بلغة الفقيّة - ج ٢

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٥

 

__________________

بل هو ملك للمالك فله مطالبته وأخذ حقه منه فلو لم يطالبه وأخذ حقه من السابق انتقل حق المطالبة من المالك الى السابق نظرا الى بقاء مخرجية ذمة اللاحق الى ما بعد أداء السابق بمقتضى إطلاق دليل «على اليد» فيرجع السابق بما أداه إلى المالك على اللاحق فلو ادى بعض بدل العين واكتفى به المالك وعفا عن الباقي فليس له الرجوع الا بما ادى لا بكل البدل فان اللاحق انما يضمن ما يؤديه السابق للمالك ومثله الضمان بالاستيفاء ، فلو ضمن شخص عن المديون دينه للمضمون له بالضمان العقدي وكان ذلك بالتماس من المديون فأدى بعض الدين واكتفى به الدائن لا يرجع على المضمون عنه الملتمس الا بمقدار ما أداه لأنه الذي استوفاه من الضامن لا بكل الدين ، وكذا ضمان الغرور فان المغرور يرجع على الغار بما خسره وغرمه فلا وجه لرجوعه بالكل.

ولو أبرء المالك ذمة أحد الضمناء مما عليه فالظاهر براءة الجميع وسقوط الحق عنه وعن السابق عليه واللاحق له. أما سقوطه عن السابق فلان ذمة اللاحق كانت مخرجا لما في ذمة السابق على ما قربناه من الطولية بنحو لو رجع المالك على السابق بالبدل جاز رجوعه عليه بما اداه ، نظرا لبقاء مخرجية ذمة اللاحق الى هذا الحال ، ولا يعقل بقاء ما في ذمة السابق مع برأيه من ذمته مخرج لما في ذمته فلا بد من سقوط ما في ذمة السابق بذهاب ما هو مخرج لها وهي ذمة من برئت ذمته عن الضمان بإبراء المالك لها ، وأما براءة ذمة اللاحق فلان ذمته انما تشتغل بما في ذمة السابق فكما ان حدوث اشتغالها بما في ذمة السابق موقوف على ثبوت شغلها اي شغل ذمة السابق فكذا بقاء شغلها يتوقف على بقاء شغل ذمة السابق فببراءة

٣٦١

 

__________________

ذمة السابق تبرأ ذمة اللاحق أيضا ، فإن ما في ذمة السابق في ذمة اللاحق فاذا ذهب ما في ذمة السابق لم يبق شي‌ء يكون في ذمة اللاحق.

هذا كله بناء على ما هو التحقيق : من طولية الضمان في الضمناء المتعددين ووحدة الحق فبسقوطه لم يبق حق للمالك يطالب به الآخر. وأما بناء على عرضية الضمان وتعدد الحق فسقوط أحد الحقوق بالإبراء لا يقتضي سقوط غير المبرء منها كما هو ظاهر. ولو صالح المالك أحد الضمناء فلا إشكال في سقوط حق المالك كما في الإبراء فليس له الرجوع على السابق على المتصالح معه ولا على اللاحق له. إنما الكلام في رجوع المتصالح على من لحقه ، فهل الصلح كالإبراء فلا يرجع على اللاحق أو ليس كالإبراء واما عدم رجوعه على من سبقه فهو واضح ، فنقول ـ قبل بيان ما هو الحق ـ : ان الصلح عقد ينشأ به التسالم على أمر فإذا ورد على العين بعوض ينتج نتيجة البيع وبلا عوض ينتج نتيجة الهبة وعلى المنفعة بأجرة أو بلا اجرة ينتج نتيجة الإجارة أو العارية ففي مورد كل معاملة يفيد فائدتها لا انه نفسها حتى يكون له حقائق متعددة بعدد المعاملات التي تكون موردا له فالمنشأ بصيغة الصلح في صلح العين بالعوض مثلا ليس تمليك العين بالعوض ليكون معنى صالحتك على ان تكون العين لك بكذا ملكتك العين بكذا. ومن هنا : لا تتعدى الى مفعولها الثاني بنفسها كما في ملكتك بل المنشأ بصيغته التسالم والتباني وما وقع عليه الصلح هو المتسالم عليه ففي صلح العين بالعوض يقع التسالم من الطرفين على ان تكون العين مملوكة للطرف بعوض معين. ومن هنا لم يكن بيعا إذ لم يقع إنشاء على تمليك العين بالعوض ولكنه أفاد فائدته وهو التسالم على تمليك العين بالعوض. ثم انه لو وقع على ما في ذمة شخص يكون كبيعه منه أو هبته له موجبا لانتقاله اليه ثم إسقاطه عن ذمته لعدم

٣٦٢

ثابتا في جميع حالاته وأطواره التي منها حالة تلفه غير أن رد بدله عند التلف رد له عرفا وطور من أطواره فدفع البدل حينئذ من شئونات دفع العين وردها ويعبر عن هذا النحو من الالتزام المطلق بالضمان والعهدة ، ويطلق على العين بمجرد الاستيلاء عليها : أنها مضمونة وفي عهدة المستولي عليها وان كانت موجودة. ومنه ظهر أن الأصل في اليد بقاعدة الاحترام هو الضمان إلا ما ثبت تقييد الالتزام برده على وجوده كيد الأمانة ، فإذا ترتبت الأيدي على مال الغير دخل في عهدة الجميع وكانت مضمونة عليهم بالمعنى المتقدم الذي مرجعه الى اشتراك الكل في الالتزام برده الى مالكه ولو برد بدله عند تلفه لأنه من شئوناته وليس ثبوت البدل في ذممهم بنحو استقرار المظروف في الظرف حتى يستحيل اشتغال ذمم متعددة بمال واحد بل العين متعلقة بالذمة وداخلة في العهدة في كلتا حالتي وجودها وعدمها الموجب تعلقها كذلك لتعلق بدلها عند التلف بعد تنزيله منزلتها عرفا فالعين متعلقة بالذمة بجميع شئوناتها لا مستقرة فيها كي يلزم المحال والتعهدات المتعددة لشي‌ء واحد أمر معقول وثابت شرعا بالإجماع عندنا في ضمان كل من العوضين عن البائع والمشترى ، بل قد عرفت أنه على القاعدة ، فهو نظير الواجب الكفائي في العبادات ، وفي المعاملات نظير القول بالضمان على مذهب الجمهور من ضم ذمة إلى ذمة مع عدم إنكار أحد منا عليهم بأنه محال ، بل غاية ما قيل عليهم عدم اقتضاء دليل الضمان ذلك ، بل مفاده النقل والتحويل دون الانضمام فالكل مكلفون بالرد بخطاب الوضع أيضا.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن للمالك فيما لو ترتبت الأيدي على ماله الرجوع على كل منهم أو من شاء منهم بالكل أو بالبعض موزعا عليهم

