الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١
بمستنكر له ، إلاّ أنّ السيف أجلّه. وإنّ قيساً أحد الأجواد ، حكمت مملوكته في ماله بغير علمه ، واستحسن فعلها ، وعتقها شكراً لها على ما فعلت. وأجمعوا على أنّ أسخى الثلاثة عُرابة الأوسي ، لأنَّه جاد بجميع ما يملكه ، وذلك جهد من مقلّ.
البداية والنهاية (١) (٨ / ١٠٠).
حديث خطابته :
إنَّ تقدُّم سيِّد الأنصار في المعالم الدينيّة ، وتضلّعه في علمي الكتاب والسنّة ، وعرفانه بمعاريض القول ومخاريق القيل وسقطات الرأي ، وتحلّيه بما يحتاج إليه مدارِه الكلام ومشيخة الخطابة من العلم الكثار ، والأدب الجمّ ، وربط الجأش ، وقوّة العارضة ، وحسن التقرير ، وجودة السرد ، وبلاغة المنطق ، وطلاقة اللسان ، ومعرفة مناهج الحِجاج والمناظرة ، وأساليب إلقاء المحاضرة ، كلّها براهين واضحة على حظِّه الوافر وقسطه البالغ من هذه الخُلّة ، وإنَّه أعلى الناس ذا فوق (٢) ، على أنّ فيما مرّ وما يأتي من كلمه وخطبه خُبراً يصدِّق الخبر ، وشاهد صدق على أنَّه أحد أمراء الكلام ، كما كان في مقدَّم أمراء السيف. فهو خطيب الأنصار المفوَّه ، واللسِنُّ الفذّ من الخزرج ، ومتكلِّم الشيعة الأكبر ، ولسان العترة الطاهرة الناطق ، والمجاهد الوحيد دون مبدئه المقدَّس بالسيف واللسان ، أخطب من سحبان وائل ، وأنطق من قُسّ الأيادي ، وأصدق في مقاله من قطاة (٣).
وناهيك بقول معاوية بن أبي سفيان لقومه يوم صفِّين : إنّ خطيب الأنصار قيس بن سعد يقوم كلّ يوم خطيباً ، وهو والله يريد أن يفنينا غداً إن لم يحبسه عنّا
__________________
(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٨ حوادث سنة ٥٩ ه.
(٢) مثل يضرب : أي أعلى الناس سهماً. (المؤلف)
(٣) أصدق من قطاة : مثل مشهور [يضرب للصدق ، لانّ القطاة لها صوت واحد لا يتغيّر. انظر : مجمع الأمثال : ٢ / ٢٤٧ رقم ٢١٧٣]. (المؤلف)
حابس الفيل. مرّ (ص ٨١) ، وفي قول أمير المؤمنين عليهالسلام له عند بعض مقاله كما مرّ (ص ٧٦): «أحسنت والله يا قيس وأجملت» لغنىً وكفاية عن أيّ إطراء وثناء عليه.
حديث زهده :
لا نحاول في البحث عن هذه النواحي ، في أيّ من التراجم ، سرد تاريخ أمّة غابرة ، أو ذكريات أماثل الأمّة أو حثالتها في القرون الخالية فحسب ، بل إنّما نخوض فيها بما فيها من عظات دينيّة ، وفلسفة أخلاقيّة ، وحِكَم عمليّة ، ومعالم روحيّة ، ومصالح اجتماعيّة ، ودستور في مناهج السير إلى المولى سبحانه ، وبرنامج في إصلاح النفس ، ودروس في التحلّي بمكارم الأخلاق ، التي بُعث لإتمامها نبيُّ الإسلام.
وهناك نماذج من نفسيّات شيعة العترة الطاهرة ، وما لهم دون مناوئيهم من خلاق من المكارم والفضائل والقداسة والنزاهة ، يحقُّ بذلك كلّه أن يكون كلٌّ من نظراء قيس قدوةً للبشر في السلوك إلى المولى ، وقادةً للخلق في تهذيب النفس ، ومؤدِّباً للأمّة بالخلائق الكريمة ، ومُصلحاً للمجتمع بالنفسيّات الراقية ، والروحيّات السليمة ، فلن تجد فيهم (جُرفٌ مُنهال ، ولا سحابٌ مُنجال) (١).
ففي وسع الباحث أن يستخرج من تاريخ تلكم النفوس القدسيّة ، من قيس ومن يصافقه في المبدأ الدينيِّ ، ومن ترجمة من يضادُّهم في التشيّع لآل الله ، من عمرو ابن العاص ومن يشاكله ، حقيقة راهنة دينيّة ، أثمن وأغلى من معرفة حقائق الرجال ، والوقوف على تاريخ الأجيال الماضية ، ويمكنه أن يقف بذلك على غاية كلٍّ من الحزبين العلويِّ والأمويِّ مهما يكن القارئ شريف النفس ، حرّا في تفكيره ، غير مقلّد ولا إمّعة ، مهما حداه التوفيق إلى اتّباع الحقّ ، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع ، غير ناكبٍ عن الطريقة المثلى في البخوع للحقائق ، والجنوح إليها.
__________________
(١) مثل يُضرب. جرف منهال : أي لا حزم عنده ولا عقل. سحاب منجال : أي لا يطمع في خيره [مجمع الأمثال : ١ / ٣١٦ رقم ٩٤٦]. (المؤلف)
فخذ قيس بن سعد وعمرو بن العاص مثالاً من الفريقين ، وقس بينهما ، وضع يدك على أيّ مأثرة تحاولها : من طهارة مولد ، وإسلام ، وعقل ، وحزم ، وعفّة ، وحياء ، وشَمم ، وإباء ، ومنعة ، وبذخ ، وصدق ، ووفاء ، ووقار ، ورزانة ، ومجد ، ونجدة ، وشجاعة ، وكرم ، وقداسة ، وزهد ، وسداد ، ورشد ، وعدل ، وثبات في الدين ، وورع عن محارم الله ، إلى مآثر أخرى لا تُحصى ؛ تجد الأوّل منهما حامل عبء كلٍّ منها ، بحيث لو تجسّم أيٌّ من تلكم الصفات لَيكونُ هو مثاله وصورته.
