت المال الذي كنت استودعته ، وأتيت حتى أستطلع رأيك فما ترى؟ قال : فقال : خذ نصف الربح ، وأعطه النصف ، وحلله ان هذا رجل تائب والله يحب التوابين». وبمضمونه أفتى الصدوق في باب بطلان حق المدعى بالتحليف ، وان كان له بينة من كتاب الفقيه ، فقال : متى جاء الرجل الذي حلف على حق ثانيا وحمل ما عليه ما ربح فيه فعلى صاحب الحق أن يأخذ منه رأس المال ونصف الربح ، ويرد عليه نصف الربح ، فان هذا رجل تائب انتهى.
وما في كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليهالسلام ، وإذا أعطيت رجلا مالا فجحدك وحلف عليه ثم أتاك بالمال بعد مدة وبما ربح فيه وندم على ما كان منه فخذ منه رأس
__________________
(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٠ الفقيه ج ٤ ص ١٩٤.
مالك ، ونصف الربح ، ورد عليه نصف الربع هذا رجل تائب انتهى (١).
ثم ان الظاهر ان مناقشة ابن إدريس هنا واهية ، وتخصيصه جواز الأخذ بالمضاربة وشرط نصف الربح أبعد بعيد ، فإنه لا يخفى أن المتعارف بين التجار كما هو الآن المعمول عليه بينهم فكذا في الأزمنة السابقة أن الاشتراء انما يقع في الذمة ، فالبيع صحيح بلا اشكال ، والربح للمشتري بلا خلاف ، ولكن الرجل لما قصد التوبة وندم على ما وقع منه ظن أن ما حصله من الربح بواسطة هذا المال انما هو لصاحب المال فاتى به ليطلب طيب نفسه ، وأن يحلله ويبرئ ذمته ، والامام عليهالسلام أمره بأخذ رأس المال لانه حقه في ذمته ، وان لم يجز له المطالبة به بعد الرضا باليمين ، فلما بذله الرجل واعترف به جاز له أخذه وامره بأخذ نصف الربح في مقابلة تحليله وإبراء ذمته ورضاء نفسه لا تكون ذلك حقا شرعيا ، فهو من قبيل الصلح على ذلك ، وانما خصه بالنصف إيثارا للرجل المديون من حيث توبته ، وأن الله تعالى يحبه من هذه الجهة ، فينبغي أن يسامحه له نصف الربح ، وان كان هو قد سمح بالربح ، هذا هو الظاهر من سياق الخبرين (٢) المذكورين.
ثم ان الظاهر من كلام الأصحاب أنه لو أكذب نفسه وان لم يأت بالمال فإنه يجوز مطالبته ، وتحل مقاصته مما يجده الغريم من أمواله متى امتنع من التسليم ، ولم أقف فيه على نص : ومورد الروايتين المتقدمتين انما هو بذل المديون المال ، والإتيان به ، بل ربما ظهر من رواية المسئلة ـ الدالة على أنه إذا استحلفه فليس
__________________
(١) أقول : قال عليهالسلام في كتاب الفقه بعد هذا الكلام بيسير فإن أتاك الرجل بحقك بعد ما حالفته من غير ان تطالبه ، فان كنت مؤسرا أخذته فتصدقت به ، وان كنت محتاجا أخذت لنفسك ، والظاهر حمله على الاستحباب جمعا بينه وبين كلامه المذكور في الأصل ـ منه رحمهالله.
(٢) هذا الأمر هنا مفهوم من سياق الكلام وان لم يقع التصريح به في الخبر الا أنه ظاهر بغير اشكال منه رحمهالله.
له أن يأخذ منه شيئا ، وان لم يستحلفه فهو على حقه ـ هو عدم الجواز ، لأنها شاملة بإطلاقها لما لو أكذب نفسه ، أو بقي على إنكاره ، نعم خرج منها مورد النص المذكور من إعطائه المال من قبل نفسه ، ويبقى ما عداه والى ما ذكرنا يشير كلام صاحب الكفاية (١).
الثانية ـ أن يجحد نفسه ويتعذر استيفائه منه ، ولا إشكال في جواز الأخذ منه مقاصة ، وان أمكن إقامة البينة بالحق عند الحاكم ، وقيل : بعدم الجواز مع إمكان الإثبات عند الحاكم الشرعي ، وقد تقدم تحقيق في هذا المقام في المسألة المشار إليها في صدر هذا الكلام مفصلا جليا والله العالم.