__________________

تعقل ملكية الإنسان شيئا على نفسه فالفارق بين الإبراء لما في الذمة وبين الصلح عليه : ان الإبراء موجب لإسقاطه ابتداء والصلح موجب لانتقاله

٣٦٣

بالتساوي أو بالتفاوت لان الرجوع عليه بالكل يقتضي الرجوع عليه بالبعض بالأولوية ويرجع من رجع المالك عليه بما أدى له على من لحقه دون من سبقه ويستقر الضمان على من تلف في يده فلا يرجع هو على غيره ، وكله مسلم عندنا من غير خلاف يعرف.

وقد ظهر لك وجه الأول مما لا مزيد عليه.

__________________

الى صاحب الذمة ثم إسقاطه عنه ثانيا ، وكذا الحال في بيع ما في ذمة الشخص وهبته له.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان في الصلح على ما في ذمة الشخص حيثية الاسقاط مترتبة على حيثية الملك والانتقال ، فمن ناحية الحيثية الاولى وهي تملك المصالح ما في ذمته وان صح له الرجوع على من لحقه نظرا لقيامه مقام المالك ـ حينئذ ـ فله المطالبة ممن لحقه بالبدل ، لكن نقول : مطالبة السابق من اللاحق لقيامه مقام المالك انما تصح فيما إذا أدى السابق البدل للمالك فيرجع بما أداه على اللاحق لكونه ضامنا ما ضمنه. وأما لو صالحه المالك صلحا مجانيا على ما في ذمته بلا عوض فلا وجه لمطالبته من اللاحق البدل. ومجرد تملك السابق ما في ذمته آنا ما بسبب الصلح ملكا غير مستقر لا يترتب عليه سوى براءة ذمته لا يكفي في قيامه مقام المالك إذ لا بقاء للملكية المذكورة ، فلا حق له يطالب به اللاحق ، وان شئت قلت : ان الصلح الذي لا أثر له الا إسقاط ما في ذمة من صالحه المالك هو بمنزلة الإبراء ، وقد ذكرنا أن المالك لو أبرأه أحد الضمناء برئت ذمة الجميع وذكرنا وجهه ، هذا فيما لو كان الصلح بلا عوض ، وأما ما كان بعوض فيرجع المتصالح على من لحقه بمقداره وهو واضح إذ اللاحق يضمن ما ضمنه السابق وما خسره للمالك ، ثم لو عادت العين من اللاحق الى السابق انعكس الحكم لكون السابق صار لاحقا فلو رجع المالك عليه لا يرجع على من كان

٣٦٤

وأما الثاني وهو الموضع الثالث من المواضع الثلاثة وهو رجوع من رجع المالك عليه على اللاحق دون السابق عليه (١) فقد وجهه شيخنا ـ قدس سره ـ (في مكاسبه) بما لفظه : أن السابق اشتغلت ذمته له بالبدل قبل اللاحق فاذا حصل المال في يد اللاحق فقد ضمن شيئا له بدل فهذا الضمان يرجع الى ضمان واحد من البدل والمبدل على سبيل البدل إذ لا يعقل ضمان المبدل معينا من دون البدل والا خرج بدله عن كونه بدلا فما يدفعه

__________________

لاحقا بخلاف ما لو رجع المالك على من كان لا حقا فإنه يرجع على من كان سابقا عليه لكونه لاحقا له فعلا ، وقد ذكرنا أن السابق يرجع بما غرمه للمالك على من لحقه إذا لم يكن غارا له واما مع الغرور فلا يرجع بغرامته عليه إذ لا وجه لرجوعه على من إذا رجع المالك عليه يرجع بما غرمه عليه لكونه غارا له ولو تعدد الغار في سلسلة الأيادي المتوالية فكل مغرور يرجع على من غيره ، لا على غار مغرور آخر.

(١) إنا ـ وإن ذكرنا فيما سبق كيفية ضمان الأيدي المتوالية على مال الغير ـ وبما انه يحصل بتكرار الكلام في ذلك زيادة وضوح ، فنقول : إن ضمان الأيدي المتعاقبة على مال الغير في عالم التصور يمكن أن يكون على أنحاء.

الأول ـ كونه من قبيل الواجب الكفائي بمعنى أن كلا من ذوي الأيدي يضمن المال لو لم يكن الغير ضامنا له. وهذا الوجه انما يتم بناء على ان المجعول بالأصل في باب الضمان هو الحكم التكليفي والضمان منتزع منه وتبع له وعليه فيمكن كون كل من ذوي الأيدي مكلفا بأداء المال الى مالكه ما لم يؤده غيره فلو ادى البعض سقط الوجوب عن الكل. ولو لم يتحقق الأداء عوقب الكل شأن الواجب الكفائي. واما بناء على ان الضمان من قبيل الوضع لا التكليف وان مرجعه كون عهدة الضامن وذمته

٣٦٥

 