وهل ترى الثاني كذلك؟! اللهمَّ لا. بل كلٌّ منها في ذاته محكوم بالسلب ؛ أضف إلى مخازٍ في المولد ، والمَحْتِد ، والدين ، والفروسيّة ، والأخلاق ، والنفسيّات كلّها ، وسنلمسك كلّ هذه بيديك عن قريب إن شاء الله تعالى.
عندئذٍ يعرف المنقّب نفسيّة كلٍّ من إمامي الحزبين ـ إذ الناس على دين ملوكهم ، ويكون على بصيرة من أمرهما ، وحقيقة دعوة أيٍّ منهما ، وتكون أمثلتهما نصب عينيه ، إن لم يتّبع الهوى ، ولا تضلّه تعمية من يروقه جهل الأمّة الإسلاميّة بالحقائق ، بقوله في مقاتلي أمير المؤمنين والخارجين عليه : إنَّهم كانوا مجتهدين مخطئين ولهم أجر واحدٌ ، أو بقوله : الصحابة كلّهم عدول ، وإن فعل أحدهم ما فعل ، وجنت يداه ما جنت ، وخرج عن طاعة الإمام العادل ، وسنَّ لعنه ، وسبّه ، وحاربه ، وقاتله ، وقتله.
فالناظر إلى هذه التراجم بعين النصفة ، إذا أمعن فيها بما فيها من المغازي المذكورة ، يعتقد بأنّ (١)) «أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهَدى ، فأقام سنّةً معلومةً وأمات بدعةً مجهولة ، وإنَّ السُنَن لنيِّرة لها أعلام ، وإنَّ البدع لظاهرةٌ لها أعلامٌ ، وإنَّ شرَّ الناس عند الله إمامٌ جائرٌ ضلَّ وأُضِلَّ به ، فأمات سنّةً مأخوذةً ، وأحيا بدعةً متروكةً» وصدَّق بقول النبيِّ الطاهر : «يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر ، وليس
__________________
(١) من هنا إلى آخر الكلمة لمولانا أمير المؤمنين ، إلاّ كلمتي : صدّق والطاهر. (المؤلف)
معه نصيرٌ ولا عاذرٌ ، فَيُلقى في نار جهنّم ، فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثمَّ يرتبط في قعرها» (١).
لعلَّ الباحث لا يمرُّ على شيء من خطب سيِّد الخزرج ، وكتبه ، وكَلِمه ، ومحاضراته ، إلاّ ويجده طافحاً بقداسة جانبه عن كلِّ ما يلوِّث ويدنّس من اتِّباع الهوى ، وبزهادته عن حطام الدنيا ، معرباً عن ورعه عن محارم الله وخشونته في ذات ربِّه ، وتعظيمه شعائر الدين ، وقيامه بحقِّ النبيِّ الأعظم ، ورعايته في أهل بيته وذويه بكلِّ حول وطول ، وبذل النفس والنفيس دون كلاءة دينه ، وإعلاء كلمة الحقِّ ، وإرحاض معرّة الباطل ، وإصلاح الفاسد ، وكسر شوكة المعتدين ، وبعد اليأس عن صلاح أمّته ، والعجز عن الدعوة إلى الحقِّ ، لزم عقر داره بالمدينة المشرّفة بقيّة حياته ، وأقبل على العبادة ، حتى أدركه أجله المحتوم. كما ذكره ابن عبد البرّ في الاستيعاب (٢)(٢ / ٥٢٤).
وأوفى كلمة في زهده وعبادته ، ما قاله المسعودي في مروج الذهب (٣) (٢ / ٦٣) قال : كان قيس بن سعد من الزهد ، والديانة ، والميل إلى عليٍّ ، بالموضع العظيم ، وبلغ من خوفه لله وطاعته إيّاه ، أنَّه كان يصلّي ، فلما أهوى للسجود ، إذا في موضع سجوده ثعبانٌ عظيم مطرق ، فمال على الثعبان برأسه ، وسجد إلى جانبه ، فتطوّق الثعبان برقبته ، فلم يقصر من صلاته ، ولا نقص منها شيئاً حتى فرغ ، ثمَّ أخذ الثعبان فرمى به. كذلك ذكر الحسن بن عليّ بن عبد الله بن المغيرة ، عن معمر بن خلاّد ، عن أبي الحسن ـ الإمام ـ عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام. انتهى.
والحديث الرضويّ هذا رواه الكشّي ، بإسناده عنه عليهالسلام في رجاله (٤) (ص ٦٣)
__________________
(١) نهج البلاغة : ص ٢٣٤ خطبة ١٦٤.
(٢) الاستيعاب : القسم الثالث / ١٢٩٠ رقم ٢١٣٤.
(٣) مروج الذهب : ٣ / ٢٧.
(٤) رجال الكشّي : ١ / ٣٠٩ رقم ١٥١.
وكان ذلك الخشوع والإقبال إلى الله في العبادة وإفراغ القلب بكلّه إلى الصلاة من وصايا والده الطاهر له ، قال : يا بنيَّ أوصيك بوصيّة فاحفظها ، فإذا أنت ضيّعتَها فأنت لغيرها من الأمر أضيع ، إذا توضّأت فَأَتِمَّ الوضوء ، ثمّ صلِّ صلاة امرئٍ مودِّع يرى أنَّه لا يعود ، وأظهرِ اليأس من الناس فإنّه غنى ، وإيّاك وطلب الحوائج إليهم ؛ فإنّه فقر حاضر ، وإيّاك وكلّ شيء تعتذر منه. تاريخ ابن عساكر (١) (٦ / ٩٠).
وكان من دعاء سيِّدنا المترجَم ، كما في الدرجات الرفيعة (٢) ، وتاريخ الخطيب (٣) وغيرهما قوله : اللهمَّ ارزقني حمداً ومجداً ، فإنَّه لا حمدَ إلاّ بفعالٍ ، ولا مجدَ إلاّ بمال. اللهمَّ وسِّع عليَّ ، فإنَّ القليل لا يسعني ولا أسعه.
وفي البداية والنهاية (٤) (٨ / ١٠٠) : كان قيس يقول : اللهمَّ ارزقني مالاً وفعالاً ، فإنَّه لا تصلح الفعال إلاّ بالمال.