المسألة العاشرة ـ من المستحبات في هذا الباب هو أنه يستحب للغريم الإرفاق بالمديون في الاقتضاء والمسامحة في الحساب وعدم الاستقضاء ، ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن حماد بن عثمان (٢) قال : «دخل رجل على أبى عبد الله عليهالسلام فشكى اليه رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو فقال له : أبو عبد الله عليهالسلام ما لأخيك فلان يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني استقضيت منه حقي قال : فجلس مغضبا فقال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ أرأيت ما حكى الله تعالى في كتابه فقال «وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» (٣) أترى أنهم خافوا الله أن يجور عليهم ، لا والله ما خافوا الا الاستقضاء فسماه الله عزوجل سوء الحساب ، فمن استقضى
__________________
(١) حيث قال : قالوا ولو أكذب نفسه جاز مطالبته ، وحل مقاصته مما يجده له مع امتناعه من التسليم ، لتصادقها على بقاء الحق في ذمة الخصم ، لكن ظاهر الروايات المذكورة على خلافه انتهى ، وممن صرح بالحكم المنقول عنهم (رضوان الله عليهم) المحقق في الشرائع ، فقال : أما لو أكذب الحالف نفسه جاز مطالبته ، وحل مقاصته مما يجد له مع امتناعه من التسليم ـ منه رحمهالله.
(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٩٤ الكافي ج ٥ ص ١٠١.
(٣) سورة الرعد الآية ـ ٢٣.
فقد أساء». وروى العياشي في تفسيره عن حماد بن عثمان (١) مثله وروى الصدوق في كتاب معاني الاخبار عن حماد بن عثمان (٢) عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه قال : لرجل يا فلان مالك ولأخيك؟ قال : جعلت فداك كان لي عليه شيء فاستقضيت عليه حقي فقال أبو عبد الله عليهالسلام : أخبرني عن قول الله عزوجل «يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» أتريهم يخافون أن يحيف الله عليهم أو يظلمهم ولكن خافوا الاستقضاء والمداقة».
وما رواه في الكافي (٣) عن محمد بن يحيى رفعه الى أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : قال له رجل : ان لي على بعض الحسنيين مالا وقد أعياني أخذه وقد جرى بيني وبينه كلام ، ولا آمن أن يجرى بيني وبينه ما اغتم له ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام ليس هذا طريق التقاضي ، ولكن إذا أتيته فاطل الجلوس ، والزم السكوت قال الرجل : فما فعلت ذلك الا يسيرا حتى أخذت مالي».
ومنها الانظار والتحليل ـ ويدل على الأول بعد الآية أعنى قوله عزوجل (٤) (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)» ـ الأخبار فروى في الكافي عن معاوية بن عمار (٥) في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من أراد أن يظله الله يوم لا ظل الا ظله ، قالها ثلاثا وهابه الناس أن يسألوه فقال : فلينظر معسرا أو يدع له من حقه». وبهذا المضمون أخبار عديدة في كتاب ثواب الأعمال.
وروى في التهذيب عن إبراهيم بن عبد الحميد (٦) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان لعبد الرحمن بن سيابة دينا على رجل قد مات ، وكلمناه أن يحلله فأبى ، قال : ويحه أما يعلم أن له بكل درهم عشرة دراهم إذا حلله ، فان لم يحلله فإنما له درهم بدرهم».
__________________
(١ ـ ٢) الوسائل الباب ١٦ ـ من أبواب الدين والقرض.
(٣) الكافي ج ٥ ص ١٠١.
(٤) سورة البقرة الآية ٢٨٠.
(٥) الكافي ج ٤ ص ٣٥.
(٦) التهذيب ج ٦ ص ١٩٥ الفقيه ج ٣ ص ١١٧.
وأما ما رواه في التهذيب عن هيثم الصيرفي (١) عن رجل عن أبى عبد الله عليهالسلام «في رجل كان له على رجل دين وعليه دين ، فمات الذي عليه فسأل أن يحلله منه أيهما أفضل يحلله منه أو لا يحلله قال : دعه ذا بذا». فقيل : انه محمول على ما إذا كان صاحب الدين معسرا عن أداء ما عليه من الدين ، فإنه لعل الله أن يتيح له من يقضى دين ذلك الميت فيقضى به الحي دينه.
ومنها حسن القضاء ، فروى في الفقيه مرسلا (٢) «قال النبي صلىاللهعليهوآله : ليس من غريم ينطلق من عند غريمه راضيا الا صلت عليه دواب الأرض ، ونون البحور ، وليس من غريم ينطلق صاحبه غضبان وهو مليء إلا كتب الله له بكل يوم يحبسه وليلة ظلما».
