الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠
إلاّ ولعنه وكنت معه ، ولاّك عمر الشام فخنته ، ثم ولاّك عثمان فتربّصت عليه ، وأنت الذي كنت تنهى أباك عن الإسلام حتى قلت مخاطباً له :
يا صخر لا تسلمنْ طوعاً فتفضحَنا |
|
بعد الذين ببدرٍ أصبحوا مزقا |
لا تركننّ إلى أمر تقلّدنا |
|
والراقصات بنعمان به الحرقا |
وكنت يوم بدر ، وأُحد ، والخندق ، والمشاهد كلّها تقاتل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد علمت الفراش الذي وُلدت عليه».
قال السبط في التذكرة (١) (ص ١١٦) : قال الأصمعي والكلبي في المثالب : معنى قول الحسن لمعاوية : قد علمت الفراش الذي ولدت فيه : أنّ معاوية كان يقال إنّه من أربعة من قريش : عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، مسافر بن أبي عمرو ، أبي سفيان ، العبّاس بن عبد المطّلب. وهؤلاء كانوا ندماء أبي سفيان ، وكان [كلّ] منهم يُتّهم بهند.
فأمّا عمارة بن الوليد فكان من أجمل رجالات قريش.
وأمّا مسافر بن أبي عمرو ، فقال الكلبي : عامّة الناس على أنّ معاوية منه ، لأنّه كان أشدّ الناس حبّا لهند ، فلمّا حملت هند بمعاوية خاف مسافر أن يظهر أنّه منه ، فهرب إلى ملك الحيرة فأقام عنده ، ثم إنّ أبا سفيان قدم الحيرة فلقيه مسافر وهو مريض من عشقه لهند ، وقد سقى بطنه ، فسأله عن أهل مكة فأخبره ، وقيل : إنّ أبا سفيان تزوّج هنداً بعد انفصال مسافر عن مكة ، فقال له أبو سفيان : إنّي تزوّجت هنداً بعدك ، فازداد مرضه ، وجعل يذوب ، فوصف الكيّ ، فاحضروا المكاوي والحجّام. فبينا الحجّام يكويه إذ حبق الحجّام ، فقال مسافر : قد يحبق العير والمكواة في النار (٢). فسارت مثلاً ، ثم مات مسافر من عشقه لهند.
__________________
(١) تذكرة الخواص : ص ٢٠٢ ، وما بين المعقوفين منه.
(٢) مجمع الأمثال : ٢ / ٤٨٠ رقم ٢٨٥٠.
وقال الكلبي : كانت هند من المغْلِيمات (١) ، وكانت تميل إلى السودان من الرجال ، فكانت إذا ولدت ولداً أسود قتلته ، قال : وجرى بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طابة بين يدي معاوية وهو خليفة ، فقال يزيد لإسحاق : إنّ خيراً لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنّة. أشار يزيد إلى أنّ أُمّ إسحاق كانت تتّهم ببعض بني حرب ، فقال له إسحاق : إنّ خيراً لك أن يدخل بنو العبّاس كلّهم الجنّة. فلم يفهم يزيد قوله وفهم معاوية ، فلمّا قام إسحاق قال معاوية ليزيد : كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك؟ قال : قصدت شَيْنَ إسحاق. قال : وهو كذلك أيضاً. قال : وكيف؟ قال : أما علمت أنّ بعض قريش في الجاهليّة يزعمون أنّي للعبّاس؟ فسُقِط في يدي يزيد.
وقال الشعبي : وقد أشار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هند يوم فتح مكة بشيء من هذا ، فإنّها لمّا جاءت تبايعه وكان قد أهدر دمها ، فقالت : على ما أُبايعك؟ فقال : «على أن لا تزنين». فقالت : وهل تزني الحرّة؟ فعرفها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فنظر إلى عمر فتبسّم.
وقال الزمخشري في ربيع الأبرار (٢) (ج ٣) (٣) باب القرابات والأنساب وذكر حقوق الآباء والأُمّهات وصلة الرحم والعقوق :
وكان معاوية يُعزى إلى أربعة : مسافر بن أبي عمرو ، وإلى عمارة بن الوليد ، وإلى العبّاس بن عبد المطّلب ، وإلى الصباح مغنّي أسود كان لعمارة. قالوا : وكان أبو سفيان دميماً ، قصيراً ، وكان الصباح عسيفاً لأبي سفيان ، شابّا وسيماً ، فدعته هند إلى نفسها ـ وقالوا : إنّ عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً ـ وإنّما كرهت أن تضعه في
__________________
(١) المغْلِيمات : جمع مَغليمة. وهي التي تغلبها شهوتها.
(٢) وقفت منه على عدّة نسخ ، منها نسخة في مكتبة الأوقاف العامّة ببغداد رقم ٣٨٨. (المؤلف)
(٣) ربيع الأبرار : ٣ / ٥٥١.
منزلها ، فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك ، وفي ذلك قال حسّان :
لمن الصبيُّ بجانبِ البطحاءِ |
|
في الترب مُلقى غير ذي مهدِ |
نجلت به بيضاءُ آنسةٌ |
|
من عبد شمسٍ صلبةُ الخدِّ |
وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج (١) (١ / ١١١) : كانت هند تُذكَر في مكة بفجور وعهر ، وقال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار : كان معاوية. وذكر إلى آخر الكلمة المذكورة ، فقال : والذين نزّهوا هنداً عن هذا القذف ، فذكر حديث الفاكه الذي ذكره أبو عبيد معمر بن المثنّى.