ومعلوم أنَّ طلب المال غير منافٍ للزهادة ؛ فإنّ حقيقة الزهد أن لا يملكك المال ، لا أن لا تملك المال.
حديث فضله :
إنّ خطابات قيس ، وكتاباته ، ومحاضراته ، ومقالاته ، المبثوثة في طيّات الكتب ومعاجم السِيَر ، شواهد صادقة على تضلّعه في المعارف الإلهيّة ، وأشواطه البعيدة في علمي الكتاب والسنّة ، وفي خدمته النبيَّ الأعظم مدّة عشر سنين (٥) ،
__________________
(١) تاريخ مدينة دمشق : ٧ / ١٢٥ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٢٤٥.
(٢) الدرجات الرفيعة : ص ٣٣٥.
(٣) تاريخ بغداد : ١ / ١٧٩ رقم ١٧.
(٤) البداية والنهاية : ٨ / ١٠٨ حوادث سنة ٥٩ ه.
(٥) البداية والنهاية : ٨ / ٩٩ [٨ / ١٠٧ حوادث سنة ٥٩ ه] ، الإصابة : ٥ / ٢٥٤ [٣ / ٢٤٩ رقم ٧١٧٧]. (المؤلف)
أو مدّة غير محدودة ، وقد كان أبوه دفعه إلى النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ليخدمه ، كما في أسد الغابة (١) (٤ / ٢١٥) ومسامرته له صلىاللهعليهوآلهوسلم سفراً وحضراً طول عمره ، مع ما كان له من العقل ، والحزم ، والرأي السديد ، والشوق المؤكّد إلى تهذيب نفسه ، والولع التامّ إلى تكميل روحيّاته ، لَغنىً وكفاية عن أيِّ ثناء على علمه المتدفِّق ، وفضله الكثار ، وتقدّمه في علمي الكتاب والسنّة.
ومن الفضول أن نتعرَّض لإحصاء شواهد حسن تعليم النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إياه ، وأنَّه كان يجيد تربيته ، ويعلّمه معالم دينه ، ويفيض عليه من نمير فضله ، ويلقِّنه بما يحتاج إليه الإنسان الكامل من المعارف الدينيّة ، وإنّ ملازمته لصاحب الرسالة ، وهو سيِّد الخزرج وابن سادتها لم تكن خدمةً بسيطةً ، كما هو الشأن في الخدم والأتباع من الناس ، وإنّما هي كخدمة تلميذ لأستاذه للتعلّم وأخذ المعارف الدينيّة ، والاقتباس من أنوار علمه ، وممّا لا شكّ فيه أنَّ النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يعلّمه معالم دينه في كلِّ حال يجده ، وكان قيس يغتنم الفرص ويظهر الشوق إليه ، وينمُّ عن ذلك ما رواه ابن الأثير في أسد الغابة (٢) (٤ / ٢١٥) عن قيس ، قال : مرَّ بي النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد صلّيت وقال : «ألا أدلّك إلى باب من أبواب الجنّة؟». قلت : نعم. قال : «لا حول ولا قوّة إلاّ بالله».
وسماعه بعد وفاة النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أمير المؤمنين باب مدينة العلم النبويِّ ، وأخذه منه علمي الكتاب والسنّة ، كما قاله لمعاوية في حديث يأتي ، لمّا جرت بينهما مناظرة ، واحتجَّ قيس عليه بكلّ آية نزلت في عليّ ، وبكلِّ حديث ورد في فضله ، حتى قال معاوية : يا ابن سعد : عمّن أخذت هذا ، وعمَّن رويته؟ وعمّن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك؟ وعنه أخذته؟
قال قيس : سمعته وأخذته ممّن هو خير من أبي ، وأعظم حقّا من أبي. قال : من؟ قال : عليّ بن أبي طالب عليهالسلام عالم هذه الأمّة وصدّيقها.
__________________
(١) أسد الغابة : ٤ / ٤٢٥ رقم ٤٣٤٨.
(٢) أسد الغابة : ٤ / ٤٢٥ رقم ٤٣٤٨.
كلّ هذه آيةٌ محكمةٌ ، تدلّ على اطِّلاعه الغزير في المعالم الدينيّة ، وبرهنة واضحة تثبت طول باعه في العلوم الإلهيّة ، ومثل قيس إذا كان أخذه ، وسماعه ، وروايته ، عن مثل مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام ينحسر البيان عن استكناه فضله ، ويقصر التعريف عن درك مداه.
ومن شواهد غزارة علمه : إسلامه الراسخ ، وإيمانه المستقرّ ، وعرفانه بأولياء الأمر بعد نبيِّه ، وتهالكه في ولائهم ، وتفانيه في نصرتهم إلى آخر نفَسٍ لفَظه ، وعدم اكتراثه بلومة أيِّ لائم. وكان هناك قوم حنّاق عليه ، من أهل النفاق وحملة الحقد والضغينة ، يعيِّرونه بولاء العترة الطاهرة ، وعدم إيثاره على دينه عوامل النهمة ، وعدم تأثّره ببواعث الفخفخة أو دواعي الجشع ، وعدم انتظاره منهم في دولتهم لرتبة ولا راتب ، وعدم إرادته منهم على ولائه جزاءً عاجلاً ولا شكوراً ، ويشفُّ عن ذلك ما وقع بينه وبين حسّان بن ثابت ، لمّا عزله أمير المؤمنين عن ولاية مصر ، ورجع إلى المدينة ، فإنَّه حينما قدمها جاءه حسّان شامتاً به ، وكان عثمانيّا ، فقال له : نزعك عليُّ ابن أبي طالب ، وقد قتلت عثمان فبقي عليك الإثم ، ولم يحسن لك الشكر!. فزجره قيس وقال : يا أعمى القلب وأعمى البصر! والله لو لا أن ألقي بين رهطي ورهطك حرباً ، لضربت عنقك ، ثمَّ أخرجه من عنده (١).