وروى في الكافي عن أبى بصير (٣) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : المدين ثلاثة ، رجل كان له فأنظر ، وإذا كان عليه أعطى ولم يمطل ، فذاك له ولا عليه ، ورجل إذا كان له استوفى ، وإذا كان عليه أوفى فذاك لا له ولا عليه ، ورجل إذا كان له استوفى ، وإذا كان عليه مطل فذاك عليه ولا له».
ومنها أن لا ينزل على غريمه ، ولا يأكل طعامه وشرابه ، فان فعل فلا يزيد على ثلاثة أيام ، وأن يحتسب ما يهديه اليه من دينه.
فروى في الكافي والتهذيب عن جراح المدائني (٤) عن ابى عبد الله عليهالسلام أنه كره أن ينزل الرجل على الرجل وله عليه دين ، وان كان قد صرها له الا ثلاثة أيام».
وروى المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم ، عن سماعة (٥) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل ينزل على الرجل وله عليه دين أياكل من طعامه فقال : نعم يأكل من طعامه ثلاثة أيام ، ثم لا يأكل بعد ذلك شيئا».
__________________
(١) التهذيب ج ٦ ص ١٨٩.
(٢) الفقيه ج ٣ ص ١١٣.
(٣) الكافي ج ٥ ص ٩٧.
(٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ١٠٢ التهذيب ج ٦ ص ٢٠٤.
وروى في التهذيب عن جميل بن دراج (١) في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يأكل عند غريمه أو يشرب من شرابه أو يهدي له الهدية؟ قال : لا بأس به».
وروى في التهذيب عن الحلبي (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام «أنه كره للرجل أن ينزل على غريمه ، قال : لا يأكل من طعامه ، ولا يشرب من شرابه ، ولا يعتلف من علفه».
وروى في الفقيه (٣) مرسلا قال : «وسئل أبو جعفر عليهالسلام عن الرجل يكون له على الرجل الدراهم والمال ، فيدعوه الى طعامه أو يهدي له الهدية قال : لا بأس».
وروى في الكافي والتهذيب عن غياث بن إبراهيم (٤) عن أبى عبد الله عليهالسلام «ان رجلا أتى عليا فقال له : ان لي على رجل دينا فأهدى الى هدية فقال عليهالسلام : احسبه من دينك عليه».
أقول : المستفاد من هذه الاخبار ـ بعد ضم بعضها الى بعض بحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مبينها وبه صرح الأصحاب أيضا ـ هو كراهة النزول على الغريم مطلقا ، وان كانت الثلاثة أخف كراهة وهي وان كانت سنة بالنسبة إلى الضيف النازل على أهل البلد ، لكن في غير صورة الدين ، والمنقول عن الحلي التحريم فيما زاد على الثلاثة ، ويحتمل خروج الثلاثة من الكراهة بالنظر الى ما قلناه ، وتخصيصها بما عدا الثلاثة ، وأنه ، يستحب احتساب الهدية من الدين ، كما قدمنا ذكره في صدر الكلام.
ومثل رواية غيث في الدلالة على ذلك مفهوم رواية هذيل بن حيان الصيرفي المتقدمة في الموضع الأول من المقصد الأول في القرض ، وقوله فيها «ان كان يصلك
__________________
(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٤.
(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٠٤.
(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٨١.
(٤) الكافي ج ٥ ص ١٠٣.
قبل أن تدفع اليه مالك فخذ ما يعطيك» فان مفهومه المنع من قبول ذلك لو لم يكن كذلك ، وقد قدمنا ثمة بيان حمله على الكراهة ، والاستحباب أن يحسبه من الدين
قال في الدروس : ويستحب احتساب هدية الغريم من دينه ، للرواية عن على عليهالسلام ويتأكد فيما لم يجر عادته به انتهى. والظاهر أنه أشار بقوله ويتأكد الى آخره الى ما ذكرنا من رواية هذيل بن حبان ، فإنها هي المتضمنة لذلك مما وصل إلينا من الاخبار.
وكيف كان فما ذكرناه من كراهة النزول ينبغي حمله على ما لم يظهر من المديون كراهة النزول عليه ، والتأذي بالجلوس عنده وأكل طعامه ، والا فلا يبعد التحريم ، والاحتياط لا يخفى.
ومنها ترك التعرض للمديون في الحرم وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في المسألة الثالثة من هذا المقصد.
ومنها استحباب التقصير على نفسه لأجل التوصل إلى أداء دينه ، وبه يجمع بين ما دل من الاخبار على وجوب ذلك ، كروايتي سماعة المتقدمتين في صدر هذا الكتاب ، وبين ما دل على العدم ، كرواية أبي موسى ورواية موسى بن بكر ومرسلة على بن إسماعيل المتقدم جميعه ثمة (١).