وفي كتاب لزياد بن أبيه مجيباً معاوية عن تعييره إيّاه بأمّه سُميّة : وأمّا تعييرك لي بسميّة فإن كنتُ ابن سُميّة فأنت ابن جماعة.
شرح ابن أبي الحديد (٢) (٤ / ٦٨).
٦٨ ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٣) من طريق عبد الملك بن عمير قال : قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية ، فقال : من أنت؟ قال : جارية بن قدامة. قال : وما عسيت أن تكون هل أنت إلاّ نحلة؟ قال : لا تقل فقد شبّهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق ، والله ما معاوية إلاّ كلبة تعاوي الكلاب ، وما أُميّة إلاّ تصغير أَمة.
وأخرج عن الفضل بن سويد قال : وفد جارية بن قدامة على معاوية ، فقال له معاوية : أنت الساعي مع عليّ بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك ، تجوس قرى عربيّة تسفك دماءهم؟ قال جارية : يا معاوية دع عنك عليّا فما أبغضنا عليّا منذ
__________________
(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٣٣٦ خطبة ٢٥.
(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٨٣ كتاب ٤٤.
(٣) مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٣٦٥.
أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه. قال : ويحك يا جارية ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك جارية! قال : أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سمّوك معاوية. إلى آخره. وذكره بطوله وما قبله السيوطي في تاريخ الخلفاء (١) (ص ١٣٣).
وفي لفظ ابن عبد ربّه : قال معاوية لجارية : ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك جارية! قال : ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك معاوية وهي الأُنثى من الكلاب! قال : لا أُمّ لك. قال : أُمّي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا ، قال : إنّك لتهدّدني؟ ـ قال : أما والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا ، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا ـ إنّك لم تفتتحنا قسراً ، ولم تملكنا عنوة ، ولكنك أعطيتنا عهداً وميثاقاً ، وأعطيناك سمعاً وطاعة ، فإن وفيت لنا وفينا لك ، وإن فزعت إلى غير ذلك فإنّا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وألسنة حِداداً. قال له معاوية : لا كثّر الله في الناس أمثالك. قال جارية : قل معروفاً وراعنا فإنّ شرّ الدعاء المحتطب.
العقد الفريد (٢) (٢ / ١٤٣) في مجاوبة الأُمراء والردّ عليهم ، وذكره الأبشيهي قريباً من هذا اللفظ في المستطرف (٣) (١ / ٧٣) وما ذكرناه بين الخطّين من لفظه.
٦٩ ـ دخل شريك بن الأعور على معاوية وكان دميماً ، فقال له معاوية : إنّك لدميم والجميل خير من الدميم ، وإنّك لشريك وما لله من شريك ، وإنّ أباك لأعور والصحيح خير من الأعور ، فكيف سُدْت قومك؟
فقال له : إنّك معاوية وما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت الكلاب ، وإنّك لابن صخر والسهل خير من الصخر ، وإنّك لابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنّك
__________________
(١) تاريخ الخلفاء : ص ١٨٦.
(٢) العقد الفريد : ٣ / ٢١٤.
(٣) المستطرف : ١ / ٥٨.
لابن أُميّة وما أُميّة إلاّ أَمَة صُغِّرت ، فكيف صرت أمير المؤمنين؟ ثم خرج وهو يقول :
أيشتمني معاويةُ بنُ حربٍ |
|
وسيفي صارمٌ ومعي لساني |
وحولي من ذوي يزنٍ ليوثٌ |
|
ضراغمةٌ تهشُّ إلى الطعانِ |
يعيّر بالدمامة من سفاهٍ |
|
وربّات الجمال من الغواني |
المستطرف (١) (١ / ٧٢).
قال الأميني : إنّ معاوية لمّا كان تتوجّه إليه تلكم القوارص من ناحية اسمه ، ولعلّه كان لا ينسى معناه عند توجيه الخطاب إليه بذلك ، ولم يك له بدّ منه إذ سمّته به هند وما كان يسعه أن يخطّئها ، فبذل ألف ألف درهم لعبد الله بن جعفر الطيار أن يسمّي أحد أولاده معاوية (٢) ، زعماً منه بتخفيف الوطأة إن كان له سميّ في البيت الهاشمي. لكن خفي على المغفّل أنّ فناء آل هاشم لا يقصر عن فناء أصحاب الكهف ، فإنّ كلبهم ما دنّس ساحتهم ، فانّى تدنّس الأسماء تلك الأفنية المقدّسة التي منها بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه؟!
٧٠ ـ ومن خطبة لمولانا أمير المؤمنين عليهالسلام : «والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة».
ولابن أبي الحديد في شرحه (٣) (٢ / ٥٧٢ ـ ٥٨٩) كلمة ضافية في شرح هذه الخطبة فيها فوائد جمّة من جهات شتّى ، ومنها كلمة الجاحظ أبي عثمان حول معاوية ،
__________________
(١) المستطرف : ١ / ٥٧.