__________________

محلا وطرفا اعتباريا للمضمون نظير الظرف الخارجي للشي‌ء فكما لا يتصور أن يقال : إن زيدا مثلا في الدار لو لم يكن في غيرها وفي نفس الوقت في غيرها لو لم يكن فيها كذلك لا يمكن اعتبار كون المال في ذمة زيد مثلا لو لم يكن ذمة غيره وفي عين الوقت في ذمة غيره لو لم يكن في ذمته فان مرجع ذلك الى عدم كونه في الذمتين. وبالجملة بناء على كون الضمان من قبيل الوضع لا التكليف لا معنى لكونه كفائيا نعم بناء على كونه من قبيل التكليف وان مرجعه الى لزوم أداء مال الغير اليه على آخذه وتداركه له فكونه من قبيل الواجب الكفائي موجه. ولعله الظاهر من كلام سيدنا ـ قدس سره ـ ولكنه خلاف التحقيق فان ظاهر دليل على اليد كون نفس ما أخذه ذو اليد من مال الغير على آخذه والظرف فيه ظرف استقرار لا ظرف لغو نظير قول القائل :

عليك صلاة كذا وصوم كذا ، مما كان ما على الشخص والملزم به فعلا من أفعال المكلف وكان مرجعه الى وجوب ذلك عليه ، فظاهر النبوي (ص) أن ما أخذه ذو اليد من مال الغير بلا استحقاق ، فذمة آخذه مشغولة به الى وقت أدائه ووصوله الى مالكه فعليه تبعاته من لزوم حفظه وتدارك نقصه وأرش عيبه واجرة ما استوفاه أو فات من منفعته وأداء مثله أو قيمته عند تلفه ، فالتبعات المذكورة انما هي لازمة للضمان وهو ملزوم لها لا انه نفسها ومرجعه إليها.

الثاني ـ من الوجوه المتصورة : كون الضمان من قبيل الوضع لا محض التكليف المتصور فيه الكفائية ، فكل من ذوي الأيدي المتعاقبة على مال الغير مشغول الذمة به ومتحمل تبعاته الى وقت أدائه ووصوله الى مالكه ولازم ذلك استحقاق المالك على كل من ذوي الأيدي بدلا عند تلفه ، كيف وهل يستحق الا بدلا واحدا لما تلف من ماله ، ولا وجه لاشتراك الكل في ذلك

٣٦٦

 

__________________

بان يكون على كل بعضه إذ المال لم يكن تحت الأيدي في وقت واحد ليتصور فيه الاشتراك في البدل بل أخذه كل ممن سبقه واستقل بالاستيلاء عليه. (وما قد يقال) : من أن خطاب من تلف عنده المال ذمي فذمته المشغولة للمالك يبدل العين وأما من سبقه فخطابه شرعي محض وللمالك باعتبار الغضب إلزامه بأداء ما اشتغلت به ذمة من تلف عنده المال وبالأداء يملك ما للمالك في ذمته قهرا بالمعاوضة الشرعية فله الرجوع عليه بما ملكه بها انتهى (لم يتضح) وجهه أيضا فإن الدليل الدال على ضمان من تلف عنده المال واشتغال ذمته يبدله هو عموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» وهو الدليل أيضا على لزوم أداء غيره ممن سبقه بأخذ المال وكيف يكون خطاب من تلف عنده المال ذمي وخطاب غيره شرعي محض مع كون دلالة حديث على اليد بالنسبة إليهما سواء مع ان تملك غير من تلف المال بيده لما في ذمة من تلف المال بيده بمجرد دفع البدل لا يعلم له سبب اختياري ولا قهري كما أورده الشيخ الأنصاري ـ قدس سره ـ على التوجيه المذكور ثم ان سيدنا ـ قدس سره ـ بعد ذكر التوجيه المذكور وعدم ارتضائه لما وجهه به قال فالأحسن في توجيه ذلك هو ان يقال : ان من يدفع البدل للمالك يرجع به على من انتقل منه إليه لأن العين مقبوضة له منه ولو بواسطة دون من انتقلت اليه منه لان العين مقبوضة منه فكيف يمكن منه مطالبة بدلها مع كون نفس العين مقبوضة منه وهل هو بالنسبة اليه الا جمع بين البدل والمبدل. توضيح ذلك : ان يدفع البدل الى المالك قام الدافع مقام المالك قهرا فيما كان له من الحق قضاء لحق البدلية وان كانت قهرية ومقتضاه الرجوع على من أخذ المال منه ولو بواسطة فنسبة الأخذ من الدافع كنسبة الأول من المالك فلا يرجع به على من لم يأخذ المال منه كما لا يرجع المالك

٣٦٧

 

__________________

كذلك انتهى فتأمل جيدا.

ومن الوجوه التي ذكرت في مقام توارد الأيدي على مال الغير : هو ان ضمان ذوي الأيدي المتعاقبة عليه طولي لا عرضي. وحاصله : ان الأول منهم بأخذه المال من مالكه يضمنه له وتشتمل ذمته بالعين بما لها من المالية والثاني بأخذه المال من الأول الضامن له قبله يضمن ما ضمنه وتكون ذمته مخرجا لما في ذمته فيكون ما على الأول من بدله عند تلفه مستقرا على الثاني الأخذ للمال منه حال كونه مضمونا عليه والثالث بالنسبة الى الثاني يضمن ما ضمنه كذلك حتى تنتهي سلسلة الضمناء الى من تلف المال تحت يده ، فكل لا حق تشتغل ذمته بما اشتغلت به ذمة من سبقه بنحو تكون ذمته مخرجا لما في ذمة السابق ويكون ما عليه من بدل ما تلف من المال مستقرا على اللاحق فعليه تداركه له عند رجوع المالك عليه وأخذه منه فالمالك بما انه لا يستحق سوى بدل واحد لما له التالف فله الرجوع به على من شاء من الضمناء فباخذه ممن رجع عليه يسقط حقه عن الكل نعم يبقى معاملة بعضهم مع بعض فان رجع المالك ببدل ما تلف من ماله على السابق وأخذه منه رجع بما غرمه له على اللاحق لكونه ضامنا ما ضمنه وكون ما عليه من البدل مستقرا عليه فإنه بأخذه العين منه حال كونها مضمونه عليه ببدلها يضمنها وبدلها على البدل فان رجع المالك ببدل العين على السابق وأخذه منه رجع بما خسره للمالك على اللاحق لكونه بوضع يده على المال بعد وضع السابق يده عليه ضمن ما ضمنه وكان عليه خسارة ما خسره للمالك له فإنه ضمن مالا مضمونا على من أخذه قبله فيضمن بدله الذي أخذه المالك منه ببدله لكونه ضامنا ما ضمنه فعليه خسارته له وان رجع المالك على اللاحق لم يرجع بغرامته على من تقدم عليه بالضمان ما لم يكن مغرورا فيرجع بها على من غره ، والفرق بين السابق واللاحق :