قال في الدروس : ويجب على المديون الاقتصاد في النفقة ، ويحرم الإسراف ، ولا يجب التقتير ، وهل يستحب؟ الأقرب ذلك إذا رضي عياله.
ومنها استحباب الاشهاد على الدين فروى في الكافي عن جعفر بن إبراهيم (٢) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «أربعة لا يستجاب لهم دعوة ، الرجل جالس في بيته يقول اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالطلب ، ورجل كانت له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك ، ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهم ارزقني ، فيقال : ألم آمرك بالاقتصاد ، ألم آمرك بالإصلاح ، ثم قال : «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا
__________________
(١) ص ١٠٠.
(٢) أصول الكافي ج ٢ ص ٥١١.
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة ، فيقال له : ألم آمرك بالشهادة». وعن عمران بن أبى عاصم (١) قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام أربعة لا يستجاب لهم دعوة ، أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بينة ، يقول : الله عزوجل ألم آمرك بالشهادة». وعن عبد الله بن سنان (٢) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من ذهب حقه على غير بينة لم يؤجر».
ومنها استحباب ترك الاستدانة مع الاستغناء وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في صدر هذا الكتاب.
ومنها انه يستحب أداء الدين على الأبوين ويتأكد بعد الموت ، فروى الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن محمد بن مسلم (٣) في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «ان العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضى عنهما الدين ولا يستغفر لهما فيكتبه الله عاقا ، وانه ليكون غير بار لهما في حياتهما فإذا ماتا قضى عنهما الدين ، واستغفر لهما ، فيكتبه الله بارا ، قال : وقال أبو عبد الله عليهالسلام أن أحببت أن يزيد الله في عمرك فبر أبويك ، وقال : البر يزيد في الرزق».
وعن سالم الحناط (٤) عن أبى جعفر عليهالسلام قال : قلت له : أيجزي الولد الوالد؟ قال : لا إلا في خصلتين يجده مملوكا فيشترى فيعتقه ، أو يكون عليه دين فيقضيه عنه». ورواه الكليني وكذا الذي قبله.
المسألة الحادية عشر ـ لو ضمن أحد عن الميت دينه ، فالظاهر أنه لا خلاف في أنه تبرأ ذمته وينتقل المال إلى ذمة الضامن ، سواء كان في مرض الموت أو قبله أو بعده ، واستدل عليه بأن الضمان ناقل فهو بمنزلة الأداء ، والمعتمد في ذلك انما هو الاخبار المتفقة على الحكم المذكور.
ومنها ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله
__________________
(١ ـ ٢) الوسائل الباب ـ ١٠ من أبواب الدين.
(٣ ـ ٤) الوسائل الباب ـ ٣٠ من أبواب الدين.
بن سنان (١) عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يموت وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : إذا رضى به الغرماء فقد برئت ذمة الميت».
وما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٢) في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يكون عليه دين فحضره الموت فيقول وليه : على دينك قال : يبرؤه ذلك وان لم يوفه وليه من بعده ، وقال : أرجو ان لا يأثم وانما إثمه على الذي يحبسه».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن الجهم (٣) في الموثق قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل مات وله على دين وخلف ولدا رجالا ونساء وصبيانا فجاء رجل منهم فقال : أنت في حل مما لأبي عليك من حصتي ، وأنت في حل مما لإخوتي وأخواتي وأنا ضامن لرضاهم عنك ، قال : تكون في سعة من ذلك وحل ، قلت : فان لم يعطهم؟ قال : ذلك في عنقه ، قلت : فان رجع الورثة على؟ فقالوا أعطنا حقنا فقال : لهم ذلك في الحكم الظاهر ، فأما ما بينك وبين الله عزوجل فأنت في حل إذا كان الرجل الذي أحل لك يضمن لك عنهم رضاهم فيحتمل لما ضمن لك ، قلت : فما تقول في الصبي لامه أن تحلل؟ قال : نعم إذا كان لها ما ترضيه أو تعطيه ، قلت : وان لم يكن لها ، قال : فلا ، قلت : فقد سمعتك تقول : أنه يجوز تحليلها ، فقال : إنما أعني بذلك إذا كان لها ، قلت : فالأب يجوز تحليله على ابنه فقال له : ما كان لنا مع أبى الحسن عليهالسلام أمر يفعل في ذلك ما شاء ، قلت : فان الرجل ضمن لي عن ذلك الصبي ، وأنا من حصته في حل فان مات الرجل قبل أن يبلغ الصبي فلا شيء عليه؟ قال الأمر جائز على ما شرط لك».