(٢) تاج العروس : ١٠ / ٢٦٠. (المؤلف)
(٣) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢١١ ـ ٢٦٠ كتاب ١٩٣.
وقول أبي جعفر النقيب : إنّ معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليّا ولا بمحاربته إيّاه ، ولكن عقيدته لم تكن صحيحة ولا إيمانه حقّا ، وكان من رءوس المنافقين هو وأبوه ، ولم يسلم قلبه قطّ ، وإنّما أسلم لسانه ، وكان يذكر من حديث معاوية ومن فلتات قوله ، وما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئاً كثيراً ... إلى آخره.
٧١ ـ لمّا قتل العبّاس بن ربيعة يوم صفّين عرار بن أدهم من أصحاب معاوية ، تأسّف معاوية على عرار ، وقال : متى ينطف فحل بمثله؟ أيُطلّ دمه؟ لاها الله ذا. ألا لله رجل يشري نفسه يطلب بدم عرار؟ فانتدب له رجلان من لخم. فقال : اذهبا فأيّكما قتل العبّاس برازاً فله كذا. فأتياه ودعواه إلى البراز ، فقال : إنّ لي سيّداً أُريد أن أُؤامره ، فأتى عليّا فأخبره الخبر ، فقال عليّ : «والله لودّ معاوية أنّه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه (١) إطفاءً لنور الله ، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون».
عيون الأخبار لابن قتيبة (١ / ١٨٠).
٧٢ ـ لمّا سلّم الحسن الأمر إلى معاوية ، قال الخوارج : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه ، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه. فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلّوا بالنخيلة عند الكوفة ، وكان الحسن بن عليّ قد سار يريد المدينة ، فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة ، فلحقه رسوله بالقادسيّة أو قريباً منها فلم يرجع ، وكتب إلى معاوية : «لو آثرت أن أُقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك ، فانّي تركتك لصلاح الأُمّة وحقن دمائها»
الكامل لابن الأثير (٢) (٣ / ١٧٧).
__________________
(١) النيط : الوسط بين الأمرين. (المؤلف)
(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٤٤٩ حوادث سنة ٤١ ه.
٧٣ ـ قال الأسود بن يزيد : قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الخلافة؟ فقالت : وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر ، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة ، وكذلك غيره من الكفّار.
تاريخ ابن كثير (١) (٨ / ١٣١) قال : أخرجه أبو داود الطيالسي ، وابن عساكر (٢).
تشبيه أم المؤمنين معاوية بفرعون وغيره من الكفّار في ملكه يُعرب عن جليّة حال ذلك الملك العضوض ومالك أزمّته (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٣).
٧٤ ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٤) (٦ / ٤٢٥) من طريق الشعبي قال : خطب الناس معاوية ، فقال : لو أنّ أبا سفيان ولد الناس كلّهم كانوا أكياساً. فقام إليه صعصعة بن صوحان فقال له : قد ولد الناس كلّهم من هو خير من أبي سفيان : آدم عليهالسلام فمنهم الأحمق والكيّس ، فقال معاوية : إنّ أرضنا قريبة من المحشر. فقال له : إنّ المحشر لا يبعد على مؤمن ولا يقرب من كافر. فقال معاوية : إنّ أرضنا أرض مقدّسة. فقال له صعصعة : إنّ الأرض لا يقدّسها شيء ولا ينجّسها ، إنّما تقدّسها الأعمال. فقال معاوية : عباد الله اتّخذوا الله وليّا واتّخذوا خلفاءه جنّة تحترزوا بها. فقال صعصعة ، كيف وكيف؟ وقد عطّلت السنّة ، وأخفرت الذمّة ، فصارت عشواء مطلخمّة ، في دهياء مدلهمّة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكّنت منها الأنكاث. فقال له
__________________
(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٠ حوادث سنة ٦٠ ه.
(٢) مختصر تاريخ دمشق : ٢٥ / ٤٢.
(٣) هود : ٩٧ ـ ٩٩.
(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٩٢ ـ ٩٣ رقم ٢٨٨١.
معاوية : يا صعصعة ، لَأَن تقعي على ظلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي عليّ ، ولقد هممت أن أبعث إليه. فقال له صعصعة : إي والله وجدتهم أكرمكم جدوداً ، وأحياكم حدوداً ، وأوفاكم عهوداً ، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أريباً ، وفي الأمر صليباً ، وفي الكرم نجيباً ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره.
فقال له معاوية : والله لأجفينّك عن الوساد ، ولأشردنّ بك في البلاد ، فقال له صعصعة : والله إنّ في الأرض لسعة ، وإنّ في فراقك لدعة ، فقال معاوية : والله لأحبسنّك عطاءك. قال : إن كان ذلك بيدك فافعل ، إنّ العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفد خزائنه ، ولا يبيد عطاؤه ، ولا يحيف في قضيّته. فقال له معاوية : لقد استقتلت. فقال له صعصعة : مهلاً ، لم أقل جهلاً ، ولم أستحلّ قتلاً ، لا تقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ، ومن قتل مظلوماً كان الله لقاتله مقيماً ، يرهقه أليماً ، ويجرعه حميماً ، ويصليه جحيما.