٣٦٨

الثاني فإنما هو تدارك لما استقر تداركه في ذمة الأول ، بخلاف ما يدفعه الأول ، فإنه تدارك نفس العين معينا إذا لم يحدث له تدارك آخر بعد ، فإن أداه إلى المالك سقط تدارك الأول له» انتهى.

وحاصله : ان اللاحق قد قبض عينا موصوفة بكونها مضمونة ومتداركة فيضمن العين وبدلها على البدلية وليس على الأول الا ضمان نفس العين وتداركها بالبدل ، فما يدفعه بدلا عن العين مضمون على اللاحق أيضا ولو بنحو البدلية ، وليس ما يدفعه اللاحق من البدل مضمونا على الأول لأن عليه تدارك نفس العين لا العين وبدلها معا على البدلية.

وفيه أو لا منع اشتغال الذمة بالبدل بعد التلف ـ فضلا عنه قبله ـ ضرورة أن قيمة الشي‌ء المفروضة بدلا عنه ليس معناها إلا تعيين مقدار مالية الشي‌ء المنطبق على أنواع مختلفة الحقيقة من النقود وليس لها حقيقة في الخارج حتى يصح وقوعها بدلا بل هو مفهوم منطبق على حقائق مختلفة ، فليس البدل الا ما يدفعه من العين الشخصية المنطبق عليها ذلك المقدار نعم في المثليات يمكن جعل كلي المثل بدلا وما يدفعه من المثل الشخصي مصداق لذلك

__________________

من حيث رجوع السابق على من لحقه بخسارته دون اللاحق فإنه لا يرجع على من سبقه هو ان اللاحق حيث كان وضع يده على المال الذي هو السبب لضمانه متأخرا عن السابق الضامن له قبله ببدله فقد ضمن المال المضمون على السابق بوصفه الذي هو عليه عند وضع يده عليه وأخذه منه ، وهو كون بدله عليه أي على السابق فيكون ما على السابق من البدل ضمانه وخسارته وتداركه على اللاحق لأنه بأخذ المال منه ضمن ما ضمنه من بدله واشتغلت ذمته بما اشتغلت به ذمته من البدل ، بخلاف السابق فإنه عند وضع يده على المال المقتضى لضمانه لم يكن المال في ضمان اللاحق ليضمن ما ضمنه ويحتمل خسارته فليس الذي عليه سوى ضمان المال لمالكه ببدله ولكن اللاحق بوضع يده على المال بعد السابق يضمن

٣٦٩

الكلي المجعول بدلا ككلي الدرهم والدراهم الشخصية ، الا أن التفكيك بين المثلي والقيمي في اشتغال الذمة وكيفيته مع كونهما مفاد دليل واحد ، غير متصور. وبذلك ظهر لك عدم اشتغال الذمة بعد التلف الا بما كانت الذمة مشغولة به قبله وهو العهدة والضمان ولزوم التدارك الى دفع البدل الموجب للخروج به عن العهدة وحصل التدارك به ، فليس في ذمة السابق إلا عهدة العين لا العين وبدلها ولو بنحو البدلية.

وثانيا : ان تم ما ذكره فإنما يتم في خصوص الأول دون غيره ممن سبق عليه من ذوي الأيدي المترتبة كما لو رجع المالك على الثالث أو الرابع ـ مثلا ـ فان غير الأول من السوابق قد قبضها مضمونة وعليه أيضا تدارك العين وبدلها على البدلية فالمدفوع بدلا عن العين للمالك مضمون عليه أيضا ولو على البدلية مع ان اللاحق يختص رجوعه على من لحقه دون من سبقه مطلقا ولو غير الأول منهم فالدليل أخص من المدعى.

ومما ذكرنا ظهر لك أيضا ضعف ما تخلص به شيخنا في (الجواهر) عن محذور تعدد الشغل مع وحدة المال بأن خطاب من لم يستقر الضمان عليه

__________________

المال لمالكه ببدله بمقتضى وضع يده العادية عليه فيخسره للمالك لو رجع به عليه كما انه يضمن البدل للسابق ببدله لو رجع المالك على السابق وأخذ بدل المال منه فيضمنه للاحق لكونه ضامنا ما ضمنه فيخسره له لو رجع به عليه ولو كان اللاحق لا حق ، فالكلام فيه هو الكلام في السابق واللاحق إذ اللاحق سابق بالنسبة الى من لحقه فيضمن لاحق اللاحق. ما أخذه المالك من اللاحق ولا يضمن اللاحق ما أخذه ممن لحقه لكونه سابقا بالنسبة اليه.

وهذا ما اراده الشيخ الأنصاري ـ قدس سره ـ بقوله (والحاصل ان من تلف المال في يده ضامن لأحد الشخصين على البدل من المالك ومن سبقه في اليد فتشتغل ذمته اما يتدارك للعين) يعني ببدلها للمالك عند رجوعه

٣٧٠

خطاب شرعي وأنه مجرد حكم تكليفي واختصاص خطاب الوضع بمن كان قرار الضمان عليه وهو التالف عنده ولذا يرجع غيره عليه لو عزم للمالك ولا يرجع هو على غيره لو رجع المالك عليه مضافا الى ما فيه من التفكيك بين ضمانات الأيدي مع استفادة الكل من دليل واحد وهو حديث «على اليد».