ولولا أنّ قيساً مستودع العلوم والمعارف ، ومستقى معالم الدين ، ومعقد جمان الفضيلة ، كما كانت له الشهرة الطائلة في الدهاء والحزم ، لمَا ولاّه أمير المؤمنين عليهالسلام مصر لإدارة شئونها الدينيّة والمدنيّة ، كما فوّض إليه إقامة أمورها السياسيّة والإداريّة والعسكريّة ، ولما كتب إليه بما مرَّ (ص ٧١) من كلامه عليهالسلام : «وعَلّمْ مِن قِبلك ممّا علّمك الله». فإنّ عامل الخليفة هو مرجع تلكم الشؤون كلّها في الوسط الذي استعمل به ، وموئل أمّته في كلّ مشكلة دينيّة ، كما أنّ له إمامة الجمعة والجماعة ، وما كان للخليفة
__________________
(١) تاريخ الطبري : ٥ / ١٣١ [٤ / ٥٥٥ حوادث سنة ٣٦ ه] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٥ [٦ / ٦٤ خطبة ٦٧]. (المؤلف)
من مُنتدح عن استعمال من له الكفاية لذلك كلّه.
قال الماوردي في الأحكام السلطانيّة (١) (ص ٢٤) : إذا قلّد الخليفة أميراً على إقليم أو بلد ، كانت إمارته على ضربين : عامّة وخاصّة.
فأمّا العامة على ضربين : إمارة استكفاء بعقدٍ عن اختيار ، وإمارة استيلاء بعقدٍ عن اضطرار.
فأمّا إمارة الاستكفاء التي تنعقد عن اختياره ، فتشتمل على عمل محدود ، ونظر معهود ، والتقليد فيها أن يفوّض إليه الخليفة إمارة بلد أو إقليم ، ولايةً على جميع أهله ، ونظراً في المعهود من سائر أعماله ، فيصير عامّ النظر فيما كان محدوداً من عمل ، ومعهوداً من نظر ، فيشتمل نظره فيه على سبعة أمور :
١ ـ النظر في تدبير الجيوش ، وترتيبهم في النواحي ، وتقدير أرزاقهم ، إلاّ أن يكون الخليفة قدّرها فيدرّها عليهم.
٢ ـ النظر في الأحكام وتقليد القضاة والحكّام.
٣ ـ جباية الخراج ، وقبض الصدقات ، وتقليد العمّال فيهما ، وتفريق ما استحقّ منهما.
٤ ـ حماية الدين ، والذبّ عن الحريم ، ومراعاة الدين من تغيير أو تبديل.
٥ ـ إقامة الحدود في حقِّ الله ، وحقوق الآدميِّين.
٦ ـ الجُمع والجماعات ، حتى يؤمَّ بها أو يَستخلفَ عليها.
٧ ـ تسيير الحجيج من عمله.
فإن كان هذا الإقليم ثغراً متاخماً للعدوِّ اقترن بها ثامنٌ ، وهو : جهاد مَن يليه من الأعداء ، وقَسْمُ غنائمهم في المقاتلة ، وأخذ خمسها لأهل الخمس. وتعتبر في هذه الإمارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض.
__________________
(١) الأحكام السلطانية : ٢ / ٣٠ ، ٢٢ ، ٦.
وقال في (ص ٢٠) : يعتبر في تقليد وزارة التفويض شروط الإمامة إلاّ النسب. وذكر الشروط المعتبرة في الإمامة (ص ٤) وقال : إنّها سبعة :
١ ـ العدالة على شروطها الجامعة.
٢ ـ العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
٣ ـ سلامة الحواسّ من السمع ، والبصر ، واللسان.
٤ ـ سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة.
٥ ـ الرأي المفضي إلى سياسة الرعيّة وتدبير المصالح.
٦ ـ الشجاعة والنّجدة المؤدِّية إلى حماية البيضة وجهاد العدوِّ.
٧ ـ النسب وهو أن يكون من قريش.
إذا عرفتَ معنى التقليد بالولاية على المسلمين ومغزاها ، ووقفتَ على الأمور الثمانية التي ينظر إليها كلّ أمير بالاستكفاء بعقد عن اختيار ، كأمير الإسلام الكبير قيس بن سعد ، واطّلعتَ على ما يُعتبر فيها من الشروط الستّة المعتبرة في الإمامة ووزارة التفويض ، فحدِّث عن فضل قيس ولا حرج.
كلمتنا الأخيرة عن قيس : إنّه من عَمَد الدين وأركان المذهب.
لعلّك بعد ما تلوناه عليك من فضائل المترجَم له وفواضله ، وعلومه ومعارفه ، وحزمه وسداده ، وصلاحه وإصلاحه ، وتهالكه في نصرة إمامه الطاهر ، وإقامته علم الدين منذ عهد النبوّة وعلى العهد العلويِّ الناصع ، وثباته عند تخاذل الأيدي وتدابر النفوس على العهد الحسنيِّ ، ومصارحته بكلمة الحقِّ في كلِّ محتشد إلى آخر حياته ، وعدم انخداعه ببهرجة الباطل ، وزبرجة الإلحاد السفيانيِّ ، وثراء معاوية الطائل الهاطل عليه لخدعه عن دينه ، حينما بذل له ألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه كما مرّ (ص ٨٤) ، أنَّك لا تشكّ بعد ذلك كلّه ، في أنَّ قيساً من عَمد الدين ، وأركان المذهب ، وعظماء الأمّة ، ودعاة الحق ، فدون مقامه الباذخ ما في
المعاجم والكتب من جمل الثناء عليه ، مهما بالغوا فيها.
ولولا مثل قيس في آل سعد ، لما قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو رافعٌ يديه : «اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة». وما كان يقول في غزوة ذي قَرَد (١) : «اللهمّ ارحم سعداً وآل سعد ، نعم المرء سعد بن عبادة». وما كان يقول لمّا أكل طعاماً في منزل سعد : «أكلَ طعامكم الأبرار ، وصلّت عليكم الملائكة ، وأفطر عندكم الصائمون». وما كان يقول لسعد وقيس ، لمّا أتيا بزاملة تحمل زاداً يوم ضلّت زاملة النبيِّ :
«بارك الله عليكما يا أبا ثابت (٢) ابشر فقد أفلحت ، إنَّ الإخلاف بيد الله فمن شاء أن يمنحه منها خلفاً صالحاً منحه ، ولقد منحك الله خلفاً صالحاً» (٣).