٧٥ ـ لمّا ولي معاوية بن يزيد بن معاوية صعد المنبر ، فقال : إنّ هذه الخلافة حبل الله ، وإنّ جدّي معاوية نازع الأمر أهله ، ومن هو أحقّ به منه ، عليّ بن أبي طالب ، وركب بكم ما تعلمون ، حتى أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم قلّد أبي الأمر ، وكان غير أهل له ، ونازع ابن بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقصف عمره ، وانبتر عقبه ، وصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم بكى.
الصواعق لابن حجر (١) (ص ١٣٤).
٧٦ ـ قال الحارث بن مسمار البهراني : حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي ، وعبد الله بن الكوّاء اليشكري ، ورجالاً من أصحاب عليّ مع رجال من
__________________
(١) الصواعق المحرقة : ص ٢٢٤.
قريش ، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال : نشدتكم بالله إلاّ ما قلتم حقّا وصدقاً ، أيّ الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكوّاء : لو لا أنّك عزمت علينا ما قلنا ، لأنّك جبّار عنيد ، لا تراقب الله في قتل الأخيار ، ولكنّا نقول : إنّك ما علمنا واسع الدنيا ، ضيّق الآخرة ، قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نوراً ، والنور ظلمات.
فقال معاوية : إنّ الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابّين عن بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله ، والمحلّين ما حرّم الله ، والمحرّمين ما أحلّ الله. فقال عبد الله بن الكوّاء ، يا بن أبي سفيان إنّ لكلّ كلام جواباً ، ونحن نخاف جبروتك ، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في الله لومة لائم ، وإلاّ فإنّا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه. قال : والله لا يطلق لك لسان.
ثم تكلّم صعصعة فقال : تكلّمت يا بن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تقصّر عمّا أردت وليس الأمر على ما ذكرت ، أنّى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ، ودانهم كبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟ أما والله مالك في يوم البدر (١) مضرب ولا مرمى ، وما كنت فيه إلاّ كما قال القائل : (لا حلّي ولا سيري) (٢) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممّن أجلب على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإنّما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟ فقال معاوية : لو لا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول :
قابلتُ جهلَهمُ حلماً ومغفرةً |
|
والعفو عن قدرةٍ ضربٌ من الكرمِ |
لقتلتكم.
مروج الذهب (٣) (٢ / ٧٨).
__________________
(١) في المصدر : بدر.
(٢) يريد : لم يكن له فيه أمر ولا نهي.
(٣) مروج الذهب : ٣ / ٥١.
٧٧ ـ عن أبي مزروع الكلبي (١) قال : دخل صعصعة بن صوحان على معاوية ، فقال له : يا بن صوحان ، أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن أهل الحجاز. قال : أسرع الناس إلى فتنة ، وأضعفهم عنها ، وأقلّهم غناءً فيها ، غير أنّ لهم ثباتاً في الدين ، وتمسّكاً بعروة اليقين ، يتّبعون الأئمّة الأبرار ، ويخلعون الفسقة الفجّار. فقال معاوية : من البررة والفسقة؟ فقال : يا بن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع ، عليّ وأصحابه من الائمّة الأبرار ، وأنت وأصحابك من أولئك.
إلى أن قال معاوية : أخبرني عن أهل الشام. قال : أطوع الناس لمخلوق ، وأعصاهم للخالق ، عصاة الجبّار ، وحلفة الأشرار ، فعليهم الدمار ، ولهم سوء الدار. فقال معاوية : والله يا بن صوحان إنّك لحامل مديتك منذ أزمان ، إلاّ أنّ حلم ابن أبي سفيان يردّ عنك. فقال صعصعة : بل أمر الله وقدرته ، إنّ أمر الله كان قدراً مقدوراً (٢).
٧٨ ـ عن إبراهيم بن عقيل البصري ، قال : قال معاوية يوماً وعنده صعصعة ، وكان قدم عليه بكتاب عليّ وعنده وجوه الناس : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي ، وما تركت منه كان جائزاً لي ، فقال صعصعة :
تمنّيك نفسك ما لا يكو |
|
ن جهلاً مُعاويَ لا تأثمِ |
فقال معاوية : يا صعصعة تعلّمت الكلام. قال : العلم بالتعلّم ، ومن لا يعلم يجهل ، قال معاوية : ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك! قال : ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخّر نفساً إذا جاء أجلها ، قال : ومن يحول بيني وبينك؟ قال : الذي يحول بين المرء وقلبه. قال معاوية : اتّسع بطنك للكلام كما اتّسع بطن البعير للشعير.
__________________
(١) في المصدر : عن ابن مردوع الكلبي.
(٢) مروج الذهب : ٢ / ٧٨ ، ٧٩ [٣ / ٥٢ ـ ٥٣]. (المؤلف)
قال : اتّسع بطن من لا يشبع ، ودعا عليه من لا يجمع (١). (٢)
٧٩ ـ سئل صعصعة بن صوحان عن معاوية ، قال : صانع الدنيا فاقتلدها ، وضيّع الآخرة فنبذها ، وكان صاحب من أطعمه وأخافه.