وأنت خبير بأنه بالنظر الى هذه الاخبار لا اشكال فيما ذكرنا من الحكم المذكور ، انما الإشكال في أن المشهور اشتراط صحة الضمان برضا المضمون
__________________
(١) الكافي ج ٥ ص ٩٩ التهذيب ج ٦ ص ١٨٧.
(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٨٨.
(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٦٧.
له ، ونقل عن الشيخ العدم ، وهذه الاخبار قد اختلفت في ذلك ، فظاهر صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة بل صريحها الدلالة على القول المشهور.
وظاهر الخبرين الأخيرين الدلالة على القول الأخر ، ومثلهما أيضا في الدلالة على ذلك ، ما رواه الشيخ عن حبيب الخثعمي (١) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قلت له : الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير اذن صاحبه؟ قال : لا يأخذ الا أن يكون له وفاء ، قال : قلت : أرأيت ان وجد من يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال : نعم».
قال في الوافي يعني وأشهد الضامن على نفسه بأنه ضامن ، وينبغي حمله على ما إذا كان الضامن مليا ، لما تقدم في موثقة الحسين بن الجهم ، والمسألة لذلك محل اشكال ، حيث أنه لا يحضرني الان وجه يجمع به بين هذه الاخبار ـ ثم انه لا يخفى ان موثقة الحسين بن الجهم قد اشتملت على فوائد لطيفة ، ونكت شريفة يحسن التنبيه عليها في المقام.
الفائدة الأولى ـ يفهم من الخبر المذكور أن الأحكام الشرعية انما تبنى على ما هو الظاهر دون الواقع ونفس الأمر ، كما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم ، سيما في كتب العبادات ، فإنه حكم بجواز رجوع الورثة عليه في الحكم الظاهر ، وان كان في الواقع صار بريء الذمة بضمان الولي.
الفائدة الثانية ـ فيه دلالة على القاعدة المشهورة من تقييد المطلق وتخصيص العام ، حيث أنه بعد ان أفتى بأن تحليل الام مشروط بأن يكون لها مال ، قال له السائل : انى سمعت تقول أنه يجوز تحليلها مطلقا ، أجاب عليهالسلام بأني إنما أردت بذلك أن يكون لها مال ، فصار فتواه في هذا الخبر مخصصا لما أطلقه أولا مما سمعه الراوي قبل هذه المسألة.
الثالثة ـ ما ذكره عليهالسلام من جواز تحليل الأب على ابنه ، لعله محمول على الاستحباب ، بمعنى أنه يستحب للابن الرضا بذلك ، كما يشير حكايته عن أبيه عليهالسلام
__________________
(١) التهذيب ج ٧ ص ١٨٠ الفقيه ج ٣ ص ١٩٤.
وأنه ليس لهم معه أمر ، وأنه يفعل في أموالهم ما يشاء ، وقد تقدم تحقيق المسألة وأن الحق انه ليس للأب التصرف في مال ابنه زيادة على النفقة الواجبة الا على جهة القرض ، وان دل جملة من الاخبار على الجواز مطلقا ، مثل ظاهر هذا الخبر ، وقد ذكرنا أن الأظهر حملها على التقية ، واما هذا الخبر فالظاهر حمله على الاستحباب كما ذكرناه.
الرابعة ـ فيه دلالة على اشتراط أن يكون الضامن مليا لانه عليهالسلام شرط في تحليل الام أن يكون لها مال ـ وبه صرح الأصحاب أيضا ـ إلا مع رضاء المستحق بضمان المعسر ، فإنه يلزم أيضا ، ويدل عليه حديث ضمان على بن الحسين عليهالسلام لدين عبد الله بن الحسن (١).
الخامسة ـ ظاهر الخبر المذكور وكذا خبر إسحاق بن عمار صحة الضمان بغير الصيغة التي اشترطها الأصحاب ، حتى أن بعضهم صرح بأنه لو قال : على دينه أو ما عليه على ، فإنه لا يوجب الضمان ، لجواز إرادته أن للغريم تحت يده مال ، أو أنه قادر على تخليصه ، مع أن موثقة إسحاق صريح في براءة ذمته ، لقوله على دينك ، وهو مما يؤيد ما قدمناه من سعة الدائرة في العقود الشرعية.