فلينظر القارئ في قيس بن سعد إلى آثار رحمة الله ، ومظاهر صلواته ، ومجالي فضله ، وما أثّرت فيه تلك الدعوة النبويّة ، وما ظهر فيه وفي آله من بركاتها ، وقد حفّت به الصلوات والرحمة الإلهيّة صلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
ولقيس محاضرة ومناظرة مع الشيخين في قصّة طوق خالد ، ذكرها أبو محمد الديلمي الحسن بن أبي الحسن في إرشاد القلوب (٤) (٢ / ٢٠١) ، أفاضها بلسان ذلق ، وإيمان مستقرٍّ ، وجنان ثابت ، نضرب عنها صفحاً ، تحرِّياً للإيجاز.
مشايخ قيس والرواة عنه
يروي سيِّد الخزرج عن النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وصنوه الطاهر ، وعن والده السعيد سعد ،
__________________
(١) ذو قرد : ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر.
(٢) كنية سعد والد المترجَم له. (المؤلف)
(٣) توجد هذه الأحاديث في إمتاع المقريزي : ص ٢٦٣ ، ٥١٥ ، تاريخ ابن عساكر : ٦ / ٨٢ ، ٨٨ [٧ / ١١٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٢٤٢] ، السيرة الحلبيّة : ٣ / ٨ [٣ / ٧]. (المؤلف)
(٤) إرشاد القلوب : ٢ / ٣٧٨ ـ ٣٨٤.
كما في الإصابة وتهذيب التهذيب.
ومن رواياته عن والده ما أخرجه الحافظ محمد بن عبد العزيز الجنابذي الحنبليّ ، في كتاب معالم العترة ، مرفوعاً إلى قيس ، عن أبيه : أنَّه سمع عليّا رضى الله عنه يقول :
«أصابتني يوم أُحد ستّ عشرة ضربة ، سقطت إلى الأرض في أربع منهنّ ، فجاء رجل حسن الوجه ، طيّب الريح ، فأخذ بضَبعي فأقامني ، ثمّ قال : أقبل عليهم فإنّك في طاعة الله وطاعة رسوله ، وهما عنك راضيان.
قال عليٌّ : فأتيت النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبرته فقال : يا عليُّ أقرَّ الله عينك ذاك جبريل». كفاية الطالب طبعة مصر (ص ٣٧) ، نور الأبصار (١) (ص ٨٧).
ويروي عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب الأنصاري ، المقتول يوم الحرّة (سنة ٦٣) وكانت الأنصار قد بايعته يومئذٍ ، ذكر روايته عنه ابن حجر في تهذيب التهذيب (٢) (٢ / ١٩٣ و ٥ / ١٩٣ و ٨ / ٣٩٦).
ويروي عن سيِّدنا قيس زرافات من الصحابة والتابعين ، ذكر منهم في حلية الأولياء (٣) وأُسد الغابة (٤) (٤ / ٢١٥) ، والإصابة (٣ / ٢٤٩) ، وتهذيب التهذيب (٥) (٨ / ٣٩٦):
١ ـ أنس بن مالك الأنصاري ، خادم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٢ ـ بكر بن سوادة. يروي عن قيس حديثاً في الملاهي ، كما في السنن الكبرى للبيهقي. (١٠ / ٢٢٢).
__________________
(١) نور الأبصار : ص ١٧٧.
(٢) تهذيب التهذيب : ٥ / ١٦٩ رقم ٣٣٢ ، ٨ / ٣٥٤ رقم ٧٠٢.
(٣) حلية الأولياء : ٦ / ١٧٩ رقم ٣٦٦.
(٤) أُسد الغابة : ٤ / ٤٢٦ رقم ٤٣٤٨.
(٥) تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٥٤ رقم ٧٠٢.
٣ ـ ثعلبة بن أبي مالك القرظي.
٤ ـ عامر بن شراحيل الشعبيّ : المتوفّى (١٠٤).
٥ ـ عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري ، خاصّة أمير المؤمنين وصاحب رايته يوم الجمل ، ضربه الحجّاج حتى اسودّ كتفاه على سبِّ عليّ فما فعل. كان أصحاب رسول الله يسمعون لحديثه ، وينصتون له.
قال عبد الله بن حارث : ما ظننت أنَّ النساء ولدن مثله. ووثّقه ابن معين والعجلي (١) وغيرهما ، تُوفّي (٨١ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ٨٦) ، ترجمه ابن خلّكان (٢) (١ / ٢٩٦) وكثيرٌ من أرباب المعاجم.
٦ ـ عبد الله بن مالك الجيشاني : المتوفّى (٧٧).
ترجمه ابن حجر في تهذيبه (٣) (٥ / ٣٨٠) ، وحكى عن جمع ثقته ، وعن مرثد : كان أعبد أهل مصر ، يروي عن أمير المؤمنين ، وعمر ، وأبي ذرّ ، ومعاذ بن جبل ، وعقبة.
٧ ـ أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي ، المدني.
٨ ـ أبو عمار عَريب بن حميد الهمداني.
يروي عن أمير المؤمنين ، وحذيفة ، وعمار ، وأبي ميسرة ، وثّقه أحمد وغيره. راجع تهذيب التهذيب (٤) (٧ / ١٩١).
٩ ـ أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني ، الكوفي : المتوفّى (٦٣).
أثنى عليه شيخنا الشهيد الثاني في درايته (٥) وقال : تابعيّ فاضل من أصحاب
__________________
(١) تاريخ الثقات : ص ٢٩٨ رقم ٩٧٨.
(٢) وفيات الأعيان : ٣ / ١٢٦ رقم ٣٦٠.
(٣) تهذيب التهذيب : ٥ / ٣٣٢ رقم ٦٤٩.
(٤) تهذيب التهذيب : ٧ / ١٧٢ رقم ٣٦٤.
(٥) الدراية : ص ١٣٥.
محمد بن مسعود. وترجمه ابن حجر في الإصابة (٣ / ١١٤) ، وفي تهذيبه (١) (٨ / ٤٧) وقال : ذكره ابن حبّان في الثقات (٢) وقال : كان من العبّاد ، وكانت ركبته كَرُكبة البعير من كثرة الصلاة.