تاريخ ابن عساكر (٦ / ٤٢٤). (٣)
٨٠ ـ أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (٤) (٣ / ١٨) قال : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، قال : حدّثنا عمر بن شبة ، قال : حدّثني أحمد بن معاوية ، عن الهيثم بن عدي ، قال : حجّ معاوية حجّتين في خلافته ، وكانت له ثلاثون بغلة يحجّ عليها نساؤه وجواريه ، قال : فحجّ في إحداهما فرأى شخصاً يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان ، فقال : من هذا؟ قالوا : شعبة بن غريض (٥) ، وكان من اليهود ، فأرسل إليه يدعوه فأتاه رسوله ، فقال : أجب أمير المؤمنين. قال : أو ليس قد مات أمير المؤمنين قبل؟ قال : فأجب معاوية.
فأتاه فلم يسلّم عليه بالخلافة ، فقال له معاوية : ما فعلت أرضك التي بتيماء (٦)؟ قال : يُكسى منها العاري ، ويردّ فضلها على الجار ، قال : أفتبيعها؟ قال : نعم. قال : بكم؟ قال : بستين ألف دينار ، ولولا خلّة أصابت الحيّ لم أبعها. قال : لقد أغليت.
__________________
(١) مروج الذهب : ٢ / ٧٩ [٣ / ٥٣] ، جمهرة الخطب : ١ / ٢٥٧ [١ / ٤٤٥ رقم ٣٤٢]. (المؤلف)
(٢) المراد بمن لا يجمع رسول الله ٦ ، والمعنى أنه لا يجمع الدنيا ، والعبارة تعريض بمعاوية ، حيث دعا عليه رسول الله ٦ بقوله : «لا أشبع الله بطنه».
(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٩٠ رقم ٢٨٨١ ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٦ / ٤٢٦.
(٤) الأغاني : ٣ / ١٢٣.
(٥) كذا في الأغاني والصحيح كما ضبطه ابن حجر في الإصابة [٢ / ٤٣ رقم ٣٢٤٥] : سعنة ، بالمهملة والنون. ويقال بالمثنّاة التحتانية وعريض بالمهملة أيضاً. (المؤلف)
(٦) تيما : محلّ بين الحجاز والشام [معجم البلدان : ٢ / ٦٧]. (المؤلف)
قال : أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تِبَل (١). قال : أجل ، وإذ بخلت بأرضك ، فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه ، فقال : قال أبي :
يا ليت شعري حين أُندَبُ هالكاً |
|
ما ذا تؤبّنني به أنواحي |
أيقلن لا تبعد فربّ كريهةٍ |
|
فرّجتها ببشارةٍ وسماحِ |
ولقد ضربت بفضل مالي حقّه |
|
عند الشتاء وهبّة الأرواحِ |
ولقد أخذت الحقّ غير مخاصم |
|
ولقد رددت الحقّ غير ملاحِ |
وإذا دُعيت لصعبةٍ سهَّلتها |
|
أُدعى بأفلح مرّة ونجاحِ |
فقال : أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك. قال : كذبت ولؤمت. قال : أمّا كذبت فنعم ، وأمّا لؤمت فَلِم؟ قال : لأنّك كنت ميّت الحقّ في الجاهليّة وميّته في الإسلام. أمّا في الجاهليّة فقاتلت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والوحي ، جعل الله كيدك المردود. وأمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الخلافة ، وما أنت وهي وأنت طليق ابن طليق؟ فقال معاوية : قد خرف الشيخ فأقيموه ، فأُخذ بيده فأُقيم.
وذكره ملخّصاً ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٣) من طريق آخر عن عبد الله بن الزبير وزاد : فقال : ما خرفت ولكن أنشدك الله يا معاوية ، أما تذكر لمّا كنّا جلوساً عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاء عليّ فاستقبله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : «قاتل الله من يقاتلك ، وعادى من يعاديك». فقطع عليه معاوية حديثه ، وأخذ معه في حديث آخر.
__________________
(١) لم تِبَل : لم تبالِ.
معاوية في ميزان القضاء
لعمر الحقّ إنّ واحدة من هذه الشهادات كافية في تحطيم قدر الرجل والإسفاف بمستواه إلى الحضيض الأسفل ، فكيف بجميعها؟ فإنّها صدرت من سادات الصحابة وأعيانهم العدول جميعهم عند القوم ، فضلاً عن هؤلاء الذين لا يُشكّ في ورعهم وقداسة ساحتهم عن السقطة في القول والعمل ، ولا سيّما وفيهم الإمام المعصوم ، الخليفة حقّا ، المطهّر بلسان الذكر الحكيم عن أيّ رجاسة ، الذي يدور الحقّ معه حيثما دار ، وهو مع القرآن والقرآن معه ، لن يفترقا حتى يردا الحوض (١) ، وقبل الجميع ما رويناه عن النبيّ الأقدس صلىاللهعليهوآلهوسلم في حقّ هذا الإنسان.