المسألة الثانية عشر ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يجب على المديون دفع جميع ما يملكه في الدين مع حلول الدين وطلب صاحبه ، ولا يجوز تأخيره والحال هذه ، فإن أخره كان عاصيا ، ووجب على الحاكم حبسه.
__________________
(١) وهو ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عيسى بن عبد الله انه احتضر عبد الله بن الحسن عليهالسلام فاحتج عليه غرماؤه وطالبوه بديونهم فقال : لا مال عندي فأعطيكم ولكن ارضوا بمن شئتم من بنى عمى على بن الحسين عليهماالسلام أو عبد الله بن جعفر (رضى الله عنه) فقال الغرماء : اما عبد الله بن جعفر فملي مطول ، وعلى بن الحسين رجل لا مال له صدوق ، وهو أحبها إلينا فأرسل إليه أخبره بالخبر فقال : أضمن لكم المال إلى غلة ولم يكن له غلة ، فقال القوم : قد رضينا وضمنه ، فلما أتت الغلة أتاح الله عزوجل ـ له بالمال فاداه منه ـ رحمهالله. ـ التهذيب ج ٦ ص ٢١١ الفقيه ج ٣ ص ٥٥.
ويستثني له من ما يملكه دار السكنى ، وعبد الخدمة وفرس الركوب ان كان من أهلهما ، وقوت يوم وليلة له ولعياله ، وثياب تجمله ، وكذا ثياب عياله ، وزاد بعض استثناء كتب العلم.
ولعل مستندهم في الحكم الأول عموم أدلة وجوب أداء الدين وإبراء الذمة من أموال الناس مع القدرة والتمكن ، وكأنه مجمع عليه بينهم ، بل قيل : بين المسلمين وحينئذ فلا بد لكل ما استثنى من دليل ، فأما دار السكنى فنقل في التذكرة إجماع علمائنا على عدم جواز بيعها ، خلافا للعامة.
ويدل على ذلك جملة من الاخبار ، منها ما رواه في الكافي عن عثمان بن زياد (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان لي على رجل دينا وقد أراد أن يبيع داره فيقضيني فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : أعيذك بالله ان تخرجه من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه».
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن إبراهيم بن هاشم (٢) «أن محمد بن أبى عمير كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر ، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم فباع دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم ، وحمل المال الى بابه فخرج اليه محمد بن أبى عمير فقال : ما هذا فقال : هذا مالك الذي لك على قال : ورثته؟ قال : لا ، قال : وهب لك؟ قال : لا ، قال : فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟ قال : لا ، قال : فما هو؟ قال : بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني ، فقال : محمد بن أبى عمير حدثني ذريح المحاربي عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : لا يخرج الرجل عن مسقط رأسه بالدين ، ارفعها فلا حاجة لي فيها ، والله انى لمحتاج في وقتي هذا الى درهم واحد ، وما يدخل ملكي منها درهم واحد».
وما رواه في الكافي عن الحلبي (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله
__________________
(١) الكافي ج ٥ ص ٩٧ لكن فيه مرة واحدة (أعيذك بالله) الى آخره.
(٢) التهذيب ج ٦ ص ١٩٨ الفقيه ج ٣ ص ١١٧.
(٣) الكافي ج ٥ ص ٩٨.
عليهالسلام قال : «لا تباع الدار ولا الجارية في الدين ، وذلك أنه لا بد للرجل من ظل يسكنه وخادم يخدمه».
وما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة (١) قال : «سمعت جعفر بن محمد عليهماالسلام يقول وسئل عن رجل عليه دين وله نصيب في دار وهي تغل غلة فربما بلغت غلتها فوته ، وربما لم تبلغ حتى يستدين ، وان هو باع الدار وقضى دينه بقي لا دار له؟ فقال : ان كان في داره ما يقضى به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله فليبع الدار والا فلا».
وعن ذريح المحاربي (٢) في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه قال : لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين.
وقال الصدوق : كان شيخنا محمد بن الحسن رضى الله عنه (٣) «يروى انه ان كانت الدار واسعة يكتفى صاحبها ببعضها فعليه أن يسكن منها ما يحتاج ويقضى ببقيتها دينه ، وكذا ان كفته دار بدون ثمنها باعها واشترى بثمنه دارا ليسكنها ويقضى بباقي الثمن دينه».
وهذه الروايات كما ترى ظاهرة في استثناء الدار كما ذكره الأصحاب ، ودلت صحيحة الحلبي أو حسنته على استثناء الجارية أيضا ، وفي معناها العبد أيضا ، ولعل ذكر الجارية إنما خرج مخرج التمثيل.