١٠ ـ عمرو بن الوليد السهمي المصري : المتوفّى سنة (١٠٣) مولى عمرو بن العاص ، يروي عن جمع من الصحابة منهم : المترجم له ـ قيس ـ كما في تهذيب التهذيب (٣) (٨ / ١١٦) ، ومن أحاديثه عنه : حديثٌ في الملاهي ، أخرجه من طريقه البيهقي في السنن (١٠ / ٢٢٢).
١١ ـ أبو نصر ميمون بن أبي شبيب الربعي الكوفي : المتوفّى (٨٣) ويقال : الرقِّي.
يروي عن أمير المؤمنين وعمر ومعاذ بن جبل وأبي ذر والمقداد وابن مسعود.
ترجمه ابن حجر في تهذيبه (٤).
١٢ ـ هُزيل بن شرحبيل الأزدي الكوفي. كما في حلية الأولياء (٥ / ٢٤) ، والإصابة (٣ / ٦١٩).
١٣ ـ الوليد بن عَبَدة ـ بفتح الباء ـ مولى عمرو بن العاص. يروي عن المترجَم له كما في تهذيب ابن حجر (٥) (١١ / ١٤١) ، ولعلّه عمرو بن الوليد المذكور ، كما يظهر من كلام الدارقطني (٦).
١٤ ـ أبو نجيح يسار الثقفي ، المكّي : المتوفّى (١٠٩).
__________________
(١) تهذيب التهذيب : ٨ / ٤٢ رقم ٧٨.
(٢) الثقات : ٥ / ١٦٨.
(٣) تهذيب التهذيب : ٨ / ١٠٢ رقم ١٩٣.
(٤) تهذيب التهذيب : ١٠ / ٣٤٧ رقم ٧٠٠.
(٥) تهذيب التهذيب : ١١ / ١٢٤ رقم ٢٣٥.
(٦) المؤتلف والمختلف : ٣ / ١٥١٦.
حكى ابن حجر في تهذيبه (١) عن جمع ثقته ، وروى ابن الأثير في أُسد الغابة (٢) (٤ / ٢١٥) عنه ، عن قيس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله : «لو كان العلم متعلّقاً بالثريّا لناله ناس من فارس». وأخرجه أبو بكر الشيرازي : المتوفّى (٤٠٧) فى الألقاب ، كما في تبييض الصحيفة (ص ٤).
معاوية وقيس قبل وقعة صفّين
ذكر غير واحد من رجال التاريخ في معاجمهم (٣) : أنَّه لمّا قرب يوم صفِّين ، خاف معاوية على نفسه أن يأتيه عليّ بأهل العراق ، وقيس بأهل مصر ، فيقع بينهما ، ففكَّر في استدراج قيس واختداعه فكتب إليه :
أمّا بعد : فإنّكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثَرَة رأيتموها ، أو ضربة سوط ضربها ، أو في شتمه رجلاً ، أو تسييره أحداً ، أو في استعماله الفتيان من أهله ، فقد عَلِمْتُمْ أنَّ دمه لم يحلَّ لكم بذلك ، فقد ركبتم عظيماً من الأمر ، وجئتم شيئاً إدّا ، فتب يا قيسُ إلى ربِّك إن كنتَ من الُمجْلبين على عثمان إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئاً.
فأمّا صاحبك ؛ فإنّا استيقنّا أنَّه الذي أغرى الناس ، وحَملَهم حتى قتلوه ، وأنَّه لم يسْلَم من دمه عظيم قومك ، فإن استطعتَ أن تكون ممّن يطلب بدم عثمان ، فبايعنا على عليّ في أمرنا ، ولك سلطان العِراقَيْن إن أنا ظفرتُ ما بقيت ، ولمن أحببتَ من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان ، وسلني غير هذا ما تحبّ.
__________________
(١) تهذيب التهذيب : ١١ / ٣٣١ رقم ٦٣٦.
(٢) أُسد الغابة : ٤ / ٤٢٦ رقم ٤٣٤٨.
(٣) ذكره الطبري في تاريخه : ٥ / ٢٢٨ [٤ / ٥٥٠ حوادث سنة ٣٦ ه] ، وابن الأثير في كامله : ٣ / ١٠٧ [٢ / ٣٥٥ حوادث سنة ٣٦ ه] ، وابن أبي الحديد في شرح النهج : ٢ / ٢٣ [٦ / ٦٠ خطبة ٦٧] نقلاً عن كتاب الغارات لابراهيم الثقفي : المتوفّى (٢٨٣) [ص ١٣١]. (المؤلف)
فكتب إليه قيس :
أمّا بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، وفهمتُ الذي ذكرتَ من أمر عثمان ، وذلك أمرٌ لم أُقاربه ، وذكرتَ أنَّ صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان ، ودسّهم إليه حتى قتلوه ، وهذا أمرٌ لم أطّلِع عليه ، وذكرتَ لي أنّ عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان ، فلعمري إنَّ أولى الناس كان في أمره عشيرتي. وأمّا ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدم عثمان ، وما عرضته عليَّ ، فقد فهمتُه ، وهذا أمر لي فيه نظر وفكر ، وليس هذا ممّا يُعجل إلى مثله ، وأنا كافّ عنك ، وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه ، حتى ترى ونرى.
فكتب إليه معاوية :
أمّا بعد : فقد قرأتُ كتابكَ ، فلم أرَكَ تدنو فأعدّك سِلماً ، ولم أرك تتباعد فأعدّك حرباً ، أراك كحبل الجزور ، وليس مثلي يُصانَعُ بالخداع ، ولا يُخدعُ بالمكايد ، ومعه عدد الرجال ، وبيده أعنّة الخيل ، فإن قبلتَ الذي عرضتُ عليك فلك ما أعطيتُك ، وإن أنت لم تفعل ، ملأتُ عليك خيلاً ورجلاً ، والسلام.