فالرجل أخذاً بمجامع تلكم الشهادات الصادقة للسلف الصالح ، محكوم عليه نصّ أقوالهم من دون أيّ تحريف وتحوير منّا ، بأنّه امرؤ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتّبعه ، وما أتى به من ضلالة ليس ببعيد الشبه ممّا أتى به أهله المشركون الكفرة ، مصيره إلى اللظى ، مبوّؤه النار ، اللعين ابن اللعين ، الفاجر ابن الفاجر ، المنافق ابن المنافق ، الطليق ابن الطليق ، الوثن ابن الوثن ، الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، القليل العقل ، الجبان الرذل ، يخبط في عماية ، ويتيه في ضلالة ، شديد اللزوم للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتّبعة ، لم يكن من أهل القرآن ، ولا مريداً حكمه ، يجري إلى غاية خُسر ، ومحلّة كفر ، قد أولجته نفسه شرّا ، وأقحمته
__________________
(١) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا [ص : ٢٥١]. (المؤلف)
غيّا ، وأوردته المهالك ، وأوعرت عليه المسالك ، غمص الناس ، وسفه الحقّ ، فاسق مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، ابن آكلة الأكباد ، الكذّاب العسوف ، إمام الردى ، وعدوّ النبيّ ، لم يزل عدوّا لله والسنّة والقرآن والمسلمين ، رجل البِدع والأحداث ، كانت بوائقه تُتّقى ، وكان على الإسلام مخوفاً ، الغادر الفاسق ، مثله كمثل الشيطان ، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، القاسط النابذ كتاب الله وراء ظهره ، كان شرّ الأطفال وشرّ الرجال ، كهف المنافقين ، دخل في الاسلام كرهاً ، وخرج منه طوعاً ، لم يقدم إيمانه ولم يحدث نفاقه ، كان حرباً لله ولرسوله ، حزباً من أحزاب المشركين ، عدوّا لله ولنبيّه وللمؤمنين ، أقولُ الناس للزور ، وأضلّهم سبيلاً ، وأبعدهم من رسول الله وسيلة ، الغاوي اللعين ، ليس له فضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، عادى الله ورسوله وجاهدهما ، وبغى على المسلمين ، وظاهر المشركين ، فلمّا أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله ، أتاه فأسلم ، وهو والله راهب غير راغب ، قُبض رسول الله والرجل يُعرف بعداوة المسلم ومودّة المجرم ، يُطفئ نور الله ، ويظاهر أعداء الله ، أغوى جفاةً فأوردهم النار وأورثهم العار ، لم يكن في إسلامه بأبرّ وأتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في أيّام شركه وعبادته الأصنام.
هذا معاوية عند رجال الدين الصحيح الأبرار الصادقين ، وهذه صحيفة من تاريخه السوداء ، وتؤكّد هذه الكلم القيّمة ما يؤثر عن الرجل من بوائق وموبقات ، هي بمفردها حجج دامغة على سقوطه عن مبوّأ الصالحين ، فإنّها لا تتأتّى إلاّ عن تهاون بأمر الله ونهيه ، وإغضاء عن نواميس الدين وشرائع الإسلام ، وتزحزح عن سنّة الله ، وتعدّ وشذوذٍ عن حدوده (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١) وإليك نزراً منها :
__________________
(١) البقرة : ٢٢٩.
ـ ١ ـ
معاوية والخمر
١ ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (١) (٥ / ٣٤٧) من طريق عبد الله بن بريدة ، قال : دخلت أنا وأبي على معاوية ، فأجلسنا على الفرش ، ثم أُتينا بالطعام فأكلنا ، ثم أُتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ، قال : ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم قال معاوية : كنت أجمل شباب قريش ، وأجودهم ثغراً ، وما شيء كنت أجد له لذّة كما كنت أجده وأنا شاب ، غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدّثني.
٢ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٢١١) من طريق عمير (٣) بن رفاعة ، قال : مرّ على عبادة (٤) بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر ، فقال : ما هذه؟ أزيت؟ قيل : لا ، بل : خمر تُباع لفلان ، فأخذ شفرة من السوق ، فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها ، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام ، فأرسل فلان إلى أبي هريرة يقول له : أما تمسك عنّا أخاك عبادة؟ أمّا بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمّة متاجرهم ، وأمّا بالعشيّ فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا ، فأمسك عنّا أخاك.
فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة ، فقال له : يا عبادة مالك
__________________
(١) مسند أحمد : ٦ / ٤٧٦ ح ٢٢٤٣٢.
(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ١٩٧ ـ ١٩٨ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦.
(٣) في الطبعة المحققة من تاريخ ابن عساكر وكذا في مختصره : عبيد بن رفاعة.
(٤) كان بدويّا عقبياً أحد نقباء الأنصار ، بايع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على أن لا يخاف في الله لومة لائم. سنن البيهقي : ٥ / ٢٧٧. (المؤلف)
ولمعاوية؟ ذره وما حمل ، فإنّ الله يقول : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) (١). قال : يا أبا هريرة لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه ممّا نمنع منه أنفسنا ، وأزواجنا ، وأهلنا ، ولنا الجنّة ، فهذه بيعة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم التي بايعناه عليها ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وفى الله له بما بايع عليه نبيّه. فلم يكلّمه أبو هريرة بشيء.