والظاهر أن الاستثناء انما هو بالنسبة الى ما يجب عليه من وجوه الأداء ، بمعنى أنه لا يجب عليه بيع داره لوفاء دينه ، ولا يجبره الحاكم على ذلك ، أو يبيع عليه قهرا ، أما لو اختار هو قضاء دينه ببيع داره فالظاهر أنه لا مانع منه ، وأما حديث ابن ابى عمير وامتناعه من القبول ، فالظاهر أنه لمزيد ورعه وتقواه ، فعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام الأصحاب بقولهم لا يجوز بيع الدار ونحوها على ما ذكرناه بمعنى أنه لا يقهر على ذلك ويلزم به.
__________________
(١) التهذيب ج ٦ ص ١٩٨.
(٢ ـ ٣) الفقيه ج ٢ ص ١١٨.
وأما ما رواه الشيخ بسنده عن سلمة بن كهيل (١) قال : «سمعت عليا عليهالسلام يقول لشريح : انظر الى أهل المعك والمطل ورفع حقوق الناس من أهل القدرة واليسار ممن يدلي بأموال المسلمين الى الحكام فخذ للناس بحقوقهم منهم ، وبع فيها العقار والديار ، فانى سمعت رسول الله عليهالسلام يقول : مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم ، ومن لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه» الحديث.
ورواه الصدوق عن الحسن بن محبوب عن عمر بن أبى المقدام عن أبيه عن سلمة بن كهيل (٢) مثله ، فقيل انه مخصوص بالغني إذا أمطل وأخفى ماله ، واحتمل فيه أيضا الحمل على ما يزيد على قدر الحاجة ، والأقرب عندي الحمل على التقية كما يفهم من عبارة التذكرة المتقدمة ، وممن نقل عنه ذلك لشريح المذكور في هذا الخبر ، الشافعي ومالك في تتمة الخبر ـ مما لم نذكره ـ ما يساعد على هذا الاحتمال أيضا (٣).
وما نقله الصدوق عن شيخه المذكور يدل عليه خبر مسعدة بن صدقة (٤) والعمل به متجه ، ولا منافاة فيه ، لباقي أخبار المسألة لأن الظاهر منها كما يشير اليه قوله عليهالسلام في خبر عثمان بن زياد «أعيذك بالله أن تخرجه». الى آخره انما كونه مع بيع الدار يبقى بلا دار بالكلية» واليه يشير أيضا قوله في رواية الحلبي لا بد للرجل من ظل يسكنه.
وأما ما يدل على استثناء الخادم فالظاهر أنه الإجماع ، مضافا الى رواية الحلبي
__________________
(١ ـ ٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٢٥ الفقيه ج ٣ ص ٨.
(٣) حيث قال فيه «ورد اليمين على المدعى مع بينته ، فان ذلك اجلى للعمى وأثبت في القضاء» فان اليمين لا محل لها هنا عندنا ، لأن وظيفة المدعى البينة ، فإذا أقام البينة ثبت حقه ، ولا يكلف اليمين معها ، وانما هو مذهب جملة من العامة ، واحتمل بعض مشايخنا الاختصاص بشريح المخاطب بهذا الكلام حيث انه ليس أهل للقضاء ـ منه رحمهالله.
(٤) التهذيب ج ٦ ص ١٩٨.
المتقدمة ، واما غيرهما فلم أقف عليه في شيء من الاخبار ، والظاهر انه من أجل ذلك اقتصر المحدث الكاشاني في المفاتيح عليهما ، مع أن عادته غالبا اقتفاء اثر المشهور في هذا الكتاب ، ولعل المستند فيه هو الضرورة والحاجة مع انه قد روى في الكافي عن عمر بن يزيد (١) قال : «اتى رجل أبا عبد الله عليهالسلام يقتضيه وانا حاضر فقال له : ليس عندنا اليوم شيء ولكن يأتينا خطر ووسمة فتباع ونعطيك إنشاء الله تعالى فقال له الرجل : عدني فقال له : كيف أعدك وانا لما لا أرجو أرجى منى لما أرجو».
وأنت خبير بما في هذا الخبر من الدلالة على التوسعة وعدم ما ذكروه من التضييق ، فإنه يبعد كل البعد ان لا يكون له (عليهالسلام) مال بالكلية سوى المستثنيات المذكورة ، إذ المستفاد من الاخبار أنه كان ذا ثروة وأملاك وان تعذر عليه النقد في ذلك الوقت.