فالأحسن في توجيه ذلك : هو أن يقال : ان من يدفع البدل الى المالك يرجع به على من انتقل منه إليه لأن العين مقبوضة له منه ولو بواسطة دون من انتقلت اليه منه لان العين مقبوضة منه فكيف يمكن منه مطالبة بدلها مع كون نفس العين مقبوضة منه ، وهل هو بالنسبة اليه الا جمع بين البدل والمبدل توضيح ذلك : أن يدفع البدل الى المالك ، قام الدافع مقام المالك قهرا فيما كان له من الحق قضاء لحق البدلية وان كانت قهرية ومقتضاه الرجوع على من أخذ المال منه ولو بواسطة ، فنسبة الأخذ من الدافع كنسبة الأول من المالك فلا يرجع به على من لم يأخذ المال منه كما لا يرجع المالك كذلك.

ثم ان ما ذكرنا كله لم يفرق فيه بين ما لو كان المدفوع بدلا عن العين أو عن الحيلولة بعد أن كان بدل العين بدلها ما دامت تالفة ، غير أن عودها بعد التلف لما كان محالا عند العرف بنوا على دوام الحيلولة ، وإلا فلو

__________________

عليه لكونه ضامنا لها به (واما بتدارك ما تداركها) يعني به البدل المأخوذ من السابق عند رجوعه عليه وأخذه منه فيضمنه من تلف المال بيده ببدله بما انه لاحق للسابق وكونه ضامنا ما ضمنه ومتحملا خسارته بسبب تأخر ضمانه عنه بأخذه المال منه ولو بالواسطة حال كونه مضمونا عليه فيضمن له ما في عهدته من البدل للمأخوذ منه ببدله (وهذا اشتغال شخص واحد) يعنى به من تلف المال بيده (بشيئين لشخصين على البدل) يعني بالشيئين العين وبدلها وبالشخصين على البدل المالك أو السابق فإنه أي اللاحق نظرا

٣٧١

فرض عودها بإعجاز ـ مثلا ـ رجع البدل أيضا الى مالكه الأول على حد بدل الحيلولة ، وليس ذلك الا لدوام الحيلولة عندهم في صورة التلف دون غيرها بخلاف ما لو صالح المالك على نفس العين فإنها لا نرجع اليه بعد العود لوقوع البدلية حينئذ بين العينين مطلقا لا ما دامت تالفة.

فالمقصود من دفع البدل في الصورتين تدارك ما فوقه على المالك من سلطنته التي كانت متعلقة بعين ماله على حسب ما كان له فيها من السلطنة وحيث أنها لا تتحقق إلا بعد تحقق متعلق لها وجب دفعه مقدمة فهو محقق لموضوع المتعلق ولذا لو عاد المبدل رجع البدل الى مالكه الأول لانتفاء موضوع التدارك حينئذ فيملك بدل الحيلولة ملكا تاما في الملكية ما دامت الحيلولة باقية ولا ينافي ذلك تزلزلها باعتبار التقييد بها. وبما ذكرنا يظهر لك الجواب عما توهم من لزوم الجمع بين العوض والمعوض فتأمل جيدا.

__________________

لأخذه مال الغير من السابق واستيلائه عليه يضمنه لمالكه ويتداركه له ببدله عند تلفه لو رجع المالك عليه بالبدل أما لو رجع المالك ببدل التالف على السابق وأخذه منه لكون يده على المال يد ضمان فيضمن اللاحق البدل المأخوذ من السابق له اي للسابق ببدله فيتداركه به لكونه ضامنا ما ضمنه السابق ومشغول الذمة بما اشتغلت به ذمته من بدل المال.

والحاصل ان الضمان الطولي بالبيان الذي ذكرناه ممكن ثبوتا ولا يرد عليه ما ورد على الضمان العرضي من اشكال استلزامه استحقاق المالك على كل من ذوي الأيدي المتوالية على ماله بدلالة مع كونه لا يستحق الا بدلا واحدا لماله التالف. انما الكلام في كيفية دلالة (على اليد) على الضمان الطولي بالمعنى المذكور فيمكن ان يقال في بيانه ان الحديث الشريف بعمومه يدل على ضمان كل من ذوي الأيدي المتوالية على مال الغير وتداركه عند تلفه ببدله فالسابق بأخذه المال من مالكه ولو بالواسطة عليه ما أخذه منه بتداركه له عند تلفه ببدله واللاحق بأخذه المال ممن سبقه أيضا عليه ضمانه وتداركه بالبدل ومقتضى إطلاق دليل على اليد بالنسبة إلى اللاحق كونه ضامنا لما أخذه ممن سبقه في الضمان وان أخذ

٣٧٢

وأما نماء البدل المنفصل عنه فلا يتبع العين في الرجوع وكذا المتصل به ما لم يصدق عليه الجزئية وإلا تبع الأصل فيه وقد مر تفصيله في المعاطاة في نماء العين المأخوذة بها ، فراجع هذا ولو توقف رد العين على مؤنة وجب على الضامن بذلها مقدمة للرد الواجب عليه من غير فرق بين كون المالك مباشرا للاسترداد أو غيره وتحسب المؤنة الى حين الإيصال إلى المالك فصرف الإياب لو توقف على سفر من المؤنة ان كان المباشر غير المالك وخارج عنها ان كان هو المباشر لوصول حقه اليه قبله. ولو لم يقدر على استردادها إلا المالك وطلب عوضا عن الاسترداد غير المؤنة ، ففي وجوب بذله على الضامن مطلقا لوجوب الرد عليه المقدور له بواسطة البذل أولا كذلك تنزيلا له منزلة المتعذر فيغرم بدل الحيلولة ، أو يفصل بين الأجرة المتعارفة للاسترداد وبين الزائد عليها بما يعد إجحافا ، أو يفصل بين ما يتوقف الاسترداد على عمل منه فيأخذ الأجرة عليه بإزاء عمله المحترم بالتراضي وان زاد على أجرة المثل ، وبين ما لا يتوقف عليه .. وجوه أقواها الأول ويتلوه الأخير في القوة ويضعف الثاني بأن دفع البدل ليس في مرتبة دفع