٣ ـ وأخرج في التاريخ (٢) (٧ / ٢١٣) من طريق عمرو بن قيس ، قال : إنّ عبادة أتى حجرة معاوية وهو بأنطرطوس (٣) ، فألزم ظهره الحجرة وأقبل على الناس بوجهه وهو يقول : بايعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا أُبالي في الله لومة لائم ، ألا إنّ المقداد ابن الأسود قد غلّ بالأمس حماراً ، [قال :] وأقبلت أَوْسقٌ من مالٍ ، فأشارت (٤) الناس إليها فقال [عبادة] : أيّها الناس [ألا] إنّها تحمل الخمر ، والله ما يحلّ لصاحب هذه الحجرة أن يعطيكم منها شيئاً ، ولا يحلّ لكم أن تسألوه ، وإن [كانت] معبلة (٥) ـ يعني سهماً ـ في جنب أحدكم ، [قال :] فأتى رجلٌ المقداد [بن الأسود] وفي يده قرصافة (٦) ، فجعل يتلّ الحمار بها وهو يقول : [يا] معاوية هذا حمارك ، شأنك به ، حتى
__________________
(١) البقرة : ١٣٤.
(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ٢٠٠ رقم ٣٠٧١ وما بين المعقوفات منه ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٧ / ٢١٦.
(٣) بلدة من سواحل بحر الشام ، هي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأوّل أعمال حمص. [معجم البلدان : ١ / ٢٧٠]. (المؤلف)
(٤) في المحقّقة : فاشرأبّ الناس إليها.
(٥) المعبلة : نصل طويل عريض.
(٦) القرصافة : القطيفة.
أورده الحجرة.
٤ ـ وفد عبد الله (١) بن الحارث بن أميّة بن عبد شمس على معاوية ، فقرّبه حتى مسّت ركبتاه رأسه ، ثم قال له معاوية : ما بقي منك؟ قال : ذهب والله خيري وشرّي ، فقال له معاوية : ذهب والله خير قليل ، وبقي شرّ كثير ، فما لنا عندك؟ قال : إن أحسنت لم أحمدك ، وإن أسأت لُمتك! قال : والله ما أنصفتني ، قال : ومتى أنصفك ، فو الله لقد شججتُ أخاك حنظلة فما أعطيتك عقلاً ولا قوداً ، وأنا الذي أقول :
أصخرَ بن حربٍ لا نعدُّكَ سيّداً |
|
فَسُدْ غيرنا إذ كنت لست بسيّدِ |
وأنت الذي تقول :
شربتُ الخمرَ حتى صرتُ كلاّ |
|
على الأدنى وما لي من صديقِ |
وحتى ما أوسّد من وسادٍ |
|
إذا أنشو سوى الترب السحيقِ |
ثم وثب على معاوية يخبطه بيده ، ومعاوية ينحاز ويضحك.
رواها ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٣٤٦) ، وقال ابن حجر في الإصابة (٢ / ٢٩١) : روى الكوكبي من طريق عبسة بن عمرو (٣) ، قال : وفد عبد الله بن الحارث على معاوية ، فقال له معاوية : ما بقي منك؟ قال : ذهب والله خيري وشرّي ، فذكر قصّة ـ يعني هذه.
٥ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (٤) ، وابن سفيان في مسنده ، وابن قانع وابن
__________________
(١) أدرك الإسلام وهو شيخ كبير ، ثم عاش بعد ذلك إلى خلافة معاوية. الإصابة : ٢ / ٢٩١ [رقم ٤٥٩٧]. (المؤلف)
(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٧ / ٣١٢ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ٩٤.
(٣) كذا في الإصابة ، وفي الطبعة المحققة من تاريخ دمشق : عنبسة بن عمرو.
(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣٤ / ٤١٩ رقم ٣٨٢٨ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٤ / ٢٦٣.
مندة من طريق محمد بن كعب القرظي ، قال : غزا عبد الرحمن بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ، ومعاوية أمير على الشام ، فمرّت به روايا خمر ـ لمعاوية ـ فقام إليها برمحه فبقر كلّ راوية منها ، فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية ، فقال : دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله. فقال : كلاّ والله (١) ما ذهب عقلي ، ولكن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً ، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأبقرنّ بطنه ، أو لأموتنّ دونه.
وذكره ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٠١) ، ولخّصه في تهذيب التهذيب (٢) (٦ / ١٩٢) ، وأخرجه ملخّصاً أبو عمر في الاستيعاب (٣) (٢ / ٤٠١) ، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (٤) (٣ / ٢٩٩) باللفظ المذكور إلى (وأَسقيتنا) فقال : أخرجه الثلاثة ـ يعني ابن مندة وأبو نعيم وأبو عمر.
قال الأميني : لعلّ في الناس من يحسب أنّ سلسلة الاستهتار بمعاقرة الخمور كانت مبدوّة بيزيد بن معاوية ، وإن لم يحكم الضمير الحرّ بإنتاج أبوين صالحين في دار طنّبت بالصلاح والدين ، تخلو عن الخمر والفجور ، ولداً مستهتراً مثل يزيد الطاغية المتخصّص في فنون العيث والفساد ، لكن هذه الأنباء تُعلمنا أنّ هاتيك الخزاية كانت موروثة له من أبيه الماجن المشيع للفحشاء في الذين آمنوا ، بحمل الخمور إلى حاضرته على القطار تارة ، وعلى حماره أخرى ، بملإ من الأشهاد ، ونصب أعين المسلمين ، وتوزيعها في الملأ الدينيّ ، وهو يحاول مع ذلك أن لا ينقده أحد ، ولا ينقم عليه ناقم ، وكم لهذه المحاولة من نظائر ، ينبو عنها العدد ولا تقف على حدّ ، فهو وما ولد سواسية في الخمر والفحشاء والمجون ، وهذه هي التي أسقطته عند صلحاء الأُمّة ،
__________________
(١) كذا في مختصر تاريخ دمشق ، وفي الإصابة : كذب والله.