فكتب إليه قيس :
أمّا بعد : فالعجب من استسقاطك رأيي والطمع في أن تسومني لا أبا لغيرك ـ الخروج عن طاعة أولى الناس بالأمر ، وأقوَلهم للحقِّ ، وأهداهم سبيلاً ، وأقربهم من رسول الله وسيلةً ، وتأمرني بالدخول في طاعتك ، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر ، وأقوَلهم للزور ، وأضلّهم سبيلا ، وأبعدهم من رسول الله وسيلة ، ولديك قوم ضالّون مضلّون ، طاغوت من طواغيت إبليس. وأمّا قولك : إنَّك تملأ عليَّ مصر خيلاً ورجلاً ، فلئن لم أُشغلك عن ذلك حتى يكون منك ، إنَّك لذو جدّ ، والسلام.
وفي لفظ الطبري : فو الله إن لم أُشغلك بنفسك حتى تكون نفسك أهمَّ إليك ، إنَّك لذو جدّ.
فلما أيس معاوية منه كتب إليه (١) :
أمّا بعد : فإنك يهوديّ ابن يهوديّ ، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عَزَلَك ، واستبدل بك ، وإن ظفر أبغضهما إليك قتلَكَ ونكّل بك ، وكان أبوك وتر قوسَه ، ورمى غير غرضه ، فأكثر الحزّ ، وأخطأ المِفْصَل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، ثمّ مات طريداً بحوران. والسلام.
فكتب إليه قيس :
أمّا بعد : فإنّما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الإسلام كرهاً ، وخرجت منه طوعاً ، لم يَقْدُمْ إيمانك ، ولم يحدُثْ نفاقك ، وقد كان أبي وتر قوسه ، ورمى غرضه ، وشغب عليه من لم يبلغ كعبه ، ولم يشقّ غباره ، ونحن أنصار الدين الذي خرجتَ منه ، وأعداء الدين الذي دخلتَ فيه. والسلام.
راجع (٢) : كامل المبرّد (١ / ٣٠٩) ، البيان والتبيين (٢ / ٦٨) ، تاريخ اليعقوبي (٢ / ١٦٣) ، عيون الأخبار لابن قتيبة (٢ / ٢١٣) ، مروج الذهب (٢ / ٦٢) ، مناقب الخوارزمي (ص ١٧٣) ، شرح ابن أبي الحديد (٤ / ١٥).
لفظ الجاحظ في كتاب التاج (٣) (ص ١٠٩) : كتب قيس إلى معاوية :
يا وثن ابن وثن ، تكتب إليّ تدعوني إلى مفارقة عليِّ بن أبي طالب والدخول في طاعتك ، وتخوِّفني بتفرّق أصحابه عنه ، وإقبال الناس عليك وإجفالهم إليك ، فو الله الذي لا إله غيره ، لو لم يبقَ له غيري ، ولم يبقَ لي غيره ، ما سالمتك أبداً وأنت حربه ،
__________________
(١) من هنا كلام الجاحظ في البيان والتبيّين : ٢ / ٦٨ [٢ / ٥٨] والكتب المذكورة توجد في تعليق البيان : ٢ / ٤٨. (المؤلف)
(٢) الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٤١٩ ، تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٨٦ ـ ١٨٧ ، مروج الذهب : ٣ / ٢٦ ، المناقب : ص ٢٥٨ ح ٢٤٠ ، شرح نهج البلاغة : ١٦ / ٤٣ خطبة ٣١.
(٣) التاج في أخلاق الملوك : ص ١١٤.
ولا دخلت في طاعتك وأنت عدوّه ، ولا اخترت عدوَّ الله على وليِّه ، ولا حزب الشيطان على حزب الله. والسلام.
كتاب مفتعل :
فلمّا أيس معاوية من قيس أن يتابعه على أمره ، شقَّ عليه ذلك ، وثقل عليه مكانه ، لما كان يعرف من حزمه وبأسه ، ولم تنجح حيلة فيه تكاده من قِبل عليّ ، فقال لأهل الشام : إنَّ قيساً قد تابعكم فادعوا الله له ولا تسبّوه ، ولا تدعوا إلى غزوه ، فإنّه لنا شيعة ، قد تأتينا كتبه ونصيحته سرّا ، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل ـ خربتا ـ يجري عليهم عطاياهم وأرزاقهم ويحسن إليهم.
واختلق كتاباً ونسبه إلى قيس ، فقرأه على أهل الشام وهو :
بسم الله الرحمن الرحيم. للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد :
سلامٌ عليك ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد :
فإنّي لمّا نظرت لنفسي وديني فلم أرَ يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم مسلماً محرَّماً برّا تقيّا ، فنستغفر الله لذنوبنا ، ونسأله العصمة لديننا ، ألا وإنِّي قد ألقيت إليكم بالسلم ، وإنِّي أجبتك إلى قتال قتلة عثمان رضى الله عنه إمام الهدى المظلوم ، فعوِّل عليَّ فيما أحببت من الأموال والرجال ، أُعجّل عليك. والسلام (١).
إنَّ شنشنة التقوُّل والافتعال غريزة ثابتة في سجايا معاوية ، ومنذ عهده شاعت الأحاديث المزوَّرة فيما يعنيه من فضل بني أميّة ، والوقيعة في بني هاشم ، عترة الوحي وأنصاره ، يوم كان يَهبُ القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة لأهل الجباه السود ، فيضعون له في ذلك روايات معزوّة إلى صاحب الرسالة صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ فإنّه بذل لسمرة بن
__________________
(١) تاريخ الطبري : ٥ / ٢٢٩ [٤ / ٥٥٣ حوادث سنة ٣٦ ه] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١١٧ [٢ / ٣٥٦ حوادث سنة ٣٦ ه] ، شرح ابن أبي الحديد ٢ / ٢٤ [٦ / ٦٢ خطبة ٦٧]. (المؤلف)
جندب مائة ألف درهم ليروي أنّ قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (١) نزل في ابن ملجم أشقى مراد. وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢) الآية. نزل في عليّ أمير المؤمنين. فلم يقبل ، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل ، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل (٣) ، وله من نظائر هذا شيءٌ كثيرٌ.