__________________

المالك بدله من السابق برجوعه عليه وأخذه منه وحيث ان تدارك المتدارك للمالك لا معنى ولا محصل له فلا بد من كون اللاحق عند أخذ المالك بدل العين التالفة ممن سبقه في الضمان وفرض بقاء ضمانه بمقتضى الإطلاق كونه ضامنا للسابق البدل المأخوذ منه ببدله ، وعليه فالمستفاد من دليل «على اليد» ان السابق ضامن لما أخذه من مال الغير ولو بالواسطة لمالكه ببدله ومشغول الذمة به له واللاحق بأخذه المال ممن سبقه في الضمان ضامن المال لمالكه ببدله ومحتمل خسارته له لو رجع المالك عليه بالبدل لكونه ضامنا لما أخذه من المال ممن سبقه بسبب وضع يده عليه فعليه أداء بدله للمالك عند تلفه وبمقتضى بقاء ضمانه لما أخذه من السابق الى ما بعد رجوع المالك عليه وأخذه

٣٧٣

العين بل منوط بعدم التمكن من ردها المفروض تمكنه منه ولو بالعوض. ومنه يظهر ضعف الثالث سيما إذا كان غاصبا لأنه مأخوذ بأشق الأحوال.

__________________

بدله منه من حيث إطلاق دليل على اليد كونه ضامنا فعلا للسابق بدله المأخوذ منه لكونه ضامنا ما ضمنه ومتحملا خسارته. فعليه تدارك ما أخذه المالك منه من بدل العين ببدله.

والحاصل مقتضى دليل على اليد كون السابق ضامنا للمالك ما أخذه ببدله واللاحق ضامنا المال للمالك ببدله مع رجوعه عليه بالبدل كما انه ضامن ما أخذه المالك من السابق من بدل العين لو رجع عليه به وأخذه منه فيضمنه اللاحق له ببدله وقد توافق مقام الإثبات ومقام الثبوت.

ولا وجه لما يقال من أن اللاحق إذا كان ضامنا للسابق البدل المأخوذ للمالك منه بمقتضى ضمانه ما ضمنه فالسابق أيضا ضامن ما ضمنه اللاحق من بدل المال ومقتضى ذلك ضمانه البدل له ببدله.

لأنا نقول : ليس المناط في ضمان اللاحق البدل المأخوذ للمالك من السابق كونه ضامنا للعين ليقال ان السابق أيضا مثله في ضمان العين لمالكها ببدلها فمقتضاه ضمانه البدل للاحق بل المناط كون اللاحق ضامنا للعين بأخذها من السابق الضامن لها ببدلها فضمانه لها في طول ضمان السابق المقتضى لضمانه العين للمالك أو بدلها المأخوذ من السابق له ببدله بخلاف ضمان السابق فإنه إنما أخذ العين من مالكها أو ممن سبقه في الضمان ومقتضاه كونه ضامنا بدلها للمالك أو لمن سبقه في الضمان لكونه ضامنا ما ضمنه ، ولا وجه لضمانه لمن لحقه في الضمان فإنه لم يأخذ العين منه ليضمن ما ضمنه من البدل المأخوذ للمالك منه ، وانما أخذها من المالك أو ممن سبقه فيضمن البدل للمالك أو لمن سبقه في الضمان في صورة أخذه المال منه دون ما لحقه في الضمان ، فتأمل في ذلك تعرف.

٣٧٤

هذا وحيثما أخذ المالك العوض عن الاسترداد إما مطلقا ، أو على أحد التفصيلين ، فهل له الاكتفاء بالعوض عن استرداد العين لان المقصود من دفعه هو التوصل الى حقه الراجع أمره إليه ، أولا لأنه مأخوذ عوضا عما لم يفعله فيكون أكله أكلا للمال بالباطل؟ وجهان. ولعل الأخير هو الأقوى ، فيرجع حينئذ بما دفعه للمالك عوضا عن الاسترداد ويغرم له يدل الحيلولة الا أن يقوم بالاسترداد.

هذا ولا يرجع الأول بما دفعه عوضا عن الاسترداد أو مؤنة للرد على من لحقه من الأيدي المتعاقبة لأنه خارج عن عهدة العين وبدله وان وجب عليه من باب المقدمة.

ثم لو رجع المالك على الأول بالقيمة في القيميات بدلا عن العين أو الحيلولة فدفع نقدا خاصا ، فهل يتعين في رجوعه على من لحقه دفع مثل النقد المدفوع بدلا لأنه القابل للبدلية لما عرفت من عدم قابلية وقوع القيمة من حيث هو بدلا بعد ان كان معناها ليس تعيين مقدار المالية ، أوله دفع نقد آخر مما ينطبق عليه مقدار المالية كالأول بالنسبة إلى المالك بعد فرض كونه بالدفع قائماً مقامه؟ وجهان والله العالم.