(٢) تهذيب التهذيب : ٦ / ١٧٣.
(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٣٦ رقم ١٤٢٤.
(٤) أُسد الغابة : ٣ / ٤٥٨ رقم ٣٣٢٢.
وحطّته عن أعينهم ، فلا يرون له حرمة ولا كرامة ، ولا يقيمون له وزناً ، حتى إنّه لمّا استخلف قام على المنبر فخطب الناس ، فذكر أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثم قال : وليت فأخذت حتى خالط لحمي ودمي فهو (١) خير منّي ، وأنا خير ممّن بعدي. يا أيّها الناس إنّما أنا لكم جنّة.
فقام عبادة بن صامت فقال : أرأيت إن احترقت الجنّة؟ قال : إذن تخلص إليك النار ، قال : من ذلك أفرّ. فأمر به فأخذ. فأضرط بمعاوية (٢) ، ثم قال : علمت كيف كانت البيعتان حين دعينا إليهما؟ دعينا على أن نبايع على أن لا نزني ، ولا نسرق ، ولا نخاف في الله لومة لائم ، فقلت : أمّا هذه فاعفني يا رسول الله ، ومضيت أنا عليها ، وبايعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولأنت يا معاوية أصغر في عيني من أن أخافك في الله عزّ وجلّ (٣).
وذكر معاوية الفرار من الطاعون في خطبته ، فقال له عبادة : أمّك هند أعلم منك (٤). وسيوافيك قوله له : لا أُساكنك بأرض ، وقوله : لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن رغم معاوية ، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء ، وقال أبو الدرداء له : لا أُساكنك بأرض أنت بها.
ومن جرّاء هذه المكافحة والكشف عن عورات الرجل ، كتب معاوية إلى عثمان بالمدينة : إنّ عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله ، فإمّا أن تكفّه إليك ، وإمّا أن أُخلي بينه
__________________
(١) إشارة إلى عثمان.
(٢) أضرط به : استخفّ به وسخر منه ، وهو أن يجمع شفتيه ويخرج من بينهما صوتاً.
(٣) تاريخ الشام لابن عساكر : ٧ / ٢١٣ [٢٦ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٨]. (المؤلف)
(٤) أخرجه ابن عساكر والطبراني كما في تاريخ الشام : ٧ / ٢١٠ [٢٦ / ١٩٥ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦]. (المؤلف)
وبين الشام. فكتب إليه عثمان : أن أرحل عبادة حتى ترجعه إلى داره من المدينة ، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة ، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين ، فلم يفجَ عثمان به إلاّ وهو قاعد في جانب الدار ، فالتفت إليه وقال : ما لنا ولك يا عبادة؟ فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال : إنّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا القاسم يقول : «إنّه سيلي أموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى ، فلا تضلّوا بربّكم» ، فوالذي نفس عبادة بيده إنّ فلاناً ـ يعني معاوية ـ لمن أُولئك. فما راجعه عثمان بحرف (١).
وحذا معاوية في هذه الموبقة حذو أبيه أبي سفيان ، فإنّه كان يشرب الخمر وهو من أظهر آثامه وبوائقه ، وقد جاء في حديث أبي مريم السلولي الخمّار بالطائف : أنّه نزل عنده وشرب وثمل ، وزنا بسميّة أُمّ زياد بن أبيه ، والحديث يأتي في استلحاق معاوية زياداً.
فبيت معاوية حانوت الخمر ، ودكّة الفجور ، ودار الفحشاء والمنكر من أوّل يومه ، والخمر شعار أهله ، وما أغنتهم النذر إذ جاءت ، وهم بمجنب عن قول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ لا بل هم أهله ـ «لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها» (٢).
__________________
(١) مسند أحمد : ٥ / ٣٢٥ [٦ / ٤٤٤ ح ٢٢٢٦٣] ، تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢١٢ [٢٦ / ١٩٨ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٧]. (المؤلف)
(٢) سنن أبي داود : ٢ / ١٦١ [٣ / ٣٢٦ ح ٣٦٧٤] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٧٤ [٢ / ١١٢٢ ح ٣٣٨٠ ، ٣٣٨١] ، جامع الترمذي : ١ / ١٦٧ [٣ / ٥٨٩ ح ١٢٩٥] ، مستدرك الحاكم : ٤ / ١٤٤ ، ١٤٥ [٤ / ١٦١ ح ٧٢٢٨ ، ٧٢٢٩] ، وأخرجه أحمد في المسند : ٢ / ٧١ [٢ / ١٨٤ ح ٥٣٦٧ ، ٥٣٦٨] ، وابن أبي شيبة [في مصنّفه : ٦ / ٤٤٧ ح ١٦٦٦] ، وابن راهويه ، والبزّار [في مسنده : ٥ / ٣٩ ح ١٦٠١] ، وابن حبّان [في صحيحه : ١٢ / ١٧٩ ح ٥٣٥٦] ، راجع نصب الراية للزيلعي : ٤ / ٢٦٣. (المؤلف)