فليس من البِدع اختلاقه على قيس ، وهو يفتعل على سيِّده النبيِّ الأطهر ما لم يقله ، وعلى أمير المؤمنين ما لم يكن ، وعلى سروات المجد من بني هاشم الأطيبين ما هم عنه بُعداء. فهو مبتدع هذه الخزايات العائدة عليه وعلى لفيفه في عهد ملوكيّته المظلم ، وعلى هذا كان دينه وديدنه ، ثمَّ تمرّنت رواة السوء من بعده على رواية الموضوعات ، وشاعت وكثرت ، إلى أن ألقت العلماء وحفظة الحديث في جهود متعبة بالتأليف ، في تمييز الموضوع من غيره ، والخبيث من الطيِّب.
لم يزل معاوية دائباً على ذلك متهالكاً فيه ، حتى كبر عليه الصغير ، وشاخ الكهل ، وهرم الكبير ، فتداخل بغض أهل البيت عليهمالسلام في قلوب ران عليها ذلك التمويه ، فتسنّى له لعن أمير المؤمنين عليهالسلام وسبّه في أعقاب الصلوات في الجمعة والجماعات! وعلى صهوات المنابر في شرق الأرض وغربها ، حتى في مهبط وحي الله المدينة المنوّرة.
قال الحموي في معجم البلدان (٤) (٥ / ٣٨) : لُعن عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه على منابر الشرق والغرب ، ولم يُلعن على منبر سجستان إلاّ مرّة ، وامتنعوا على بني أميَّة حتى زادوا في عهدهم : وأن لا يُلعن على منبرهم أحدٌ. وأي شرف أعظم من امتناعهم
__________________
(١) البقرة : ٢٠٧.
(٢) البقرة : ٢٠٤.
(٣) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٣٦١ [٤ / ٧٣ خطبة ٥٦]. (المؤلف)
(٤) معجم البلدان : ٣ / ١٩١.
من لعن أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم على منبرهم ، وهو يُلعن على منابر الحرمين ـ مكّة والمدينة. انتهى.
لمّا مات الحسن بن علي عليهماالسلام حجّ معاوية فدخل المدينة ، وأراد أن يلعن عليّا على منبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقيل له : إنَّ هاهنا سعد بن أبي وقّاص ، ولا نراه يرضى بهذا ، فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له ذلك فقال : إن فعلت لأخرجنَّ من المسجد ، ثمّ لا أعود اليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى مات سعد ، فلمّا مات لعنه على المنبر ، وكتب إلى عمّاله : أن يلعنوه على المنابر. ففعلوا.
فكتبت أمّ سلمة زوج النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى معاوية : إنَّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم! وذلك أنَّكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبه ، وأنا أشهد أنّ الله أحبه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها (١).
قال الجاحظ في كتاب الردِّ على الإماميّة : إنَّ معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللهم إنَّ أبا تراب ألحد في دينك ، وصدَّ عن سبيلك ، فالعنه لعناً وبيلاً ، وعذِّبه عذاباً أليما. وكتب بذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يشادبها على المنابر إلى أيّام عمر ابن عبد العزيز. وإنَّ قوماً من بني أميّة قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين إنَّك قد بلغت ما أمّلت ، فلو كففتَ عن هذا الرجل. فقال : لا والله حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكرٌ فضلاً. وذكره ابن أبي الحديد في شرحه (٢) (١ / ٣٥٦).
قال الزمخشري في ربيع الأبرار (٣) ـ على ما يعلق بالخاطر والحافظ السيوطي : إنّه كان في أيّام بني أميّة أكثر من سبعين ألف منبر ، يُلعن عليها عليّ بن أبي طالب ، بما سنّه لهم معاوية من ذلك. وفي ذلك يقول العلاّمة الشيخ أحمد الحفظي
__________________
(١) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٠ [٤ / ١٥٩]. (المؤلف)
(٢) شرح نهج البلاغة : ٤ / ٥٦ ، ٥٧ خطبة ٥٦.
(٣) ربيع الأبرار : ٢ / ١٨٦.
الشافعي في أُرجوزته :
وقد حكى الشيخ السيوطي أنَّه |
|
قد كان فيما جعلوهُ سُنَّهْ |
سبعون ألف منبرٍ وَعشَرهْ |
|
من فوقهنّ يلعنون حيدرَهْ |
وهذه في جنبها العظائمُ |
|
تَصْغُرُ بل تُوجّهُ اللوائمُ |
فهل ترى من سنّها يعادى |
|
أم لا وهل يُستَرُ أو يهادى |
أو عالمٌ يقول عنه نسكتُ |
|
أجب فإنّي للجواب مُنصتُ |
وليت شعري هل يقالُ اجتهدا |
|
كقولهم في بغيِهِ أم ألحدا |
أليس ذا يؤذيه أم لا فاسمَعنْ |
|
إنَّ الذي يؤذيه من ومن ومن |
بل جاء في حديثِ أمّ سلمهْ |
|
هل فيكمُ الله يُسبُّ مه لِمَهْ |
عاون أخا العرفان بالجوابِ |
|
وعادِ من عادى أبا ترابِ |
وكان أمير المؤمنين يخبر بذلك كلّه ويقول : «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رَحْب البلعوم ، مُنْدَحِق البطن (١) يأكل ما يجد ، ويطلب ما لا يجد ، فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنَّه سيأمر كم بسبّي والبراءة منّي». نهج البلاغة (٢).
ونحن لو بسطنا القول في المقام ، لخرج الكتاب عن وضعه ، إذ صحائف تاريخ معاوية السوداء ومن لفَّ لفّه من بني أميّة ، إنّما تُعدّ بالآلاف لا بالعشرات والمئات.
الصلح بين قيس ومعاوية
أَمّرت شرطة الخميس قيس بن سعد على أنسهم ـ وكان يعرف بصاحب شرطة الخميس كما في الكشّي (٣) (ص ٧٢) ـ وتعاهد هو معهم على قتال معاوية ،
__________________
(١) مندحق البطن : واسعها. كان معاوية موصوفاً بالنهم وكثرة الأكل. (المؤلف)
(٢) نهج البلاغة : ص ٩٢ خطبة ٥٧.
(٣) رجال الكشّي : ١ / ٣٢٦ رقم ١٧٧.