ويؤيده أيضا ما رواه في الكافي والتهذيب والفقيه عن بريد العجلي (٢) في الصحيح في بعضها قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان على دينار ـ وأظنه قال : ـ لأيتام ـ وأخاف ان بعت ضيعتي بقيت وما لي شيء ، فقال : لا تبع ضيعتك ولكن أعطه بعضا وأمسك بعضا». واحتمال انظار الولي له ، أو انه عليهالسلام رخص له لولايته العامة كما قيل الظاهر بعده ، سيما انا لم نقف لهم لما ذكروه من التضييق هنا على الوجه المذكور في كلامهم على دليل واضح من كتاب وسنة ، ونحو صحيحة بريد المذكور فيما دلت عليه قوله عليهالسلام في كتاب فقه الرضوي (٣) «وان كان له ضيعة أخذ منه بعضها ، وترك البعض إلى ميسرة». على أنه مما يبعد كل البعد استثناء مثل الخادم والفرس ونحوهما مما تقدم مع عدم جواز أزيد من قوت يوم وليلة ، مع أن القوت أضر ، وبالجملة فالمسألة لا يخلو من شوب الإشكال (٤).
__________________
(١ ـ ٢) الكافي ج ٥ ص ٩٨ التهذيب ج ٦ ص ١٨٦.
(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٩١.
(٤) أقول وملخص ما ذكر أنه مع ثبوت المنع من بيع هذه الأشياء في الدين
وأما ما تقدم من أنه مع القدرة على الوفاء والمقابلة بالمطل فإنه يحبس ، فيدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن عمار بن موسى (١) في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «كان أمير المؤمنين عليهالسلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه بينهم يعنى ماله».
وعن غياث (٢) «عن جعفر عن أبيه عن على عليهمالسلام ، انه كان يحبس بالدين فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا». وفي معناهما أخبار أخر.
وما رواه في التهذيب عن السكوني (٣) عن جعفر عن أبيه عليهماالسلام أن عليا عليهالسلام ، كان يحبس في الدين ثم ينظر فان كان له مال اعطى الغرماء ، وان لم يكن له المال دفعه الى الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم ، ان شئتم آجروه وان شئتم استعملوه». الحديث هذا ـ ولا يخفى ما فيه.
أما ما دل عليه خبر السكوني من أنه دفعه الى الغرماء ليؤجروه أو يستعملوه مع ظهور إفلاسه ، ظاهر المنافاة لما دل عليه خبر غياث ، وما في معناه من أنه يخلى سبيله حتى يستفيد مالا ،
وظاهر جملة من الأصحاب حمل خبر السكوني على من يمكنه التكسب وأنه مع إمكان ذلك يجب عليه ، وهو أحد القولين في المسألة ، وبه قال ابن حمزة والعلامة في المختلف والشهيد في الدروس (٤) ومنع ذلك الشيخ في الخلاف
__________________
واستثنائها لأجل الضرورة ، أو لورود النص في بعضها لا يدل على وجوب بيع ما سواها في الدين ، كما ادعوه ، لما عرفت من حديث الصادق عليهالسلام مع غريمه ، ونحوه الذي بعده ، فإنه لو كان الأمر كما ذكروه لم يتجه لما دل عليه هذان الخبران من حمل يحملان عليه منه رحمهالله.
(١) الكافي ج ٥ ص ١٠٢ التهذيب ج ٦ ص ١٩١.
(٢ ـ ٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩.
(٤) قال في الدروس : ويجب التكسب لقضاء الدين على الأقوى بما يليق
وابن إدريس لأصالة البراءة ، وللاية وهي قوله عزوجل (١) «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» أقول : ويدل عليه أيضا خبر غياث المذكور.
ونحوه ما رواه الصدوق والشيخ مرسلا عن الأصبغ بن نباتة (٢) عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) في خبر قال فيه : «وقضى (عليهالسلام) في الدين أنه يحبس صاحبه ، وان تبين إفلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا».
ويؤيد أيضا ما رواه الشيخ عن السكوني (٣) «عن جعفر عن أبيه عن على عليهالسلام أن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا فأبى أن يحبسه ، وقال (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)». والتقريب فيه أنه لو وجب الاكتساب لأمره به ، وحيث ان الشيخ في الخلاف (٤) انما احتج بالآية أجاب في المختلف عنها
__________________
(١) سورة البقرة الآية ـ ٢٨٠.
(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٣٢ الفقيه ج ٣ ص ١٩.
(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩.
(٤) أقول ظاهر العلامة في التذكرة اختيار ما ذهب اليه الشيخ وابن إدريس حيث ، قال : إذا ثبت إعسار المديون لم يجز حبسه ، ولا ملازمته ، ووجب إنظاره