تذييل

لو مزج المشتري المبيع فضولا مع رد المالك بماله ، ثم أودع المجموع عند شخص أمانة ، ففي وجوب رد الجميع اليه مع المطالبة أو القسمة ودفع ما يتعين له بها قولان (١) والأول ظاهر الأكثر ، لتصريحهم في مسألة ما لو

__________________

(١) الذي ينبغي أن يقال في المسألة ونظائرها مما يكون مال الغير تحت يد شخص ضامن له فمزجه بماله ثم أودع المجموع عند آخر ـ : إن الكلام يقع في مقامين :

٣٧٥

مزج الغاصب المغصوب بماله ثم أودعه بأنه يجب على الودعي رد الجميع اليه مع المطالبة ، بل الفتوى بذلك منسوبة إلى الأكثر ، بل المشهور ، بل عليه الإجماع المحكي في (الغنية) و (السرائر) صريحا وفي (الإيضاح) وغيره ظاهرا. وفي (مفتاح الكرامة) : رد «الجميع على المودع خيرة المقنعة والنهاية والمراسم والوسيلة والشرائع والنافع والإرشاد والتنقيح وإيضاح النافع والرياض والغنية والسرائر وفي الأخيرين الإجماع عليه. وهو ـ أي الإجماع ـ ظاهر الإيضاح وشرح الإرشاد لفخر الإسلام وجامع المقاصد حيث نسب فيها إلى الأصحاب. وفي إيضاح النافع : إنه المشهور وأنه يشهد له النظر» انتهى. بل وفيه أيضا : «انه أول من تأمل في ذلك المصنف في (التذكرة) فإنه ـ بعد أن افتى برد الجميع ـ قال : و «يحتمل عندي رد قدر مال اللص اليه واحتفاظ الباقي لمالكه والقسمة هنا ضرورية المشعر ذلك بإطباق من تقدم عليه على ذلك».

قلت لم أعثر له على وجه في كلماتهم يصلح لذلك ، فالمسألة مشكلة جدا. ولذا اضطربت فيها كلمات متأخري المتأخرين. وقوى بعضهم احتمال القسمة فيه ، بل اختاره.

__________________

المقام الأول فيما تقتضيه القاعدة بالنسبة إلى الحكم من ناحية المزج ، وأن صاحب المال ما ذا يستحق ، وما حكم المسألة من تلك الناحية ، المقام الثاني فيما تقتضيه القاعدة من ناحية الوديعة وما يكون حكم الودعي ، فهل يجب عليه دفع المجموع للمودع عند مطالبته لذلك أو يجب عليه حفظ المقدار الذي يستحقه صاحب المال المضمون له يدفعه اليه ، وأما المودع فيدفع اليه ما يستحقه من مجموع المال فقط ولا يجوز له دفع الكل اليه.

أما الكلام من الناحية الأولى ، فهو إن مزج الغاصب أو من هو بمنزلته مال الغير بماله : تارة ـ يكون بحيث تذهب به صورة مال الغير

٣٧٦

والذي يمكن أن يكون وجها لهم في ذلك : اما دعوى التلف الحكمي بالمزج أو منع كون المورد من موارد القسمة التي يتولى أمرها غير الشريكين وتنقيح ذلك موقوف على ذكر مقدمة تتكفل لبيان أمرين : الأول بيان معنى الشركة المزجية وسببية المزج لها ، والثاني في بيان القسمة للشركة الحاصلة بالمزج.

__________________

النوعية حقيقة أو عرفا ، كما لو مزجه بغير جنسه واستهلك فيه ، كمزج مقدار من الحليب بأضعافه من الماء بنحو موجب لذهاب صورة الحليب حقيقة ، وكخلط مقدار من دقيق الحنطة ـ بطحين الشعير ـ مثلا ـ بنحو تذهب صورة الحنطة بالمزج وتنقلب إلى صورة الشعير عرفا ، واخرى ـ لم يستهلك مال المغصوب منه في مال الغاصب ولم تذهب صورته النوعية ، كما لو امتزج بجنسه أو بغير جنسه مع بقاء صورته النوعية كمزج حقة من الحليب بمقداره من الماء.

وبالجملة ، فرض الاستهلاك إنما يتحقق بالامتزاج بغير الجنس مع ذهاب الصورة فلو مزجه الغاصب بجنسه ، فان كان مال الغاصب مساويا لمال المغصوب منه ، من حيث الجودة والرداءة اشتركا في العين شركة حقيقية وأما لو كان مال المالك المغصوب منه أجود من مال الغاصب اشتركا في المالية ، فيباع المجموع ويعطي المغصوب منه مقدار قيمة ماله ، ولا يصح الاشتراك في العين في الصورة المذكورة ، إذ لو أعطى المالك مقدارا من العين زائدا على مقدار ماله بدلا عن وصف الجودة استلزام ذلك الربا بناء على جريانه في غير المعاوضات من الضمانات كما هو الأقوى. وبما أن صفة ماله محترمة فتباع العين ويعطى من القيمة مقدار ماله موصوفا ولو كان مال الغاصب أجود ، فلا مانع من الاشتراك الحقيقي في العين إذ لا احترام لوصف الجودة حينئذ فيستحق المالك من العين مقدار نسبة ماله الى المجموع

٣٧٧

فنقول مزج المالين لا يخلو من صور لأنه : إما أن يكون المزج بحيث يتولد منه شي‌ء ثالث ينتفي عنه اسم كل منهما ولا يصدق عليه إلا اسم المركب منهما كالدهن بالدبس واللبن بالعسل ـ مثلا ـ مزجا تاما بحيث لا يكاد يدرك جزء منه الا وهو مركب منهما أولا يخرج به عما كان يصدق عليه قبله وكان مع ذلك لا يتحقق جزء إلا وهو مركب منهما كمزج المتساويين جنسا ووصفا نحو الدهن بالدهن والدبس بالدبس ، أو يكون المزج بمثله بما يرتفع التميز بين أجزائه إلا أنه لا تركيب في الاجزاء منهما بل يكون كل جزء

__________________

ووصف الجودة فيما يستحقه موهبة من الله تعالى. ولو كان المزج بغير جنسه ففي صورة الاستهلاك وعدم إيجابه زيادة مالية في المزيد عليه لم يضمن الغاصب إلا بدل العين التالفة بالاستهلاك ، ولو أوجب الزيادة في المالية اشتركا من نفس العين بمقدار ماليّة مالهما لعدم لزوم الربا في غير الجنس وبالجملة امتزاج المالين موجب للشركة في العين ما لم يكن محذور في البين وفي غير صورة الاستهلاك حكمه الاشتراك في العين بمقدار مالهما ووصف الجودة لمال المالك مضمون على الغاصب لأنه محترم فيحسب له أرشه بخلاف وصف الجودة لمال للغاصب فإنه لعدم احترامه لا يحسب له أرشه فالزيادة الحكمية للمالك محترمة بخلاف الزيادة الحكمية للغاصب فليس لها احترام.

هذا واما الكلام في المقام الثاني وفيما يجب على الودعي ، فالذي ينبغي أن يقال فيه : أنه في صورة مزج الغاصب مال الغير بماله بنحو تذهب صورته النوعية حقيقة أو عرفا كما إذا كان المزج بغير جنسه بنحو ما مر سابقا بحيث عد مال الغير تالفا بسبب استهلاكه في مال الغاصب ولم يوجب زيادة مالية في ماله ، فيتجه حينئذ ما نسب إلى الأصحاب من الفتوى بوجوب رد الجميع الى الغاصب عند مطالبته للودعي إذ لم يبق للمالك حق في المال الذي أودعه الغاصب بعد أخذ بدله من الغاصب ، بل بلزوم بدله عليه

٣٧٨

من المال مختصا بأحدهما في الواقع كمزج الحنطة بمثلها ، أو يكون الخلط بين الإفراد المتشابهة على وجه لا يتمايز بعضها عن بعض كالدراهم بالدراهم والدنانير بمثلها والثياب بعضها ببعض من المثليات والقيميات المتشابهة.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن الذي يقتضيه تحقيق المسألة هو أن يقال ان المزج في الصورة الأولى موجب للتلف حكما وهو واضح بعد أن كان

__________________

لكونه تالفا ، فتشتغل ذمة الغاصب ببدله ويخلص المال الغاصب ويلزم الودعي رده عند المطالبة. وأما في غير الصورة المذكورة فوجوب رد الودعي جميع ما استودعه الغاصب عليه كما نسب الى الفتوى من الأصحاب بل جوازه مشكل غاية الاشكال : (وما) قد يدعى من الاستدلال على ذلك بما دل على وجوب رد الأمانات (ممنوع) كما يقول سيدنا ـ قدس سره ـ فان تلك الأدلة إنما دلت على وجوب الرد إلى أهلها فلا تشمل ما كان مشتملا على غيرها مما هو أمانة شرعية يجب حفظه لمالكه حيث كان المال مشتركا بين الغاصب والمغصوب منه بالعين أو بالمالية وكيف يجب أو يجوز تسليمه لمن لا يجوز له أخذه والتصرف فيه بدون إذن شريكه وإبقاء المال عند الودعي وعدم تسليمه للمالكين منع لهما عن ملكهما بلا حق ومخالف للزوم رد الامانة لمالكها عند المطالبة والإمكان ، فلا مناص عن قسمة المال وتسليم حصته المودع منه اليه وإبقاء حصة المالك ودفعها اليه عند الإمكان.

وقد يشكل بأن القسمة ربما تتوقف على المعاوضة كما في صورة الحكم باشتراكهما في مالية العين على ما مر من أنه يباع المجموع ويعطي حصة كل منهما من القيمة فالقسمة تتوقف على التراضي من الطرفين ولا شبهة في عدم رضا الغاصب ، فإنه يطالب بالمال كله فكيف يرضى ببيعه وإعطائه حصته من القيمة. والحكم بنفوذ البيع عليه ـ وان لم يتحقق الرضا منه ـ حكم ضرري مرفوع.

٣٧٩

الدفع من الممتزج دفعا لغير ماله جنسا ووصفا وإلزامه بقبوله حكم ضرري منفي عقلا ونقلا ، فيدفع له المثل دون مقدار ماله من الممزوج ، والمدفوع

__________________

ويمكن دفع الإشكال بأن مورد الاشتراك في المالية صورة واحدة من الصور التي ذكرناها فيما تقدم ، وهي صورة ما إذا كان مزج مال المالك بجنسه من مال الغاصب وكان مال المالك أجود من مال الغاصب ، فيقال إذا كان إبقاء المال عند الودعي مع مطالبة مالكه غير جائز. وكذا رده بأجمعه للمودع فإنه بالنسبة إلى مقدار مال المالك منه دفع له الى غير مالكه بدون رضاه وإبقاء مقدار حصة المالك منه من نفس العين لإيصالها اليه بلا تدارك وصف الجودة للمالك ودفع الباقي الغاصب مع كون الوصف مضمونا له عليه ليس إبقاء لما يستحقه المالك فإنه انما يستحق الموصوف بالجودة من المال وتدارك وصف الجودة بمقدار من العين زائد على مقدار ماله ودفعه له مستلزم للربا على ما هو الأقوى ، فلم يبق وجه يمكن المصير اليه الا الحكم بالاشتراك في المالية وبيع المال وإعطاء المالك من القيمة مقدار ماله موصوفا بالجودة وإعطاء الباقي للغاصب فلا بد من المصير اليه. وأما ما ذكر ـ من أن الحكم بنفوذ البيع مع عدم رضا الغاصب به في حين أن المبيع مشترك بينه وبين المالك حكم ضروري مرفوع ـ فيمكن أن يقال ـ مضافا الى انه لا بد منه ان الضرر لم ينشأ من ناحية حكم الشارع بل السبب فيه غصب الغاصب المال ومزجه بماله ولو لم يكن غاصبا كما لو كان معتقدا بأن ما مزجه بماله هو له أيضا فالضرر أيضا لم يكن من ناحية الحكم الشرعي بل منشأه جهله واشتباهه ثم ان القسمة حيث صحت لكونها ضرورية لا مناص منها يرجع بها الى الحاكم الشرعي على الأحوط ، بل الأقوى ، فإنه ولي حصة المالك الغائب. ثم ان هذا يختلف عما ذكره سيدنا ـ قدس سره ـ بعض الاختلاف. والله تعالى هو العالم بحقائق أحكامه.

٣٨٠